بحث حول الخلافة والخلفاء

منيب الهاشمي

بحث حول الخلافة والخلفاء

المؤلف:

منيب الهاشمي


المحقق: زينب الوائلي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٢

ومع كل هذه الحقائق الجلية عن وصاية الرسول لعليّ وانه خاتم الوصيين ، يأتي من أهل السُنّة والجماعة من يتنكر لكل هذا ، كعبد بن أبي أوفى ، الذي سأله مصرف : هل كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أوصى؟ قال : لا ، فقلت : كيف كتب على الناس الوصية ثم تركها؟ قال : أوصى بكتاب الله (١). فأي منطق هذا يحاول إخفاء حقيقة ناصعة كالشمس ، وذلك حقداً على عليّ بن أبي طالب الذي يشكّل شوكة في قلوب أعداء أهل البيت النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

على ان الزبيدي صاحب تاج العروس يقول في مادّة الوصي : لقب عليّ (٢).

__________________

(١) صحيح البخاري ـ ٣ : ١٨٦ ؛ البداية والنهاية ـ ابن كثير ٥ ـ ٣٠٥ ؛ عمدة القاري ـ العييني ١٤ : ٣١.

(٢) تاج العروس ـ الزبيدي ٢٠ : ٢٩٧.

٤٨١

الخلفاء الاثنا عشر وتخبّط علماء الجمهور

ونحن نبحث في ثنايا كتب التأريخ والرواية ، وقفنا على أحاديث نبوية كثيرة ، تشير الى مجيء اثني عشر خليفة وإماماً من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله كلهم من قريش ، وبعد التحرّي الدقيق في هذا الموضوع ، تبيّن لنا ان النصوص على الأئمة الاثني عشر ، كثيرة ومتواترة حيث يرويها الجمهور من مئتي وثمانية وسبعين حديثاً ، حيث يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم تجتمع عليه الأمّة ، كلهم من قريش (١). وفي تعبير آخر له صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يقول : يكون لهذه الأمّة اثنا عشر قيماً لا يضرهم من خذلهم ، كلهم من قريش (٢) ، وفي حديث آخر ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة (أميراً) كلهم من قريش (٣). وفي عبارة أخرى له صلى‌الله‌عليه‌وآله : اثنا عشر عدّة نقباء بني اسرائيل (٤) ، أو عدّة أصحاب موسى (٥).

__________________

(١) سنن ابي داود ـ السجستاني ٢ : ٣٠٩ ؛ المعجم الكبير ـ الطبراني ٢ : ٢٠٨ ؛ تأريخ الخلفاء ـ السيوطي : ١٢.

(٢) المعجم الاوسط ـ الطبراني ٣ : ٢٠١ ؛ كنز العمال ـ المتقي الهندي ١٢ : ٣٣.

(٣) صحيح مسلم ٦ : ٤ ؛ المعجم الكبير ـ الطبراني ٢ : ١٩٩ ؛ مسند احمد ٥ : ٨٩.

(٤) المستدرك ـ الحاكم النيسابوري ٤ : ٥٠١ ؛ انساب الاشراف ـ البلاذري ١ : ٢٤٠ ؛ فيض القدير ـ المناوي ٢ : ٥٨٢.

(٥) الجامع الصغير ـ السيوطي ١ : ٣٥٠ ؛ تأريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ١٦ : ٢٨٦ ؛ كنز العمال ـ المتقي الهندي ٦ : ٨٩.

٤٨٢

وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما ، وأبو داود والترمذي في سننهما عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : يكون بعدي إثنا عشر أميراً ... كلهم من قريش (١).

وكما قلنا من قبل ، فإن هذا الحديث متواتر ، حيث ذكر يحيى بن الحسن في كتاب العمدة من عشرين طريقاً في ان الخلفاء بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اثنا عشر خليفة كلهم من قريش : في البخاري من ثلاثة طرق ، في مسلم من تسعة طرق ، في ابي داود من ثلاثة طرق ، في الترمذي من طريق واحد (٢).

وقد جمع الحافظ ابن حجر طرقه في كتاب «لذّة العيش بجمع طرق حديث الأئمة من قريش» (٣).

وعندما تناولنا هذا الموضوع الحساس بمزيد من التفصيل ، عثرنا على حقائق أكثر عُمقاً في هذا الصدد ، حيث ينقل الجويني في كتاب (فرائد السمطين) قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ان خلفائي وأوصيائي وحجج الله على الخلق بعدي لَإثنا عشر ، أولّهم أخي ، وآخرهم وَلَدي.

قيل يا رسول الله ومن أخوك؟ قال : عليّ بن أبي طالب. قيل : فمن وَلَدك؟ قال : المهدي الذي يملؤها قسطاً وعدلاً ، كما ملئت جوراً وظلماً.

وهنا حدّد رسول الله الأئمة الاثني عشر بين علي والمهدي الذي هو ولَده صلى‌الله‌عليه‌وآله أي من أولاد فاطمة ابنته ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن له أولاد ذكور ، وأكد أن أولاده من

__________________

(١) صحيح البخاري ٨ : ١٢٧ ؛ صحيح مسلم ٦ : ٣ ؛ سنن ابي داود ٢ : ٣٠٩ ؛ سنن الترمذي ٣ : ٣٤٠.

