بحث حول الخلافة والخلفاء

منيب الهاشمي

بحث حول الخلافة والخلفاء

المؤلف:

منيب الهاشمي


المحقق: زينب الوائلي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٢

فعلي مولاه ، قد اشتمل على لفظه (مَن) وهي موضوعة للعموم ، فاقتضى ان كل إنسان كان رسول الله مولاه ، كان علي مولاه ، واشتمل على لفظة (المولى) وهي لفظة مستعملة بإزاء معان متعددة ، وقد اوردها القرآن الكريم ، فتارة تكون بمعنى (أولى) : «هي مولاكم» ، وتارة بمعنى الناصر : ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ (١) ، وتارة بمعنى الوارث : وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ (٢) ، وتارة بمعنى العصبة : وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي (٣) ، وتارة بمعنى الصديق والحميم : يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا (٤) ، وتارة بمعنى السيد المعتق.

وليعلم ان هذا الحديث هو من اسرار قوله تعالى : فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ... (٥) ، والمراد نفس عليّ على ما تقدم ، فإن الله لما قرن بين نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبين نفس علي ، وجمعهما بضمير مُضاف إلى رسول الله ، أثبت رسول الله لنفس علي بهذا الحديث ما هو ثابت لنفسه على المؤمنين عموماً ، فانه أولى بالمؤمنين وناصر المؤمنين ، وسيد المؤمنين ، وكل معنى أمكن إثباته معادل عليه لفظ (مولى) لرسول الله ، فقد جعله لعليّ ، وهي مرتبة سامية ، ومنزلة شاهقة ، ودرجة عالية ، ومكانة رفيعة خصّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بها دون غيره ، فلهذا صار ذلك اليوم يوم عيد وموسم سرور لأوليائه (٦).

__________________

(١) محمد ١١.

(٢) النساء ٣٣.

(٣) مريم ٥.

(٤) الدخان ٤١.

(٥) آل عمران ٦١.

(٦) مطالب السؤول ـ محمد بن طلحة الشافعي : ٩٧.

٤٠١

معنى الشراكة والوزارة والاستخلاف في القوم

وهناك نقطة ربما خفيت على بعض رموز أهل السُنّة ، وهي ان ولاية عليّ إنما كانت في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، اذ هي امتداد لولايته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا منافاة في ذلك أو تعارض بين الولايتين ، لأنهما في الحقيقة ولاية واحدة ، والدلائل على ذلك عديدة :

١ ـ قضية المباهلة ، ونزول الآية القرآنية : وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ (١) ، إذ ساوى الرسول بين نفسه وبين نفس عليّ كما يجمع المفسرون.

٢ ـ دلالة الآية القرآنية : مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّـهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ (٢).

فكما لا يحق لأحد أن يُقدّم نفسه على نفس الرسول ، كذلك لا يحق لأحد أن يقدّم نفسه على نفس عليّ ، وهنا تتحقق الولاية لعليّ في عهد النبي.

٣ ـ تاكيد رسول الله في حديث له حول بعض صحابته ، إذ سأله عمرو بن العاص عن علي ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ان هذا يسألني عن نفسي» (٣).

٤ ـ قول الرسول في علي : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا إنه لا نبي بعدي» ، وذلك عندما خلفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على المدينة في غزوة تبوك (٤).

وحديث المنزلة هذا ، لو رُوي وحده لكان كافياً لتثبيت منزلة علي من النبي ، لأن

__________________

(١) آل عمران ٦١.

(٢) التوبة ١٢٠.

(٣) كنز العمال ـ المتقي الهندي ١٣ : ١٤٢ ـ ١٤٣.

(٤) صحيح البخاري ٧ : ١٢٠ ؛ سنن الترمذي ٥ : ٣٠٥.

٤٠٢

رسول الله قد أطلق العلاقة بينه وبين علي في حديث المنزلة ، ولا يقيده بحدود معينة ، واستثنى من المنزلة بينهما ، النبوة ، التي لم يكن لعلي فيها نصيب وإنما هي له فقط.

على ان النبوة لم تكن الميزة الوحيدة لهارون أخي موسى ، وإنما علاقتهما تمتد إلى الشراكة في الحكم والأمر وفي كل شيء.

ولو كانت النبوة هي الميزة أو الخصيصة الوحيدة لهارون والتي تنتفي من علي ، لما أكد النبي تلك المنزلة لعلي منه سوى النبوة ، ولهذا فإن منزلة علي من رسول الله لابد أن نستوحيها من منزلة هارون من موسى طبق الآيات القرآنية المشيرة لتلك العلاقة والمنزلة ، وهي : قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا (١) ، وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (٢) ، وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي ٢٩ هَارُونَ أَخِي ٣٠ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ٣١ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣).

ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (٤).

اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي (٥).

فهارون كان يشدّ عضد موسى ، ولهما سلطان معاً ، وهو وزيره ، يشدّ أزره ، ويشركه في أمره ، وهو الحُكم والسلطان والقيادة ، وأخيراً فإن هارون ، خليفته في قومه.

__________________

(١) القصص ٣٥.

