بحث حول الخلافة والخلفاء

منيب الهاشمي

بحث حول الخلافة والخلفاء

المؤلف:

منيب الهاشمي


المحقق: زينب الوائلي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٢

وكذلك أهل المدينة من المهاجرين والأنصار من إصلاحه وتغيير سياسته القائمة على إيثار بني أميّة على المسلمين.

٢ ـ فكيف تستحي الملائكة من رجل هذه هي سياسته وممارساته المخالفة للسُنّة النبوية والسلوك الاسلامي القويم؟

أما زواجه من ربيبتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتسمية أهل السُنّة له بذي النورين ، ليست دليلاً مقنعاً لاعتبار ذلك من فضائله ومناقبه ، لأن التصاهر إذا كان فضلاً ، فكان من حق معاوية أن يفتخر بزواج الرسول من أخته أم حبيبة!

٣ ـ فعمل الانسان المسلم وإخلاصه وصدقه وتقواه هو الفيصل في الحُكْم عليه ، وقد عرفنا من قبل بأن عثمان بن عفان قد سخّر بيت المال لأقاربه وذوي رحمه من بني أميّة ، واغدَق المال عليهم بلا حساب. وهذا العل مخالف لابسط قواعد الاسلام ، فلو كان المال ماله الخاص لما كان هناك عتب من المسلمين له لصلة ارحامه ، إلا أن المال كان من حق المسلمين جميعاً ، ثم لم يكن عثمان يقبل أي نقد أو نصيحة لاعماله وتصرفاته ، من لدن كبار الصحابة كعمار وأبي ذر وابن مسعود وعلي وطلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة التي بعد أن يئت من صلاحه ، دعت الناس إلى قتله ، متهمة إياه بالكفر وانه أبلى سُنّة الرسول قبل أن يُبلى قميصه.

وأما عموم أهل المدينة ، فلم ينصروا الخليفة الثالث بل خذلوه لأنهم كانوا مؤمنين بأنه لم يكن عادلاً في حكمه ، وقد خالف السُنّة النبوية في كثير من ممارساته السياسية ، ولم يكن رد فعل عثمان بن عفان على محاولات المنتفضين لتغيير سياسته ، وتبديل ولاته ، إلا المزيد من التعنّت والمعاندة ، ولما طالبوه بالتنحّي عن الحكم ، ردّ بأنه لا ينزع قميصاً قمّصه الله به ، مع يقينه بأن الله لم يستخلفه على الأمّة ، وانما عيّنه عمر بن

٤٦١

الخطاب من خلال لجنة الشورى التي كانت تبلغ ستة أنفار هو أحدهم. وهكذا قُتل الخليفة الثالث ودُفن في مقبرة اليهود لأن أهل المدينة رفضوا دفنه في البقيع.

هذه هي حقيقة الخليفة عثمان بن عفان الذي يعدّه أهل السُنّة خليفة راشداً تستحي منه الملائكة ، وهو الذي فعل ما فعل؟

بين الإنتقاء والاهمال

حاول التيار الحاكم في العهد الأموي والعباسي من خلال المؤرخين والباحثين والمحللين التأريخيين ، صياغة الهيكلية العامة لمذهب أهل السُنّة والجماعة من خلال الأحاديث الموضوعة على لسان رسول الله ، التي تنسج هالة من القداسة والحُرْمة حول الصحابة والخلفاء من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لكي يصبحوا منبعاً وأساساً للمذهب السُنّي ، وتجنُّب الحديث أو تجاهل الاحاديث الصحيحة التي تبرز الصحابة والخلفاء على حقيقتهم كأشخاص لم يكونوا بتلك المكانة والقدسية التي تؤهلهم ليكونوا أوصيا أو حَمَلةً للتراث النبوي كما يزعم تيار الخلفاء ، والهدف من هذه الخطوة ، تهميش دور أهل البيت الحقيقي الذي عينهم له رسول الله ، واستبدالهم بالصحابة والخلفاء الأوائل والتعتيم على نقائصهم وعيوبهم التي تجرّدهم من مكانتهم «النفيسة» عند الجمهور.

فقدّم التيار الحاكم ، المتأخرين ، وأخَّر المتقدمين وبدلاً من إيصال الأمّة إلى ساحل الأمان والوحدة والتلاحم ، ساقها إلى حيث التمزّق والتمذهب والاختلاف والتناحر الفقهي والعقائدي وحتى الاجتماعي.

والواقع أن أكثر العلماء والمحققين والباحثين والكتّاب الذين انضووا تحت مذهب أهل السُنّة والجماعة ، خلال أحقاب من الزمن ، ساهموا في إخفاء أي نقيصة أو خلل أو

٤٦٢

ثغرة تؤدي إلى سلب الشرعية المصطنعة للبناء الذي يقوم عليه مذهب اهل السُنّة ، وما يفضي إليه من انهدام الاساس الكامل لهذا المذهب.

وسنتطرق فيما يلي إلى بعض الامثلة على ذلك ، وإلا فإن الأمر يتعدى المئات من الحالات والقضايا والنماذج في هذا الخصوص.

١ ـ يحتجّ علماء أهل السُنّة والجماعة ، بالروايات الضعيفة أو الموضوعة في تدعيم مذهبهم ، والزعم بأنها روايات صحيحة وقوية ، فيما يسعون لتضعيف الروايات التي تدعم مدرسة أهل البيت ، والادعاء بأنها ضعيفة وربما موضوعة ، كما هو موقف محمد أبي زهرة ، عندما حاول تفنيد نظرية أهل البيت والدفاع عن النظرية السُنّة ، كما سنأتي على ذلك بعد قليل.