(٢) صحيح البخاري ٨ : ١٢٧ ؛ صحيح مسلم ٦ : ٣ ـ ٤ ؛ سنن ابي داود ٢ : ٣٠٩ ؛ سنن الترمذي ٣ : ٣٤٠ ؛ مسند احمد ٥ : ٨٧ ـ ١٠٨.

(٣) كشف الظنون ٢ : ١٥٨٤.

٤٨٣

إبنته الزهراء ، أي الحسن والحسين ، وبالتالي فمن البديهي أن يكون الأئمة الاحد عشر ـ باستثناء ابن عمه عليّ ـ منحصرين في الحسن والحسين وابنائهما.

وفي التوراة التي بأيدي أهل الكتاب ما معناه : ان الله تعالى بشّر إبراهيم باسماعيل ، وأنه ينمّيه ويكثّره ويجعل من ذريته اثني عشر عظيماً (١).

إذ يقول الرب لابراهيم بالعبرية : «في لِيشماعيل بيرَختي أو توفي هفريتي أو توقي هِربيتي بِمِئود شنيم عَسار نسيئيم يوليد في نِتتيف لِكَوي كّدول» ، وشنيم عسار ، تعني : إثنا عشر. نسيئيم : أئمة ، زعماء ، رؤساء ، ومفردها ناسي : إمام ، زعيم.

وعني هذه الفقرة : وإسماعيل أباركه ، وأثمرة ، وأكثّره جداً جداً ، إثنا عشر إماماً (٢).

فهؤلاء الأئمة أو الخلفاء الاثنا عشر ، من ابناء اسماعيل وبالذات من أبناء عليّ وفاطمة ، كما هو واضح من الاحاديث الشريفة ، وحين يشبّههم رسول الله بنقباء بني اسرائيل أو أصحاب موسى وهم حجج الله في الارض ، فلأن هؤلاء النقباء لهم مكانة عظمى لدى الانبياء ، اذ يقول تعالى : وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّـهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا (٣) ، وهؤلاء يتصفون بالصفات التالية : وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ١٥٩ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا (٤).

هؤلاء الأئمة بعد موسى أولهم يوشع وآخرهم داوود ، وما بينهم اشموئيل وطالوت ، وتكملة العدد من آل هارون.

__________________

(١) البداية والنهاية ـ ابن كثير ٦ : ٢٨٠.

(٢) الكتاب المقدس ـ (العهد القديم) ـ الكنيسة : ٢٥.

(٣) المائدة ١٢.

(٤) الأعراف ١٥٩ ـ ١٦٠.

٤٨٤

وتقول آية أخرى : وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ٢٣ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (١).

فهؤلاء الأئمة يتصفون :

ـ ان الله تعالى اختارهم وبعثهم.

ـ وهؤلاء الأئمة هداة ، فهم يهدون بالحق وبه يعدلون.

ـ هم يهدون بأمر الله لصبرهم ويقينهم بآيات الله.

واتضحت لي الحقيقة أكثر فأكثر ، حين ذكر الجويني ايضاً ، ان الصحابة قالوا لرسول الله في غدير خم : يا رسول الله؟ هذه الآيات : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... (٢) في علي خاصة؟ قال : بلى فيه وفي أوصيائي الى يوم القيامة. قالوا : بيّنهم لنا قال : أخي ووارثي ووصيي وولي كل مؤمن بعدي ، ثم ابني الحسن ثم الحسين ثم التسعة من ولد الحسين. القرآن معهم وهم مع القرآن لا يفارقونه.

فإذن هؤلاء الائمة أو الخلفاء الاثنا عشر ، هم أنفسهم أئمة اهل البيت الذين أوصى بهم في الكثير من المناسبات ، إذ يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله : فيكل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي ، ينفون عن هذا الدين ، تحريف الضالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، ألا وان أئمتكم وفدكم الى الله ، فانظروا من توفدون (٣).

__________________

(١) السجدة ٢٣ ـ ٢٤.

(٢) المائدة ٣.

(٣) الصواعق المحرقة ـ احمد بن حجر : ١٥١.

٤٨٥

ويقول رسول الله أيضاً : من أحب أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ، ويدخل الجنة التي وعدني ربي ، فليتولّ علياً وذريته من بعده ، فإنهم لن يخرجوكم من باب هدى ، ولن يدخلوكم من باب ضلالة (١).

وذهب رسول الله إلى أكثر من ذلك في تبيين حال الأئمة من بعده ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا وعلي والحسن والحسين ، وتسعة من ولد الحسين ، مطهّرون معصومون ، كما يؤكد صاحب كتاب (فرائد السمطين). وينصح صلى‌الله‌عليه‌وآله المسلمين بأن : لا تقدموهم فتهلكوا ، ولا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم (٢) ، وعليه فإن للخلفاء والائمة الاثني عشر ، خصائص ومزايا تختلف عن الناس العاديين ، فهم مسدّدون من لدن الله تعالى ، وأعلم الناس على الاطلاق ، ومعصومون من الخطأ والزلل ، وهم على الهدى دوماً ، ولا ينبغي أن تخرج الأمّة عن أقوالهم ووصاياهم الى غيرهم لأن الحق منحصر فيهم ، وهؤلاء العدول من آل البيت لديهم مقدرة وموهبة خاصة لإبطال تحريف الضالين وانتحال المطلين وتأويل الجاهلين للدين.

