بحث حول الخلافة والخلفاء

منيب الهاشمي

بحث حول الخلافة والخلفاء

المؤلف:

منيب الهاشمي


المحقق: زينب الوائلي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٢

نشوء فتن بين أفراد الأمّة ، تؤدي الى تمزّقها في ظل الفراغ القائم برحيل رسول الله ، أو اختيار كل فئة لحاكم يمثّلها امام الفئات الأخرى واحتدام الصراع الشرس فيما بينها ، فكل احتمال كان وارداً في ظل ذلك الفراغ الكبير!!

ولو كانت الفتنة الكبرى قد وقعت فعلاً وبالطبع غير مُستغرَب من وقوعها ، فمن هو المسؤول عن وقوعها سوى رسول الله (والعياذ بالله) الذي ترك الأمّة تلعق جراحها بفقده دون أن يعيّن لها خليفة ، يحفظ وحدتها وقوتها ويمنع الاختلافات والشقاقات من الريان فيها وإضعافها ، ويصونها من التشرذم العقائدي والفقهي ، ويوصلها الى شاطئ الأمان.

فهل يُعقل ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان لا أبالياً الى هذا الحد على مصير الأمّة المجهول ، ولم يعبأ بها ويخشى أن يكون مصيرها كمصير الغنم الشاردة في الليلة المطيرة على حد قول بعض الصحابة وفي مقدمتهم عائشة بنت أبي بكر؟

٢ ـ يقرّ الخليفة الثاني ان بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها ، وهي كانت جديرة باثارة الشر في الأمّة ، فمن هو المسؤول عنها في ظل عدم تعيين خليفة لرسول الله؟

٣ ـ ماذا يقصد الانصار حين قالوا لفاطمة بنت رسول الله ، بأنهم لا يعدلون بعلي أحداً لو سبق للبيعة قبل أبي بكر؟

٤ ـ ألم يكن علي محقّاً بعدم اللهاث نحو السقيفة وترك الرسول مسجّى من دون تشييع ودفن؟

٥ ـ هل صحيح انه لم يكن هناك نص قاطع من كتاب الله وسُنّة رسوله «عليه الصلاة والسلام» في أمر الخلافة ، يتم الاحتكام إليه ، وبذلك يرتفع الخلاف؟

٤٢١

أم كانت هناك نصوص مباشرة وغير مباشرة من القرآن الكريم والسنّة النبوية ، قد تجاوزها القوم لأمر مُبيّت بليل؟ من أمثال تثبيت الله لولاية عليّ على المؤمنين في آية التصدّق بالخاتم ، أو تأكيد رسول الله في حادثة الانذار ، وواقعة الغدير الشهيرة ، وغيرها العشرات من الادلة الدامغة لكن القوم قد تناسوها تنزيها للخلفاء الاوائل من تهمة ادّعاء خلافة الرسول دون مسوّغ مشروع؟

٦ ـ لو كان علي فاقداً للتجربة والمعرفة بالأمور كالآخرين كما يزعم ابن الجراح ، فلِمَ يا ترى اتخذه رسول الله وزيراً له وأخاً ووصياً وخليفة من بعده في حادثة «وانذر عشيرتك الأقربين» وهو لم يزل يافعاً ، ولم يلتفت صلى‌الله‌عليه‌وآله لصغر سنّه ، وظلّ يرعاه ويوجّهه طيلة البعثة المباركة ويوصي المسلمين به خيراً؟

من هو الشخص المعيّن لخلافة رسول الله؟

أما الادعاء بأن رسول الله لو أوصى وعيّن علياً خليفة له ، وخاصة في واقعة الغدير ، فلِمَ لمْ يسارع المسلمون. وبالذات المهاجرون والأنصار ـ للذود عن حق علي في الخلافة ، بل تجاهلوا ذلك تماماً ، سواء الفئة التي شاركت في السقيفة ، أم عموم المهاجرين والأنصار الذين بايعوا أبا بكر مباشرة ، ولم يحتجوا على تلك البيعة ، أو يؤكدوا بطلانها لأن علياً هو الأحق بالبيعة؟

وقبل الردّ على هذا الادعاء ، ينبغي القول بأن النص الديني إذا كان متواتراً أو صحيحاً وثابتاً ، فليس من حق أحد أن يشكّك فيه لأن الناس يتخطّونه ولا يعيرون له أهمية ، لأن المعيار هنا هو النص ومضامينه وما يومئ إليه ، لا أن نُخضع النص للأمزجة الشخصية ونفرّغه من محتواه ومضمونه ، أو نشكّك فيه بالكامل ، لأن الناس تجاوزوه أو أهملوه بالمرّة ، سوى عدد قليل منهم في بعض الأحيان.

٤٢٢

ألم يُشر القرآن الكريم إلى حقيقة ناصعة وهي ان أكثرية البشر وعلى الدوام ، يكرهون الحق ويخالفونه : وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (١) ، فلِمَ نستكثر على المسلمين تجاهلهم لقضية خلافة علي لرسول الله ، وتنكّرهم لوصاياه صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا النطاق ، بعد وفاته مباشرة؟

فقيادات قد غرّتها الحياة الدنيا وعرضُها ، لم تلتفت إلى خطورة الخطوة التي فامت بها من عصيان الرسول بتخطّي النص النبوي الصريح في تعيين عليّ خليفة له ، وقرارها الاجتماع في السقيفة وانتخاب خليفة من بينها ، بعد ان أحسّت ان قريشاً وبعض المهاجرين لم يرق لهم أن يكون عليّ خليفة للمسلمين ، وخشيت أن يكون الحاكم من المهاجرين ، ولذا سارع الأنصار إلى الاجتماع في السقيفة قبل ان يكتشف المهاجرون خطّتهم وأمرهم ، إلا ان أبا بكر وعمر بن الخطاب وأبا عبيدة الجراح وهم من كبار المهاجرين ، أحسوا بالخطة ، فانطلقوا صوب السقيفة ، وجرى ما جرى من شِجار وتطاحن وتنافس قبائلي ، أدى إلى اختيار أبي بكر ، والأنصار الذين أُستغفِلوا لم يعوا إلا وقد دوهموا من قبل أعوان الخليفة أبي بكر الذين أكرهوا الكثير من الناس على البيعة للخليفة المُنتخب (٢) ، وعندما أقدم بعض الأنصار على البيعة ، أُسقط في ايدي جموع المهاجرين والأنصار ، فانهالوا بالبيعة ، وقد نسوا أو تناسوا أنَّهم بايعوا علياً في غدير خم ، وغفلوا عن العشرات من أوامر الرسول ووصاياه في حق عليّ ووجوب تولّيه حكم الأمّة وإمامتها من بعده.

