بحث حول الخلافة والخلفاء

منيب الهاشمي

بحث حول الخلافة والخلفاء

المؤلف:

منيب الهاشمي


المحقق: زينب الوائلي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٢

عدة : يا علي أنت وشيعتك الفائزون يوم القيامة ، ولهذه التأكيدات النبوية الصريحة ، دلالة كبيرة على ان التشيع لأهل البيت ليس طارئاً ، وإنما كانت له أصول في العهد النبوي ، خاصة وإن أقوال الرسول متعاضدة على أن الذين يتبعون علياً ويتعبدون بأقواله وسيرته ويطيعونه في كل المواقف والممارسات ، هم شيعته الذين يفوزون معه يوم القيامة ، أما أعداؤه الذين يعصون أوامره ويحاربونه ، فهم الخاسرون في الآخرة.

والتيار الثاني الذي يتّبع أهل البيت وعميدهم عليّ ، فهو أقلية مقابل الأكثرية التي انزوت تحت ظل الحكّام طوال فترات التأريخ ، ونما التيار الأول ـ بالتدريج ـ إذ بدأ في عهد الخليفة الأول (أبي بكر) وأخذ يطيعه ويتقبل أقواله وآراءه واجتهاداته ، وإن كانت تبتعد عن القرآن والسُنّة النبوية ، وصار هذا التيار يتبلور بمرور الأيام في العهود اللاحقة ، وخاصة في عهد الخليفة الثاني والثالث ، وحين استحوذ معاوية بن أبي سفيان على حكم المسلمين ، بعد مقتل علي بن أبي طالب وابنه الحسن ، انبرى لدعم التيار الأول وهو تيار الخلفاء على حساب التيار الثاني ، تيار أهل البيت وشيعتهم ، وكان معاوية يكنّ عداء صارخاً لاهل البيت ويقمعهم بكل السبل.

تبنّي معاوية لتيار الخلفاء وتكريسه في حياة الامّة

وبعد أن غدر معاوية بالحسن بن علي ، الخليفة الثاني من أهل البيت النبوي ، وضرب شروط الصلح معه بعرض الجدار ، صفا له الجو لتبني تيار الخلفاء ، وتكريسه على المستوى الفكري والعقائدي والفقهي ، وملاحقة رموز تيار أهل البيت الدينية والعلمية ، والتضييق على قواعده الشعبية المتواضعة وقمعها بشدة ، وخنق صوته ، وتشوبه سمعته على صعيد الرأي العام الإسلامي.

٤٤١

والحق أن بداية تكوين وتبلور ما يُسمَّى بـ«أهل السُنّة والجماعة» انما كان في عهد معاوية حين دخل الكوفة ، وأعلن تمزيق وثيقة العهود التي أبرمها مع الخليفة الشرعي الحسن بن علي ، وسُمي ذلك العام بعام الجماعة (١).

ويبدو ان بوادر تشكيل المذاهب السُنّية ، بدأت منذ العام الذي استولى فيه معاوية على الحكم ـ عنوة ـ وأصبح معاوية في ذلك العام ، خليفة المسلمين وأمير المؤمنين ـ رسمياً ـ وحاكماً مطلقاً على الأمّة الإسلامية ، مع انه من الطلقاء ومسلمي الفتح ، الذين أسلموا مضطرين ـ هو وأبوه الذي كان يعلن استخفافه بالإسلام والرسول الكريم بين الحين والآخر ، ولعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله مراراً ـ والغريب مع وجود المئات من الصحابة الصلحاء ، وفيهم العالم والفقيه والمخلص ، كيف يصبح معاوية أميراً للمؤمنين ، ويخضع له الجميع؟ إنها من سخريات الأقدار!!

وعند التمعّن في سياسة الحكم التي اتّبعها معاوية أثناء عهده ، يتبين أنه هو الذي رسّخ المبادئ الاساسية والقواعد الأولى لأهل السُنّة والجماعة ، حيث قام :

١ ـ بالترويج لمظلومية الخليفة الثالث ، ودعوة المحدّثين لوضع الأحاديث على لسان النبي في مدح عثمان بن عفان وإبراز مكانته وفضائله المزعومة ، ثم توسّع معاوية ، فدعا المحدّثين والرواة من الصحابة وغيرهم لوضع أحاديث في فضائل ومناقب الخليفتين الأول والثاني كي تنطلي اللعبة على عقول المسلمين ، وأمر المحدّثين أن يضعوا أحاديث مشابهة ومطابقة للأحاديث الصحيحة التي أدلى بها رسول الله في حق أهل بيته وبالأخص في عليّ بن أبي طالب ، لكن في الخلفاء الثلاث الأوائل ، وكذلك في حق الصحابة ، وإحاطة هؤلاء بهالة من القداسة كبديل للقداسة الحقيقية لأهل البيت التي خصّهم بها رسول الله.

__________________

(١) عمدة القاري ـ العيين ١٣ : ٢٨٢.

٤٤٢

وكانت خطة معاوية في ذلك ، أن يستحوذ الخلفاء الثلاث الأوائل ، على دور أهل البيت وعميدهم عليّ ، من خلال تضخيم دور هؤلاء الخلفاء وتقزيم دور أهل البيت الذين واجهوا تشويهاً لسمعتهم ، وتعتيماً على مكانتهم ، وتمييعاً لوجودهم الاجتماعي ، فعليّ الذي يُعدُّ عميد أهل البيت بعد رسول الله ، فرض معاوية سبّه على المنابر في جميع صلوات الجمعة في المدن والقصبات التابعة للحكم الاموي.

وفرض معاوية على الرواة والمحدّثين ، أن يقابلوا كل منقبة لعلي ، بمناقب موضوعة للخلفاء الثلاثة الأوائل والصحابة أيضاً.