فلا ينطبق هذا التوصيف على خلفاء ظَلَمة ومستبدين حكموا بالنار والحديد ، واستحوذوا على مقدرات المسلمين على حين غرّة من التأريخ ، وتصدّوا للحكم من خلال إكراه الرعايا على البيعة والتسليم المطلق لهم ، بالرغم من عبثهم بشرائع الاسلام وتعطيلهم لحدود الله ، بل وبعضهم يجهل أبسط أمور الدين.

ومع ذلك فقط تخبّط علماء سُنّة كبار في تطبيق عدد ومواصفات الخلفاء الاثني عشر على الحكّام الذين حكموا الأمّة وتجاوز عددهم الاثني عشر بكثير ، فأخذوا ينتقون الخلفاء والحكّام حسب أهوائهم ، فإبتعدوا عن الحق أيما إبتعاد.

__________________

(١) كنز العمل ـ المتقي الهندي ١١ : ٦١٢ ؛ مجمع الزوائد ـ الهيثمي ٩ : ١٠٨.

(٢) المعجم الكبير ـ الطبراني ٥ : ١٦٧ ؛ كنز العمال ـ المتقي الهندي ١ : ١٨٨.

٤٨٦

بين الحذف والاختلاق

دعائم وهمية وفضائل موضوعة

لصالح مدرسة الخلفاء

لقد إنتهينا ـ آنفاً ـ إلى حقائق جديدة ، تُثبت ان مسلّمات وثوابت أهل السُنّة والجماعة التي آمنوا بها واطمأنت إليهم نفوسهم وقلوبهم ، تفتقر الى الدليل المُقنع ، وليس لها أساس من الصحة ، وانما ابتدعتها مُخيّلة الحُكام الذين احتضنوا التيار الذي استحوذ على الخلافة دون اهل البيت ، حيث وضعوا أسساً ودعائم وهمية ، لغرس جذور وأصول لمدرسة الخلافة غير واقعية ، ولا تُمتّ للحقيقة بصلة ، وانما كانت الغاية منها ، خلق أرضية في نفوس الجمهور المسلم لكي يستسيغ النظرية السُنّية الحاكمة بكل أبعادها وخلفياتها ، وذلك على حساب مدرسة أهل البيت التي رسّخ مشروعيتها رسول الله ، وأمَر الأمّة باتّباعها ـ حصراً ـ دون سائر المدارس والاتجاهات الأخرى.

فبدأت سياسة وضع الاحاديث والروايات التي تمجّد الفئة الحاكمة للأمّة بعد الرسول «صلوات الله عليه» مباشرة في بدايات الحكم الاموي ، وبالأخص في عهد معاوية بن أبي سفيان كما أسلفنا من قبل.

واتخذت سياسة وضع الاحاديث اسلوباً ممنهجاً ، لكي تسدّ الابواب بوجه أية ثغرة تكشف حقيقة ما حدث بعد وفاة رسول الله من تهميش وإقصاء لعلي واهل البيت عن

٤٨٧

خلافته «صلوات الله عليه» ، وتصدّي أناس غير مؤهّلين للحكم وقيادة الأمّة.

ولم يجهد الرواة أنفسهم كثيراً ، فانتقوا الاحاديث النبوية الواردة في حق عليّ واهل البيت ، وحذفوا منها عبارة «أهل البيت» أو «علي» واستبدلوها بعبارة «الصحابة» أو «أبو بكر» أو «عمر بن الخطاب» أو «عثمان» أو حتى «السُنّة النبوية» ... فيما ابتدعوا واختلقوا المئات من الأحاديث في فضل ومكانة ومنزلة الصحابة والخلفاء الاوائل والخلفاء الامويين والخلفاء العباسيين ، وأصحاب المذاهب الفقهية ، كأبي حنيفة ومالك بن أنس والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم ، وكل تلك الاحاديث نسبوها لرسول الله من خلال صحابة كبار لكي تنطلي اللعبة على عقول المسلمين ، وتصبح تلك الاحاديث وكأنها أحاديث صحيحة لا يرقى إليها الشك ، خاصة وان الكتب التي روتها ، كتب الصحاح والسنن والمسانيد المعتبرة.

إفتراق الأمّة

والحديث النبوي الصحيح : «ستفترق أمتي الى ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة (١) ، أضيفت اليه ، عبارة : «قالوا : ومن هي يا رسول الله؟ قال : ما أنا عليه واصحابي» (٢) ، لكي تنسجم والمسلك الذي يسير عليه تيار الخلافة الغاصبة.

__________________

(١) المستدرك ـ الحاكم النيسابوري ١ : ١٢٨ ؛ عمدة القاري ـ العييني ١٨ : ١٣٩ ؛ مسند احمد ٤ : ١٠٢.

(٢) سنن الترمذي ٤ : ١٣٥ ؛ مجمع الزوائد ـ الهيثمي ١ : ١٨٩ ؛ عمدة القاري ـ العييني ١٨ : ١٣٩ ؛ المعجم الصغير ـ الطبراني ١ : ٢٥٦.