(٢) الفرقان ٣٥.

(٣) طه ٢٩ ـ ٣٢.

(٤) المؤمنون ٤٥.

(٥) الأعراف ١٤٢.

٤٠٣

وكان عليّ بالنسبة لرسول الله ، وزيراً له ، وولياً للمسلمين معه ، أي مشاركاً له في الأمر ، وهو الحُكم والسلطان والحاكمية على نفوس الناس ، باعتبار أن لهما نفساً واحدة حاكمة على النفوس ، وكل هذه الخصائص كانت لعليّ في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولم يكن الحديث النبوي المذكور آنفاً ، وحده بخصوص المماثلة بين هارون وعلي ، وانما هناك الكثير من الاحاديث النبوية التي أدلى بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في مناسبات مختلفة ، كلها تقارن بين النبي هارون وعلي بالنسبة لموقعهما من النبيين موسى ومحمد (عليهما السلام).

٤٠٤

مقوّمات الولاية على الناس

أما الدليل الآخر على إستمداد علي لولايته من ولاية رسول الله ، يعني أن ولايته على الناس مستمدة من ولاية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله :

١ ـ ان النبي محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يعيّن أحداً أميراً على عليّ في كل مراحل الدعوة الإسلامية ، سواء في مكة المكرّمة أو المدينة المنورة ، وسواء في الحرب أو في السلم ، لأنه لا يحق لأحد من الصحابة أن يكون أميراً على عليّ وولياً عليه ، بل يكون الصحابة وكل المسلمين ، مأمورين له دائماً.

٢ ـ لم يوجّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله نقداً ولو صغيراً لعلي طيلة حياته ، ولم يعنّفه ولم يطعن فيه ، وكذلك لم يسمح لأي أحد مهما كانت منزلته في الصحبة ، أن يوجّه أو يتفوّه بكلمة واحدة تنال من عليّ أو تنقصه ، وإذا سمع صلى‌الله‌عليه‌وآله من أحدهم أنه تكلّم ضد علي أو طعن فيه أو خالفه مجرّد مخالفة ، فإنه يغضب كثيراً ويسخط عليه ، ويدعوه للاعتذار منه ، وأن لا يكرّر ذلك أبداً ، لكننا لم نقرأ التأريخ أن أوصى رسول الله علياً بعدم نقد الآخرين أو مخالفتهم والانتقاص منهم ، بينما طالما سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صحابة يتكلم بعضهم في بعض أو يتلاعنون فيما بينهم ، فلم يُعر لذلك أدنى أهمية.

٣ ـ كل ذلك يدل على ولاية عليّ على الناس في العهد النبوي ، وهو أمر مفروغ منه ، لأنه نفس الرسول ، لا يختلف عنه في شيء ، وهو باب علمه الواسع العميق ، فكل

٤٠٥

من يريد أن يتعلّم شيئاً من الرسول ، فعليه أن يسارع إلى عليّ ويسأله في شتى العلوم الدينية ، فيجيبه حالاً ، ولا يتلكأ أبداً.

ولم نسمع أن علياً سأل أحداً سوى رسول الله الذي كان يغذّيه بالعلوم الالهية منذ البعثة الشريفة ، إذ كان كل الصحابة بحاجة إلى عليّ ، وهو لم يكن بحاجة إليهم ، ولو في مسألة واحدة فقط.

وهذه كلها صفات الذي يمتلك حق الولاية على الناس ، ولا يمتلكون حق الولاية عليه ، وبالتالي فمن حق أي محلّل منصف أن يعتبر ولاية عليّ مستمدة من ولاية رسول الله على الناس ، ومن الطبيعي أن تستمر تلك الولاية بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله ليكون هو الولي المطلق على المسلمين ، فهو الوصي والوارث للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والخليفة من بعده بنص منه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما يصبح عليّ ، عميداً لأهل البيت ، إذ يورث العمادة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن كانت للرسول في حياته.

ونقصد بأهل البيت ، هم هؤلاء الخمسة الذين كان هو ضمنهم في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله أي هو وعلي وفاطمة والحسن والحسين فقط ، والذين أسماهم الرسول (أهل الكساء) والثقل الموازي للثقل الثاني وهو القرآن الكريم ، وهم كسفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق وهوى (١).

فأهل البيت ، بمثابة سفينة نوح ، من أطاعهم واتّبعهم فسينجو معهم ، أما من عصاهم وخالفهم ولم يتبعهم في كل الامور ، فسيكون من المغرقين والهالكين.

ولا يحق لأي أحد أن يفسّر حديث السفينة على هواه ، ويُقصيه عن معناه الحقيقي الواضح الذي أراده رسول الله لأهل بيته عندما مثّلهم بسفينة نوح ، فهم الفيصل الذي

__________________

(١) المعجم الكبير ـ الطبراني ٣ : ٤٦ ؛ مناقب علي بن ابي طالب ـ ابن المغازلي : ٣٢٤.