أما عليّ الذي كان بيت القصيد ، وهو المُعيَّن من قِبل رسول الله ، فقد كان منشغلاً

__________________

(١) المؤمنون ٧٠.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ : ٢١٩ دار إحياء الكتب العربية ـ القاهرة ١٩٥٩ م.

٤٢٣

بمراسم تغسيله ودفنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يكن يتوقع أن يقفز المسلمون ـ مهاجرين وأنصاراً ـ على أوامر الرسول ووصاياه التي أدلى بها طيلة البعثة المظفَّرة ، وخاصة بعد حجّة الوداع في غدير خم بمحضر عشرات الآلاف من الصحابة وغيرهم.

وحين واجه عليّ ، الانصار وجهاً لوجه ، وعيّرهم بخذلانهم له وهو المُعيّن من قِبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قالوا إنهم قد بايعوا أبا بكر ، ولو أتى قبل ذلك ، لم يكونوا قد قدّموا عليه أحداً ، وكان جوابه : أيدع رسول الله لم يُدفن بعد ، ويذهب ليطالب بحقه؟.

ولم يكن علي ولا فاطمة بنت رسول الله ، كاذبَين حين انطلقا إلى أحياء الأنصار لسؤالهم النصرة له ، وهو الذي قال عنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إنه مع الحق والحق معه حيث دار ، ولا فاطمة التي قال عنها أبوها صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنها بضعة منه ، يؤذيه ما يؤذيها ، ويرضى الله لرضاها ، ويسخط لسخطها (١).

كيف بادرا إلى طلب النصرة من الأنصار إذا لم يكونا على حق بيّن ، وان علياً كان مُعيّناً ومنصّباً من رسول الله ، ولذا طالب بحقه في الخلافة التي تقمّصها غيره؟

والغريب ان الذين رفضوا البيعة لأبي بكر ، كلهم من بني هاشم ، وأهل البيت الذين أوصى بهم ـ رسول الله ـ خيراً وان الأمّة يجب أن تتبعهم وتطيعهم وتأخذ أحكام الشريعة منه دون غيرهم ، لأن الله طهَّرهم من الدنس وأذهب عنهم الرجس ، وجعلهم الهداة للأمّة ، وسُفن النجاة ، وعدْل القرآن والثقل الآخر له ، ولا يفترقون عنه إلى يوم القيامة ، وبالطبع امتنع عن البيعة ، فضلاً عن بني هاشم وأهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بعض الصحابة الكبار من أمثال سلمان والزبير والمقداد وعمار وأبي ذر وغيرهم (٢).

__________________

(١) الامامة والسياسة ـ ابن قتيبة الدينوري ١ : ٢٠.

(٢) العقد الفريد ـ ابن عبد ر به ٤ : ٢٥٩ ـ ٢٦٠ ـ الطبعة الثانية.

٤٢٤

لما يا تُرى رفض أهل البيت ، البيعة لأبي بكر؟ وهم الذين كانوا ملازمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلاً ونهاراً ، يتعايشون مع همومه وتعاليمه وأوامره ونواهيه ، بل ومن أكثر المسلمين صحبة له بالمفهوم اللغوي والاصطلاحي للصحبة. ونحن هنا نعني بأهل البيت ، علي وفاطمة والحسن والحسين ، وإن كان الأخيران صغيرين إلا انهما كانا واعيين لمجريات الأمور.

فاذا كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قد مات ولم يعيّن أحداً خليفة له ، فلتحرّك علي وفاطمة ، واستنكرا بيعة أبي بكر ، ومعهما بنو هاشم وثلّة من الصحابة؟

ان هذا التحرّك والاستنكار ، يعكس موقفاً موحّداً يدل على ان رسول الله كان قد اتخذ قراراً بشأن من سيخلفه وقد عرفه جميع المسلمين ، إلا ان التهاون من قِبَل المهاجرين والأنصار ، والموقف الرافض لخلافة علي للرسول مِن قِبل زعامات قريش ، ومن يعاضدها من المهاجرين ، فضلاً عن الذين استهوتهم الدنيا واندفعوا لعصيان الرسول في موضوع خلافته ، ومنّتهم أنفسهم لتسنّم سدّة الخلافة والحكم بالرغم من ان رسول الله بيّنه في مواقف سابقة له ، وختم ذلك في واقعة الغدير الشهيرة ، وما رافقها من نزول آيات محكمات ، تدلّ بما لا يدع مجالاً للشك بأنها نزلت في مسألة خلافة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والمعني بالطبع عليّ لا غيره.

٣ ـ بعد أن استحوذ أبو بكر على منبر الرسول ، وبايعه أكثر المهاجرين والأنصار ، طوعاً أو كرهاً ، بقي في بيت علي وفاطمة ، جمع من الصحابة وبني هاشم ، وقد اعتصموا مع عليّ في البيت ، وأبوا البيعة لأبي بكر ، لأنه ليس الخليفة المُعيّن من قبل رسول الله ، أي ليس الخليفة الشرعي الذي يمتلك مقوّمات الحكم ، من عِلم وقوة وشجاعة وحِنكة وحكمة ، كما أكد ذلك صلى‌الله‌عليه‌وآله في الكثير من المناسبات في حق عليّ بن أبي طالب.