٤٨٨

الكتف واللوح

والرواية المكذوبة : ولما ثقل رسول الله ، قال لعبد الرحمن بن أبي بكر ، ائتني بكتف ولوح حتى أكتب لابي بكر ، لا يختلف عليه (١) ، مُقتبسة من الرواية الصحيحة ، التي تنص : إئتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي أبداً (٢).

والسؤال الوجيه هنا : لو كانت الرواية الأولى صحيحة ، فلماذا لم يكتب رسول الله كتاباً لأبي بكر ، حتى لم يجر ما جرى من اجتماع للسقيفة ، وما أدّى بعد ذلك الى تداعيات خطيرة وفتنة كبرى ، خاصة وان أحداً لم يمنع رسول الله من كتابة الكتاب ، كما في الرواية الثانية كما يعلم الكل!؟

أهداف مغرضة من وضع الاحاديث

حديث خير القرون :

إذ يقول رسول الله : «خير القرون قرني ثم الذي يليه ثم الذي يليه» (٣). وهذا الحديث إنما وُضع لإسباغ الخيرية على هذه القرون الثلاثة التي تلت وفاة الرسول «صلوات الله عليه» ، وهي القرون التي شهدت نشوء المذاهب الاسلامية السُنّية ، وبالذات المذاهب الاربعة التي اتفق اقطاب أهل السُنّة والجماعة على الأخذ بها ونبذ ما دونها في القرون التي تلتها.

__________________

(١) الطبقات الكبرى ـ ابن سعد ٣ : ١٨٠ ؛ مسند احمد ٦ : ٤٧ ؛ كنز العمال ـ المتقي الهندي ١٢ : ٥١٠.

(٢) المستدرك ـ الحاكم النيسابوري ٣ : ٤٧٧ ؛ كنز العمال ـ المتقي الهندي ١١ : ٥٥٠.

(٣) الشرح الكبير ـ عبد الرحمن بن قدامة ١١ : ٣٣١ ؛ عمدة القاري ـ العييني ١٤ : ١٨٠ ؛ الاصابة ـ ابن حجر ١ : ٢١ ؛ انظر : البداية والنهاية ـ ابن كثير ٦ : ٢٨٣.

٤٨٩

ولطالما تمسّك أهل السُنّة بهذا الحديث الموضوع للاستدلال على عدالة جميع الصحابة والتابعين ، فضلاً عن مشروعية المذاهب الفقهية والاصولية ، غير ان رواية «خير القروني قرني» شهد غير واحد من أعلام أهل السُنّة والجماعة ، بأنها غير تامة السند ، منهم صاحب (١).

أحاديث موضوعة لصالح الخلفاء الأربعة :

كنّا قد أثبتنا ـ سابقاً ـ ان تفضيل الخلفاء الاربعة وترتيبهم بالشكل الحالي ، ليس له اصالة تأريخية ولا حقيقة موضوعية أبداً ، وانما هي قاعدة مُخترعة ، وضعها المؤرخون التابعون للمدرس السُنّية ، وأمست «حقيقة» راسخة في نفوس أتباع التيار السُنّي بمرور الزمن مع كل الأسف ، والدليل على ذلك ، تناقض الروايات الواردة في هذا المقام ، والتضاد الصارخ فيما بينها ، بالرغم من ادّعاء أهل السُنّة ، اجماع الأمّة على أفضلية الخلفاء الاربعة الاوائل وبالترتيب المشهور.

فالاجماع المزعوم (أي تفضيل الخلفاء الاربعة وترتيبهم المعروف) لم يحصل إلا في زمن أحمد بن حنبل كما يؤكد صاحب كتاب طبقات الحنابلة.

ـ كان أهل الحديث الكوفيون يقدّمون علياً على عثمان ، بل يقدّمونه في الفضل على أبي بكر وعمر (٢).

ـ يقول «صلوات الله عليه» : أنا أول من تنشق عنه الارض ثم أبو بكر ثم عمر (٣) ... تُرى لماذا سكت رسول الله ولم يذكر بقية الخلفاء الاربعة ، أي عثمان وعيلاً ، فلابد ان هذا الحديث موضوع كالأحاديث السابقة.

__________________

(١) الكفاية في علم الدراية : ٤٧.

(٢) عمدة القاري ـ العييني ١٦ : ٢٠٦ ؛ ميزان الاعتدال ـ الذهبي ٢ : ٥٨٨.

(٣) المستدرك ـ الحاكم النيسابوري ٣ : ٦٨ ؛ المعجم الكبير ـ الطبراني ١٢ : ٢٣٦.

٤٩٠

ـ ينقل البخاري رواية يؤكد فيها رسول الله بأنه بشّر أبا بكر وعمر وعثمان بالجنة (١) ، ولم يبشّر علياً بذلك ، ويبدو ان واضع الرواية ، لم يكن من محبي علي بن أبي طالب ، ولذا أهمل ذكره.

ـ يقول رسول الله : خلقني الله من نور ، وخلق أبا بكر من نوري ، وخلق عمر من نور أبي بكر ، وخلق عثمان من نور عمر ، وعمر سراج أهل الجنة (٢). وهنا لم يشر الحديث الى الخليفة الرابع ، وبالتالي فهو (أي هذا الحديث) يخالف حديث (أفضلية الخلفاء الأربعة وترتيبهم المعروف) ، وان واضعه استقى مضمونه من الحديث الصحيح : «خُلقت أنا وعلي بن أبي طالب نور واحد» (٣) ، وأراد أن يختلق فضيلة للخلفاء الثلاثة الاوائل دون عليّ.