وهنا بدأت ملامح المدرسة السُنّية تتضح شيئاً فشيئاً من خلال تعطيل دور أهل البيت ، ليصبحوا كسائر المسلمين ، فكما ان لأهل البيت فضائل ومناقب جمّة ، فإن للخلفاء الأوائل وعموم الصحابة ، فضائل ومناقب عظيمة أيضاً.

وجاء أصحاب السنن والصحاح والمسانيد ، ليضعوا أبواباً في فضائل الصحابة والخلفاء الثلاث إلى جانب فضائل أهل البيت ، وكأن الجميع سواء في الفضائل والمكانة السامية.

وعليه فإن الركائز الأولى لاهل السُنّة ، إنما وُضعت في بداية العهد الأموي ، واستمر معاوية بمنع تدوين السُنّة النبوية أسوة بالخلفاء الثلاث الأوائل ، وحين أحسّ بدنو أجله ، أرغم الأمّة على البيعة لابنه يزيد ، وخاصة الصحابة الكبار في المدينة المنورة ، مع علمه بانحراف يزيد وعدم التزامه بالفرائض الدينية ، فضلاً عن لهوه وعبثه ومجونه. واستسلم الجميع لهذا التوريث في الحكم إلا الحسين بن علي الذي رفض البيعة رغم كل الضغوط التي مارسها معاوية ازاءه.

وحالما تسلّم يزيد سدّة الحكم والخلافة ، إثر وفاة أبيه معاوية ، دعا الحسين للبيعة ، فأبى أن يبايعه ، خاصة وانه أي يزيد كان يجاهر بالفسق والفجور ، فأمر يزيد بقتله ولو

٤٤٣

كان متعلقاً بأستار الكعبة ، فتأكد للحسين بأن القوم لن يتركوه أبداً ، في وقت بعثت نخبة من أهل الكوفة رسائل تدعوه للمجيء إلى هناك ومبايعتها له ، ويبدو ان هؤلاء من ضعاف النفوس المتذبذبين في مبادئهم ومواقفهم ، فسرعان ما انقلبوا عليه وغدروا به ، بالتنسيق مع عامل معاوية في الكوفة ، وذلك في موقع يُدعى كربلاء ، إذ ارتكب الجيش المدعوم من قبل يزيد بن معاوية وأعوانه ، أعمالاً وحشية لم يرتكبها أعتى الطغاة في التأريخ ، فتم قتل الحسين سبط رسول الله وريحانته ، وتصفية أبنائه وأهل بيته والعديد من بني هاشم وأصحابهم باسلوب بشع يفتقد لأبسط قواعد الانسانية والموازين الدينية والالهية ، فقد تم منع الماء عن الحسين وكل الذين معه من آل بيته حتى النساء والاطفال ، ثم قُتل الحسين وأبناؤه حتى طفله الرضيع والتمثيل بجثثهم وقطع رؤوسهم ومرور وسحق الخيول على أجسادهم ، وحرق خيم النساء والأطفال وسبيهم ، وضرب ظهورهم بالسياط ، وكلها أفعال لا تقرّها الشرائع الالهية والتقاليد الانسانية.

وقد جرت تلك المجزرة المروّعة ، في ظل حكومة يتصدّرها خليفة يعدّ نفسه أميراً للمؤمنين ، ومع تلك الواقعة الشنعاء التي لم يشهد لها التأريخ مثيلاً وراح ضحيتها حفيد الرسول وأهل بيته ، يأتي من يضع حديثاً عن رسول الله يزعم بأن أفضل القرون هو قرنه ، هذا القرن الذي شهد تصفية لأهل بيته وأبنائه أشنع تصفية ، فعلى مَنْ تنطلي هذه الأحاديث الموضوعة؟ (١).

ولم يمض سوى عام على مجزرة كربلاء حتى احتل الجيش الأموي ـ بأمر من يزيد ـ مكة المكرمة ورمى الكعبة المشرفة بالمنجنيق ثم تلاها في العام الآخر ، احتلال المدينة المنورة ، والقيام بمجازر وحشية بحق أهلها في واقعة الحرّة ، وهتك أعراضهم وقتل

__________________

(١) طبقات الحنابلة ـ محمد بن ابي يعلى ٢ : ٢٧٢.

٤٤٤

أطفالهم ، واستشهاد أكثر من ٨٠٠ من الصحابة الكرام.

في أثناء ذلك ، مات يزيد ـ فجأة ـ فانتقل الحكم إلى الجناح المرواني من بني أمية ، وتولّى «أمارة المؤمنين» من يٌشكّ بايمانه بالله ، كالوليد بن يزيد الذي كان يُتَّهم بالزندقة والانحراف الديني والأخلاقي حتى أن أقاربه من بني أميّة قاموا بتصفيته حتى لا يفضحهم بأعماله وممارساته الفاجرة.

ولم يكن من بني أميّة ، خليفة عادل سوى عمر بن عبد العزيز الذي كان يتصف بالعدل والانصاف ، حيث منع رعيته من سب عليّ بن أبي طالب من على منابر الجمعة ، كما أعاد لأهل البيت حقوقهم المنتزعة منهم بعد وفاة الرسول ، وخاصة وراثة فدك التي كان يتوارثها الخلفاء والحكام كابراً عن كابر ، ولم يدم حكم عمر بن عبد العزيز سوى عامين ، حيث مات فجأة وعاد الظلم والاستبداد ينشب أظافره في جسم الأمّة الإسلامية ، وخاصة بحق عترة رسول الله.