٤٢٥

ولمّا كان عمر بن الخطاب على قناعة تامة بأن الحكم لا يستقر لأبي بكر ، إذا لم يُرغَم المعتصمون في بيت الزهراء على الاستسلام بلا قيد أو شرط ، وبالأخص عليّ ، والبيعة لأبي بكر ولو كانت البيعة مُكرهة.

نصح عمر أبا بكر بوجوب إكراه علي وصحبه على البيعة مهما كان الثمن.

وحينئذ لم يجد القوم مفرّاً من الهجوم على بيت علي وفاطمة ، وكان يعتصم فيه ـ إضافة إلى أهل البيت وبني هاشم ـ بعض الصحابة الكبار ، مثل طلحة والزبير وعمّار وابي ذر وسلمان الفارسي والمقداد بن الأسود التميمي وغيرهم.

إن هجوم عمر بن الخطاب ورفاقه على بيت الزهراء ، والتهديد بحرقه على من فيه ، وفيه بنت النبي وصهره علي ، وسبطاه الحسن والحسين وبنو هاشم ، يعني لم تبق قداسة لعترة النبي والمقرّبين منه حتى الزهراء ابنته ، لم يستثنِها المهاجمون من التهديد ، إذ لو لم يخرج المعتصمون من بينها ، لتم حرقه فعلاً على كل من فيه ، حتى فاطمة وزوجها علي ، وكانت نبرة عمر قوية وجادّة في التهديد إلى درجة ، انه عندما قيل له ان فاطمة فيه : قال : وإنْ (١).

ومنذ تلك اللحظة ، بدأت قداسة أهل البيت بالانحسار من نفوس الكثير من المسلمين تدريجياً ، وبالذات قداسة عليّ الذي كان كالنجم لا يُطاوله أحد في حياة رسول الله ، ولا يسمح صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يمسّه أحد بكلمة سوء.

ومهما يكن من شيء ، فإن بيت (علي وفاطمة) الذي كان من كرام البيوت التي أذن الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه ، قد تعرّض من قبل المستحوذين على حكم الأمّة بعد

__________________

(١) لاحظ : الامامة والسياسة ١ : ١٢ ـ ١٣ مطبعة مصطفى الحلبي ؛ العقد الفريد ٢٥٩ : ٤ ـ ٢٦١ ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت ؛ الملل والنحل ـ الشهرستاني ١ : ٥٧ ـ دار المعرفة ـ بيروت.

٤٢٦

رسول الله ، الى الحصار والهجوم والمُفاجئ ، بدون إذن أصحابه ، والتهديد بالحرق وتوفيت فاطمة بنت رسول الله بعده بستة أشهر ـ غمداً ـ ودُفنت ليلاً دون أن تأذن للخليفة الأول وصحبه بحضور الصلاة والدفن ، ووُريت الثرى في مكان مجهول.

لماذا اضطر علي للبيعة؟

وبعد رحيل فاطمة الزهراء ، أحسّ عليّ أن قرار قتله الذي أصدره أصحاب السلطة بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان جارياً ومفعولاً إذا لم يبايع ، وذلك لأنه إن لم يُعلن البيعة التي هي بيعة مُكرهة في كل الاحوال ـ لأبي بكر ، فسيكون محطاً لكل الرافضين لبيعة الخليفة الأول وكانوا مُكرَهين عليها ، أو الذين ندموا لبيعتهم لأبي بكر ، أو الذين تذكّروا بأنهم بايعوا علياً ـ قبلاً ـ في غدير خم بأمر من رسول الله ، وانه هو الأحق والأولى بالخلافة لتأكيد الرسول عليه في مناسبات عديدة ، وبالنتيجة يصبح عليّ ملاذاً للمعارضين الذين وعوا حقيقة المجريات بعد أن أُستغفلوا من قبل التيار الذي ركب الحكم خلافاً لما أوصى به النبي المختار صلى‌الله‌عليه‌وآله.

أما لو بايع عليّ ، فسينفضُّ عنه اناس ـ حسب منطق التيار الحاكم وعلى رأسه أبو بكر وعمر بن الخطاب ـ.

كما ان علياً إذا لم يبايع ، فسيكون مصيره القتل في كل الأحوال من قبل الحكّام وقريش التي لا تسكت ولا ترضى باجتماع النبوة والخلافة في بني هاشم ، فتعلنها حرباً شاملة على أهل المدينة بإقرار عمر الناطق باسم قريش الرافضة لحكم علي بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

__________________

(١) انظر : تأريخ الطبري ٣ : ٢٨٩.

٤٢٧

ولما كانت رؤوس قريش تعتقد بأن الأنصار لن يقبلوا بأحدهم خليفة للرسول ـ وهم الطلقاء والمؤلفة قلوبهم ، سواء كانوا من بني أمية أو غيرهم ـ فسلَّموا أن يكون الخليفة من المهاجرين ومن الصحابة الكبار ، حيث سيرضى الأنصار ويسلّمون له بالخلافة كما جرى في السقيفة وما بعدها.

كل تلك الحقائق أدركها عليّ ، ولذلك بايع مُكرهاً ، ولأنه إن لم يبايع ، فسيُقتل حتماً وسيواجه أهل البيت قمعاً وتصفية من قبل قريش وأعوانها في المدينة ، ولغزت قريش المدينة واقتلعت الاسلام من الجذور ، أو بقي الدين ـ على أقل تقدير ـ شكلياً ـ ليس له أية صلة بالإسلام الذي جاء به البشير النذير.

إن تصفية أهل البيت ـ وبالذات عليّ ـ يعني أفول المصدّر الذي يصحّح المسيرة الاسلامية من الانحراف الكامل ، كما ان وجود أهل البيت والائمة الاثني عشر الذين بشّر بهم رسول الله ، كحجج الله على الأرض ، أمر ضروري لتثبيت شرع الله ، وهم الذين وعد بهم الرسول في العديد من الأحاديث الشريفة ، وبهم تثبت الحجة على البشرية ، وبهم تُقوَّم الأمّة من السقوط في مهاوي الانحطاط التام.