٢ ـ تجاهلْ الروايات والوقائع التي تثبت قصور بعض الصحابة أو الخلفاء «الراشدين» أو تقصيرهم أو جهلهم أو عصيانهم لرسول الله ، أو تخلّفهم في الحروب ، أو تشكيكهم في بعض مواقف النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو طعنهم في أفعاله أو أوامره ، أو الاستهزاء به وعدم احترامه وغير ذلك ، وسعيهم جاهدين إلى عدم ذكرها بالمرّة ، وإذا اضطروا إلى ذكرها ، فيمرون عليها مرّ الكرام ، ولا يتطرقون إلى تلك الطعون والمثالب خوفاً من إلتفات أتباع السُنّة إلى نقاط الضعف التي تثير شكوكهم ازاء تلك النماذج التي يعدّونها رموزاً مقدّسة عندهم وما يؤدي إليه من زعزعة أسس المذهب السُنّي بكامله.

٣ ـ لجوء بعض علماء أهل السُنّة والجماعة إلى التطرّق ـ ولو إضطراراً ـ لبعض معايب أو نقائص الرموز السُنّية الكبرى ، من صحابة أو خلفاء أو أصحاب مدارس فقهية ، وتبريرها بدون حجة مقنعة ، وتحت لافتة إيثار المصلحة والضرورة والحرص على الأمّة ، والخوف عليها ، أو عدم طاقتها ، وما إلى ذلك.

٤ ـ التجاهلْ التام لشطحات ونقائص بعض الصحابة والخلفاء ، للعجز عن خلق

٤٦٣

المعاذير التي تبرّر تلك الافعال أو الأقوال التي تجرّدهم من تلك المكانة الوهمية التي اصطنعها التيار الحاكم بعد رسول الله ، بالتنسيق مع المعارضين وخصوم اهل البيت.

٥ ـ ترسيخ التيار السُنّي ، لصورة وهمية في نفوس المسلمين عن العلاقات بين الصحابة ، تغلب عليها المثالية ، كالزعم بأنهم كانوا متصافّين ، متناصحين ، متوادين ، متراحمين ، وهم أسوة للأمّة جمعاء. هذه الصورة النموذجية ، لم تكن موجودة فعلاً بين الصحابة ، إلا في حالات نادرة ، أما سائر الصحابة ، فكانت العلاقات بينهم لم تكن بالمستوى اللائق ، كما أكدنا من قبل ، إلا ان السياسة هي التي خلقت من الصحابة أجمعين ، نماذج أخلاقية رفيعة.

٦ ـ ان الهالة التي أُحيط بها جميع الصحابة ، والخلفاء الثلاث الذين جاءوا بعد وفاة الرسول مباشرة ، أوحت لعلماء الجمهور حرمة نقد هؤلاء أو البحث عن مثالبهم وسيئاتهم ، مما أدى إلى تشويش التأريخ الصحيح والنقي أمام الأمّة المخدوعة التي تشرّبت تأريخاً مزوّراً ، وقناعات مهزوزة بحيث نشأت الأمّة وترعرعت على ثوابت وأُسس وهمية لا تمثل الحقيقة أبداً.

فرموز أهل السُنّة والجماعة اعتادوا ومنذ حقب طويلة ، على اسلوب الإنتقاء المُغرض في طرح المواضيع التي تتناول القضايا والحوادث والشخصيات التي لها مكانة مرموقة في أوساط الجمهور ، فهم ينتقمون إيجابيات تلك الشخصيات وإن كان سند الروايات المعنية ضعيفاً ، ويضخّمون من دور تلك الشخصيات ومكانتها و«قداستها» على أساس تلك الروايات الموضوعة ،فيما هناك روايات وأحاديث على درجة كبيرة من الصحة ، يهملونها أو يخفونها بقدر الامكان ، لانها تبرز الوجه الحقيقي لتلك الشخصيات ، سواء كانت تلك الشخصيات من الصحابة أو الخلفاء «الراشدين» أو حتى خلفاء أمويين أو عباسيين ، واصحاب مذاهب أصولية وفقهية كما قلنا قبل قليل.

٤٦٤

وقد تنطبق هذه القاعدة السُنّية ، على الاحاديث والروايات والحوادث ، مثلما تنطبق على الشخصيات ، ونطرح مثالاً في هذا السياق ، وهو حديث الثقلين ، فمحمد أبو زهرة ، يتناول هذا الحديث ، على أساس الرواية الضعيفة أو الموضوعة التي تنص على ان الحديث هو كالآتي : «تركت فيكم ما أن تمسكتم بها لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسُنّتي» ، ويضعّف الرواية الصحيحة التي تقول : «تركت فيكم ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وعترتي» ، ويدّعي في نقْد هذه الرواية ، متساءلاً : من هم أهل البيت؟ هل هم الائمة الستة للشيعة الاسماعيلية؟ ام الائمة الاثنا عشر للشيعة الاثني عشرية؟ متناسياً بأن القضية لا تثبت موضوعها ، وان هذا الحديث الذي أدلى به رسول الله إنما هو على سبيل الاجمال لا التفصيل ، لتأتي أحاديث أخرى تقوم بمهمة تفصيل الموضوع وشرح فحواه ومقاصده ، كالحديث الذي يبيّن من هم اهل البيت في العهد النبوي ، وهم النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه وعلى وفاطمة والحسن والحسين ، والحديث الذي يحدّد الأئمة من اهل البيت من بعده باثني عشر إماماً وخليفة.

ويأتي أبو زهرة ليقوِّي من الحديث الذي يذكر سُنّتي بدلاً من عترتي أهل بيتي ، ويعدّه حديثاً صحيحاً مُعتَبَراً ، بالرغم من تضعيف العلماء وتوهينهم له ، نحيث ان أول من رواه هو مالك بن أنس في الموطأ مُرسلاً ، ثم بادر المؤرخون بنقله عن هذا المصدر.