وسعى عمر بن عبد العزيز ، لتدوين السُنّة النبوية التي بقيت ما يقرب من مئة عام ممنوعة من التدوين بأمر الخلفاء المتعاقبين ، إلا من قام بالتدوين الشخصي دون علم السلطة الحاكمة ، فقرّر عمر بن عبد العزيز الشروع بتدوينها لولا موته المفاجئ ، فتم تجميد مشروع التدوين حتى زوال الحكم الأموي على يد بني العباس الذين قفزوا إلى حكم الأمّة تحت شعار الرضا من آل محمد ، إلا انهم قمعوا أهل البيت بصورة وحشية ، وخاصة في عهد أبي جعفر المنصور الذي شهد عهده نشوء المذاهب السُنّية الاساسية.

٤٤٥

تبلور المدرسة السُنّية وإتضاح معالمها

كان أبو حنيف النعمان ، الفقيه المعروف ، قد إعتمد في اصول مدرسته الفقهية على الرأي والقياس ، فسُمي أتباعه بأهل الرأي ، وحين أمره المنصور بتسلّم منصب قاضي القضاة ، رفض تنفيذ ذلك الامر لإيمانه بظلم خلفاء بني العباس ، فزجّه المنصور في السجن حتى مات فيه.

وقد شهد العهد العباسي نشوء المذاهب الاربعة المعروفة ، ومذاهب ومدارس سُنّية كثيرة ، ومئات من المجتهدين الذين لم يكونوا أصحاب مذاهب ، إذ ليس لديهم أتباع سوى قلة في بعض الأحيان.

وفي هذا العهد بالذات ، تبلورت المدرسة السُنّية ونضجت وتحدّدت أغلب معالمها حيث استوعبت كل المذاهب الفقهية المنضوية تحت ظل الخلفاء والحكّام من بني العباس وأتباعهم. وهكذا نشأ مذهب «أهل السُنّة والجماعة» وتبلورت ملامحه الاساسية في العهدين الأموي والعباسي ، بالرغم من ان جذوره بدأت منذ سقيفة بني ساعدة حيث تم تجريد اهل البيت من حقهم في الخلافة وقيادة الأمّة سياسياً ودينياً.

عاشت الأمّة وترعرعت حتى أواسط القرن الثاني الهجري ، في ظل خلفاء وحكّام مارسوا شتى الوسائل والاساليب لاخفاء الحقيقة الكبرى المتمثلة في أحقية أهل البيت للخلافة والامامة بعد رسول الله ، إذ سعوا إلى منع تداول الأحاديث النبوية على ألسنة

٤٤٦

المسلمين ، وعدم تدوينها بذريعة الخوف من اختلاطها بالقرآن الكريم ، ولم تُدوّن بالتفصيل ، إلا في أوائل العهد العباسي بعد ان اختلطت بها أضعافها من الأحاديث التي وُضعت في العهدين الاموي والعباسي بهدف التغطية على أحاديث النبي بوجوب اتّباع أهل بيته كحَمَلة لعلمه وفقهه ، وقيادة الأمّة من بعده دون غيرهم من الصحابة والمسلمين.

(حقائق) مبعثها الاوهام والاحاديث الموضوعة

وعى أكثر المسلمين في القرن الثاني من الهجرة ، وأمامهم ركام من الاحاديث التي وضعت في العهد الاموي ، ليؤمنوا بها كحقائق لا تقبل النقاش ، منها :

١ ـ ان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يستخلف أحداً ، وانما مات وترك الأمّة هي التي تختار الخليفة الأصلح لها.

٢ ـ ان الصحابة عدولٌ بأجمعهم ، ولا يحق لأحد المساس بهم ، أو الطعن فيهم ، أو لعنهم وسبّهم ، لأن فعل ذلك يؤدي إلى سب الله ورسوله.

٣ ـ ان الصحابة ولكونهم عدولاً ، لا يكذّبون على رسول الله ، فهم حملة السُنّة النبوية ، وهم الذين نقلوا لنا هذه السُنّة بأمانة.

٤ ـ كما ينبغي الاقتداء بالصحابة ، وأخذ أقوالهم وفتاواهم وآرائهم ، على محمل الصحة ، لأنهم أفضل الخلق بعد رسول الله.

٥ ـ ان الأمّة قد انتخبت الخلفاء الراشدين بعد رسول الله ، وسُنّة الخلفاء الراشدين ينبغي الأخذ بها والعض عليها بالنواجذ.

٦ ـ الاختلافات الفقهية والمذهبية ، أمر طبيعي يؤكد الثراء الفقهي ، والتنوّع المذهبي الذي هو ضروري للأمّة.

٤٤٧

٧ ـ الشيعة في نظر عموم أهل السُنّة والجماعة ، شواذ وقلة لا يُعْتدّ بهم ، فهم ابتدعوا مذهباً خاصاً بهم ، يغاير ما اتفق عليه الجمهور المسلم وقد تبنّوه في القرن الثاني الهجري وما بعده ، وباعتقادهم بالأئمة الاثني عشر ، لا يعود إليهم الجمهور في العقائد والاحكام الشرعية ، ولا يثق بهم السلف الصالح.

هذه الأمور عند الجمهور المسلم ، هي أمور وحقائق وقناعات ثابتة لديهم منذ القرون الاولى للاسلام ، وليس لديهم أي إستعداد للتراجع عنها أو نقدها والنقاش فيها ، لأنها حقائق مُسلَّم بها ، وراسخة ومتجذِّرة في نفوس أهل السُنّة والجماعة ولا يحق لأحد المساس بها ، أو التشكيك فيها.

لكننا لم نلتفت إلى كل هذه التحذيرات ، وواصلنا التحري الدقيق في كل المجريات التأريخية ، فتوصلنا إلى حقائق باهرة.

