بحث حول الخلافة والخلفاء

منيب الهاشمي

بحث حول الخلافة والخلفاء

المؤلف:

منيب الهاشمي


المحقق: زينب الوائلي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٢

إقامتها بامامته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، طلب من الجميع أن يستمعوا ، وقال : اني أوشك أن أُدعى فأجيب ... واني تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، ثم أخذ بيد عليّ فقال : ألستم تعلمون أني أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : إن الله مولاي وأنا مولى كل مؤمن ، من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه (١).

كان خطاب الرسول هذا بعد أن سبقته تهيئة الأجواء وترتيب الموقف ، وتذكير الجماهير بأنه سيرحل قريباً إلى دار الآخرة.

ولما فرغ رسول الله من خطابه ، دعا الحاضرين لتهنئة عليّ بالولاية ، فاندفع الصحابة الكبار إلى تهنئته بحرارة ، منهم أبو بكر وعمر الذي قال لعلي : بخ بخ يا عليّ لقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة؟ (٢)

وكانت قد نزلت آيتان مباركتان على رسول الله حول هذه الحادثة :

الأولى : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ. المائدة ٦٧.

والثانية : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا. المائدة ٣.

واللافت هنا ان هاتين الآيتين ، نزل بهما الوحي على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في خصوص

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ : ٣٧١ ؛ مسند أحمد ١ : ١١٩ ؛ المعجم الكبير ـ الطبراني ٥ : ١٧١ ؛ انظر : السنن الكبرى ـ النسائي ٥ : ٤٥.

(٢) مناقب علي ـ ابن المغازلي : ٣٧ ؛ انظر : تأريخ مدينة دمشق ٤٢ : ٢٢١.

٣٨١

هذه الحادثة كما يؤكد معظم المفسّرين والعلماء من الجمهور المسلم (١) .. وفي هذا الصدد نتساءل في أنفسنا : ألم يكن رسول الله قد بلّغ رسالته وهو على وشك الرحيل من الدنيا؟ فما الذي ينبغي عليه أن يبلّغه حتى يبلغ رسالة الله؟

ثم لو كان الأمر الذي يبلّغه هو الديانة الاسلامية نفسها كما يزعم البعض ، فمن حقنا أن نشرح ونفسّر الآية الكريمة كما يلي : يا أيها الرسول بلّغ رسالة الله فإن لم تبلّغ رسالة الله فما بلّغت رسالته ... وهي عبارة تفتقر للعقلانية والمنطق السليم ، وحاشا لله أن تصدر منه هذه العبارة أو ما يوازيها ، لأنه حتى الطفل الصغير يعلم ان الرسول إذا لم يبلّغ الرسالة الاسلامية فهو لم يبلّغها حتماً ، وهي من البديهيات الأولى التي يعرفها حتى الطف الناشئ ، فلِمَ يا ترى هذا التأكيد الالهي؟ لابد إذن التبليغ هو عن أمر آخر يتعلق بالموقف الذي سيقفه رسول الله ، ويبيّنه للمسلمين المتجمّعين في تلك البقعة. وكذلك يتعلّق بقرب رحيله إلى بارئه تعالى حيث مهّد للخطاب المزمع إلقاءه على الحجيج بأنه راحل عما قريب.

وأي انسان مهما كان عادياً ، فضلاً عن ذوي المكانة الرفيعة ، سواء كانوا ملوكاً أو سلاطين أو حكاماً أو أنبياء ، لابد منهم عندما يحين أجلهم ، أو يوصوا أُسرهم ورعاياهم بأنهم على وشك الرحيل ، وعليهم أن يبلّغوهم بما ينبغي عليهم أن يفعلوا ، وإذا كانوا حكّاماً أو ملوكاً ، فيبلّغوا شعوبهم بخلفائهم الذين يأتون من بعدهم.

وهذا بالضبط ما نوى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يفعله تنفيذاً للآية المباركة ، ولذلك ، أكملت الآية أمرها لرسول الله بأن الله سيعصمه من الناس إذا بلّغ هذا الأمر الخطير.

__________________

(١) أسباب النزول ـ الواحدي : ١١٥ ـ مطبعة الحلبي ؛تفسير الرازي ٣ : ٦٣٦ ـ طبع الدار العامرة ـ مصر ؛ تأريخ مدينة دمشق ٢ : ٨٦ ـ حديث ٥٨٦ ـ ط بيروت.

٣٨٢

فلو كانت القضية التي سيبلغها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للناس ، الرسالة نفسها أو إصلاح ذات البين لِمَا بلغه من وجْد بعض الصحابة على علي وسخطهم عليه ، وإنه أراد أن يُفهم الناس بأنه ينبغي عليهم نصرة علي ، لأن نصرته هي نصرة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذا كان هذا هو هدف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وغايته في كل خطواته تلك ، فلماذا هذا الاهتمام العظيم منه بهذه المسألة؟

وما الغاية من تذكير جموع المسلمين بأن يبلّغ الشاهد الغائب عن هذا الاجتماع العظيم وما سيقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بشأن علي؟

كان بمقدور رسول الله أن يجمع بين هؤلاء الصحابة الذين كانوا في اليمن مع عليّ ويحلّها بالحسنة بعد العودة إلى المدينة ، لا أن تنزل آية تأمره بتبليغ أمر خطير ، يخشى الرسول من الافصاح عنه بما يُسخط الناس ويؤدي الى تذمّرهم ، فيجمع الحجاج المقفّلين إلى مناطقهم وأمصارهم في ذلك القيظ الشديد ، ويمهّد لحديثه بالتأكيد على وفاته قريباً ، ثم يؤكد أنه ترك الثقلين ، هما كتاب الله وأهل بيته ، ودعاهم للتمسّك بهما ، وانه ينتظر من المسلمين كيف يخلّفونه فيهما؟ أي : هل سيتمسّكون بهما كما يريد أم يدعونهما؟ ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله للناس : أليس هو أولى بهم من أنفسهم؟ فأجابوه بالإيجاب ، فرفع يد علي وقال لهم بأن علياً أولى بهم من انفسهم كما هو أولى بهم من انفسهم.