ويمكن للناقد أن يتساءل : كم هو عدد رواة السُنّة النبوية حتى يتبيّن منْ هم حَمَلَتها ونَقَلَتها؟ حيث لم يذكر رسول الله حديثاً ، يتناول هذه السُنّة وعدد نَقَلَتها وصفاتهم على الأقل.

وكذلك حين يتحدّث بعضهم عن مناقب وسجايا الخلفاء الثلاث الأوائل ، يتناول الحديث ضعيفة أو موضوعة على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو روايات مشكوكاً فيها ، أو مطعوناً فيها ، تتحدث عن بطولاتهم وفضائلهم ، في حين يهملون الاحاديث الصحيحة

٤٦٥

التي تكشف عن حقيقتهم ومواقفهم السلبية ازاء رسول الله ، كتشكيك الخليفة الثاني عمر بن الخطاب في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في قضية صلح الحديبية ، أو فراره من الزحرف في معركة أحد وحنين ، بينما يؤكدون قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه بأنه الفاروق ، مع أن الحقيقة هو ان أهل الكتاب هم الذين لقّبوه بهذا اللقب وليس رسول الله.

إنها سياسة الإنتقاء والاهمال والإخفاء المغرض التي ينتهجها محققو أهل السُنّة وكتّابهم لتبييض وجوه شخصياتهم الكبرى ، وإخفاء عيوبهم وممارساتهم الحقيقية ، وعلى مستوى هذا قِسْ على ذلك ، كقول الرواة بأن عثمان حيي وانه ذو النورين الذي تستحي منه الملائكة ، وقد كان رحيماً يصل ارحامه وأقاربه وما إلى ذلك ، في حين يخفون أفعاله المرفوضة بحق الصحابة كعمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري وعبد الله بن مسعود ، وتقريبه للذين نفاهم رسول الله من المدينة ، كعمّه الحكم وإبنه مروان وأبي سفيان وبني أمية عامة ، وأعماله المخالفة للسُنّة النبوية ، وأقوال عائشة وطلحة والزبير في حقه ، وما إلى ذلك من مجريات تثبت بُعْده عن الحق وتجاوزه على السُنّة النبوية إلى حد أن قامت الأمّة ضده وقُتل بعد أن تخلّى عنه أهل المدينة من المهاجرين والأنصار ودُفن في مقابر اليهود. هذه المجريات يُحاول الباحثون السُنّة كتمانها أو تبريرها باسلوب غير منطقي وغير عقلاني.

أما حديث العشرة المبشرة بالجنة ، الذي طالما تبجّح به أهل السُنّة لاسباغ القداسة على هؤلاء الصحابة ، وإثبات ان مصيرهم إلى الجنة وعدم السماح لأحد بنقد أعمالهم وسلوكهم ، فهو حديث موضوع ولا ينطبق على حياة أكثر هؤلاء العشرة ، سوى علي الذي هو مع الحق والحق معه على الدوام ، ومع القرآن والقرآن معه حيث دار ، وكان من هؤلاء العشرة مَنْ حاربه وقاتله في معركة الجمل ، وهما طلحة والزبير ، وإذا كان علي مطمئناً إلى مصيره لحظة موته ، فإن بقية التسعة من الصحابة كانوا ريب من

٤٦٦

أمرهم ، وشكك بعضهم كأبي بكر وعمر في أعماله عند موته وتمنى لو ان الله لم يخلقه بشراً ، ولو كان الخليفتان الأول والثاني قد سمعها بهذا الحديث الشائع جداً لما جزعا عند موتهما وتمنيا أن لم يُخلقا بشراً ، فكيف يصحّ حديث العشرة المبشّرة بالجنة ، وهم ما عليه من أفعال وتشكيكات؟ ولو كان عثمان بن عفان قد بُشِّر بالجنة لما دُفن في مقابر اليهود بعد أن نبذه الجميع؟

على ان باحثي الجمهور ورموزهم كالعادة ، يحاولون التعتيم على الروايات التي تبيّن حال هؤلاء الصحابة «المبشرين» بالجنة ، ، أو يبرّرون أعمالهم وتصرّفاتهم غير الحكيمة.

ويسعى الكثير من أهل السُنّة والجماعة إلى عدم الالتفات إلى الروايات التي تقدم بالعديد من الصحابة وتكشف أمرهم ، وعدم تطابقها مع الاحاديث الموضوعة بالرغم من روايتها من قبل الصحاح المعتبرة ، إلا ان البخاري ربما كان أكثر دهاء من بقية المؤرخين وأصحاب الصحاح ، حتى من مؤلّف صحيح مسلم ، ولكونه معادياً لأهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلم يرو عنهم إلا قليلاً ، كما لم يرو حديث الغدير الذائع الصيت ، وكذلك سعى للتغطية على أعمال وممارسات بعض الخلفاء والصحابة ، كعثمان بن عفان حيث يذكره بعض الاحيان بعبارة «فلان» إذا كان موقفه سلبياً وذِكْر اسمه يزيل من «قداسته» عند الجمهور ، وان كانت خطوة البخاري تُعدّ خيانة للأمانة العلمية ، إلا ان الجمهور وتقديراً لخياناته ، عدّوا صحيحه من أصح الكتب بعد كتاب الله ، حتى يستسيغ المسلمون البسطاء رواياته ، ولا يلتفتوا إلى مثالبه في النقل ، والروايات العجيبة والغريبة المحشوة في صحيحه.