لقد إتّضحت لنا الحقائق بكل جلاء ، وأنّى لنا أن نخادع أنفسنا ، ونعلل لها الباطل وأزوّق لها الضلال وكأنه ذروة الحق والهداية ، وقد اطمئننا للحق الذي يبهر الأبصار والقلوب أيضاً ، وهل بعد الحق إلا الضلال يا أولي الألباب؟

بنيان بلا أساس

توصّلنا إلى ان المسلّمات والقناعات عند الجمهور ، ليست إلا أوهاماً لا أساس لها في الدين الإسلامي ، وإنما بُنيت على مزاعم غير حقيقة ، وانما ختلقت لاسباغ شرعية مزيفة على مذهب أهل السُنّة كما سنرى.

١ ـ بطلان عدالة الصحابة جميعاً : وقد رأينا من قبل أن هذه النظرية مجرّد إدعاء يدحضه القرآن الكريم والسُنّة النبوية ، وواقع الصحابة وسيرتهم. ولقد ثبت أن العديد من الصحابة كانوا غير خليقين بالعدالة والصلاح.

٤٤٨

٢ ـ لم يثبت القرآن الكريم العدالة والنزاهة للكثير من الصحابة ، فمنهم الذين كانوا يعصون الرسول على الدوام ، ويستهزئون به ويفرّون من الزحف ، وقد شملهم اللعن الإلهي ..

٣ ـ انتقد رسول الله ، العديد من الصحابة ولعنهم ووبّخهم وهدّدهم ، بل ولم يزكّهم من بعده ، ليقينه بأنهم سيحدثون من بعده ، الكثير من البدع والأمور المُحدَثة التي ما أنزل الله بها من سلطان. ٤ ـ سيرة وواقع العديد من الصحابة ، تقتضي عدم عدالتهم وظلم بعضهم للبعض الآخر ، بل وتكذيبهم ، والاحتراب فيما بينهم وتقاتلهم بالايدي والألسن ، واقترافهم المعاصي والموبقات والكبائر من الذنوب ، إلا ان التيار الحاكم بعد رسول الله ، وخاصة في العهد الأموي ، افتعل الاحاديث الكثيرة في فضائل ومناقب الصحابة ، وخاصة الاحاديث التي تدل على عدالتهم أو عصمتهم ، كالاحاديث التي تمنع من سبّهم ولعنهم ، وان من يسبهم فكإنما سبّ الله ورسوله ... إلخ ... فتشكلت هالة من القداسة حولهم تتعارض وواقع الكثير منهم.

الخلافة (الراشدة)

من أهم المسلّمات عند الجمهور المسلم ، والتي يعدّونها من أبرز الثوابت التي لا يتجرأ احد منهم على مناقشتها أو نقدها او اعادة قراءتها ، هي مسألة الخلافة الراشدة التي حكمت الأمّة الاسلامية بعد وفاة الرسول مباشرة ، فهم يشدِّدون على قدسية هذه الخلافة والخلفاء الذين حكموا المسلمين بعده مباشرة ، وليس من حق أحد أن ينتقد الخلفاء الراشدين أو ينالهم بسوء ، وإلا يلقى الويل والثبور ، وتواجهه الاتهامات بالفسق والانحراف والضلال وحتى الكفر.

٤٤٩

فالخلافة الراشدة ، خط أحمر ، لا يحق لأحد تجاوزه او اختراقه بالمرّة ، لكنني لما كنت قد آليت على نفسي أن لا أستثني من النقد والاتهام إلا صاحب الدعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو الخط الأحمر الذي لا يجوز لي ولأي مسلم المساس به ، وإلا فَقَد ايمانه ودينه بالمرة ، سوى الأحاديث الموضوعية عليه والتي لا تناسب مقامه السامي ، فمن حق أي مسلم ، التشكيك في تلك الأحاديث للذبّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

أول ما خَطَر في ذهننا من تساؤل ، هو : من أين أتت تسمية الخلافة الاولى بالراشدة؟ وما هو أصلها؟ ولم يطل تساؤلي ، فاكتشفت ان التسمية مقتبسة من الحديث المنسوب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والذي يدعو فيه إلى الاقتداء بسُنّته وسُنّة الخلفاء الراشدين المهديين ، ونص الحديث : عليكم بسُنّي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجذ (١).

وقبل البحث عن صحة إسناد الحديث من عدمه ، فإن الحديث واضح البطلان ، ولا يستحق المناقشة ، فهو موضوع لا ريب في ذلك ، والأدلة على ذلك كثيرة ومُحكمة :

١ ـ لم يقلْ الحديث من هم الخلفاء الراشدون؟ وكم هو عددهم؟ وهل يأتون بعد الرسول مباشرة أم بعده بفترة؟ خاصة وان تحديدهم ، أمر مهم جداً ، بل واجب لأنهم منصوص عليهم من قبل رسول الله ، وعلى المسلمين اتّباع سُنّتهم.

٢ ـ إذا كان الخلفاء الراشدون ، هم الخلفاء الذين جاءوا بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي الاربعة : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، فانهم حسب نظرية أهل السُنّة والجماعة ، لم يعيّنهم ، وانما ترك المسلمين يختارون الخليفة حسب ذوقهم واجتهادهم ، فاختار عمر أبا بكر في السقيفة ، واختار أبو بكر وحده عمر بن الخطاب ، وانتخبت اللجنة السداسية التي عينها

__________________

(١) فتاوى السبكي ١ : ١٥٨ ؛ تأريخ الخلفاء ـ السيوطي : ١١ ؛ الفتاوى الكبرى ـ ابن تيمية ٤ : ٤٣٠.