وأولوية رسول الله بنفوس المسلمين ، تعني حاكميته على نفوسهم وأحقيته بها منهم ، بحيث يصبح أمره على نفوسهم نافذاً وجارياً عليها ، ولا يحق لها أن تمتنع أو تتخلّف عن أوامره ، وإلا أصبحت عاصية.

وهذه الحقيقة ، تبرزها الآيتان الكريمتان :

النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ. الاحزاب ٦ ، مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ

٣٨٣

وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّـهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ. التوبة ١٢٠

وحاكمية رسول الله على النفوس ، تنتقل إلى عليّ ـ بداهة ـ ليصبح هو أيضاً حاكماً على نفوس المسلمين وآمراً عليهم. وهذه الحاكمية لعليّ على النفوس ، لم تبدأ بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنما في حياته أيضاً ، إذ هي امتداد لحاكمية الرسول ، لانهما ـ أي النبي وعليّ ـ نفس واحدة ، طبقاً لقوله تعالى في آية المباهلة ، وهو يتحدث عن لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بحق علي : حيث اتحدث نفساهما من خلال الأخوّة الابدية بينهما ، وهذه الحقيقة يؤكّدها الرسول عندما قال له أحد الصحابة في قضية معروفة بأنك لم تذكر علياً ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مستغرباً : انه يتحدث عن نفسي.

ثم أكمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خطابه في حادثة الغدير ، بقوله : اللهم والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله.

والعبارات تفسّر معنى الولاية المطلقة على النفوس ، والتي تقتضي الولاء والنصرة من قبل المسلمين للنبي وعليّ ، وكذلك معاداة وخذلان من يعاديهما ويخذلهما ، لكونهما حاكمين على النفوس دائماً ، وبعد رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يصبح عليّ هو الحاكم والخليفة.

وعند اطلاعنا على كتب الرواية والتأريخ ، وجدنا أن بعض المؤرخين ، يتجاهل هذه الحادثة تماماً ، لأنها واضحة في تنصيب الرسول لعلي خليفة له ، ولا يمكن تأويلها بحال ، كالبخاري الذي تجاهلها في صحيحه بالمرّة ، مع أنها حادثة مهمة جداً ولا ينبغي لأمثاله تناسيها أو إغفالها ، لكنه ـ والحق يقال ـ لم يكن مستعداً لتذكير المسلمين بها خوفاً من تشكيكهم بقناعاتهم التي توارثوها عن الأجداد ، بأن رسول الله لم

٣٨٤

يستخلف ، وانما ترك المسلمين يختارون خليفة لهم.

أما مسلم القشيري ، فاختصر الواقعة في صحيحه ، لكي يخفي بعض الحقائق الصارخة ، اعتقاداً منه ان هذه الخطوة ضرورية كي لا يلتفت القرّاء المسلمين إلى كل التفاصيل بما يثير تساؤلات حول خلافة الرسول.

غير أن الكثير من المؤرخين نقلوا بعض تفاصيل واقعة الغدير ، وفسّروها على أساس انها تعني أو تشير إلى نصرة المسلمين لعلي ليس إلا ، حسب زعمهم.

وبعد أن أكمل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله خطبته ، نزلت الآية الكريمة : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (١).

وهذه الآية تعني بكل صراحة ، بأن الاسلام لم يكن مكتملاً قبل إعلان رسول الله الولاية لعليّ وتعيينه خليفة له في واقعة الغدير ، وعلى الرغم من أن الرسول عيّن علياً خليفة له من قبل ، في مجلس محدود ضم بني هاشم فحسب ، أما في واقعة الغدير فقط أقام الحجة على عشرات الالوف من المسلمين وأمرهم بأن يبلّغوا الغائبين في هذه القضية الكبرى ، حتى لا يبقى عذر لأحد من المسلمين.

فلو كانت الولاية تعني النصرة والاخوّة كما يدّعي أهل السُنّة ، لما كانت بتلك الاهمية لتصبح مكمّلة للدين إلا إذا كانت تعني الحاكمية والاحقية بالنفوس والخلافة على الدين والدنيا كما هو واضح.

ويعد انتهاء الخطبة ، أمر رسول الله الحاضرين من الصحابة وغيرهم ، بتهنئة علي على الولاية والخلافة والامامة للمسلمين ، ثم وقف الصحابي والشاعر حسان بن ثابت

__________________

(١) المائدة ٣.