٤٠٦

إذا تجاوزه المرء يكون من المُغرقين ، بمعنى أن كل من لجأ إليهم واتبعهم وأطاعهم واستوحى الأحكام الشرعية منهم لكونهم امتداداً لرسول الله ولنهجه القديم ، فسيكون من الناجين معهم ، وبغير ذلك فسيؤول أمره إلى الخسران المبين ، وبالطبع فإن علياً عميدهم وأبرزهم بعد الرسول ومن بعده الثلاثة الآخرون.

على وشك الرحيل

ولمّا مرض رسول الله مرضه الأخير ، وأحسّ بدنو أجله ، أمر بإحضار دواة وكتف ، لكتابة وصيته الأخيرة للمسلمين. ومن حق أي إنسان إذا أحسّ بدنو الأجل ، أن يوصي أسرته وأبناءه ، ويطلب منهم قلماً وورقة ليملي عليهم بآخر وصاياه واقتراحاته. وكذلك الحكام ورؤساء الدول وذوو المسؤوليات الكبرى ، حتى يضعوا الناس أمام حقائق الفترة المقبلة في حال غيابهم عن الساحة.

ولم يكن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بدْعاً من الآخرين ، فهو على وشك الرحيل ، ومَن هو صلى‌الله‌عليه‌وآله ، انه خاتم الأنبياء وآخر الرُسُل ، وحاكم الأمّة الاسلامية جمعاء ، ولابد له من قول كلمته الأخيرة مثبّتة على الورق ، لكي يُلقي الحُجّة على أمّته إلى يوم القيامة.

ولا يحق لأي أحد أن يمنعه مهما بلغ شأنه ومنزلته ، وحتى ان كان من أكابر الصحابة ، لأن عمل الرسول وقوله ، تنفيذ لأوامر الله تعالى ، فهو لا ينطق من منطلق الهوى أو الرأي ، وإنما يتحرّك بأمر الوحي ، وانها لجرأة كبيرة أن يَحول أحد دون تنفيذ قراره تحت أية حجة أو ذريعة ، لأنه ليس هو أعلم ولا أفهم من رسول الله المُسدد من السماء ، والذي هو أعلم البشرية على الاطلاق ، وهو مدينة العلم.

وهكذا عندما أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله بإحضار الدواة والكتف لكي يكتب كتاباً لن تضلّ الأمّة

٤٠٧

بعده أبداً .. وهو قول منطقي جداً وينمّ عن كامل القوى العقلية ، وينسجم مع حجم الخسارة التي ستُمنى بها الأمّة ، ومقدار الفراغ الذي سيتركه فقده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولابد من إيضاح وتبيين السبيل الذي إذا اتّبعه المسلمون ، أَمنوا من الضلال والانحراف إلى يوم القيامة (١).

أنه كلام عقلاني جداً وغير عبثي او مُستهجَن ، وانه يدلّ على حرص الرسول على أمّته ومصيرها وهو على مشارف الآخرة.

غير ان الصحابي عمر بن الخطاب ، اعترض على الكتاب ومنع النبي محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله من كتابته بدعوى ان النبي يهجر ، مع أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يُصدِر عبارات مبهمة أو لا تليق بالمقام ، أو تُصادم المنطق الإنساني حتى يُوصَم بالهجر والهذيان ، وإنما كان كلامه مفهوماً لا لَبْس فيه ، بل ويناسب الموضع الذي كان فيه وهو على فراش الموت.

هل هجر رسول الله حقّاً؟

وإذا كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يهجر ويهذب ويُطلق كلمات غير معقولة وغير مفهومة ، فلماذا قال عمر بن الخطاب بعد ذلك مباشرة ، حسبنا كتاب الله ، أحلّوا حلاله وحرّموا حرامه؟

لابد وان عُمَر بن الخطاب أدرك أنَّ رسول الله إنما كان يروم أن يكتب كتاباً حول مستقبل الأمّة ، وتعيين جهة معينة تصون الأمّة من الضلالة ، وهي تختزن وتستودع العلم النبوي الذي يفسّر ويبيّن القرآن الكريم ، وهذه ال جهة لابد أن تكون صمّام امان للأمّة من الانحراف عن الاستقامة ، وان كل أفرادها يذعنون لتلك الجهة التي سيعيّنها رسول

__________________

(١) صحيح البخاري ٢ : ١٧٨ ـ دار احياء الكتب ـ مصر ؛ صحيح البخاري ٢ : ١١١ المطبعة الميمنية مصر ؛ صحيح مسلم ـ آخر الوصايا من الصحيح.

٤٠٨

الله ، وبالتالي سوف لا يحق لبعضهم من التصدّي لحكم الأمّة كما يهوى ، ولذلك قال عمر بن الخطاب قولته المعروفة : «حسبنا كتاب الله».