٤٥٠

عمر ، الخليفة عثمان ، وكان التعيين ـ بالضبط ـ من قبل عبد ال رحمن بن عوف ، أما الخليفة الراشد الرابع (أي علي) فقد انتخبه وبايعه سائر الصحابة والمسلمين ، ولم يكن رسول الله قد اختاره خليفة حسب النظرية السُنّية. والحال هذه كيف تكون سُنّة هؤلاء الخلفاء الراشدين نظير سُنّة الرسول ، وينبغي على المسلمين اتّباعها؟ فيما لم يكن صلى‌الله‌عليه‌وآله قد حدّدهم بالاسماء ، فكيف علِمَ عمر ان المقصود بالخليف الراشد الأول هو أبو بكر لا غيره؟ ولماذا لم يقل في السقيفة ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد اشار إلى ان أبا بكر من الخلفاء الراشدين ، ولا أبو بكر نفسه حين عيّن الخليفة عمر راشداً ثانياً ، بل لو كان رسول الله قد أشار إلى ان الخليفة الراشد الثالث هو عثمان بن عفان ، لما عيّن عمر اللجنة السداسية للشورى واختيار الخليفة الثالث من بينهم؟ كما ان الذين بايعوا علياً خليفة رابعاً للمسلمين ، لم يقل ولا واحد من هؤلاء المبايعين ، وهم من الصحابة الكبار الى مناقب وفضائل علي التي ذكرها الرسول ، والكثير منهم شدّد على عدالة علي وأمانته السامية ، ولم يلمّح أحد منهم إلى انّ علياً هو الخليفة الراشد الرابع.

٢ ـ ان أهل السُنّة والجماعة أنفسهم ، لو يكونوا على علم بعدد ما يسمونهم الخلفاء الراشدين ، فهم إلى أواسط القرن الثالث الهجري ، كانوا يحدّدون عدد الخلفاء الراشدين بثلاثة ، وهم الخلفاء الأول والثاني والثالث ، ولم يلحقوا علياً بالخلفاء الراشدين إلا بقرار من أحمد بن حنبل ، إذ أضاف علياً إلى قائمة الخلفاء الراشدين وذلك بعد انتشار حركة العداء والنصْب ضد أهل البيت في بلاد الشام والعراق في العهد العباسي وقد اعترض العديد من أهل السُنّة على هذا القرار ، لأنهم لم يكونوا يعدّون علياً من الخلفاء الراشدين ، وهناك من الجمهور السُنّي من يضيف الخليفة الاموي عمر بن عبد العزيز إلى قائمة الخلافة الراشدة ، ويعدّونه خليفة راشداً خامساً ، فما هي

٤٥١

الضوابط التي اتبعها أهل السُنّة في تحديد الخلفاء الراشدين دون غيرهم من الخلفاء الذين هم غير راشدين بالطبع؟

ليس هناك ضوابط أو قواعد وانما انتخبوا الخلفاء الثلاث الاوائل كخلفاء راشدين دون عليّ الذي عُدَّ خليفة غير راشد حتى مجيء أحمد بن حنبل ، ثم ألحق الجمهور ، الخليفة الاموي عمر بن عبد العزيز بالخلفاء الراشدين ، فهل يُعقل يا تُرى أن يأمر رسول الله ، المسلمين باتّباع سُنّة خلفاء لا يحدّد عددهم ولا صفاتهم ولا أسماءهم؟ ليأتي المسلمون فينتقون خلفاءهم حسب أذواقهم ، ويعدُّون سُنّتهم كسُنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

٤ ـ من حقّ أي مسلم أن يسأل سؤالاً منطقياً : هل سُنّة الخلفاء الراشدين مطابقة للسُنّة النبوية أم مكمّلة لها؟ فاذا كانت مطابقة لها ، فهي إذاً كالسُنّة النبوية ومقتبسة منها ، يجسّدها هؤلاء ولا يمكن فصلها عن تلك السُنّة ، ليكونا سُنّتين ، لأن السُنّة هي الطريقة ، وان الرسول وخلفاءه يسيرون على وفق سُنّة أو طريقة واحدة ، لتكون العبارة النبوية هي كالتالي : عليكم بسُنّتي التي يسير عليها الخلفاء الراشدون ، لتكون العبارة صحيحة ومناسبة. أما الحديث المنقول فيشير إلى سُنّتين أو طريقتين لا طريقة واحدة!.

وإذا افترضنا الاحتمال الثاني ، وهو ان سُنّة الخلفاء الراشدين مكمّلة للسُنّة النبوية أو مغايرة لها ، وهنا يقتضي أن تكون السُنّة النبوية ناقصة وقاصرة عن تبيان القرآن الكريم وإيضاح الشريعة الإسلامية ، وإنها بحاجة إلى سُنّة أخرى مكمّلة تتولى مهمة التبليغ ، وهذا في الحقيقة من المحال ، لأن السُنّة النبوية كاملة تامة لم ينقصها شيء ، وقد أكمل الله الدين عند نزول الآية الكريمة في واقعة الغدير : (الْيوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (١) ، فالدين الإسلامي كامل ، وما فرّط الله في كتابه من شيء ، والسُنّة

__________________

(١) المائدة ٣.

٤٥٢

النبوية تامة لا يعوزها شيء ، فلِمَ نحن بحاجة إلى سُنّة إضافية تكمل السُنّة النبوية وتملأ نواقصها؟

لا غرو أن مواقف الخليفة الأول والثاني وسياستهما المخالفة للسُنّة النبوية ، وآراءهما الشرعية التي كانت تتعارض مع السُنّة النبوية ، هي التي دفعت بعبد الرحمن بن عوف في الشورى التي شكّلها عمر بن الخطاب لانتخاب خليفة للمسلمين ، أن يشترط على المرشح للخلافة أن يتّبع ـ إضافة إلى السُنّة النبوية ـ سُنّة الخليفتين أبي بكر وعمر بن الخطاب.