وملحوظة أخرى لابد من تأكيدها بنصوص الإنتقاء في الاسلوب السُنّي ، وانتخاب الاحاديث التي تروق لأتباع الجمهور ، ولا تشكّك في مواقف أكابرهم من الخلفاء

٤٦٧

وبعض الصحابة ، فيما يخص تجاوز السُنّة النبوية وإتّباع سُنّة مُغايرة لسُنّته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما يسعى التيار السُنّي ، تنزيه الخلفاء الاوائل من خلال احاديث مفتعلة ما أنزل الله بها من سلطان ، وسنضرب هنا أمثلة محدودة على سبيل المثال لا الحصر :

١ ـ يصرّ كبار أهل السُنّة والجماعة بأن تسمية الخليفة الاول بالصدّيق والثاني بالفاروق كانت من قبل رسول الله ، في حين كانت التسمية في الحقيقة من قبل أهل الكتاب ، بينما لم يشيروا إلى الاحاديث التي تشدّد على ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أسمى علياً بالصديق الأكبر والفاروق الاعظم ، ويتغاضون عن مثل هذه الاحاديث تماماً.

٢ ـ يدّعي أهل السُنّة والجماعة بأن أول من تلقّب بأمير المؤمنين هو عمر بن الخطاب ، في حين ان أول من تلقب بأمير المؤمنين هو علي بن أبي طالب عندما أمر جبرئيل ، الرسول الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بتلقيبه بهذا اللقب بأمر من الله تعالى ، فيما كان عمر هو الذي لقّب نفسه بأمير المؤمنين.

٣ ـ يزعم أهل السُنّة والجماعة بأن وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى في الصلاة ، هي بأمر من رسول الله ، في حين تذكر روايات كتب الصحاح والسنن انها كانت باجتهاد الخليفة عمر عندما جاءه مبعوثو ملك الفرس وقد وضعوا يدهم اليمنى على اليسرى احتراماً للخليفة الذي أعجب بهذا التصرف وجعله جزءاً من الصلاة ولو إستحباباً.

على أننا بعد الاطلاع على دقائق المجريات وخفاياها ، منذ نزول الرسالة الإسلامية على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما تلا ذلك من وقائع خلال القرون الأولى ، توصلنا إلى حقائق راسخة لا يمكن إنكارها أو القفز عليها مهما حاول الانسان التهرب والإلتفاف حولها أو اختلاق الاعذار والحجج الواهية لدحضها أو تشويهها لأنها كالشمس الساطعة في رائعة النهار.

٤٦٨

المحنة مع قريش

نزل الوحي على النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كما هو معروف ـ وهو يتعبّد في غار حراء ، وحين عرض الاسلام على زوجته خديجة الكبرى وابن عمه علي بن أبي كالب الذي كان يبلغ من العمر ٩ سنوات ، أسلما فوراً ودون تردد ، وكان عليّ يتعقبه إلى غار حراء ، ويسمع الوحي مباشرة دون الناس ، وهو الذي صلّى خلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل الناس بخمس سنوات ، وشرع رسول الله يلقّنه تعاليم الدين والآيات القرآنية النازلة عليه ، فيستوعبها فوراً.

ونزلت آية الانذار التي أعلن الرسول في أعقابها بأن علياً هو أخوه ووصيه ووزيره وخليفته من بعده ، فليسمعوا له ويطيعوا ، فاستصغر القوم علياً وأخذ القوم يتغامزون ويعيّرون به أبا طالب ، قائلين : لقد أمّر محمد عليك ابنك علياً لتسمع له وتطيع.

وهنا بدأت محنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع قريش في قضية الخلافة.

لقد كان الأمر إلهياً ، إذ ان رسول الله أعلن للملأ من بني هاشم بأن علياً : أخوه بالأخوَّة الخاصة ، لأن كان ابن عمه وليس أخاه في النسب ، كما جعله وصياً له ووزيراً وخليفة عليهم من بعده ، فشرعت الأحقاد تتنامى ضد علي بن أبي طالب ، حسداً من قبل بعض الصحابة ، وحقداً وحسداً مطلقاً من جلّ قريش.

وظل هذا الحقد والحسد ، خفياً تارة ، وعلنياً تارة أخرى ، حتى هاجر المسلمون إلى المدينة المنورة ، وقامت معركة بدر بين المسلمين ومشركي قري ش، إذ قتل عليّ نصف المقاتلين من قريش ، وفيهم عدد من قادة بني أميّة ، حيث اشتد الحقد ضد عليّ وبقي هذا الحقد يغلي في نفوس بني أميّة وفي عدد من كبار زعماء قريش حتى بعد أن أعلنوا إسلامهم الشكلي في فتح مكة.

٤٦٩

وهذا الرفض من قبل قريش ، والاستياء من قبل بعض المهاجرين والأنصار ازاء عليّ ، كان كامناً في ال نفوس ، ويظهر على شكل غيظ أو نفور أو شكوى ، فيغضب رسول الله ويعاقب كبار الصحابة ، ويحذّرهم من تكرار تلك المواقف السلبية حيال عليّ بن أبي طالب ، فيتراجع هؤلاء عن تلك المواقف اللامسؤولة ، ويعتذرون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ ، على ما صدر منهم ضده.

وإذا كان رسول الله ينتقد كبار الصحابة من المهاجرين والانصار في مناسبات مختلفة ، فإنه لم تصدر عنه ولا عبارة واحدة ضد ابن عمه عليّ ، بل كانت كل أقواله ، ثناءً عليه ، وتهيئته للخلافة من بعده ، ثم زوَّج ابنته فاطمة منه ، بعد أن ردّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سائر الصحابة الذين طلبوا يدها من أبيها ، وفيهم أبو بكر وعمر ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن تزويجها يأتي بأمر السماء ، حيث خطبها جبرئيل لعلي بأمر من الله تعالى ، وأخذ الحسد والحقد يتأصّل ضده ويغلي في النفوس ، لكن بصورة مستترة خوفاً من غضب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيما كان المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ينتقد كبار الصحابة ـ علانية ـ ويوبّخهم ويحذّرهم من عصيانه ، ولا يأبه بتلاعنهم فيما بينهم ، لكنه لم يسمح لهم بالمساس بعلي وذكره بسوء.