فلو كان القرآن الكريم وحده هو العاصم من الضلالة ، وفيه الكفاية لتعريف الحلال والحرام ، فلِمَ يا ترى أدلى رسول الله بمئات الاحاديث لشرح وتفصيل آيات القرآن الكريم ، وتفسيرها تطبيقاً لقوله تعالى : لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (١)؟ ولماذا قال : «تركت فيكم ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً ، كتاب الله وسُنّتي» ، على قول الجمهور؟ ولماذا أوصى الناس في الكثير من أحاديثه الشريفة ، بسُنّته وضرورة اتّباعها؟

ثم هل يمكن استخراج أو استنباط الأحكام الشرعية من القرآن وحده بخصوص الفرائض والواجبات والأوامر والنواهي ، مع ان تشريعاته في هذا النطاق ، مُقتضية ومُجملة ، وعامة ومطلقة ، وهي بحاجة إلى تقييد وتخصيص وتفسير وشرح وتفصيل حتى تتبيّن وتتضح الاحكام والتشريعات بصورة تامة لا لبْس فيها ، ولا نقص ولا تقصير؟ ثم ان رسول الله في ذلك الموقف ، كان في حال تبليغ أمر مهم جداً ، يتحدد ـ بنيانه ـ مصير الأمّة الإسلامية ، وعند الجمهور المسلم ، أن النبي معصوم في حال التبليغ ، فكيف والحال هذه ، ان يهجر في تلك اللحظة والعياذ بالله؟!

وليت عمر بن الخطاب وعى بأنه لا يحق لأحد الوقوف بوجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مهما علا شأنه وبلغت صحبته وعلاقته به صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأن الرسول مُوحى إليه من قبل السماء ، وأعلم الخلق جميعاً بمصلحتهم ومصيرهم ، إلا إذا كان يعتقد أنه أعلم من رسول الله بمصير الأمّة وما ينجيها ويمنعها من الضلالة؟ فهل بقيت قداسة للنبوة ، وقيمة عليا للرسالة السماوية يا تُرى؟

__________________

(١) النحل ٤٤.

٤٠٩

ولنر رد فعل المتجمّعين حول الرسول من الصحابة والنساء ... إلخ.

لقد انقسم هؤلاء إلى فريقين ، فريق انحاز إلى عمر وتبنّى موقفه الرافض بكتابة الكتاب ، وفريق آخر طالب بكتابة الكتاب تنفيذاً لأمر الرسول الحاسم ، حين علا صوت المطالبين بتنفيذ الأمر النبوي ، وكان أكثرهم من النساء ، فنهرهن عمر بن الخطاب ، واصفاً إياهنّ بصويحبات يوسف ، غير ان ردّ فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قاسياً بحق عمر وجناحه ، إذ دافع عن النساء بكامل وعيه ، مؤكداً ان هؤلاء النساء ، أفضل من عمر وأصحابه المنحازين له في منع كتابة الكتاب (١).

المهم ، وبسب اللغط الذي رافق مجريات هذه الحادثة ، تم إلغاء الكتاب الذي يصون الأمّة من الضلالة إلى يوم القيامة.

وقد أسمى حبر الأمّة عبد الله بن عباس ، تلك الحادثة بالرزية ، لكونها فتحت الأبواب ـ على مصراعيها ـ للفتن والرزايا وضلالة الأمّة كما حدث بالفعل ، دون أي أمل لرجوعها إلى جادة الحق والهُدى.

وعلى العموم ، فإن موقف عمر بن الخطاب المُعارض لتدوين الوثيقة العاصمة للأمّة من الانحراف ، إنما جاء خوفاً من تثبيت ما أعلنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم الغدير ، بأن علياً خليفته وولي أمر المسلمين من بعده ، لأنه في تثبيته خليفة له ، وإمتثال الأمّة لتلك التوصية النبوية في الحقيقة ، عملية صيانة للأمّة من الضلالة والانحراف والتمزق والوقوع في الفتن والمصير المجهول ، لأن علياً هو نفس الرسول ، وامتداد له وباب علْمه ، وهو كالرسول على الحق المبين والصراط المستقيم ، كيف لا والحق يدور معه حيث دار ، وهو

__________________

(١) مجمع الزوائد ـ الهيثمي ٩ : ٣٤ ؛ المعجم الاوسط ـ الطبراني ٥ :٢٨٨ ؛ انظر : الطبقات الكبرى ـ ابن سعد ٢ : ٢٤٤.

٤١٠

مع القرآن ، والقرآن معه ، وهو من أهل البيت ، ثقل القرآن ولا يفترق عنه حتى قيام الساعة ولا ينفصل عنه أبداً ، وهو من أصحاب السفينة الذين ينجو من ركب معهم ، ويفرق ويهوى من تخلّف عنهم؟

فاذا تصدّى عليّ للحكم والخلافة بأمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا يحدث صراع على هذا الموقع الحسّاس من قبل الطامعين واللاهثين لاشغال هذا ال منصب الالهي المقدّس ، ثم يقود الأمّة إلى شاطئ النجاة ، وهو على بيّنة وبصيرة من أمره ، لأنه مُسدَّد من قبل الله تعالى ، وبالتالي لن تكون هناك مدارس فقهية كثيرة ، ولا مذاهب وفرق وطوائف متعدِّدة ، تمتلك رؤى فقهية وعقائدية متضاربة ، وانما هناك مدرسة واحدة ، هي مدرسة أهل البيت ، أولها الرسول نفسه ، وثانيها عليّ ، ثم تأتي البقية ، كما حدّدها صلى‌الله‌عليه‌وآله ... هي مدرسة ـ بعد الرسول ـ يقودها ويتزعمها علي وأهل بيته الذين يجسّدون القرآن خير تجسيد ، باعتراف عميدهم رسول الله ، طبق آية التطهير المباركة.