ومن الطبيعي أن يرفض عليّ بن أبي طالب ، هذا الشرط ، لأنه شرط غير معقول ولا مشروع ، فما يُسمَّى بسُنّة الخليفتين ، هو في الحقيقة ، مجرّد أهواء وآراء شخصية لا تمت للدين بصلة ، ولذا رفض عليّ هذا الشرط المصادم للسُنّة النبوية ، بينما قبله الآخرون ، لأنه يحقق طموحاتهم في الحكم.

رفض عليّ الشرط اللامشروع ، لأنه يؤمن بالسُنّة النبوية فقط ، ولا يتعدّاها بأي حال من الأحوال ، بينما قبل عثمان بن عفان هذا الشرط ، وأضاف إلى «سُنّة» الخليفتين الأول والثاني ، «سُنّة» ثالثة.

٥ ـ لو كان رسول الله حضّ ـ فعلاً ـ على اتّباع سُنّة الخلفاء الراشدين ، علاوة على سُنّته، فينبغي احتذاء «سُنّة» الخلفاء الراشدين جميعاً ، لكننا نعلم بأن «سُنّة» الخليفة الأول ، تتفاوت مع «سُنّة» الخليفة الثاني ، وهاتان السُنّتان ، تتفاوتان مع «سُنّة» الخليفة الثالث ، وكذلك هذه «السُنن» الثلاث ، تتفاوت مع سُنّة الخليفة الرابع ، في العديد من جوانبها ، كما اتضح لنا من قبل ، فلسنا ندري كيف نتبع سُنتاً متعارضة في الوقت نفسه ، لأن هذا السلوك يفضي بالمسلمين إلى التخبّط في أعمالهم وممارساتهم ومواقفه ، بل وسيشعرون بالازدواجية في أعمالهم وأفعالهم ، وستصبح تصرّفاتهم متضاربة ، حسب تأسّيهم بسُنّة هذا الخليفة أو ذاك.

٤٥٣

٦ ـ المأثور عن رسول الله ـ وبإقرار الجمهور ـ أنه أورد الكثير من الأحاديث التي توصي المسلمين باتباع سُنّته ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «تركت فيكم ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً ، كتاب الله وسُنّتي ...» (١).

وهنا قد قطع صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن ما تركه ، فضلاً عن كتاب الله ، سُنّته فقط ، فكيف يوصي بسُنن أخرى غير سُنّته؟ كل هذه دلائل قاطعة على أن الحديث المذكور ، إنما هو حديث موضوع لاضفاء القداسة والشرعية على تصرفات ومواقف وسيرة الخلفاء الثلاث التي كانت تتنافى في الكثير من جوانبها مع السُنّة النبوية.

وبانتفاء هذا الحديث ، تنتفي ركائز ما يُسمّى بالخلافة الراشدة ، وإنها لم تكن راشدة أبداً ، مهما ادّعى المُدّعون.

__________________

(١) السنن الكبرى ـ النسائي ٤ : ٤٥ ؛ المعجم الاوسط ـ الطبراني ٤ : ٣٣ ؛ تفسير ابن كثير ٤ : ١٢٢.

٤٥٤

وقفة أخرى مع الخلفاء الثلاث الاوائل

الخليفة الأول

لو تتبعنا سيرة الخليفة الأولى أبي بكر ، لألفيناها ليست كما يدّعي الجمهور ، حين يؤكدون بأنه أفضل شخص بعد رسول الله ، وانّه يُلقّب بالصديق ، وانفرد بمناقب لم ينفرد بها غيره ، هذه المُسلَّمة تولّدت لدى الجمهور السُنّي من خلال أحاديث عددية «مأثورة» عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قد وُضعت في العهد الأموي الأول للتغطية على مكانة علي بن أبي طالب وأهل بيته وعلى مناقبهم العظيمة.

ولو حللنا حياة أبي بكر وسيرته ومواقفه مع الرسول خاصة ، ومع المسلمين ، يتضح لدينا انه لم يكن بالمنزلة التي يضعه فيها أهل السُنّة والجماعة ، وذلك بدليل :

١ ـ لم يزكِ رسول الله ، أبا بكر في الكثير من المواقف والمناسبات ، وقال له مرّة : لا أدري ما تُحدثون بعدي (١) ، مما يعني أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يضمن سلامة مصير أبي بكر بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٢ ـ كما ان أبا بكر شكك في العهد النبوي ، بنفسه وبمواقفه ، فهو عندما بعثه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لتبليغ سورة براءة إلى مكة ، ثم بعث علياً خلفه لأخذ السورة منه ، رجع

__________________

(١) الموطأ ـ الامام مالك ٢ : ٤٦١ ؛ الاستذكار ـ ابن عبد البر ٥ : ١٠٤.

٤٥٥

باكياً إلى رسول الله ، وسأله : هل نزل فيّ شيء؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا ، ولكن لا يبلّغ عني إلا أنا أو واحد من أهلي (١) ، وهذه الحادثة لم تَرُق لأهل السُنّة والجماعة ، فيحاولون تجاهلها ، أو التطرّق إليها لماماً وبصورة مقتضبة ، لأنها تثبت منقبة لعلي وتنفيها عن أبي بكر.

وكثيراً ما قرأنا كتابات حول تبليغ سورة براءة ، غير ان كتّابها لا يتطرقون إلى انصراف رسول الله ـ بأمر من جبرئيل ـ عن أمر تبليغ أبي بكر لسورة براءة ، وتخويل عليّ بذلك ، لأن تبليغ المقدّس لا يقوم به إلا الرسول أو رجل من اهله. وهذه الحقيقة يتجنبها الجمهور ويتجافون ذكرها ، لأن فيها منقصة لأبي بكر ومنقبة عظمى لعلي.