٣٨٥

وألقى قصيدة حول واقعة الغدير ، ومما قاله في حق علي : «فقال له قم يا علي فإنني ... رضيتك من بعدي إماماً وهادياً» (١) فهل تعني هذه الكلمات النصرة فقط ، أم تعني القيادة والزعامة والإمارة؟

وقد فهم علماء من أهل السُنّة والجماعة ، من أمثال ابن حجر الهيثمي في (الصواعق المحرقة) ، والحلبي في (السيرة الحلبية) ، ان ولاية عليّ هنا بمعنى الأوْلى بالامامة ولا تنسحب على النصرة فقط ، حيث يقول : سلّمنا انه أوْلى بالامامة ـ في الغدير ـ فالمراد : المآل ـ أي في حينها ـ وإلا كان عليّْ اماماً مع وجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان المراد حين يوجد عقد البيعة له ، فلا ينافي حينئذ تقديم الائمة الثلاثة عليه ، وبهذا تُحفظ كرامة السلف الصالح (٢) ، غير ان ابن حجر الهيثمي وفي سبيل تبرئة التيار الذي خالف وصايا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الخصوص ، وجعل الخلافة لغير عليّ ، زعم ان رسول الله حينما أوصى بالخلافة لعليّ من بعده ، إنما قصد أن يكون خليفة في حينها ، أي عندما يصبح في وقته ولياً للمسلمين ، لأنه لا يجوز أن يكون هناك وليان في وقت واحد ، أي النبي وعليّ حسب اعتقادهم.

ولام ناص من التعليق على هذا التعليل الذي يفتقر الى الموضوعية ، للأدلة التالية :

١ ـ إن خطاب الرسول في واقعة الغدير ، جاء بعد حجة الوداع ومهّد له بالتأكيد على انه سيموت بعد مدة وجيزة ، وعليه فهذا الخطاب النبوي هو بمثابة وصية منه لمن سوف يكون بعده ، مولىً للمسلمين وحاكماً عليهم ، فما الداعي للزعم بأن النبي يعني بولاية عليّ إنما ستكون في حينها ، أي بعد الخلفاء الثلاث ، وليس من بعده مباشرة صلى‌الله‌عليه‌وآله؟.

__________________

(١) نظم درر السمطين ـ الزرندي الحنفي : ١١٣.

(٢) الصواعق المحرقة ـ ابن حجر الهيثمي : ٤٤.

٣٨٦

٢ ـ إذا كان أهل السُنّة يجمعون على عدم استخلاف الرسول لأحد قبل موته ، وإنما ترك المسلمين يختارون الخليفة من بعده ، فلماذا استثنى علياً من ذلك ، وعيّنه خليفة ولكن في حينه على حد قول ابن حجر الهيثمي؟.

٣ ـ أليس من الأنسب لرسول الله ، أن يعين أبا بكر في واقعة الغدير كخليفة يأتي من بعده مباشرة ، لا أن يقفز على الخلفاء الثلاث ، ويعيّن الخليفة الرابع ، ويؤكد عليه ويهتم به ذلك الاهتمام كما يعتقد ابن حجر الهيثمي وامثاله.

٤ ـ كيف يكون الخلفاء الثلاث الاوائل أفضل من علي في ترتيب الجمهور؟ في حين لم يهتم بهم رسول الله كما اهتم بعلي ذلك الاهتمام لتهنئته بالولاية في وقت لم تكن هناك خطوة مماثلة لرسول الله في حق الخليفة الأول والثاني والثالث ، مع انهم سبقوا علياً في الحكم؟ وكان الأجدر بالرسول ـ لو كانوا أعظم درجة من عليّ ـ أن يشير إليهم وهو على وشك الرحيل إلى عالم الآخرة ، ويؤكد على الأمّة ، وجوب موالاتهم.

وهكذا يتهافت كل تفسير أو تحليل لصرف واقعة الغدير عن مدلولها الحقيقي ، وهو إعلان رسول الله لولاية علي بن أبي طالب على الأمّة الاسلامية بعده مباشرة.

بل وكل القرائن التي سبقت وصاحبت حادثة الغدير تدل على أن النبي الأكرم قد نصّب علياً خليفة وإماماً وحاكماً مطلقاً على المسلمين باعتبار ولايته وحاكميته على المسلمين كحاكميته وولايته صلى‌الله‌عليه‌وآله.

عليّ والحاكمية المطلقة

ثم لو تمعنّا قليلاً في حيثيات حديث الغدير ، والاحاديث النبوية الأخرى التي تشير الى ولاية عليّ المعيّنة من قبل الله تعالى عبر رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يتضح لدينا أن المراد

٣٨٧

من تلك الولاية هي الاحقية بالأنفس والحاكمية المطلقة على نفوس المسلمين وإمامته عليهم ولا يمكن تفسيرها بالنصرة والأخوّة والصداقة وما إلى ذلك ، لأن هذه المعاني والتأويلات لا تتفق والاشارات الواضحة لتلك الاحاديث التي تمنح ولاية عليّ ، قداسة كبرى بحيث تربطها بولاية الرسول وولاية الله سبحانه وتعالى ، وإن الذي لا يتولى علياً فليس بمؤمن قطعاً ، حيث يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله : أوصي من آمن بي وصدّقني بولاية علي بن أبي طالب ، فمن تولّاه فقد تولّاني ، ومن تولاني فقد تولّى الله تعالى (١) ، وعلي وليّ كل مؤمن بعدي (٢).

وكان الخليفة الأول أبو بكر والخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، يفتخران بولاية علي بن أبي طالب ، فهما اللذان قالا له غداة حادثة الغدير : أمسيت يا بن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمنة (٣).

وطالما قال الخليفة عمر لعليّ : يا بن أبي طالب ، أصبحت اليوم ولي كل مؤمن ومؤمنة (٤) ، وعلي مولاي ، ومولى كل مؤمن ، ومن لم يكن مولاه فليس بمؤمن (٥) ، وقال عمر حين اختصم إليه اعرابيان ، فالتمس من علي القضاء بينهما ، فقال أحدهما : هذا يقضي بيننا ، فوثب إليه عمر وأخذ تلابيبه ، قائلاً : ويحك ما تدري من هذا؟ هذا مولاك ومولى كل مؤمن ، ومن لم يكن مولاه فليس بمؤمن (٦).