وعجبنا كثيراً كيف أخَّر الجمهور علياً في المرتبة من حيث الفضل والمنزلة فجعلوه رابع الخلفاء «الراشدين» وفضّلوا عليه الخلفاء الثلاث الأوائل ، مع انهم يقرّون بان انتخاب الخلفاء إنما تم من قبل المسلمين انفسهم ، وليس لرسول الله يد في تعيينهم؟ بينما يعلم الجميع ، ان أكثر من ثلاثمائة آية قرآنية نزلت في علي وحده على حد قول حبر الأمّة عبد الله بن عباس ، ولم تنزل آية واحدة لتبيان فضل أبي بكر وعمر وعثمان ، وإذا كانت الآية الوحيد النازلة في حق أبي بكر كما يدّعي أهل السُنّة ، هي : إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّـهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّـهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ

٤٧٠

بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وكَلِمَةُ اللَّـهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّـهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (التوبة ٤٠). ، فهي ـ إن صحّ نزولها في أبي بكر ـ لم تتضمن أي مدح أو منقبة للخليفة الأول ، بل احتوت ذماً مبطّناً له ، لكون أبي بكر كان يرتجف وهو إلى جوار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بينما كان الأوْلى به أن يطمئن وتغمره السكينة وهو بجنب خاتم الأنبياء الذي يحفظه الله من كل سوء ، خاصة وانه قد رأى السكينة على وجه رسول الله ، فكان ينبغي عليه أن يستلهم الطمأنينة والسكينة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي قال له : لا تحزن إن الله معنا.

وبدلاً من أني تأتي الآية القرآنية لتنزل السكينة على أبي بكر وهو الخائف المرتعب ، وإذا بالسكينة تنزل على الرسول وحده دون صاحبه ، في حين ان الآيات الأخريات التي نزلت في مواقف مختلفة ذكرت السكينة النازلة على الرسول والمؤمنين حيناً ، أو على المؤمنين في حين آخر ، فلماذا يا ترى استثنت الآية القرآنية النازلة في موضوع هجرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أبا بكر من السكينة؟

والغريب ان علماء الجمهور ، طالما تشبثوا بهذه الآية ، لتأكيد منقبة للخليفة الأول ، وهي في الحقيقة تحمل موقفاً سلبياً منه لا فضيلة أو منقبة كما تبدعه مخيلتهم.

وهناك آيات نزلت في حق الخلفاء الاوائل ، وهي تستبطن مواقف سلبية لهم ضمن الصحابة الذين كانوا يرفعون أصواتهم فوق صوت النبي أو يجهرون له بالقول ، أو يفرّون من الزحف ، إلا علياً فلم تنزل في حقه إلا الآيات المادحة له ، والمانحة له مكانة عظمى عند الله ورسوله والمؤمنين. وانه ولي المسلمين قاطبة ، ومع ذلك يأتي هؤلاء ليضعوا مرتبته بعد الخلفاء الثلاث الأوائل الذين ـ كما قلنا ـ لم يستخلفهم رسول الله ، وإنما اختارهم أفراد قلائل ، ولقد ثبت لي من خلال التحقيق ، ما يلي :

٤٧١

١ ـ ثبوت أكذوبة عدالة الصحابة جميعاً التي يتشبث بها الجمهور للاستدلال على صحة أي حديث يرويه أي صحابي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأن القرآن الكريم والسُنّة النبوية ، أثبتا انحراف الكثير من الصحابة ، وارتكابهم للموبقات ، وعصيانهم لرسول الله ، فكيف والحال هذه يصحّ الحديث بعدالتهم أجمعين؟ وكيف تصح النظرية السنّية القائلة بأن الصحابة كانوا يتناقلون الحديث دون ذكر اسم الصحابي الذي يروون الحديث عنه للثقة المتبادلة بينهم؟ فيما كان هؤلاء يكذّب بعضهم بعضاً كما هو ثابت عنهم ، وانما يصحّ نقل الحديث عن الصحابة القات الذين كانوا يطيعون الرسول في حياته وبعد مماته ، ولم يُحدثوا بعده. ولا ننسى أن الكثير من الرواة الذين تعاونوا مع الخلفاء وأذنابهم ، خاصة في العهد الأموي ، وضعوا آلاف الاحاديث في حق الخلفاء الأوائل وفي حق الصحابة ، ونسبوها إلى صحابة أجلاء لكي تنطلي على بسطاء المسلمين.

٢ ـ ثبت ان السُنّة النبوية لم تُدوّن عند أهل السُنّة والجماعة إلا في أواسط القرن الثاني الهجري ، لأن الخلفاء الثلاث الأوائل ، ثم خلفاء العهد الأموي ، لم يسمحوا بتدوينها ، إلا ان القليل من المؤرخين ونَقَلة الحديث تمكنوا من التدوين سرّاً خوفاً من عيون السلطان وعليه كيف يطمئن المسلمون لحديث بقي ١٥٠ عاماً محفوظاً في الصدور من الخطأ والنسيان والعبث والتحريف واستغلال الوضاعين؟

٥ ـ لم تكن تلك الفضائل والمناقب التي أعلنها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي وأهل بيته ، مجرّد فضائل لمدح أهل البيت وإعلاء شأنهم وتجليلهم فقط ، كما يقول أهل السُنّة والجماعة ، وإنما كانت تنطوي على تأكيد حاسم منه صلى‌الله‌عليه‌وآله بوجوب إتّباع الأمّة لهم والاقتداء بهم وموالاتهم بقدر اتّباعهم للقرآن الكريم ، لكي تنجو من الانحراف والتفرّق ، وتبقى سائرة على الصراط المستقيم ، لأن أهل البيت سفن النجاة والثقل

٤٧٢

الآخر ، لو تمسّكت بهم الأمّة ، أمنت من الفرقة والزلل والسقوط في حبائل الشيطان ، ولو والاهم كل أفراد الأمّة ، لَمَا كان هناك سُنّة ولا شيعة ، ولما نشأت تلك المذاهب الأصولية والفقهية الكثيرة المتطاحنة فيما بينها خلال تلك العصور ، ولما اختلفت ذلك الاختلاف الذي أُزهقت بسببه النفوس وأُريقت الدماء ، وتمزّقت الأمّة شر ممزق ، وحدث ما كان يحذّر منه رسول الله باتّباع الأمّة الإسلامية نفس المسالك الذي اتبعته الأمم السابقة وما أدى إليه من انحرافها عن مبادئ وتعاليم انبيائها وتوزّعها إلى مذاهب عديدة.