٣ ـ يلقّب جمهور المسلمين ، الخليفة الأول بالصدّيق ، وقد يتناهى للمرء ـ لأول وهلة ـ بأن لهذا اللقب أصلاً شرعياً أو دينياً ، غير ان الذي يقرأ التاريخ بشيء من التفصيل ، تتراءى له حقيقة أخرى وهي ان أهل الكتاب هم الذين لقّبوا أبا بكر بالصدّيق ، وليس لهذا اللقب أصل أبداً.

أما الرواية التي تعزو هذا اللقب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهي موضوعة ، لأجل تأصيل هذا اللقب ليس إلا ، والواقع يثبت ان أبا بكر لو كان صدّيقاً ، لما خالف رسول الله في مواقف عديدة ، ولما وبّخه صلى‌الله‌عليه‌وآله لما فرّ من الزحف في معركة أحد وحُنين كسائر الصحابة والمسلمين ، ولما منعه صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في حالة الاحتضار من إمامة الجماعة ، ولما عصى أبو بكر نبيّه في بعث أسامة ، وقفّل راجعاً مع أكثر الصحابة إلى المدينة ، وقد انسحب عليه لعن رسول الله للمتخلفين.

فأبو بكر ليس خليقاً بلقب «الصدّيق» الذي هو من ألقاب الانبياء والأئمة والاولياء الصالحين.

__________________

(١) فتح الباري ـ ابن حجر ٨ : ٢٤١.

٤٥٦

٤ ـ بدّل أبو بكر العديد من السُنن النبوية ، وابتدع سُنناً من عند نفسه ، فكذّب الزهراء في قضية إرثها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكذلك فدك التي نحلها لها أبوها صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذلك خُمْس أهل البيت ، إذ جرّدهم من كل حقوقهم ، وهي قضية تأريخية معروفة (١).

٥ ـ وقد أبطل الحد عن خالد بن الوليد بالرغم من ان عمر بن الخطاب الحّ على إجراء الحد ، وغير ذلك من التجاوزات ، فكيف والحال هذه ، ينطبق عليه لقب «الصدّيق» والخليفة الراشد؟

٦ ـ وقبل كل شيء لم يكن أبو بكر خليفة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأن الخلافة ـ وكما قلنا من قبل ـ هي أمر جعلي ، كما أكد القرآن ذلك ، ولذلك فكيف وصف أبو بكر نفسه بخليفة رسول الله؟ في حين أنه مُعيَّن من قبل عمر بن الخطاب وبتأييد أبي عبيدة الجرّاح ثم أصحاب السقيفة؟ أما عموم المهاجرين والانصار فقد استغفلوا بالأمر ، وبايع الكثير منهم مكرهاً (٢).

٧ ـ لو كان أبو بكر صدّيقاً ، لما شكّك في آخر حياته ، وهو على فراش الموت ، بنفسه ، وبكى بكاء شديداً ، وتمنّى لو لم يكن بشراً؟.

هذه هي حقيقة الخليفة الأول عند كل مَنْ يبحث عن الحق ، ولا يُلبس الحق بالباطل وهو يعلم ، فهل يحق بعد ذلك ان نصف أبا بكر ، بالصدّيق ، والخليفة الراشد ، وأفضل الخلق بعد رسول الله؟

الخليفة الثاني

يصف الجمهور عمر بن الخطاب بأنه الخليفة الراشد الثاني ، ويلقبونه بالفاروق

__________________

(١) عمدة القاري ـ العيين ١٤ : ١٦٣ ؛ أضواء البيان ـ الشنقيطي ٣ : ٣٦٥.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ : ٧٤ ـ طبع مصر.

٤٥٧

الذي يميّز ويفرّق بين الحق والباطل ، وانه الرجل الشجاع الذي بإسلامه ، تجرّأ المسلمون لاعلان الدعوة والتجاهر بها ، وفي عهده تم فتح العراق وبلاد فارس والقدس ، وهو أول من تسمّى بأمير المؤمنين ، وهو المُحدَّث في أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وعند التحرّي عن شخصية الخليفة الثاني ، نكتشف ان هذه ال قناعة أو المُسلّمة ، ليس لها أساس من الصحة ، للاسباب التالية :

١ ـ فمسألة كونه خليفة راشداً ثانياً ، ثد حسمناها من قبل ، وأكدنا أنها أُختلقت على أساس حديث موضوع يتعارض مع المنطق السليم ، إذ ليس هناك سُنّة غير السُنّة النبوية. أما تلقيبه بالفاروق ، فهو من اقتراح أهل الكتاب ، فهم الذين لقبوه بهذا اللقب. وهو في كل الأحوال لا يستحق هذا اللقب أبداً ، فهو ليست له مقدرة على تمييز الحق من الباطل دائماً ، لأن المعروف عن الخليفة الثاني ، انه كان يعجز عن حل الكثير من القضايا والمعضلات الفقهية والشرعية والعقائدية ، فيضطر لسؤال الصحابة ومنهم عليّ حيث كان له بمثابة المنقذ من الهلاك (١).

وكثيراً ما كان عمر يتلكأ في أجوبته ، حتى قال ذات يوم : أخطأ عمر وأصابت إمرأة ، وقال يوماً : كل الناس أفقه من عمر حتى ربات الحجال (٢) ، فكيف يا ترى يكون هو الفاروق الذي يفرّق بين الحق والباطل ، وهو ما عليه من الجهل والقصور والعجز العلمي ، في حين ان الفاروق هو المُحيط بكل دقائق الشرع والفقه ، حتى يستطيع التمييز بين الحق والباطل.