__________________

(١) مجمع الزوائد ـ الهيثمي ٩ : ١٠٨ ؛ مناقب علي بن ابي طالب ـ ابن المغازلي : ١٩١.

(٢) السنن الكبرى ـ النسائي ٥ : ١٣٢.

(٣) تفسير الثعلبي ٤ : ٩٢ ؛ تفير الآلوسي٦ : ١٩٤.

(٤) سير اعلام النبلاء ـ الذهبي ٣٢٨ : ١٩.

(٥) الصواعق المحرقة ـ ابن حجر الهيثمي : ١٧٩.

(٦) ذخائر العقبى ـ الطبري : ٦٨.

٣٨٨

تواتر حديث الغدير

كنّا ـ كما قلنا آنفاًـ نعتقد ، بعد أن اطّلعنا على حادثة الغدير وتفاصيلها ، أنها قضية تأريخية منسيّة لا ترقى الى حد الصحة والتواتر ، ولذلك سعى أهل السُنّة والجماعة الى تناسيها وعدم الالتفات اليها ، إلا اننا بعد أن حققنا في الحادثة تأريخياً ـ توصلت إلى انها حقيقة ناصعة ، كانوا معتمدين في إستغفالها حتى لا يتساءل الجمهور عن حيثياتها وحقيقتها وما تؤدي اليه من زعزعة لقناعاتهم وعقائدهم حول الخلافة والامامة.

وأما مدى صحة هذه الواقعة على المستوى التأريخي ، فإن بحثنا أوصلنا إلى أنها حقيقة تأريخية ناصعة لا يمكن الاستخفاف بها أو إغفالها أو التنكّر لها.

فقد نقلها صاحب الفتاوى الحامدية في كتابه : «الصلوات الفاخرة في الاحاديث المتواترة» باعتبارها حديثاً متواتراً مقطوعاً به ، وكذلك كل من : السيوطي ، ابن جرير الطبري ، أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة ، الذهبي ، حيث أعلنوا تواتر حديث الغدير وتصدّوا لطرقه ، فأفرد له كل منهم كتاباً على حدة. وقد أخرجه ابن جرير في كتابه «الولاية» من مئة وخمسة طرق ، والذهبي صحّح كثيراً من طرقه.

ونقل السيوطي الحديث في أحوال عليّ عن الترمذي ، ثم قال : وأخرجه أحمد بن علي ، وأبو أيوب الانصاري ، وزيد بن أرقم ، وعمر ، وأبو يعلى عن أبي هريرة ، والطبراني عن ابن عمر ، ومالك بن الحويرث ، وحبشي بن جنادة ، وجرير ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبي سعيد الخدري ، وأنس ، والبزار عن ابن عباس وعمارة وبريدة (١).

أما الامام أحمد بن حنبل فقد أخرج حديث الغدير عن عبد الله بن عباس

__________________

(١) تأريخ الخلفاء ـ السيوطي : ١٦٨.

٣٨٩

والصحابي البراء بن عازب (١) ، وحديث الولاية نقله الكثير من علماء الجمهور الكبار (٢).

خشية رسول الله من ردود الافعال

وهكذا بعد التتبع والتحقيق ، توصلنا إلى أن حادثة الغدير ، لا يرقى إليها شك ، وكان الهدف منها تعيين عليّ بن ابي طالب خليفة لرسول الله ، وحاكماً على الأمّة ، وليس تأكيد الرسول وجوب نصرته من قبل المسلمين كما يدعي البعض ، وذلك لأن كل المؤشرات والمجريات التي رافقت الواقعة منذ بدايتها وحتى نهايتها تدل على ذلك : حجة الوداع ، قرار رسول الله بالتوقف عند منطقة غدير خم التي تمثّل مفترق القوافل العائدة من الحج ، لكي تتفرّق من هناك ، أمره بالأذان والصلاة جماعة ، تنبيه الحاضرين بقرب وفاته ، كما هو نهج الأنبياء ، تذكيره بأهل بيته وضرورة اتّباعهم ، تأكيده على انه مولى المسلمين والأحق بنفوسهم ، وان ولاية علي كولايته على الأمّة بعد أن رفع علياً ليراه كل الحضور ، دعوة الناس إلى إقامة مجلس تهنئة لكي يقوم الحجّاج العائدون بتهنئة عليّ على الولاية ، اعتبار رسول الله ذلك اليوم من أكبر الاعياد ، وأن الصيام فيه يعدل صيام ٦٠ شهراً (٣).

وكان الرسول قد تردّد في الافصاح عن الولاية لعلي في واقعة الغدير ، خشية من

__________________

(١) مسند احمد ٥ : ٣٤٧ و٤ : ٢٨١.

(٢) سنن ابن ماجة ١ : ٤٥ ؛ سنن الترمذي ٥ : ٢٩٧ ؛ السنن الكبرى ـ النسائي ٥ : ١٣٠ ـ ١٣١ ؛ مسند احمد ٤ : ٢٨١.

(٣) تأريخ بغداد ـ الخطيب البغدادي ٨ : ٢٨٤.

٣٩٠

ردود أفعال الصحابة وإثارة حفيظتهم على هذا القرار ، فنزلت الآية المذكورة التي دعت رسول الله إلى تبليغ ما أنزل إليه من ربّه وان الله عاصمه وحاميه من الناس وغضبهم على قراره الحاسم في عليّ وإلا لم يبلّغ رسالته ، وبعد أن أنجز المهمة الالهية ، نزلت آية إكمال الدين وإتمام النعمة بولاية عليّ على الأمّة.