وفاة خاتم الأنبياء

ورحل خاتم الأنبياء وإلى جواره بنو هاشم وزوجاته ولفيف من الصحابة وعلى رأسهم عليّ بن أبي طالب ، وبقي مسجّى فترة بعد أن غسّله وكفّنه ابن عمه عليّ ، وكان النبي قد جهّز جيشاً بقيادة أسامة بن زيد الذي كان يبلغ من العمر ١٧ عاماً ، وحشّد فيه كبار الصحابة ، منهم أبو بكر وعمر بن الخطاب وغيرهما ، لغزو الروم ، ولعن من يتخلّف عنه ، ومع ذلك قفّل أكثر الجيش راجعاً إلى المدينة بذرائع واهية بالرغم من اللعن النبوي الذي كان سارياً عليهم ، وكان هؤلاء العائدون قد تذرّعوا بقلقهم على مصير الرسول الذي كان يلفظ أنفاسه الأخيرة حين غادروا المدينة ، ولكن يبدو ان الكثير

٤١١

منهم كان لديه مسعىً أو غرضاً آخر في العودة المفاجئة للمدينة بالرغم من تحذير ولعن الرسول الذي كان قد شملهم جميعاً (١).

هذا المسعى او الهدف المُبيّت هو لإستشفاف الاوضاع الحرجة ، ومحاولة الالتفاف على خليفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل أن يبايعه المهاجرون والأنصار ، وبالتالي يسقط ما في أيدي هؤلاء الذين يسعون لتسنّم منصب الخلافة على حساب الخليفة المُعيّن من قبل رسول الله ، ولذلك فلم يشارك هؤلاء المتخلّفون عن بعث أسامة ، بمراسم دفن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وتشييعه ، بالرغم من أن تخلّفهم عن البعث إنما كان لتقصّي مصيره صلى‌الله‌عليه‌وآله حسب زعمهم.

وقام بمراسم التشييع والدفن ، عليّ وبنو هاشم وقلّة من الصحابة ، فيما تخلّف عن هذه المراسم المقدّسة ، الكثير من الصحابة الذين انصرفوا إلى سقيفة بني ساعدة لاختيار خليفة من بينهم.

هذا الموقف اللامسؤول من قبل هؤلاء الذين فيهم كبار الصحابة تجاه الرسول وعدم احترام نعْشه ، يبعث على العجب والتساؤل ، لأن الذين قفّلوا عائدين من بعث أسامة ، كانوا من كبار الصحابة وبضمنهم عمر بن الخطاب وأبو بكر ، وابو عبيدة الجراح ، وهم قد تجاهلوا تماماً ، لعن الرسول على المتخلفين عن جيش أسامة مهما كانت عللهم وذرائعهم ، وإن كانت وجيهة ، لكن هؤلاء تعلّلوا بالقلق على مصير الرسول وهو على مشارف الموت ، غير انهم لم يأبهوا لوفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله وكأن موته لا يعنيهم ، فلم يشاركوا في مراسم دفن خير البشر صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنما اتفقوا على الذهاب فوراً إلى سقيفة بني ساعدة حيث يجتمع زعماء الانصار لتناول قضية الخلافة ، وملء الفراغ

__________________

(١) عمدة القاري ـ العيين ١٨ : ٧٦ ؛ الطبقات الكبرى ـ ابن سعد ٢ : ١٩٠ ؛ المواقف ـ الايجي ٣ : ٦٥٠.

٤١٢

الناشئ بسبب وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ونكا قبل بحثنا الأخير ، نتساءل : لِمَ لم يستخلف رسول الله؟ لِمَ لم يختر أحد الصحابة الكبار الذين تجتمع فيهم خصال القيادة لمسك زمام الأمور من بعده ، وبالتالي لا يحصل بعده فراغ ، يستغله الذين لا يمتلكون صفات وخصائص القيادة والزعامة ، لإتمام المسيرة التي بدأها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالبعثة المظفرة ، خاصة وانه كان خاتم الأنبياء ورسالته آخر الرسالات وخاتمتها ، وهي رسالة موجّهة إلى الناس كافة ، ومهمة الدعوة لم تنته بعد ، لأن الإسلام ، عند وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لم يتخطّ عتبة الجزيرة العربية ، وما تزال هناك مراحل وخطوات شاسعة ينبغي اتخاذها حتى تؤدي الشريعة الاسلامية مهامها وأهدافها الكبرى ، ألا وهي إيصال وتبليغ الرسالة إلى شتى بقاع المعمورة ، لإقامة الحجّة البالغة على كل الناس كما يأمر القرآن الكريم؟