ـ يقول يحيى بن معين ، من قال : أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ ، وعرف لعلي سابقته وفضله ، فهو صاحب سُنّة (٤) ، وهنا يضع هذا العالم السُنّي الكبير ومن كبار أهل الجرح والتعديل ، أفضلية لعليّ على سابقيه من الخلفاء ، وهو يُخالف بذلك (ترتيب الأفضلية المعهود).

وقف جماعة من أئمة أهل السُنّة في علّ وعثمان ، فلم يفضِّلوا واحداً منهما على صاحبه ، منهم (مالك بن انس) و(يحيى بن سعيد القطان) في حين ان أكثر أهل السُنّة ، يقدّمون أبا بكر في الفضل على عمر ، وعمر على عثمان ، وعثمان على عليّ.

__________________

(١) انظر : صحيح البخاري ٤ : ١٩٦.

(٢) تفسير الثعلبي ٧ : ١١١ ؛ ميزان الاعتدال ـ الذهبي ١ : ١٦٦ ؛ لسان الميزان ـ ابن حجر ١ : ٣٢٨.

(٣) تفسير الآلوسي ٦ : ١٨٦.

(٤) فتح الباري ـ ابن حجر ٧ : ١٤ ؛ الاستذكار ـ ابن عبد البر ٥ : ١٠٩.

٤٩١

وهذا الموقف من مالك وابن القطان ، يعارض مقولة إجماع الأمّة على ترتيب الأربعة المذكور.

ـ قال رسول الله : «ان الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمُرسلين ، واختار لي منهم أربعة : أبا بكر وعمر وعثمان وعليّاً ، فجعلهم خير أصحابي ، وفي أصحابي كلهم خير (١).

هذا الحديث ، موضوع أيضاً وواضح الكذب والافتراء على رسول الله (عليه الصلاة والسلام) ، لأنه حتى ولو افترضنا ان جميع الصحابة عدول كما يدّعي أهل السُنّة ، إلا ان بعض الصحابة ـ كما يشهد كتاب الله والرسول الكريم والتأريخ الصحيح أيضاً ـ كان يعصي الله رسوله ، ويقترف الآثام والموبقات ويرتكب المعاصي والكبائر كمعاقرة الخمرة وقتل النفس المحترمة وفِعْل الزنا والفِرار من الزحف ، فلا يحق لرجل عادي أن يضع الصحابة في مرتبة أدنى قليلاً من مرتبة الرُسُل ، فكيف برسول الله؟

ثم ان علماء الجمهور أنفسهم يقرّون بأن هذا الحديث موضوع ، كأبي بكر الخلال الذي يثبت عدم صحّته. وابن حزم الذي يقول عنه بأنه موضوع ومكذوب وباطل ، وكذلك أحمد بن حنبل ، والبزار الذي يعترف بأن هذا الكلام لا يصحّ عن النبي. ن

ـ يروي مؤرخوا الجمهور المسلم بأن رسول الله قال بأن الجنة مشتاقة الى أربعة من أمّته ، وهاب أبو بكر وعمر وعثمان أن يسألوه مَنْ هُمْ خوفاً بأن لا يكونوا منهم ، إلا عليّ فسأله ، فقال له (صلوات الله عليه) : أنك أوّلهم ، فقال عليّ : فمن الثلاثة؟ فقال له : المقداد وسليمان وأبو ذر ، وعليه فإن الجنة اشتاقت الى نفر من الصحابة دون الخلفاء الثلاث الاوائل الذين تحققت مخاوفهم في عدم شمولهم بالبشارة النبوية ، فكيف يحق لأحد أن يفضّلهم على الآخرين؟

__________________

(١) مجمع الزوائد ـ الهيثمي ١٠ : ١٦ ؛ كنز العمال ـ المتقي الهندي ١١ : ٦٣٥.

٤٩٢

حقيقة سُنّة الخلفاء في معيار المنطق والتأريخ

يُؤمن أهل السُنّة والجماعة بسُنّة الخلفاء (الراشدين) ويعدّونها على مستوى السُنّة النبوية من حيث مشروعيتها الدينية والفقهية ، ومصدراً للأحكام الشرعية ، وذلك طبق الحديث النبوي المزعوم : عليكم بسُنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضّوا عليها بالنواجذ (١). وعلى أساس هذا الحديث النبوي المروي في مصادرهم التأريخية ، يَعدّ أهل السُنّة ، الخلفاء الأربعة بأنهم أعرف بطريق الاجتهاد من غيرهم (٢) ، حيث تُطلق السُنّة احياناً ـ على ما عمل به أصحاب رسول الله وان لم يكن في القرآن أو في المأثور عنه «صلوات الله عليه» ... ومن أبرز ما ثبت في السُنّة بهذا المعنى «سُنّة الصحابة» حدَّ الخمر وتضمين الصناع ، إحتجاجاً بقوله «صلوات الله عليه» في الحديث المذكور : «عليكم بسُنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين ...».