فهل من المعقول ان الله ورسوله أرادا بكل هذه الاجراءات والمراسيم والشعائر المقدسة ، تنبيه الأمّة بوجوب نصرة علي واحترامه وعدم معاداته ، بعد أن سخط عليه بعض الصحابة المرافقين له في رحلة اليمن؟

وهل هناك عاقل من ذوي النهي ، يصدّق نظرية الجمهور حول حادثة الغدير التي يُفرغونها من مضمونها الحقيقي الذي يتمثل في تعيين عليّ خليفة لرسول الله بأعذار وذرائع وحجج واهية؟

فلو كانت القضية تنحصر بنصرة علي فحسب ، فلِمَ أضفى رسول الله قداسة على يوم ١٨ذي الحجة بحيث جعل صيامه يعادل صوم ٦٠ شهراً؟ أو أمر الحاضرين بإجراء مراسيم احتفال لتهنئة علي بالولاية؟ بل ولِمَ أمر الله رسوله بتنفيذ تلك المهمة التأريخية وطمأنته بأنه سوف يعصمه من سخط الناس؟ وأخيراً لِمَ ختم الله الاسلام وأكمله بهذا الإجراء؟

ولاشك أن مجرّد دعوة الرسول المسلمين لنصرة علي بن أبي طالب وعدم معاداته وخذلانه ، لا تستوجب كل هذه الاجراءات والخطوات المتعددة من قبله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو خشيته من رد فعل الجماهير الغاضبة؟ فالنصرة ـ بالطبع ـ غير الخلافة التي يطمع بها كل مشرئب الرأس لتولّي حكم المسلمين؟

ولإقامة الحجة على الصحابة الذين كانوا حاضرين في يوم الغدير ، ناشد عليّ بن أبي طالب عندما كان خليفة وهو في رحبة الكوفة ، كل امرئ سمع رسول الله يوم

٣٩١

الغدير وهو يخطب في الناس وقال ما قاله في حقه ، وكان العشرات من الصحابة حاضرين في الرحبة ، فقام بضعة عشر صحابياً فشهدوا انهم سمعوا رسول الله بعد حجة الوداع في غدير خم وهو يقول : ألست أني أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : من كنت مولاه فإن هذا مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأحب من أحبه ، وابغض من بغضه ، وأعن من أعانه.

وكان عليّ قد دعا على من كان حاضراً في غدير خم وكتم شهادته ، أن تصيبه البيضاء ، وبالفعل فإن دعاءه أصاب الصحابي الكبير زيد بن أرقم الذي كتم شهادته ، وقال : كنت فيمن كتم فذهب بصري وكان عليّ دعا على من كتم (١).

وهذا دليل آخر على أن الكثير من الصحابة الذين كانوا حضوراً في يوم الغدير ، لم يرق لهم الإقرار والإفصاح عما قاله رسول الله في حق علي حول ولايته وخلافته على المسلمين ، ولذلك كتموا شهادتهم حتى بعد مرور عشرات الاعوام على تلك الحادثة العظيمة.

وقد يتساءل المرء: على فرض ان رسول الله «عليه الصلاة والسلام» كان هدفه في ذلك المشهد العظيم يوم غدير خم ، هو دعوة المسلمين إلى نصرة عليّ وعدم معاداته ، فهل نفَّذ المسلمون هذا المطلب النبوي ورعوه حق رعايته؟ بالطبع ان الكثير من الصحابة والمسلمين لم يمتثلوا للأمر الالهي النبوي ، وإلا فلِمَ شن عليه طلحة والزبير وعائشة ومعهم جملة من الصحابة ، حرب الجمل في وقت كان يجب عليهم نصرته وقد بايعه جلّ المهاجرين والأنصار؟ وكذلك معاوية وعمرو بن العاص وغيرهما الذين حاربوه في معركة صفين؟ فهل هذه هي النصرة والموالاة في منطق هؤلاء؟

__________________

(١) مجمع الزوائد ـ الهيثمي ٩ : ١٠٦.

٣٩٢

حديث الغدير بين الوهم ... والحقيقة

كدْنا نطوي صفحة هذا الموضوع بعد أن تأكدنا من أن حادثة الغدير ، حقيقة تأريخية لا يحق لاحد الشك في وجودها أو الطعن في صحتها ، بيد ان بعض علماء الجمهور ، كشيخ الإسلام «ابن تيمية» الذي ضعّف الحديث بشطره الأول ، وحكم على شطره الثاني بالكذب (١) ، دفعنا إلى مضاعفة جهودنا واهتماماتنا في هذا الموضوع الخطير الذي يمسّ مصير الأمّة بكاملها ، ولذا عُدْنا نقلّب صفحات التأريخ مجدداً لكي نستجلي الحقيقة ، وننفي أي ادعاء يحاول التشكيك فيها سعياً لطمس أثر تأريخي محفور في ذاكرة الزمن ، وحاضر في ضمير الوجدان الإنساني ، لا لشيء إلا لأنه لا ينسجم وموقفه الشاذ من عليّ بن أبي طالب.

وانبهرنا مرّة أخرى عندما عرفنا أن الالباني ـ وهو من اكبر علماء الجمهور ـ أثبت في كتاب (سلسلة الاحاديث الصحيحة) ، أن حديث الغدير ، متواتر بشطره الأول ، وصحيح بشطره الثاني ، متّهماً ابن تيمية بالتسرّع في تضعيفه.