أليس الذي يخلف رسول الله ، يجب أن يكون امتداداً له في العلم والشجاعة والفقاهة والوعي وفي كل النواحي والخصائص القيادية عدا النبوة ، حتى يكون بمقدوره ، هداية الناس ، وجمع شملهم وتوحيدهم في ظلال الرسالة دون أن يتفرقوا ويتوزعوا إلى نِحل ومذاهب وفِرق وطوائف تتناحر فيما بينها!!؟ ... مذاهب ومدارس فقهية وعقائدية وفكرية لا يحصيها عدد؟

أليس من واجب رسول الله أن يستخلف كي لا تضيع الأمّة وتتشتت كالغنم الشاردة في الليلة المطيرة حسب تعبير بعض الصحابة في فترات مختلفة ، حرصاً منهم على مصيرها؟ ام ان اولئك اكثر وعياً ومسؤولية منه صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

لماذا لم يكن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله حريصاً على الأمّة المنكوبة ، كحرص الراعي على غنمه على الأقل؟ أم ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد فعل كل ذلك ، لكن هناك أمراً قد دبِّر بليل؟

٤١٣

خاصة وانه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد ربّى علياً في حجره منذ طفولته وغذّاه بعلمه وتوجيهاته ونصائحه ، وآخى بين نفسه صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين ابن عمه ، وجعله وصيه ووزيره وخليفته من بعده ، وعيّنه للولاية المطلقة في غدير خم قبل وفاته بقليل ، وأوصى به وببقية أهل بيته؟

فلو كان رسول الله لم يعيّن أحداً لخلافته وترك الأمّة تختار أحداً من بينها لشغل موقع الخلافة من خلال الشورى ، فلماذا يا ترى ، بعث كبار الصحابة من أمثال أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وغيرهم لغزو الروم ولعن المتخلفين منهم؟ أليس هؤلاء ينبغي أن يكونوا ضمن الذين يتشاورون لاختيار الخليفة ، أم استثنى هؤلاء الصحابة الكبار وهم بالعشرات فتكون المشورة منقوصة تدور في دائرة ضيّقة لا تمثل كل الأمّة؟ ومن المفارقات العجيبة ان الذي تم اختياره لخلافة الرسول وهو أبو بكر بايعاز من عمر بن الخطاب ، هو من المبعدين لغزو الروم ضمن بعث أسامة ، يعني ان رسول الله لو كان يعتقد أنَّ الذي يخلفه سيكون من تختاره الأمّة فلابد أن يكون غير أبي بكر أو عمر بن الخطاب لأنهما كانا ضمن البعث ، ولا يحق لهما العودة بعد أن رسم خطاً أحمر حولهما بأن لعن من يتخلف منهما أو من غيرهما؟

وعلى العموم ، فإن رسول الله لو كان يؤمن بمبدأ الشورى لانتخاب الخليفة ، لما بعث الصحابة الكبار في بعث أسامة وإنما استبقاهم حتى تكون عملية الشورى محكمة؟

٤١٤

وفاة الرسول والتحركات المريبة

وإذا كان هذا كله صحيحاً ، يتساءل الذين يزعمون بأن رسول الله لم يوصِ ، ولم يستخلف : تُرى لِمَ أجمعت الأمّة عن وصية الرسول بحق عليّ ، وكأن شيئاً لم يكن؟ وسارعت إلى سقيفة بني ساعدة لتختار خليفة يقوم مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فأين الأمّة التي بايعت علياً في واقعة الغدير؟ هل تناست تلك الوصايا في ليلة وضحاها وسكتت على ما حدث في السقيفة؟ هل يُعقل كل هذا ، وان الصحابة خانوا نبيهم بتلك السهولة؟

نجيب على هذه التساؤلات بما يلي :

١ ـ النصوص الواردة من رسول الله في الوصاية والخلافة لعليّ ، متينة جداً ومتواترة ، ولا تشوبها شائبة ، ورواها العشرات من الصحابة الكرام ، ومن بعدهم الذين تبعوهم باحسان ، فليس من حق أحد أن يشطبها بجرّة قلم ، كيلا يتهم الآخرين ممن سمعوا هذه الوصايا والأوامر ووعوها ثم نبذوها وراء ظهورهم لأسباب معينة.

٢ ـ وماذا عن جماهير الأمّة ، وجلّ المهاجرين والأنصار؟ ماذا دهاهم؟ صمتوا أو لم يحتجوا على صرْف الخلافة عن عليّ من خلال اجتماع السقيفة؟ هكذا يؤكد علماء السُنّة ، إذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد عيّن علياً خليفة للمسلمين؟

بلى أن هذا التساؤل ربما يكون وجيهاً ، لو سارت الأمور بعد وفاة الرسول على هذا المنوال ، غير ان التأريخ الصحيح ، يثبت بأن الأمّة لم تسكت ولم تسلك سبيل

٤١٥

الصمت الذي يعني بأن رسول الله ترك الأمّة تختار حاكمها دون أن يعيّنه بنفسه.

وفي الحقيقة ان كل الوقائع التي حدثت بعد وفاة الرسول مباشرة تؤكد لنا بأنه عيّن علياً خليفة له ، بيْد ان هناك أطرافاً منعت علياً من تسلّم المنصب الالهي.