ولو اتّبعت الأمّة بأجمعها ، عليّاً ومن بعده أئمة أهل البيت الآخرين ، الذين وصفهم رسول الله بأنهم أعلم الناس جميعاً ، لما نشأت المدارس الأصولية والعقائدية والفقهية ، مثل نظرية «قِدَم القرآن» ، أو «التشبيه والتجسيم» ، أو «الارجاء» أو «الجبر والتفويض» أو «القدر» ، ولما احتاج الفقهاء إلى قواعد دخيلة ، مثل «المصالح المرسلة» أو «الاستحسان» أو «عمل أهل المدينة» أو «الرأي والقياس» وما إلى ذلك ، ولما تعدّدت التفاسير وتشعبت ، ولو اتبع المسلمون أهل البيت ، لما توقف المدّ الاسلامي على تخوم أوروبا ثم انحسر إلى ما هو عليه الآن ، وأصبحت الأمّة الإسلامية من آخر الامم ، في حين كان من المفروض أن يمتد الإسلام ليشمل الأرض قاطبة ، تطبيقاً للآية الكريمة : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا (١).

وبتجريد أهل البيت من دَوْرهم القيادي كخلفاء للرسول ، استحوذ التيار الحاكم على الخلافة والحكم ، بدلاً من أهل بيت الرسول ، وسخّر كل الوسائل المتوافرة من مؤرخين وعلماء ومحققين ورواة ، لتكريس نظرية غير واقعية تقتضي سلب الموقع

__________________

(١) سبأ ٢٨.

٤٧٣

الريادي لأهل البيت ، واختزال دورهم الشرعي المقدس ، إلى مجرد مناقب وفضائل ومودّة سطحية لهم ، واحترام وتبجيل لفظي ليس إلا ، واختلق بديلاً لهم ، وهم الصحابة والخلفاء الثلاث الأوائل كبديل «مقدس» و«شرعي» تبوّأ مكانهم في التشريع والافتاء وقيادة الأمّة.

وأصبح جلّ الصّحابة ، موضع افتخار وتجليل أهل السُنّة والجماعة ، وكذلك الخلفاء المسبوغ عليهم لقب «الراشدين» ، يأخذون عنهم دينهم ، ولا يأخذون من أهل البيت إلا الفِتات ، ولا يوالونهم الموالاة المفروضة ، ولا يسترشدون بمخالفيهم وأعدائهم ، بل ولا يتورّعون عن احترام وتوقير قَتَلة آل البيت ومحاربيهم ، ولا يجدون ريباً في ذلك ولا عيباً؟ لأن الجميع مجتهدون مأجورون. فهم ـ أي أهل السُنّة ـ يترضّون على علي بن أبي طالب وكل الذين حاربوه في معركة الجمل من الصحابة وغيرهم ، وكذلك يترضون على معاوية بن أبي سفيان وأعوانه الذين قاتلوا علياً في صفين بالرغم من شتمهم علياً على المنابر خلال عقود من الزمن.

وهكذا تحققت نبوءة رسول الله في قوله ان ما حدث في الامم السابقة من انحرافات ، سيحدث في الأمّة الإسلامية ، والسبب بالطبع ـ عدم الولاء لاهل البيت وعصيان أمر الرسول في ذلك ، والنتيجة كانت افتراق الامة إلى ٧٣ فرقة ، مصيرها في النار إلى فرقة واحدة (١) ، ولم يرُقْ للجمهور إلا أن يُجيّروا هذا الحديث النبوي ليصبَّ في صالح مذهبهم ، فأضافوا إليه عبارة موضوعة ، يقول فيها صلى‌الله‌عليه‌وآله : «عن الفرقة الناجية : ما أنا عليه وأصحابي» (٢) ، ولم يحدّد أهل السُنّة والجماعة ، ما هي الفق الأخرى التي

__________________

(١) المعجم الكبير ـ الطبراني ١٧ : ١٣ ؛ تفسير القرطبي٢ : ٩.

(٢) سنن الترمذي ٤ : ١٣٥ ؛ عمدة القاري ـ العييني ١٨ : ١٣٩ ؛ المعجم الكبير ـ الطبراني ٨ : ١٥٣.

٤٧٤

سيكون مصيرها إلى النار؟ مع ان أكثر الفرق الاسلامية تحترم الصحابة وتثق برواياتهم عن رسول الله؟