وقال الذهبي بأنه لما بلغ ابن جرير الطبري ان أبي داود تكلم في حديث غدير خم ، عمل كتاب الفضائل ، وتكلّم في تصحيح الحديث ، وقد رأى مجلّداً في طرق الحديث للطبري ، فاندهش له ولكثرة الطرق (٢).

ولذلك قال الذهبي صاحب «سير أعلام النبلاء» عن حديث الغدير بأنه حسن وعال جداً ومتنه متواتر (٣).

__________________

(١) مجموعة الفتاوى ـ ابن تيمية ٤ : ٤١٧ ـ ٤١٨.

(٢) تذكرة الحفاظ ـ الذهبي ٢ : ٧١٣.

(٣) سير اعلام النبلاء ـ الذهبي ٨ : ٣٣٥.

٣٩٣

وحديث الغدير عند ابن حجر العسقلاني ، كثير الطرق جداً وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب منفرد ، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان ، وهذا الحديث أخرجه الترمذي والنسائي ، كما جمعه ابن جرير الطبري في مؤلف فيه اضعاف مَنْ ذَكَر (ابن عبد البر) وصحّحه ، وعني بجمع طرقه أبو العباس بن عقدة فأخرجه من حديث سبعين صحابياً أو أكثر (١).

ويرى ابن حجر الهيثمي بأن حديث الغدير صحيح لا مرية فيه ، قد أخرجه جماعة كالترمذي والنسائي وأحمد ، وطرقه كثيرة جداً ، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان ، ولا إلتفات لمن قدح في صحته ، ولا من ردّه ، وقول بعضهم ان زيادة «اللهم وال من والاه ... الخ» موضوعة ، مردود ، فقد ورد ذلك من طرق صحّح الذهبي كثيراً منها (٢).

وفي اعتقاد الحلبي : وقول بعضهم ان زيادة اللهم وال من والاه إلى آخره ، موضوعة ، مردود فقد ورط ذلك من طرق صحّح الذهبي كثيراً منها (٣).

وقد أدلى صاحب خصائص الامام عليّ دلوه في قضية حديث الغدير حيث صحّحه ، وأن تكذيب ابن تيمية للحديث ، مخالف للقواعد الحديثية ، وقد تبعه في ذلك محمد خليل هراس الذي قال ان الحديث غير صحيح ، ويشبه أن يكون من وضع الشيعة ، بينما قال الحافظ الذهبي : الحديث ثابت بلا ريب (٤).

وبخصوص آية التبليغ ، ونزولها في واقعة الغدير ، وقضية تعيين الرسول الولاية لعلي ، فقد ذكر ذلك الكثير من المؤرخين ، منهم العلامة الآمرتسري ، وعلي بن شهاب

__________________

(١) تهذيب التهذيب ـ ابن حجر ٧ : ٢٩٧.

(٢) تأريخ الاسلام ـ الذهبي ٣ : ٦٢٨ ـ ٦٣٤.

(٣) السيرة الحلبية ـ الحلبي ٣ : ٣٣٦.

(٤) سير اعلام النبلاء ـ الذهبي ٥ : ٤١٥.

٣٩٤

الهمداني ، والحاكم الحسكاني ، والفخر الرازي ، وأبو نعيم الاصفهاني ، والشوكاني الذي نقل عن عبد الله بن مسعود أنه قال : كنا نقرأ على عهد رسول الله : يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك ان علياً مولى المؤمنين ، وان لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من الناس (١).

إذاً ، حادثة الغدير ، حقيقة تأريخية مؤكدة ، لا يشكك بوجودها أو ينكر حدوثها إلا مرضى القلوب ، الذين لا يروق لهم رؤية رسول الله وهو يوصي الأمة بعليّ ووجوب موالاته ونصرته وعدم خذلانه ، ولذلك عملوا ما في وسعهم لتكذيبها بالرغم من انها كالشمس في رائعة النهار.

أما قول بعض المؤرخين بأن واقعد الغدير إنما جرت لازالة الجفوة التي حصلت بين بعض الصحابة وعلي بن أبي طالب في اليمن حيث كان يقود جيشاً من أهل المدينة ، مبعوثاً من قبل رسول الله ، فحدثت مشادة بين علي وبعض الصحابة الذين أرادوا استعمال إبل الصدقة ، ورفض علي استعمالها لأنها ملك كل المسلمين ، ما أدّى إلى غضب بعض الصحابة على عليّ وشكوه إلى رسول الله في المدينة ، فغضب عليهم الرسول ، وأنّبهم على كلامهم في عليّ ، إلى حد أن ضرب على فخذ أبي سعيد الخدري الذي قال في نفسه : ثكلتك أمك يا سعد الا تراني كنت فيما يكره علياً منذ ذلك اليوم ، وما أدري لاجرم والله لا أذكره بسوء أبداً سراً ولا علانية (٢) ، فإنما هي اعترافات تدلّ على مدى حرص رسول الله على تحذير الصحابة من المساس بعليّ وانتقاصه مهما كانت مواقفه منهم ، وهي : دلالة واضحة جداً على أن لعليّ مكانة عند رسول الله دون

__________________

(١) فتح القدير ـ الشوكاني ٢ : ٦٠.

(٢) دلائل النبوة ـ البيهقي ٥ : ٣٩٩.