ان الارتداد عن الاسلام الذي بدأ قبيل وفاة الرسول ، واشتداده في أوائل عهد أبي بكر ، والاوضاع الحرجة التي كانت تشهدها الجزيرة العربية ، فضلاً عن تهديد الروم من جانب بلاد الشام ، والخوف من تهديد قريش الذين كانوا لا يروق لهم أن يتبوأ عليّ منصب الخلافة بعد رسول الله ، وما تؤدي إليه كل هذه التحديات من تفتيت المسلمين وتآكل دولتهم الفتية ، كل هذه الأسباب والعوامل دفعت بعلي إلى المسالمة مع الحاكم والخليفة الجديد الذي حكم الأمّة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والذي لقي دعماً من أكثر المهاجرين والأنصار ، فضلاً عن قريش بالرغم من ان الخليفة الحقيقي لرسول الله وهو عليّ لا سواه.

٤٢٨

تخلى عليّ عن المطالبة بحقه بالخلافة كما أوصاه بذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأشهد الأمّة على ذلك في واقعة الغدير ، لمّا اقتنع بأن لا نجاح لمساعيه باقناع الأمّة بوجوب التخلي عن بيعة أبي بكر غير الشرعية والتي جرت على غفلة من الأمّة التي بايعت أبا بكر ، متناسية أو ناسية بأن الخليفة الشرعي للرسول هو علي لا غيره.

فماذا يفعل عليّ إذاً؟ لابد أن يُسالم الذين استحوذوا على الحكم والخلافة بدلاً منه ومن أهل بيته ، صيانة للدين الذي يواجه تحديات خطيرة من كل النواحي ، مع التذكير بحقه في الخلافة والحُكم ، كحق مفروض من قبل الله ورسوله ، وليس من حقه أن يتخلّى عنه طواعية ، كما ان ال أنبياء ليس من حقهم التخلي عن المنصب والمسؤولية التي خوّلهم الله تعالى بها ، على حد نص الآية الكريمة على لسان رسول الله : قُل لَّوْ شَاءَ اللَّـهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (يونس ١٦). ولهذا فحق علي في الخلافة بقي محفوظاً له ، وينتظر الظروف المناسبة لممارسته على أرض الواقع ، أما إمامته ، فمارسها ازاء الأمّة بالقدر الممكن ، بالرغم من الإقصاء الذي مورس بحقه وبحق أهل بيته ، وبعض الصحابة الذين وفّوا بعهدهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتعبّدوا بنصوصه التي تؤكد ان علياً هو الخليفة الشرعي بعده بأمر من الله تعالى ، وان أهل بيته هم القادة للأمّة على المستويين الديني والدنيوي ، فهم أئمة وهم خلفاء لرسول الله.

هؤلاء الصحابة ، ومعهم أتباع أهل البيت على مرّ الزمان ، هم الذين عناهم رسول الله في قوله تعالى : «يا علي أنت وشيعتك الفائزون يوم القيامة تأتون هداةً مهديين ويأتي أعداؤكم غضاباً مقمحين» (١).

__________________

(١) المعجم الكبير ـ الطبراني ١ : ٣١٩ ـ حديث ٤٤٨.

٤٢٩

وذلك لأن الرسول بوحي من الله تعالى ، ولعلم الله بأن الأمّة ستغدر بخليفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي عليّ بن أبي طالب ، فقد ذكّر صلى‌الله‌عليه‌وآله المسلمين بأن هؤلاء الصحابة الذين شايعوا علياً وتابعوه بعد أن خانته الأمّة ، والذين ساروا على نهجه على مرّ الازمان هم الفائزون يوم القيامة ، أما أعداء علي وخصوم أهل بيته ، فهم الخاسرون. وإلا ما معنى استثناء الرسول لعليّ وشيعته بالفوز يوم القيامة دون جميع الصحابة والمسلمين على مرّ التأريخ؟

سالمَ علي الذين ساهموا في سلب حقه في خلافة رسول الله ، وقام بتوجيه النصائح لهم ، تصحيحاً لسلوكهم ، لكي يقلّل من مستوى الانحراف في مسيرة الأمّة بفعل تصدّي الذين كانوا غير مؤهّلين للحكم بعد رسول الله ، وعدم تعطيلها ، والإجابة عن إستفساراتهم في المسائل التي يجهلونها ، وكل هدفه في ذلك ، تضييق فجوة الاختلاف بين ما يريده الله تعالى ، وما يطبّقه ويسلكه المتصدّون لسدّة الحكم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في وقت يحاول أن يقيم الحجّة على الأمّة بأنه هو الخليفة الشرعي المُعيّن من قبل الله تعالى ، وذلك بأسلوب غير استفزازي حفظاً على تماسك عِقد الأمّة من الانفراط.

وحين أوشك الخليفة الأول على الموت ، وكان قد مرض مرضاً شديداً ، انتفض الكثير من الصحابة ، وطلبوا منه أن يوصي بالخليفة من بعده ، حتى لا تضيع الأمّة وتتشتت من بعده (١) ، وكأن هؤلاء أحرص من رسول الله على مصير الأمّة ، وأعلم منه بأن الحاكم يجب أن يعيّن خلفاً له ، حتى تبقى الأمّة موحّدة غير مشتتة ، وذلك لوجود الراعي الذي يمنع تشتتها وتمزّقها وتوزّعها وتكالب الاعداء عليها ، وكأن الرسول الذي

__________________

(١) نهاية الارب ـ النويري ١٩ : ٤٦ ؛ المنتظم ـ ابن الجوزي ٤ : ٧٤.