٢ ـ يجمع أهل السُنّة والجماعة بأن الخليفة عمر ، أول من تسمّى بأمير المؤمنين ،

__________________

(١) الاستيعاب ـ ابن عبد البر ٣ : ١١٠٣.

(٢) المبسوط ـ السرخسي ١٠ : ١٥٣.

٤٥٨

وهذا الادعاء هو محض افتراء على الواقع ، لأن الأحاديث النبوية الصحيحة ، تؤكد ان علي بن أبي طالب ، هو أول من سُمِّي بأمير المؤمنين ، وذلك في العهد النبوي ، حيث سمّاه جبرئيل أمير المؤمنين بأمر الله تعالى كما يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو وحده يستحق هذا اللقب المقدس ، وكل من تلقّب بأمير المؤمنين منذ عهد الخليفة الثاني وحتى يومنا هذا ، فهم لا يستحقون هذا اللقب ، ولم يلقبهم الله تعالى ولا نبيه الكريم ، وإنما هم لقبوا أنفسهم به ، حتى تقلّد هذا اللقب صبيان بني أمية وبني العباس.

٣ ـ ان الادّعاء بأن الخيفة الثاني كان محدَّثاً بناءً على أحاديث مروية في كتب الصحاح والسُنن ، ليس صحيحاً بتاتاً ، فعمر لم يكن بتلك المنزلة من العلم والتلقّي ، كما قلنا من قبل ، وإنما كان يتشبّث بالآخرين في الكثير من المواقف والمعضلات ، سواء كانت فقهية ، أو عقائدية ، بل ويجهل العديد من الآيات القرآنية ، ويصحّح له الصحابة ، كما كان يشكّك في بعض مواقف الرسول وأوامره ويطعن فيها ، وذلك لأنه كان يتسرّع في الحكم على تلك المواقف والخطوات قبل أن يرى النتائج كما هو تصرّفه في صلح الحديبية وتشكيكه في رسول الله ونبوته إلى حد أنه ندم بعد ذلك كثيراً لما حدثته نفسه من وساوس حول الرسول الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ونصح المسلمين باتهام الرأي ، فكيف يُعَدُّ محدَّثاً ومُلهَمَاً لحديث موضوع واضح البطلان ، كغيره من الاحاديث الكثيرة جداً التي وُضعت في العهد الأموي بأمر من معاوية وغيره لتمجيد الصحابة والخلفاء الأوائل تغطية على مناقب وفضائل أهل البيت وعميدهم علي بن أبي طالب ، كخلفاء لرسول الله وأئمة من بعده.

٤ ـ شكّك عمر بن الخطاب هو الآخر في مواقفه وسلوكياته السابقة وهو على أعتاب الموت ، وتمنّى أمنيات لا يتمنّاها المسلم العادي ، فضلاً عن خليفة راشد كبير يُلقب بالفاروق وأمير المؤمنين إلا إذا كانت حياته وسيرته مشكوكاً فيها منذ البداية ، لا كما يصوغها الجمهور ويزيّنها ويزوّقها لغاية في نفس يعقوب.

٤٥٩

الخليفة الثالث

الخليفة عثمان بن عفان ، عند أهل السُنّة والجماعة ، هو الخليفة «الراشد» الثالث ، ذو النورين الذي تستحي منه الملائكة ، عطوف يجب رَحمَه ويمنحهم العطايا ، وهو الذي وحَّد المسلمين على نسخة واحدة من القرآن ، وفتح شمال إفريقيا ، ولم يتحمّل المسلمون في الأمصار ، تصرفاته الحكيمة ، فقتلوه غيلة.

وعند البحث عن سلوكه بعد تسلمه الخلافة ، نجد أنه لم يكن بالصورة التي يرسمها له جمهور المسلمين ، فهو :

١ ـ كان أحد المشرحين الستة الذين اختارهم الخليفة الثاني ، وقد خَشيَ عمر أن يحمّل بني أميّة على رقاب الناس ، ولذا فقد اشترط عليه عضو الشورى الصحابي عبد الرحمن بن عوف أن لا يحمِّل هؤلاء على رقاب المسلمين ، فقبل الشرط ثم نقضه بعد ست سنوات من حكمه ، فأخذ يقرّب أرحامه من بني أميّة ويستأثر بهم ويوليهم إمارات العراق ومصر ، ويقطع لهم الاموال الطائلة من بيت المال ، ولم يستمع إلى شكاوى الرعية حول ممارسات أقربائه المنافية للدين ، كما حاول تعطيل الحدود عنهم ، وتجاهل كل الشكاوى في حق أقاربه من بني أميّة وهم الذين كانوا من الطلقاء والمؤلفة قلوبهم ، وقرّب إليه أبا سفيان والحَكَم بن العاس وابنه مروان ، وهما اللذين نفاهما رسول الله من المدينة ـ لأنهما كانا من المستهزئين به ، ويحاولان الغدر به في كل لحظة ، وهما طريدا رسول الله ، وهذا الفعل يُعدّ حرباً على الله ورسوله ، كما قام بالتنكيل بصحابة كبار كعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري الذي نفاه إلى صحراء الربذة فمات هناك وحيداً ، وأصبح عثمان طوْع إرادة صهره مروان بن الحكم «الوزغ بن الوزغ» على حد تعبير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمر بقتل صحابة كبار كمحمد بن أبي بكر وغيره غدراً لولا افتضاح الخطة ، ولم يتب بعد أن أُستتيب مراراً ، إلى حد أن يئس الثوار

٤٦٠