وقد استساغ الحُكّام والخلفاء الذين اعقبوا الخلافة (الراشدة) ، هذه النظرية الموضوعة فأخذوا ينتقون من هؤلاء الخلفاء (الاربعة) ما يحلو لهم. فهذا الخليفة الاموي «عبد الملك بن مروان» يُصرّح بأنه ليست سُنّة احب الي من سُنّة عمر (٣) ، فيما يعدّ الخليفة (عمر بن عبد العزيز) ما سنّة رسول الله وصاحباه (أبو بكر وعمر) ، فهو دين يأخذ به.

__________________

(١) نيل الاوطار ـ الشوكاني ٧ : ٣١٨ ؛ جامع بيان العلم ـ ابن عبد البر ٢ : ٩٠ ؛ احكام القرآن ـ الجصاص ١ : ٥٣٠ ؛ تفسير الرازي ١ : ٢٠٩.

(٢) الاحكام ـ الآمدي ٤ : ٢٣٧.

(٣) الطبقات الكبرى ـ ابن سعد ٥ : ٢٣٢ ؛ تأريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٣٧ : ١٣٤.

٤٩٣

أما قوله «صلوات الله عليه» : اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر (١) ، فهو حديث لا يصدّقه إلا من فقد رشده ومنطقه السليم ، للعوامل التالية :

١ ـ لِمَ لم يُوسّع رسول الله من دعوته للاقتداء ، لتشمل الخليفة الثالث والرابع ، وهما من الخلفاء الراشدين ، وسُنّتهما كسُنّته كما يدّعي الجمهور.

٢ ـ تعارض سيرة الخليفتين الاول والثاني وسنّتهما ـ في الكثير من جوانبها ـ بعضها من بعض ، فكيف يقتدي المسلمون بسيرتين متعارضتين فضلاً عن مخالفتهما في العديد من الاحيان للسيرة النبوية؟

٣ ـ ان توصية رسول الله «صلوات الله عليه» للأمّة بالاقتداء بالذين من بعده ـ أي أبي بكر وعمر ـ تصريح منه بأن الخليفتين من بعده ، هما أبو بكر وعمر ، فلماذا لم يحتج الصحابة بعد وفاة الرسول الاكرم «صلوات الله عليه» بهذا الحديث النبوي لو كان صحيحاً ، على ان النبي (سلام الله عليه) قد نصّ صراحة ـ بأنهما الخليفتين من بعده بالتوالي؟

٤ ـ ينصّ الامام الكبير أبو حامد الغزالي ، تعليقاً على قول قوم بأن الحُجّة في قول أبي بكر وعمر خاصة لقوله «صلوات الله عليه» : «اقتدوا باللذين من بعدي ...» : فان جميع هذه الأقوال باطلة. وفي معرض حديثه عن سُنّة الخلفاء ، يعلّق الغزالي على قول : «ان الحجة في قول الخلفاء الراشدين اذا اتفقوا» : بأن جميع هذه الأقوال باطلة (٢).

__________________

(١) المعجم الاوسط ـ الطبراني ٤ : ١٤٠ ؛ تأريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٤١ : ٤٢٢ ؛ الطبقات الكبرى ـ ابن سعد ٢ : ٣٣٤.

(٢) المستصفى ـ الغزالي : ١٦٨.

٤٩٤

أحاديث متهافتة تُصادم الواقع والتأريخ الصحيح

أ ـ مثل الحديث المروي عن رسول الله ، والذي مفاده : «ان الحق ينطق على لسان عمر» (١) ـ حيث يضفي هذا الحديث قدسية على الخليفة الثاني ، ويدفع بالمرء الى تجنب توجيه اي نقد اليه ـ فهو حديث مُختلق يتهافت امام المنطق الحُرّ والعقل السليم ، للاسباب التالية :

١ ـ هذا الحديث الموضوع يقتضي عصمة عمر ، وان جميع أقواله حُجّة على الأمّة ، إلا ان الكل يشهد بعدم عصمته ، وان الصحابة كانوا يوجّهون له النقد اللاذع.

٢ ـ فكيف يكون الحق ناطقاً على لسان من يتراجع في أحكامه ويعود الى أقوال الآخرين ، ويقرّ بالخطأ والاشتباه ، ويبدّل قراراته دوماً ، كما هو معروف؟

٣ ـ لم يتمسك أحد من الصحابة في حينها بهذا الحديث المُختلق في سياق دفاعه عن الخليفة الثاني ، ولم يحتج أبو بكر به عندما استخلف عمراً حين وفاته.

٤ ـ من الثابت عند اهل السُنّة والجماعة بأن أبا بكراً كان أفضل منزلة من عمر ، ومع ذلك فهو اعترف على المنبر وبالحرف والوحد بأنّ له شيطاناً يعتريه ، راجياً من الأمّة فيما إذا مال تقويمه.

ب ـ حديث آخر موضوع في هذا الصدد ، يقول فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لو لم أُبعث فيكم لبعث عمر» (٢).

هذا الحديث ـ لا شك ـ مردود ، للسببين الآتيين :

__________________

(١) فتح الباري ـ ابن حجر ٩ : ٤٢٤.

(٢) كنز العمال ١١ : ٥٨١.