٤٣٠

كان مًسدَّداً من قبل السماء ، وهو مدينة العلم ، وأعلم الانبياء إطلاقاً ، لا يبالي بمصير الأمّة من بعده ، فتركها للمقادير ، تفعل بها ما تشاء ، والرياح تهزَّها يميناً وشمالاً وربما تقلعها من الوجود ، عسى أن تجتمع الأمّة أو بعضها ، وكيفما شاءت ، لاختيار حاكم عليها ، دون أن يحدَّد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، شروط الاختيار ، والذين يجتمعون ، وكم هو عددهم ، الطريقة التي ينتخبون فيها أحدهم ، والشروط والخصائص المتوافرة في الحاكم أو الخليفة ، وإنما ترك كل ذلك للأمّة «ببصيرتها النافذة» و«فراستها العميقة»!!.

ولم يحدِّد رسول الله ، مَنْ المكلّف لانتخاب الخليفة؟ هل هم كل المسلمين برمتهم؟ أم وجوههم؟ أم الصحابة الكبار فقط؟ أم وجوه المهاجرين والانصار؟ ولم يُحدِّد الأسماء ولا الصفات والخصائص؟ وانما ترك ذلك كله إلى الصدَفْ والمقادير!؟.

تُرى لو حدث صراع مرير بين مختلف المتنافسين على الخلافة ، وأدى ذلك إلى اقتتال عنيف بينهم ، ومن ثم إلى حرب دموية بين المهاجرين والأنصار ، فماذا كان مصير الأمّة؟ وكل الاحتمالات كانت واردة ، ولم يكن هناك حائل دون وقوعها؟ فهل هذا يعني غير ان خاتم الأنبياء لم يكن يبالي بمصير الأمّة الخاتمة التي هي آخر الأمم ، وانه رجل لا يعمل طبق الحسابات أبداً ، رَحَل ووضَعَ مصير الأمّة في مهب الريح أو على كف عفريت والعياذ بالله!!

وفي الوقت الذي لم يلتفت الرسول إلى هذه العواقب الوخيمة التي تنتظر أمّته ، نجد صحابة من أمثال عبد الله بن عمر أو عائشة ، انتبهوا إلى تلك المخاطر المحتملة!!.

والعجيب ان أبا بكر عندما كان على فراش مرضه الأخير ، وأراد أن يوصي ، لم يقل أحد أو يعترض ، بأن أبا بكر ربما كان يهجر أو غلبه الوجع مثلاً ، ويبدو ان جميع الناس إذا مرضوا وهم على فراش الموت ، لا يهجرون أو يهذون ، ويحق لهم الإدلاء بالوصايا ما يشاءون إلا رسول الله فليس من حقه كتابة وصيته لأنه يهذي ويهجر كي لا

٤٣١

يكتب وصيته التي لا تنسجم وتطلعات بعض الصحابة ، في حين انه صلى‌الله‌عليه‌وآله أبعد الناس عن الهذيان والهجر ، لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو وحي يُوحى.

ومهما يكن ، كان المفروض من أبي بكر أن يقتدي برسول الله في مسألة الخلافة كما كان يدّعي ، ويدع المسلمين يختارون أحدهم تطبيقاً لقوله تعالى : لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (١) ، فلِمَ خالفه في قضية الخلافة والحكم ، لو كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يستخلف كما يدّعي الجمهور!؟

لابد ان الخليفة أبا بكر كان مُتَّفقاً مع عمر بن الخطاب على توليته من بعده ، جزاءً للجميل ، وطبق اتفاق مسبق ، وهذه المُفارقة لا يمكن لأهل السُنّة أن يبرّروها مهما جهدوا وتذرّعوا بالاعذار الواهية!!

ولما رأى عليّ ان الأمّة قد استسلمت لحكم عمر بن الخطاب ، ورضيت به خليفة وحاكماً عليها ، إذ لم ينحرف الخليفة الثاني عن السُنّة النبوية بالصورة التي كان عليها خليفة عثمان بن عفان ، سالم علي عمر هو الآخر ، خاصة وان الجيوش الفاتحة كانت تتوغل في أعماق آسيا وأفريقيا ، وبالتالي أخذ علي دور الناصح للحكومة وأعوانها ، يسألونه فيجيبهم ، ويحاول بكل جهده ، إجراء الحدود والأحكام الشرعية قدر الامكان ، ولكن ليس بالشكل الاستفزازي الذي يقود إلى المواجهة مع النظام الحاكم أو الصراع مع رموزه ، وذلك لأنه كان يُؤثر التعايش مع الوضع القائم ، حماية للإسلام الذي كان يواجه تحديات داخلية تتمثل في قريش والمنافقين ، وخارجية تتمثل في الروم.

__________________

(١) الأحزاب ٢١.

٤٣٢

عليّ ورعاية الظروف الحرجة

سالَمَ علي الخليفة عمر ، ليس تنازلاً منه عن الخلافة التي هي مسؤولية إلهية مقدسة ، لو أتيحت له الظروف المؤاتية لمارسها بعد وفاة الرسول مباشرة ، لكن قريشاً ومن آزرها من المهاجرين والأنصار ، أبوا إلا أن يمنعوها عنه ، وليس لعليّ قوة مُساندة تدعمه لعودة الأمور إلى نصابها ، من أعوان مخلصين يعيدون الكفة إلى جانبها ، إلا قلة من الصحابة الذين وقفوا إلى جانبه غير انهم لا يستطيعون تغيير موازين القوى.

إن أيَّ موقف إستقزازي من عليّ في هذا النطاق ، سيثير الفتن والبلايا ويجرّ المِحن على الأمّة ، ولذا سالَم بانتظار الفرص السانحة لعودة الأمّة إلى رشدها وأوبتها إلى الطريق الذي رسمه الله ورسوله لها ، ثم ان علياً كان مُراقبا من قبل السلطة ، فضلاً عن بيعته المكرهة للخليفة الأول والثاني ، وأي موقف يشير إلى أحقيته للخلافة ، يؤجج الأوضاع ويحرّك بعض الصحابة والجماهير باتجاه كشف الحقائق ، ويؤدي إلى التفافهم حوله مما يُحرّك السلطة لقمع هذا التحرّك المحدود وتقويضه وتصفية أفراده ، ومن بينهم عليّ نفسه ، مما يؤول بالأمور إلى ما لا يُحمد عقباه ، وتفلت الأمور باتجاه انقسامات وصراعات تقوّض الدولة الإسلامية من أساسها ، وربما تستغل الزعامات القرشية من الطلقاء والمؤلفة قلوبهم والمنافقين ، لتسلّم الحكم ، وهي ـ بالطبع ـ أسوأ من الخليفة الاول والثاني بكثير ، مما يؤدي إلى محق الاسلام بالكامل وإزالته من الوجود.