٣٩٥

الصحابة الآخرين الذين دائماً ما يغضب بعضهم على بعض أو يتشاتمون أو ينتقد بعضهم بعضاً ، ومع ذلك لم يدافع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أحدهم أو يذود عنه كما ذاد ودافع عن عليّ ، بحيث ان أبا سعد الخدري قرّر عدم ذكر عليّ بسوء في سره وعلانيته ، لِما كان من تعظيم النبي لعلي بن أبي طالب؟ وإذا كان الأمر كذلك ، فلماذا قامت قيامة الكثير من الصحابة بعد وفاة الرسول على النيل من عليّ والتضييق عليه ومحاربته بالقول والفعل ، وشن الحروب ضده ولعنه صباحاً ومساءً ، بالرغم من دفاع الرسول عنه في حديث الغدير وغيره ، أليس هذا دليلاً على مدى حقد وضغينة الكثير من الصحابة على الذي عينه رسول الله مولى لكل المسلمين ، سواء كان مصطلح المولى ينص على الحاكمية على النفوس أو النصرة على اقل التقادير؟ وهي خيانة صريحة لله ولرسوله قبل أن تكون خيانة لعلي بن أبي طالب!!

وفي أثناء تتبعنا لقضية الغدير ومجرياتها ، خطر في ذهننا سؤال ملحّ مفاده : إذا كان آلاف الصحابة قد شهدوا واقعة الغدير ، واستوعبوا خطاب النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بخصوص ولاية عليّ للأمّة ، فلِمَ لم يرو حديث الغدير سوى عشرات ، من الصحابة ، أوصلهم بعض الباحثين إلى أكثر من مئة صحابي؟ فلماذا سكت الباقون ولم يشيروا أو يؤكدوا هذه الحقيقة ، بناء على أمر رسول الله بأن يبلغ الشاهد منهم الغائب ، بما سمعه من وصايا بحق عليّ بن أبي طالب؟

لكننا سرعان ما استنتجنا بأن الصحابة الذين كتموا هذه الواقعة ، وتستّروا عليها ، كانوا بين حاسد لعلي وحاقد علي هلما يتمتع به من مكانة سامية لدى الله ورسوله ، وبين خائف يخشى سطوة السلطان ووسائله القمعية ، ويُنقل عن زياد بن المنذر بأنه كان عند أبي جعفر محمد بن علي وهو يحدّث الناس ، إذ قام إليه رجل من أهل البصرة ، يُقال له : عثمان الأعشر ـ كان يروي عن الفقيه الحسن البصري ـ فقال له : يا ابن رسول الله

٣٩٦

جعلني الله فِداك ، ان الحسن البصري يخبرنا أن هذه الآية نزلت بسبب رجل ، ولا يخبرنا مَنْ الرجل : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ... (١) ، فقال : لو أراد أن يخبر به لأخبر به ، ولكنه يخاف ، إن جبرئيل هبط على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له : ان الله يأمرك أن تدلّ أمّتك على صلاتهم ، فدلهم عليها ، ثم هبط على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليأمره أن يدلّ الأمّة على الزكاة ... ثم الصيام ... ثم الحج .. ثم هبط فقال : إن الله يأمرك أن تدلّ على وليهم على مثل ما دللتهم عليه من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم وحجّهم ، ليلزمهم الحجة في جميع ذلك ، فقال رسول الله : يا رب ، إن قومي قريبو عهد بالجاهلية ، وفيهم تنافس وفخر ، وما منهم رجل إلا وقد وتره وليّهم ، واني أخاف ، فأنزل الله تعالى : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ... (٢) فلما ضمن الله له العصمة وخوّفه ، أخذ بيد عليّ ثم قال : يا أيها الناس من كنت مولاه ... إلى وابغض من بغضه (٣).

وهذا النموذج وحده يكفي للتدليل على مدى الخوف من الإفصاح عن اسم عليّ في هذه الواقعة والآية التي نزلت بحقه ، إلا بعض الصحابة والتابعين الذين كانت لديهم جرأة في تبيان حقيقة واقعة الغدير وما اختصت به من ولاية عليّ على الأمّة جمعاء. وهؤلاء الصحابة الذين أفصحوا بهذه الحقيقة الخافية ، إنما جهروا بها في عهد خلافة عليّ بن ابي طالب ، حيث لا يهابون سلطان او حاكم مستبد.

بلى ، ان علياً أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم كما ان رسول الله أولى بهم من أنفسهم ، ويتفق علماء ومفسرو القرآن من أهل السُنّة والجماعة على أن المولى معناه الأولى بكم ،

__________________

(١) المائدة ٦٧.

(٢) المائدة ٦٧.

(٣) شواهد التنزيل ـ الحاكم الحسكاني ١ : ٢٥٥.

٣٩٧

وذلك في قوله تعالى : مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ (١) (٢).

أما قوله تعالى : النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ (٣) فيتفقون أيضاً على أنه الأوْلى من النفس في الأمور كلها ، لأن رسول الله لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم بخلاف النفس ، فيجب على المسلمين أن يكون النبي أحب إليهم من أنفسهم ، وأمره أنفذ عليهم من أمرها ، والنبي أحق بهم في كل شيء من أمور الدين والدنيا ، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها ، فعليهم أن يبذلوها دونه ، ويجعلوها فداءه ، وهو دليل على ان من لم يكن الرسول أولى به من نفس فليس من المؤمنين ، وهذه الاولوية تتضمن أن يكون النبي أحب إلى العبد من نفسه ، ويلزم من هذه الاولوية والمحبة ، كمال الانقياد والطاعة والرضا والتسليم لأمره ، وايثاره على ما سواه ، وأن لا يكون للعبد حكم على نفسه أصلاً ، بل الحكم على نفسه للرسول ، فليس له في نفسه تصرف قطِ الا ما تصرّف فيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي من حقوقها ، وأن يبذل المسلمون نفوسهم دون نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا اعضل خطب ، ووقاءه إذا لقحت حرب ، وأن لا يتبعوا ما تدعوهم إليه نفوسهم ولا ما تصرفهم عنه ، لأن كل ما دعاهم إليه ، فهو إرشاد لهم إلى نيل النجاة والظفر بسعادة الدارين ، وما صرفه عنه لئلا يتهافتوا فيما يرمي بهم إلى الشقاوة وعذاب النار ، فالنفس أمّارة بالسوء ، فقد تجهل بعض المصالح وتخفى عليها بعض المنافع ، ولذلك فنفس الرسول أولى بهم من كل الناس ،

__________________

(١) الحديد ١٥.