٤٩٥

١ ـ لقد أخذ الله ميثاق النبيين في قوله تعالى : وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ (الاحزاب ٧) ، فكيف يصحّ أن يبدّل الله ميثاقه ويبعث عمراً عوض النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ هذا فضلاً عن ان الانبياء (عليهم السلام) لم يشركوا بالله أبداً ، في حين كان عمر مشركاً قبل إسلامه ، وقضى أكثر أيامه غير موحّدٍ لله تعالى.

٢ ـ يعترف خبراء الرواية كإبن عدي بأن زكريا الوكار الذي روى الحديث المذكور كذّاب يضح الاحاديث ، اما الرواية الآخر وهو ابن واقد ، متروك ، وابن عاهان لا يُحتج به.

ج ـ يروي المؤرخون من أهل السُنّة والجماعة بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر وهو في مرضه الأخير ، أم المؤمنين عائشة أن تدعو أباها أبا بكر وأخاها حتى يكتب كتاباً ، فإنه يخاف أن يتمنّ متمنّ ، يقول قائل : أنا أوْلى ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر (١).

وأردف رسول الله وصيته هذه ، بإخباره عائشة أن لأباها الخليفة من بعده ، وأمرها بأن تكتم ذلك عليه (٢).

ولما ثقل صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعبد الرحمن بن أبي بكر : ائتني بكتف ولوح حتى أكتب لابي بكر ، لا يختلف عليه ، ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك أبا بكر (٣).

ولا ريب في ان هذه الاحاديث المروية عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، موضوعة على لسانه لاسباغ الشرعية على خلافة أبي بكر ، وليس لها أساس من الصحة بتاتاً ، للاسباب التالية :

__________________

(١) صحيح مسلم ٧ : ١١٠ ؛ السنن الكبرى ـ البيهقي ٨ : ١٥٣.

(٢) صحيح البخاري ٤ : ١٩٥.

(٣) صحيح مسلم ٧ : ١١٠ ؛ السنن الكبرى ـ البيهقي ٨ : ١٥٣.

٤٩٦

١ ـ لِمَ لمْ تستجيب عائشة لأمر الرسول بإحضار اللوح والكتف لكتابة وصيته بشأن إستخلاف أبيها ، خاصة وإنها أول الناس شوقاً أن تراه خليفة لرسول الله؟.

٢ ـ لِمَ غيّر رسول الله قراره ، وذلك بطلبه من عائشة أن تكتم هذا السر وعدم البوح به ، خاصة وان أباها هو أوْلى الناس بهذا المنصب حسب قوله السابق؟.

٣ ـ يبدو ان رسول الله كرّر طلبه بإحضار اللوح والكتف حين أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يقوم بتلك الخطوة حتى لا يختلف أحد على أبي بكر ، لكنه هو الآخر لم يستجب للأمر النبوي ، بالرغم من انه سيكون أيضاً مسروراً لإستخلاف أبيه ، أما الادعاء بأن رسول الله قال بأن الله والمؤمنون يأبون الاختلاف على أبي بكر ، فقد إتضح مدى صدْقه بالنزاع والتطاحن في سقيفة بني ساعدة!!.

٤ ـ ان هذه الاحاديث ـ على ما يبدو ـ مقتبسة من الرواية الصحيحة والمتواترة التي تفيد بطلب رسول الله بإحضار الدواة والكتف ليكتب كتاباً لن يضلوا بعده أبداً ، لولا الخليفة الثاني الذي حال وبعض الصحابة الحاضرين دون ذلك ، وقوله المشهور : ان النبي يهجر!!.

٥ ـ تُرى لِمَ لم تقل عائشة أو أخوها عبد الرحمن ، بأن النبي يهجر (والعياذ بالله) أسوة بقول عمر بن الخطاب في الرواية السابقة ، خاصة وانه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يصارع الموت في الحالتين!؟

و ـ يروي مؤرخو الجمهور ، ان النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لأبي بكر وهما في الغار :

٤٩٧

اجعل أبي بكر معي في الجنة ، فأوحي إليه قد استجاب الله لك (١). أو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي بكر : لا يدخل الجنة مبغضك ولو كان عمله عمل سبعين نبياً (٢). وانه لم يكن نبي إلا وله خليل وان خليلي أبو بكر (٣).

هذه الاحاديث المروية على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بالطبع ـ واهية ، وتصادم المنطق والواقع ، ولا يمكن تصديقها من قبل ذوي الالباب ، للعوامل الآتية :

١ ـ لم يكن أبو بكر بذلك المستوى من المكانة والايمان كما تصفه هذه الاحاديث ، وإلا لو كان كذلك كما يدّعي الرواة ، لما شكك في إيمانه ومصيره في لحظة إحتضاره ، وتمنّيه لو لم يكن بشراً؟.

٢ ـ إقرار أبي بكر بأن له شيطاناً يعتريه ، راجياً من الأمّة ـ إذا زاغ ـ تقويمه (٤) ، مُقرّاً بأنه لا يعمل فيهم بسُنّة رسول الله (٥).

٣ ـ لم يشهد رسول الله عليه ، مثلما شهد على قتلى أحد ، وحين احتج أبو بكر ، قائلاً : ألم يجاهد هو والآخرون كجهاد شهداء معركة أحد ، قال له الرسول : لست أدري ما تحدثون بعدي!؟ وكان الاجدر برسول الله أن لا يشكك في عاقبته وهو الذي خليله وبدرجته في الجنة ، وعمله عمل سبعين نبياً!!.