ومن تلك الوقائع :

١ ـ التحرّك المريب الذي بدأ فور رحيل خاتم الأنبياء محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بارئه الاعلى ، فأكثر الجيش الذي بعثه الرسول بقيادة أسامة بن زيد ، قفّل راجعاً إلى المدينة بالرغم من لعْن الرسول كل من تقاعس عن الالتحاق بهذا الجيش ، وتكراره لهذا اللعن الذي يُبطن خطة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله لإبعاد كبار الصحابة من المدينة في حال موته لئلا يكونوا حاضرين عند وفاته ، لمنع عليّ من تسلّم الحكم والخلافة طبق وصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٢ ـ مسارعة قيادات الأنصار للاجتماع في سقيفة بني ساعدة ، بدون استشارة أو حتى إخبار بني هاشم والمهاجرين وبقية الصحابة من الانصار بالاجتماع ، مع ان قضية خلافة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قضية تهمّ المسلمين جميعاً ، وبالذات الصحابة الذين هم جلّ المهاجرين والأنصار ، فضلاً عن بني هاشم وبقية المسلمين ، مادام النبي حسب قولهم ، لم يعيّن أحداً خليفة له ، فلماذا هذه العجلة ، واستغفال سائر الصحابة والمسلمين ، وعدم احترام جثمان رسول الله المسجَّى في بيته ، ولما يُدفن بعد ، وما هكذا ينبغي توديع أفضل الخلق أجمعين!؟

أما كان الاجدر بهؤلاء أن يتريثوا الى حين الإنتهاء من مراسم التشييع والدفن ، ثم يدعون كل الرموز الاسلامية وأعيان المهاجرين والأنصار من الصحابة الكرام وغيرهم ، لا أن يستغفلوا الأمّة ، ويجتمعوا لانتخاب خليفة لرسول الله وهم لا يتعدّون المئتين على أفضل تقدير ، وهم من الانصار فقط ، وأما الذين التحقوا بالسقيفة ـ فيما بعد ـ من

٤١٦

المهاجرين ، فهم ثلاثة ، عمر بن الخطاب وأبو بكر وأبو عبيدة الجراح ، فيما ظل جلّ المهاجرين ، فضلاً عن الانصار وغيرهم بمعزل عن ما جري في السقيفة (١).

وبالطبع كان عليّ هو الآخر وبنو هاشم وبعض الصحابة ، مشغولين بمراسم دفن الرسول ، ولم يكونوا يعملون بما يجري من تحركات لاختيار الخليفة ، مع ان علياً كان من أبرز أهل البيت ، وكان الاجدر بهؤلاء أن يدعوه هو وبني هاشم للتشاور ، لان أن يتجاهلوا وجودهم بالمرّة ، هذا ناهيك عن ان رسول الله أكد ـ مراراً ـ وجوب احترام أهل بيته ونصرتهم حتى آخر لحظة في حياته ، فكيف يتم حذفهم من الوجود وإهمالهم بتاتاً؟

ان هذا التجاهل المتعمَّد لعلي وبني هاشم وذوي قربى الرسول في عملية الاختيار ، لتدلّ على إجماع هؤلاء على تهميش دور البيوت المقرَّبة من رسول الله ، حتى لا تطالب بحق صاحب الرسول الاول وربيبه وخليفته الحقيقي وهو عليّ بن أبي طالب.

إجتماع السقيفة .. مدى مشروعيته!!

تُرى ماذا حدث في تجمّع سقيفة بني ساعدة؟ وهل كان مؤتمراً نموذجياً يمثّل أول مجلس شورى في الإسلام ينتخب حاكماً للأمّة بعد رسول الله؟ أم تخلّلته صراعات ومداولات ، ربما كادت تؤدي إلى سفك الدماء؟

إذ لما قُبض رسول الله ، انحاز حي من الانصار الى سعد بن عبادة في القضية ، وانحاز بقية المهاجرين الى أبي بكر ، وانحاز معهم أسيد بن حضير في بني عبد الاشهل (٢).

وفي خضم الجدل الذي كان دائراً في السقيفة ، قال الحباب بن المنذر : يا معشر

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٦ : ٥٢.

(٢) فتح الباري ـ ابن حجر ٧ : ٢٣.

٤١٧

الانصار ، املكوا على أيديكم ، ولا تسمعوا مقالة هذا ـ يقصد عمر بن الخطاب ـ وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر ، فإن أبوا عليكم ما سألتموه ، فأجلوهم عن هذه البلاد ، وتولوا عليهم هذه الامور وأنتم أحق بهذا الأمر منهم (١).

أما عمر بن الخطاب فقد قال في يوم السقيفة : اقتلوا سعداً ـ يعني سعد بن عبادة الذي رفض اقتراح عمر وصاحبيه ـ قتله الله (٢).

وأوشكت فتنة كبرى أن تقع ، ولو وقعت لما كان بالأمر المستغرب كثيراً ، فالفراغ الذي تتركه شخصية عظمى مثل رسول الله في أمّة كان لها النبي والقائد ، لا يمكن أن يُملأ بسهولة ـ حسب رأي رمز من رموز أهل السُنّة والجماعة (٣).