كل تلك الاحتمالات كانت واردة وجدية ، وكان علي ليس مستعداً ـ وهو المُسدَّد من قبل الله ـ أن يتحرّك بما يسيء إلى مستقبل الأمّة ويعجِّل بانحرافها وسقوطها ـ تماماً ـ وتفتتها كالامم السابقة ، وانما مارس سياسة حكيمة .. بالغة الدقة للحفاظ على الامّة ولو بأقل شكل من أشكال الوحدة والتماسك حتى لا تنهار ـ فجأة ـ وهي الأمّة الخاتمة التي

٤٣٣

ينبغي أن تبقى موحّدة ـ ولو شكلياً ـ حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

وفعلاً ... وفّى علي بوعده ... وانتهى حكم الخليفة الثاني بمقتله ، وقرر عمر بن الخطاب ، وهو على فراش الموت ، أن يجعلها شورى بشكل صوري ، من خلال اختيار ستة من الصحابة ـ أحدهم عليّ نفسه ـ لكن الخلافة لم تستقر إلا لعثمان بن عفان.

تُرى لِمَ اشترط عمر ، إذا تساوت الأصوات ثلاثة مقابل ثلاثة ، ان يكون الفوز إلى جانب الكفة التي فيها عبد الرحمن بن عوف؟ ثم لِمَ يُقتل هؤلاء الصحابة الكبار ، لو لم يصلوا إلى نتيجة خلال ثلاثة أيام؟ وهُم حسب قول الجمهور ، من أكابر الصحابة الذين وصّى بهم النبي ، وهم من العشرة المبشَّرة بالجنّة كما يزعمون؟ (١)

بل لِمَ اختار عمر بن الخطاب هؤلاء الستة دون غيرهم من الصحابة؟ وهم الذين وصف عيوبهم ومساوئهم إلا عليّ بن ابي طالب ، اعتبره أحق هؤلاء بالخلافة ، لأنه سيحمِّل الأمة على المحجة ، أي أنه سيكون على الحق والعدل والاستقامة في حكومته لولا ان فيه دعاية (٢).

إن عمر بن الخطاب أقرّ بأن علياً سيحمل الناس على الحق والصراط المستقيم ، وهو بذلك الرجل الوحيد المؤهل لأن يكون خليفة وحاكماً للمسلمين ، وسيصون الامّة من الانحراف والشطط ، فلِمَ لم يعيّنه منذ الأول ويريح الأمّة ، كما عيّنه أبو بكر ـ هو بالذات ـ خليفة له من قبل ، حتى لا تسير الأمور إلى جانب عثمان بن عفّان كوْن قريبه ابن عوف الى جانب كفته ، وحدث ما حدث من تسليط بني أمية على رقاب المسلمين كما كان يتوقع عمر؟

__________________

(١) نيل الاوطار ـ الشوكاني ٣ : ٣٤٤.

(٢) الكامل في التأريخ ـ ابن الاثير ٣ : ٦٧.

٤٣٤

إن عمر كان يدرك منذ الأول أنَّ علياً هو المؤهل الوحيد للخلافة ، وانه مع الحق لا يزيغ عنه أبداً ، لكنه كان لا يرضى به خليفة لأن قريشاً لا ترضى به خليفة ، كما كان عمر نفسه لا يستسيغ أن يتبوأ بنو هاشم الخلافة مطلقاً ، كما هو تصريحه على الدوام وفي مناسبات متعددة.

وعموماً ، كانت الشروط التي طرحها عبد الرحمن بن عوف على علي للقبول له كخليفة ، والتي أبرزها السير على سُنّة الرسول ، وسنّة الخليفتين أبي بكر وعمر ، غير منطقية وتخالف الأوامر الالهية ، والتعاليم النبوية التي تؤكد إتّباع السُنّة النبوية فحسب إلا ان إبن عوف كان يعلم بأن عليّاً لا يتنازل عن مبادئه بأي حال من الأحوال ، وانه ليس على استعداد للسير على سُنّة الخليفتين القبليين التي تخالف في الكثير من مضامينها ومفرداتها ، السُنّة النبوية ، كما ان سُنّتي الخليفتين نفسهما ، متضادتان في بعض النواحي ، فعلى أيهما يسير يا تُرى؟ فضلاً عن ان عليّاً لا يخلف الوعد مطلقاً ، وليس من طبعه ان يقبل شروطاً ثم لا يفي بها عند تسلّم سدة الحكم ، وكذلك لم يقبل الشرط الآخر الذي فُرض عليه وهو أن لا يجعل أحداً من بني هاشم ، من ولاته وعماله على الأمصار ، إذ أن في بني هاشم ، رجالاً أكفّاء ونزيهين ، لا يستطيع الاستغناء عنهم في حال قبوله هذا الشرط التعجيزي أيضاً ، ولذا رفض الشرط كذلك ، أما عثمان بن عفان المتعطش للسلطة ، فقبل بتلك الشروط ، وأصبح خليفة ثالثاً ، ولم يفِ بالشروط التي كانت سبيلاً لتصدّيه لخلافة المسلمين ، فهو قد سلّط بني أمية من أقاربه وأخوته على رقاب المسلمين وعينهم ولاة له كما هو معلوم ، ثم إنّه كثيراً ما اِشتط عن السُنّة النبوية وخال سُنّة الخليفتين أبي بكر وعمر ، وكان في كثير من سياساته ، يتبع سُنّة خاصة به ، من محاباة بني أمية في أموال المسلمين ، إلى ابتداع أحكام شرعية تخالف من سبقوه ، كإتمام الصلاة في السفر وما إلى ذلك ، حتى ان عائشة قالت بأن قميص النبي لم

٤٣٥

يُبل وقد أبلى عثمان سُنّته (١) ، وهو بالتالي قد أخلَّ بالشروط التي وضعتها لجنة الشورى بقيادة عبد الرحمن بن عوف حيث كان قبوله بتلك الشروط سُلماً لخلافته وحكم للمسلمين.