(٢) تفسير البغوي ٤ : ٢٩٧ ؛ تفسير الرازي ٢٩ : ٢٧٧ ؛ تفسير البيضاوي ٥ : ١٨٧.

(٣) الأحزاب ٦.

٣٩٨

وأولويته صلى‌الله‌عليه‌وآله في جميع الأمور ويجب على المسلمين أن يطيعوا رسول الله فوق طاعتهم لأنفسهم ، ويقدّموا طاعته على ما تميل إليه أنفسهم (١).

الرسول أحق بأن يختار ما دعا إليه من غيره ومما تدعوه إليه أنفهسم ، وان النبي أحق أن يحكم في الانسان بما لا يحكم به في نفسه لوجوب طاعته لأنها مقرونة بطاعة الله تعالى. وإذا دعاهم النبي إلى شيء ودعتهم أنفسهم إلى شيء ، كانت طاعة النبي أولى ، وللرسول أن يحكم فيهم بما يشاء ، لأن أنفسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم والرسول يدعوه إلى ما فيه نجاتهم.

ولذا فإن النبي أوْلى من بعضهم ببعض في نفوذ حكمه فيهم ووجوب طاعته عليهم ، ألم يقل رسول الله : ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة؟ (٢).

ولما كان علي مولى لكل من كان رسول الله مولاه ، فيعني أن علياً أولى بنفس كل من رسول الله أولى بنفسه وبذلك تنتقل كل صلاحيات الرسول وأولويته لنفوس المسلمين ، إلى عليّ بداهة ، فيصبح عليّ حاكماً على نفوس المسلمين بأمرهم ، وعليهم أن يطيعوه في كل الأمور ، وبذلك تتضح خلافة عليّ وإمامته للأمّة جمعاء.

ويؤكد هذا الاستنتاج ، قول سبط ابن الجوزي بأن لفظة المولى في العربية ترد على ووجوه ، ومنها المولى المطلق ، وفي الصحاح : كل من ولي أمر أحد فهو وليه ، وأهم معنى لها هو الأوْلى بكم ، وإذا ثبت هذا ل م يجزْ حمل لفظة المولى في هذا الحديث على مالك الرق ، ولا على المُعتِق ولا على المُعتق ، ولا على الناصر لأن علياً كان ينصر من ينصره رسول الله ، ويخذل من يخذله ، ولا على ابن العم لأنه كان ابن عمه ، ولا على الحليف

__________________

(١) احكام القرآن ـ الجصاص ٣ : ٤٦٤ ـ ٤٦٥ ؛ تفسير البغوي ٥٠٧ : ٣.

(٢) فتاوى السبكي ٢ : ٢٣٢ ؛ نيل الاوطار ـ الشوكاني ٦ : ١٧٢.

٣٩٩

لأن الحلف يكون بين الغرماء للتعاضد والتناصر ، وهذا المعنى موجود فيه ، ولا على الجار ، ولا على السيد المُطاع ، لأنه كان مطيعاً له يقيه بنفسه ، ويجاهد بين يديه ، والمراد من الحديث ، الطاعة المحضة المخصوصة ، فتعيّن الوجه العاشر وهو الأولى ، ومعناه من كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به ، وقد صرح بهذا المعنى ، الحافظ أبو الفرج يحيى بن السعيد الاصبهاني في كتابه المسمى بمرج البحرين ، فإنه روى هذا الحديث باسناده إلى مشايخه ، وقال فيه : فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بيد علي فقال : من كنت وليه وأولى به من نفسه ، فعلي وليه ، فعلم ان جميع المعاني راجعة إلى الوجه العاشر ، ودلّ عليه أيضاً قوله : ألست أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم ، وهذا نص صريح في إثبات إمامته وقبول طاعته ، وكذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وأدر الحق معه حيث دار وكيف دار ، فيه دليل على أنه ما جرى خلاف بين عليّ وأحد من الصحابة إلا والحق مع عليّ ، وهذا إجماع الأمّة ، ألا نرى أن العلماء إنما استنبطوا أحكام البغاة من وقعة الجمل وصفين.

ويقول محمد بن طلحة الشافعي : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من كنت مولاه فعلي مولاه ...» في حجة الوداع ، في غدير ، فسمي ذلك اليوم غدير خم ، وصار ذلك اليوم عيداً وموسماً لكونه وقتاً خصّ فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله علياً بهذه المنزلة العلية ، شرّفه فيها دون الناس كلهم (١).

ونقل الواحدي في كتابه (أسباب النزول) عن أبي سعيد الخدري انه قال : نزلت هذه الآية : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّـهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (٢) يوم غدير خم في علي ... فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من كنت مولاه

__________________

(١) مطالب السؤول ـ محمد بن طلحة الشافعي : ٩٤.

(٢) المائدة ٦٧.

٤٠٠