واذا كان المهاجرون القاطنون في المدينة يمكن أن يسلّموا لاخوانهم الانصار بالخلافة ، ويعرفوا لهم فضلهم ، فإن بقية العرب لن تسلّم لغير قريش ، وما لم تتوحد الكلمة فلن يكتب لرسالة الاسلام تجاوز الحدود والانتشار خارج الجزيرة ، إذن فمصلحة الدعوة تقتضي أن يكون الخليفة من قريش (٤).

وانتهى الخصام في السقيفة ، فبايع عمر أبا بكر ، وإنثال الناس عليه يبايعونه في العشر الأوسط من ربيع سنة احدى عشرة ، سوى ثلّة من بني هاشم ، والزبير ، وعتبة بن أبي لهب ، وخالد بن سعد بن العاص ، والمقداد بن عمرو ، وسلمان الفارسي ، وأبي ذر ، وعمّار بن ياسر ، والبراء بن عازب ، وأبي بن كعب ، ومالوا الى عليّ بن أبي طالب (٥).

__________________

(١) تأريخ الطبري ٢ : ٤٥٨ ؛ الكامل في التأريخ ـ ابن الاثير ٢ : ٣٣٠.

(٢) تأريخ الطبري ٢ : ٤٥٩ ؛ لسان العرب ـ ابن منظور ١١ : ٥٤٩.

(٣) أدب الاختلاف ٥٤ ـ ٥٥.

(٤) أدب الاختلاف : ٥٨.

(٥) تأريخ اليعقوبي ٢ : ١٢٤.

٤١٨

ورفض عليّ البيعة قائلاً : أنا أحق بهذا الأمر منكم ، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم هذا الأمر من الانصار ، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً ، ألستم زعمتم للأنصار انكم أولى بهذا الأمر منهم لمّا كان محمد منكم ، فأعطوكم المقادة ، وسلّموا اليكم الامارة ، وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ، نحن أولى برسول الله حيّاً وميّتاً ، فأنصفونا ان كنتم تؤمنون ، وإلا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون ، فقال له عمر : إنك لست متروكاً حتى تبايع.

فقال علي : والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه (١). فيما قال الصحابي أبو عبيدة الجراح لعلي : يا بن عم إنك حديث السن ، وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالامور ، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك ، وأشدّ احتمالاً واضطلاعاً به. فأجاب علي : الله الله يا معشر المهاجرين ، ... لا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه ، فوالله يا معشر المهاجرين ، لنحن أحق الناس به ، لأنّا أهل البيت ، ونحن أحق بهذا الأمر منكم ، ما كان فينا القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بسُنن رسول الله ، المُضطلع بأمر الرعية ، المُدافع عنهم الأمور السيئة ، القاسم بينهم بالسوية ، والله انه لفينا ، فلا تتبعوا الهوى ، فتضلوا عن سبيل الله ، فتزدادوا من الحق بعداً.

وخرج عليّ يحمل فاطمة بنت رسول الله على دابة ليلاً في مجالس الأنصار ، تسألهم النصرة ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله ، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، ولو ان زوجك وابن عمك سبق الينا قبل أبي بكر ما عدلنا به.

__________________

(١) انظر : الامامة والسياسة ١ : ٢٩.

٤١٩

فأجاب علي : أفكنت أدع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في بيته لم أدفنه ، وأخرج أنازع الناس سلطانه؟ فيما قالت فاطمة : ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له ، وهم صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم (١).

وعلّق ابن الأثير على حديث عمر : «ان بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرّها» : أراد بالفلتة : الفجأة ، ومثل هذه البيعة جديرة بأن تكون مهيّجة للشر والفتنة (٢).

ويؤكد أحد رموز الجمهور السنّي : ولو كان في أمر الخلافة نص قاطع من كتاب الله أو سُنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لانتهى الأمر بذكره والاحتكام إليه ، وارتفع الخلاف ، ولكن ليس هناك شيء من ذلك (٣).

مؤتمر السقيفة والضمانة المفقودة

وتعليقنا على مؤتمر السقيفة وتداعياته :

١ ـ لو كان رسول الله لم يستخلف أحداً قبل وفاته ، وانما ترك الأمّة تختار من تشاء كخليفة له ، بدون أية ضوابط في هذا المجال ، فأين الضمانة من عدم تفاقم المشاحنات والاختلافات بين الفرقاء من المهاجرين والانصار وقريش ، الى حد الاقتتال والصراع الدامي وتمزّق الأمّة الى فئات متقاتلة يؤدي تفاقم الفتنة بينها الى زوال الأمّة وانحسار الاسلام الناشئ الفتي وهو في المهد؟ أو على الأقل ،

__________________

(١) انظر : الامامة والسياسة ١ : ٣٠.

(٢) لسان العرب ـ ابن منظور ٢ : ٦٧.

(٣) أدب الاختلاف : ٥٧.

٤٢٠