إشكال وجيه

وقد يعترض الجمهور ويستدل على عدم استخلاف رسول الله لعليّ بن أبي طالب ، بأن علياً نفسه كان يتهرّب من الخلافة بالرغم من اندفاع المسلمين. والجواب على هذا الإشكال ، هو ان علياً ، بعد ٢٤ عاماً على وفاة الرسول الذي عيّنه خليفة له بأمر من الله تعالى ، لم يكن يتوقع أبداً أن تعود الأمور إلى نصابها الطبيعي كالتي كانت في أواخر العهد النبوي ، إذ أن الانحرافات التي تلت وفاة الرسول والتي انتهت بالفتنة العمياء أيام الخليفة الثالث ، قد تجذّرت في جسد الأمّة الاسلامية ونخرت فيه من كل ناحية ، ناهيك عن عملية إزاحة أهل البيت عن موقعهم الأصلي الذي بوأهم الله تعالى له ، وخاصة عليّ نفسه الذي هُمِّش موقعه كثيراً ليصبح رجلاً كسَوَقة الناس ، فكيف يرضى أن يصبح خليفة وهو يتسلم تركة ثقيلة من الانحرافات والتجاوزات على الدين والأمّة المغلوب على أمرها؟ وحينما أصرّ المسلمون بأجمعهم ـ بضمنهم سائر المهاجرين والأنصار ـ باستثناء بني أمية وقلة قليلة من الصحابة ، وأصرّوا على مبايعته طواعية دون أن يسمحوا له بالرفض والامتناع ، اقتنع علي بأن الحجة قائمة بوجود هؤلاء المبايعين ، فأذعن لأن يكون حاكماً شريطة ان يحمّلهم على المحجة والحق الصريح لا تأخذه في ذلك لومة لائم ، فقبل المبايعون بشرطه ، وبايعوه إلا ثلاثة من الصحابة لم يبايعوه على

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن ابي الحديد المعتزلي ٦ : ٢١٥.

٤٣٦

القتال ، وهم عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة ، بالرغم من اعترافهم بفضله ومنزلته الرفيعة وعدم معاداته والاصطفاف إلى جوار اعدائه ومحاربيه أبداً ، فلم يرغمهم على البيعة له وإنما تركهم أحراراً في اتخاذ القرار طالما لم يصطفّوا مع أعدائه.

عليّ والتطبيق الحر في النصوص النبوية

لقد كان عليّ في ولايته التي أرْبت على أربع سنوات ونصف ، منهمكاً في إصلاح ما فسد من أمور المسلمين في العهود السابقة ، غير انه واجه عصياناً من أطراف عديدة ، سواء من الذين بايعوه ونكثوا البيعة ، أو من معاوية وأهل الشام ، أو من المارقين الذين انقلبوا عليه خلال حرب صفين ، ولو لم يُواجَه علي بن ابي طالب من قبل كل هؤلاء ، لأصلح الاوضاع التي اختلت بعد وفاة الرسول ، وأعاد الأمور ـ نوعاً ما ـ إلى نصابها ، وهو الذي نبّه جماهير الأمّة إلى أنه إذا تسلّم الحكم فلا تطيقه الأمّة ، خاصة بعد عقود من الانحراف ، وذلك لأنه سيطبّق السُنّة النبوية حرفياً ، ولا يجعل للاجتهاد الشخصي أي موضع أمام السُنّة النبوية المطهّرة ، كما فعل الخلفاء الثلاث الذين سبقوه واجتهدوا في كثير من الأمور مقابل النصوص القرآنية والنبوية ولم يجدوا حرجاً في ذلك.

وكان عليّ قد حذّر المسلمين ، بأن تسلمه للحكم بعد تلك التغييرات والتلاعبات في الاحكام الشريعة والتعاليم الدينية بحجة إعمال الاجتهاد ورعاية المصلحة والإستئثار ببيت المال وتوزيعه بطرق غير مشروعة وغير ذلك من الإجراءات الملتوية ، والأمّة التي أذعنت لتلك الانحرافات ، ستصطدم بالتطبيق الفوري للسُنّة النبوية والعودة بها إلى عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، غير ان الأمّة المنكوبة كانت تندفع بجموح ، متوقعة ان الاصلاح سيتم بكل سهولة وبدون معوقات ، غافلة ان الأحقاد كانت ما تزال تعتمل في نفوس قريش

٤٣٧

وبني أميّة وبعض الصحابة ضد عليّ ، ولا تطيق أن تراه خليفة على الأمّة ، وإن أجمع المسلمون على بيعته ، وهذا ما حدث من قبل عائشة وطلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص وبني أميّة وآخرين ، وأشعلوها حروباً متتابعة ضد علي وشيعته ، ولم تنته إلا بعدما خرّ عليّ صريعاً في محراب الكوفة.

وفي عهده ، تطابق الأمر الالهي مع بيعة الأمّة له بالخلافة ، وكان مثال الانسان العادل النزيه الذي لم يستغل الحكم لمآرب شخصية أو فئوية أو عائلية ، وإنما كان ينتقي العمال والولاة على أساس الكفاءة والاخلاص ، وإذا رأى تقصيراً أو عجزاً من أحدهم ، يعزله فوراً ، إذ لا محاباة منه لأحد في هذا الخصوص ، لكن البعض وللأسف ، لم يطق تلك العدالة والنزاهة المطلقة التي كان يتمتع عليّ في كل دقائق حياته ، لأن الحقد والطمع والحسد كان ينخر في قلوبهم بحيث لم يعودوا يميِّزون بين الحق والباطل ، وبين الخير والشر.