من هي الفرقة الناجية؟

وطبق أقوال الرسول وتحذيراته ، فإن الأمّة الإسلامية الآن موزَّعة إلى مذاهب وفرق ونحل كثيرة ، كلها تدّعي التواصل مع رسول الله ، إلا انها وللأسف ، بعيدة عنه كل البعد ، بعد أن حرّف أتباعه ، تعاليم الدين الحنيف ، منذ رحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأضافوا وأنقصوا في أحكامه ، ووضعوا سُنناً تُخالف السُنّة النبوية ، واختلفوا أحكاماً وعقائد لا تمت للقرآن والسُنّة النبوية بصلة ، وانما تُرضي الحكام والسلاطين وتبقى فرقة واحدة هي الناجية ، ولابدّ أن تكون متواصلة مع رسول اله ، ومُطيعة له ، ومُتابعة له منذ وفاته وحتى النهاية والخاتمة ، وهذه الفرقة ليست من الفرق والمذاهب السُنّية أبداً ، لأن جميعها يقرّ بأن السُنّة النبوية تم تدوينها بعد نحو ١٥٠ عاماً على وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانت محفوظة في الصدور مُعرَّضة للخطأ والنسيان والتحريف ، وخاصة ان رُواتها من الصحابة ، ليس كلهم عدولاً وانما الكثير منهم قد كذّب على الرسول ووضع الأحاديث على لسانه ، خدمة لتيار الخلفاء الحاكم بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم وُضعت أحاديث على ألسنة الصحابة في العهدين الأموي والعباسي لإسباغ الشرعية على الخلفاء المتعاقبين الذين روّجوا وتبّنوا المذاهب الفقهية والأصولية المنضوية تحت لواء أهل السُنّة والجماعة ، فتبدّلت تعاليم الدين الاسلامي ، وتلاعب أهل الدين بالأصول والفروع والاحكام ، إرضاءً للحُكّام والسلاطين ، وتماشياً مع أوامرهم وتعليماتهم بغية تفصيل الدين وأحكامه على مقاس الحُكّام والخلفاء وأمراء المؤمنين الذين حكموا بعد رسول الله مباشرة وإلى عهود مُتأخرة ، بإستثناء عليّ الذي لم يتبوأ الحُكم إلا بعد إصرار المهاجرين

٤٧٥

والأنصار وسائر المسلمين ، ومبايعته حاكماً على الأمّة ، فضلاً عن تعيينه من قبل الله تعالى خليفة وإماماً على الأمّة جمعاء ، إلا أن تلك الأمّة قد اُستغفلت وفوجئت بمؤتمر السقيفة وما جرى من إرغام الناس على البيعة لأبي بكر حيث بايع أكثرهم دون أن يعلموا بعواقب تلك البيعة التي جرت بين الاكراه والإستغفال.

والحقيقة ان بيعة عليّ كانت الوحيدة في التأريخ التي أجمعت الأمّة عليها بعد الفتنة ، وما اضطره إلى قبول التصدّي للحكم بشرط السير على نهج القرآن والسُنّة النبويّة وحدهما.

ولما عرفنا قبلاً ـ ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قد أشار مراراً إلى أن عليّاً وشيعته هم الفائزون يوم القيامة ، فلابد أن يكون الشيعة هم الفرقة الناجية دون سائر الفرق الممتدة على طول التأريخ.

وشيعة عليّ الذين قصدهم رسول الله ، هم في الحقيقة أتباع أهل البيت السائرون على نهجهم ، وهم فضلاً عنه وابنته فاطمة ، الأئمة الاثنا عشر.

الصلاة المفروضة .. كيف تغيّرت؟

من المسلّمات في الاسلام ان الصلاة اليومية من أهم فرائض وواجبات الشرع المقدّس ، إذ هي عمود الدين (١) ، وكتاب موقوت على المؤمنين حسب التعبير القرآني ، والمستخفّ والمستهين بها ، عند أهل السُنّة والجماعة ، يواجه عقوبة إلهية شديدة (٢) ،

__________________

(١) الجامع الصغير ـ السيوطي ٢ : ١٢١.

(٢) الدر المختار على صدر رد المختار ـ كتاب الصلاة ١ : ٣٥٢ ـ ٣٥٣ ؛ الفقه على المذاهب الاربعة ـ كتاب الحدود الكبيرة العشرون ـ ترك الصلاة متعمداً ٥ : ٤٠١.

٤٧٦

ومع التهديد الالهي والتحذير للمتهاون بالصلاة ، فان المسلمين قد بدّلوا الصلاة باعتراف أنس بن مالك ، وهو كان خادماً للرسول لعَقْد من الزمن ، وعلى معرفة بصلاة النبي اليومية ، اذ يقول أنس عن جدّه مالك : ما أعرف شيئاً مما أدركت عليه الناس إلا النداء للصلاة. ويذكر السيوطي عن الباجي : يريد ـ أي مالك ـ الصحابة وان الأذان باق على ما كان عليه لم يدخله تغيير ولا تبديل بخلاف الصلاة فقد أُخّرت عن أوقاتها ، وسائر الافعال دخلها التغيير ، ولكن يُعلم من رواية أخرى ذكرها في الموطأ ، ان الاذان أيضاً قد تغيّر عما كان عليه في عصر رسول الله ، وزيد في أذان الصبح ، الصلاة خير من النوم بأمر من عمر (١).

ويقول أنس بن مالك : ما أعرف شيئاً مما كان على عهد رسول الله ، قيل : الصلاة ، قال : أليس ضيعتم ما ضيعتم فيها (٢).

وروى الشافعي من طريق وهب بن كيسان ، قال : رأيت ابن الزبير يبدأ بالصلاة قبل الخطبة ، ثم قال : كل سُنن رسول الله قد غُيّرت حتى الصلاة (٣).

ويقول الحسن البصري في هذا النطاق : لو خرج عليكم أصحاب رسول الله ما عرفوا منكم إلا قبلتكم (٤).

ويبدو من تصريحات كبار علماء أهل السُنّة والجماعة ، انه ليست الصلاة فقط قد تبدّلت وانما سُنن الرسول كلها. وذلك في عهد الصحابة والتابعين ، فأين كان الصحابة

__________________

(١) تنوير الحوالك ـ السيوطي : ٩٢.

(٢) صحيح البخاري ١ : ١٣٤.

(٣) كتاب الام ـ الشافعي ١ : ٢٦٩.

(٤) جامع بيان العلم وفضله ـ ابن عبد البر ٢ : ٢٠٠.

٤٧٧

الملازمون لرسول الله ، صباحاً ومساءً ، وهم يصلّون معه في كل الاوقات ، ويراقبون حركاته وسكناته ويتابعون قراءته في الصلاة؟ خاصة وانه أوصى وهو يحتضر بالصلاة.