لكن هذه الشواهد الحية ، يتضح تهافت مثل هذه الروايات وكذبها.

__________________

(١) السيرة الحلبية ٢ : ٢١١.

(٢) تفسير الفخر الرازي ١٥ : ١١٨ ؛ المستصفى ـ الغزالي : ١٧٠.

(٣) تأريخ مدينة دمشق ٣٠ : ٣٨١ ؛ الرياض النضرة ١ : ١٦٢.

(٤) تأريخ مدينة دمشق ٣٠ : ٣٠٤.

(٥) السيرة النبوية ـ ابن هشام ٢ : ٢٧٠ ؛ تفسير القرطبي ١٠ : ٢٨٥.

٤٩٨

ج ـ من أقوال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حق الخليفة الثاني عمر ، بأنه يُكلّم من غير أن يكون نبياً (١). وكان عمر محدّثاً (٢) ، ولا يُستغنى عن عمر ، فهو من الدين كالسمع والبصر ، وان شياطين الجن والانس ، فرّوا من عمر ، وما من نبي إلا في أمّته مُعلَم أو مُعلّمان ، وإن يكنْ في الامّة الاسلامية أحد فهو عمر بن الخطاب (٢).

هذه الروايات وغيرها الكثير ، المنقولة على لسان الرسول الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بحق الخليفة الثاني ، موضوعة حتماً ، ولا تتطابق مع واقع الخليفة عمر بكل الاحوال ، وذلك للاسباب التالية :

١ ـ تشكيك عمر بنبوة رسول الله في قضية صلح الحديبية ، وطعنه بوثيقة الصلح التي وقّعها النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله مع قريش ، بالرغم من نصحه من قبل الصحابة ، وتماديه في التشكيك ، وما رافق ذلك من الهواجس ، وقوله في الرسول من أشياء لم يبح بها لخطورتها وزعزعتها لإيمانه ويقينه.

٢ ـ خشية الخليفة عمر على مصيره بعد الموت ، وتمنّيه لو لم يكن بشراً.

٣ ـ إبتداعه لسنن مخالفة للسُنّة النبوية الشريفة ، بدعوى إيثار المصلحة وإقتضائها.

٤ ـ جهله بالكثير من المبادئ والمفاهيم القرآنية ، والاحكام الشرعية ، وسؤاله الصحابة عنها.

٥ ـ تأكيد الخليفة الاول حين استخلافه لعمر بن الخطاب ، بإحتمال تبديله وتغييره للسنن الالهية والنبوية (٤).

__________________

(١) مجمع الزوائد ٩ : ٦٥.

(٢) تفسير القرطبي ٩ : ١٩٣.

(٣) المصدر السابق.

(٤) الامامة والسياسة ١ : ٢٤.

٤٩٩

فكيف والحال هذه أن يكون مُكَلماً ومُحَدثاً ومُعلماً وتفرّ منه الشياطين؟.

ح ـ تنقل كتب التأريخ والرواية لدى أهل السُنّة والجماعة عن المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله قوله بأن عثمان حيي وتستحي منه الملائكة (١). وانه صلى‌الله‌عليه‌وآله ذكر فتنة ، فقال : يُقتل فيها عثمان مظلوماً. وان الله عسى أن يلبسه قميصاً ، وانهم يريدون خلعه ، فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه (٢).

ويؤكد عبد الله بن سلام انه يجد في التوراة باليهودية : خليفتكم المظلوم الشهيد. وكان الخليفة الثالث قد قال قُبَيل مقتله : اللهم اجمع امّة محمد. ويعلق عبد الله بن سلام ، قائلاً : لو دعا (أي عثمان) الله أن لا يجتمعوا أبداً ما اجتمعوا إلى يوم القيامة (٣).

هذه الروايات المنقولة عن الرسول الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعبد الله بن سلام وغيرهما ، هي الاخرى روايات موضوعة بالتأكيد ، وليس لها أي أساس واقعي يمتّ للحقيقة بصلة ، وإنما حبكها الوضّاعون ، لاضفاء مشروعية على سلوك الخليفة الثالث ، وإبراز «مظلوميته» وما أدى ذلك إلى قتله من قبل الثوار ، وذلك لأنه :

١ ـ تسبغ أحاديث الرسول بشأن الخليفة الثالث ، (حياء) عليه يفوق حياء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه ، بل وحياء أبي بكر وعمر. ولسنا نعلم هل ان الذي كان قمّة في الحياء والحشمة ، والذي جاء ليتمم مكارم الاخلاق ، أقل حياء من صحابي وخليفة وان كان (راشداً) ، لتستحي منه الملائكة دون خاتم الانبياء والمرسلين!؟

٢ ـ موقف رسول الله من الفتنة ، وتنبؤه بمقتل عثمان وهو (مظلوم) ، ووصيته له

__________________

(١) الكامل في التأريخ ١ : ٢٦٤.

(٢) تأريخ مدينة دمشق ٣٩ : ٢٨٠.

(٣) تأريخ مدينة دمشق ٣٩ : ٤٠٢.

٥٠٠