وحسب اطلاعنا ، ان الكثير من أتباع عليّ وشيعته لم يكونوا بالمستوى المطلوب من التقوى والمسؤولية والاخلاص للدين ، ولذلك كانوا ينكصون في المواقف الصعبة ، ويعصون الخليفة الرابع بين الحين والآخر ، وانا يحذرهم ويوبخهم دون ان تأخذه في الله لومة لائم ، فهو لم يجامل أحداً في حياته على حساب المبادئ والعقيدة وتعاليم الدين ، ومع ان عاصمته الكوفة ، بل وأهل العراق عموماً ، ذلك النقد اللاذع الذي ينبع من حرص ومسؤولية والتزام مُطلق بالتعاليم الالهية ، فلم يعرف معنىً للمداراة والمحاباة على حساب الشرع المقدس ، لأنه كان مُسدَّداً من قبل الله تعالى ، فهو دائماً مع الحق والقرآن الكريم ، وضد الباطل في كل مواقفه وتحرّكاته وسكناته ، كما أكد رسول الله في الكثير من الأحاديث التي أدلى بها طيلة فترة البعثة المباركة ، والتي كانت تجعل من عليّ فيصلاً ومقياساً للحق والباطل.

٤٣٨

وإذا كان البعض أو الكثير من اتباع عليّ وشيعته ، لا يتقيدون بوصاياه وأوامره ، أو يعصونه مباشرة بالرغم من اعتقادهم الراسخ بأنه وصي الرسول وخليفته والامام من بعده ، فهذا ليس غريباً منهم ، لأن الكثير من المسلمين في عهد رسول الله ، كانوا يعصون أوامر الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو بين ظهرانيهم ، وكان الله تعالى يوبخهم في قرآنه الكريم ، مع انهم كانوا يؤمنون بالله وبكتابه وبرسوله.

بين تيار الخلفاء وأتباع أهل البيت النبوي

وبعد رحيل عليّ ، بدأ عهد جديد ، وتصدّى خلفاء وحكام ، يتلاعبون برعاياهم المسلمين ، ويبدّلون أحاكم الله كما يبدّلون قمصانهم والبستهم ، ولم يكن لأحد من الرعايا حق الردّ أو الاعتراض ، فالرعية وبضمنها العلماء والفقهاء ، عليها الإصغاء للخلفاء باعتبارهم أمراء للمؤمنين ، لا يحق لأحد تصحيح أو إصلاح مواقفهم وسلوكهم وممارساتهم الخرقاء ، وانما على المسلمين إطاعتهم وإن شطّوا عن تعاليم الاسلام وإبتعدوا عن القرآن والسُنّة النبوية ، فتهافت العلماء على اعتاب الحكام ، خوفاً أو طمعاً ، بينما لم نرَ أحداً من الحكام يدنو من أعتاب العلماء إلا نادراً ، وعليه أصبحت أحكام الله ، العوبة بيد أمراء المؤمنين ، يسخّرونها طبق أهوائهم ومصالحهم ومنافعهم الضيقة بما يكرّس «شرعية» حكمهم ويضفي عليه هالة من القداسة والشرعية ، تدعم استمراره وديمومته وهيمنته على رقاب المسلمين.

ويبدو أن الحكّام قد اقتدوا بفرعون الذي قال لقومه : مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (١) ، وكانت النتيجة الحتمية : فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ (٢).

__________________

(١) غافر ٢٩.

(٢) الزخرف ٥٤.

٤٣٩

وأول الحكّام أو الخلفاء من هذه الشاكلة ، كان معاوية بن أبي سفيان الذي أصبح أميراً للمؤمنين بلا منازع بعد مقتل عليّ.

وفي بداية حكم معاوية أو العهد الأموي ، لم تكن هناك مذاهب إسلامية مُحدَّدة ، ولم يكن المسلمون قد انتظموا مذهبياً ، وانما كان هناك تياران ، التيار الأول : تيار الخلفاء ، وهم الصحابة والتابعون الذين انضموا تحت راية الخلفاء الأوائل ، أي أبي بكر وعمر وعثمان ، وتأثروا بأفكارهم واجتهاداتهم وآرائهم وأقوالهم ، وإن كانت مخالفة ومتعارضة مع القرآن والسُنّة النبوية ، وهم الأكثرية.

والتيار الثاني : أتباع أهل البيت وشيعة عليّ بن أبي طالب ، حيث كانوا يرفضون اتّباع أحد غير عليّ وأهل بيته بحكم النصوص الثابتة المنقولة عن رسول الله الذي كان واضحاً في وصاياه في هذا المجال ، إذ حصر صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ الدين والسُنّة عن أهل بيته ، وهم فضلاً عنه ، أربعة في عهده : عليّ وفاطمة والحسن والحسين ، وأشار إليهم تحديداً دون غيرهم من بني هاشم ، وهم إمتداد له وخَزَنة لعلمه حيث أودع سُنّته فيهم ، بناسخها ومنسوخها وعامها وخاصها ، ومطلقها ومقيدها ، وهم عِدْل القرآن ومفسّروه والعارفون بعلومه وتنزيله ، لا يفترقون عنه إلى يوم القيامة ، وهم سفن النجاة ، من اتّبعهم نجا ومن تخلّف عنهم غرق وهوى.

ولا يحق لأحد أن يتقدمهم أو يتأخر عنهم ، لأنه بذلك يكون قد افترق عنهم ، ويكون مصيره الانحراف والخسران المبين.

ولا ريب ان الشيعة لم يكونوا طارئين أو وُجدوا بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله سواء من يدّعي انهم نشأوا بعد حرب الجمل ، أو بعد النهروان ، أو بعد واقعة كربلاء ، بل كان لهم وجود في عصر الرسالة ، كما بيّنا من قبل ، بناء على قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي في مناسبات

٤٤٠