وكان التغيير في الصلاة والتبديل، قد طال كل جزء من أجزائها ، بل وحتى البسملة ، والتشهّد والتسليم!!

عليّ والتمسّك بالسُنّة النبوية

لم يكن عليّ بن أبي طالب ، يعرف إلا سُنّة واحدة ، وهي السُنّة النبوية ، التي لم يَحدْ عنها في حياته أبداً ، سواء في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعد موته ، إذ يقول رسول الله لعليّ : أنت أخي وأبو ولدي تُقاتل عن سُنّتي (١).

وأومأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّة الى عليّ وقال : إنه يقاتل على التأويل ، إذا تُركت سُنّتي ونُبذت ، وحُرف كتاب الله ، وتكلّم في الدين من ليس له ذلك ، فيُقاتلهم على إحياء دين الله.

وقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ : أنت أخي ووارثي ، قال : وما أرث منك يا رسول الله؟ قال : ما ورث الأنبياء من قبلي. قال : ما ورث الانبياء من قبلك؟ قال : كتاب ربهم وسُنّة نبيهم ، وأنت معي في قصري في الجنة مع فاطمة ابنتي وأنت أخي ورفيقي (٢).

وقال عليّ بعد بيعته من قبل المسلمين عقب الفتنة : لقد بايعني المهاجرون والانصار على أن أعمل فيهم بكتاب الله وسُنّة نبيه.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ ـ يوم خيبر : أنت تؤدي عني ديني ، وتقاتل على سُنّتي ، وأنت

__________________

(١) كنز العمال ـ المتقي الهندي ١٣ : ١٥٩ ؛ ذخائر العقبى ـ الطبري : ٦٦.

(٢٩ الدر المنثور ـ السيوطي ٤ : ٣٧١ ؛ سير اعلام النبلاء ١ : ١٤٢ ؛ المتقي الهندي ٩ : ١٦٧.

٤٧٨

في الآخرة أقرب الناس مني (١).

وفي كل مواقفه ، كان عليّ يدعو خصومه وأعداءه ، سواء في اسلم أو الحرب ، الى كتاب الله وسُنّة نبيه.

وحين بايعه المسلمون على التسليم والرضا ، شَرط عليه عليّ بن أبي طالب ، كتاب الله وسُنّة رسوله ، فجاءه رجل من خثعم ، فقال له عليّ : تبايع على كتاب وسُنّة نبيه ، قل : لا ، ولكن أبايعك على كتاب الله وسُنّة نبيه وسُنّة ابي بكر وعمر ، فقال عليّ : وما يدخل سُنّة أبي بكر وعمر مع كتاب الله وسُنّة نبيه؟ إنما كانا عاملين بالحق حيث عملا ، وأبى عليّ أن يبايعه إلا على كتاب الله وسُنّة نبيه. ولحق الخثعمي بالخوارج.

عليّ : خاتم الوصيين

الاحاديث النبوية التي تثبت الوصاية لعليّ بن أبي طالب ، أكثر من الحصر ، وبمقدورنا هنا أن نسجّل بعضاً من تلك الاحاديث على سبيل المثال :

يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ان وصيي في أمّتي ، وموضع سرّي وخير من أترك بعدي ، يُنجز عدتي ، ويقضي ديني ، عليّ بن أبي طالب (٢).

وعندما نزلت آية : وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٣) ، قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في علي :

__________________

(١) المناقب ـ الموفق الخوارزمي : ١٢٩.

(٢) كنز العمال ـ المتقي الهندي ١١ : ٦١٠.

(٣) الشعراء ٢١٤.

٤٧٩

أخي ووصيي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي ، فاسمعوا له وأطيعوا (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : من يؤازرني يكون وليي ووصيي من بعدي ، وذلك في حديث الدار حيث كان علي هو المعني بهذا الحديث (٢).

وقال رسول الله لأنس بن مالك في حق عليّ بن أبي طالب : يا أنس من يدخل عليك من هذا الباب ، أمير المؤمنين ، وسيد المسلمين وقائد الغرّ المحجّلين ، وخاتم الوصيين (ع).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ ذات يوم : عليّ بن أبي طالب ، أخي ومنّي وأنا من عليّ ، فهو باب علمي ووصيّي.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لكل نبي وصي ووارث ، وان علياً وصيي ووارثي (٣).

ويوجّه رسول الله حديثه لعليّ قائلاً : لولا اني خاتم الانبياء ، لكُنت شريكاً في النبوة ، فإن لم تكن نبياً ، فإنك وصي النبي ووارثه (٤) ، ولذلك قال الحسن في خطبته الغراء : وأنا ابن النبي ، وأنا إبن الوصي (٥).

هذا وألّف الشوكاني كتاباً أسماه : «العقد الثمين في اثبات وصاية أمير المؤمنين» ،

__________________

(١) الكامل في التأريخ ـ ابن الاثير ٢ : ٦٢ ـ ٦٣ ؛ تأريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٤٢ : ٤٩ ؛ انظر : جامع البيان ـ الطبري ١٩ : ١٤٨ ـ ١٤٩.

(٢) انظر : الطبقات الكبرى ـ ابن سعد ١ : ١٨٧ ؛ ميزان الاعتدال ـ الذهبي ١ : ٦٤ ؛ الموضوعات ـ ابن الجوزي ١ : ٣٧٦.

(٣) تأريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٤٢ : ٣٩٣ ؛ الموضوعات ـ ابن الجوزي ١ : ٣٧٦.

(٤) شرح نهج البلاغة ـ ابن ابي الحديد المعتزلي ١٣ : ٢١٠.

(٥) المستدرك على الصحيحين ـ الحاكم النيسابوري ٣ : ١٧٢.

٤٨٠