بحث حول الخلافة والخلفاء

منيب الهاشمي

بحث حول الخلافة والخلفاء

المؤلف:

منيب الهاشمي


المحقق: زينب الوائلي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٢

خلاصة وختام المرحلة الثانية ونتائجها

إن ما توصّلنا إليه من نتائج وقناعات وحقائق عن المذاهب السُنّية ، تختلف عن النظرية السُنّية المطروحة على الملأ العام المسلم سواء في العصور المتقدّمة أو المتأخرة.

حقيقة مذهب أهل السُنّة والجماعة :

* إيمان الجمهور السُنّي بأن لله جسماً وأعضاء فهم «مجسّمة» ، وإن ادّعى جهابذتهم بأنهم من أهل «التنزيه» وذلك لإقرارهم بأن الله وإن لا يُرى في الدنيا ، ولكنّه يُرى في الآخرة من قبل أهل الجنة ، وذلك خلاف المنطق القرآني والعقلي.

* يعتقد الكير من أهل السُنّة والجماعة بأن القرآن الكريم تعرّض للنقص والزيادة والتحريف حسب تأكيد كتب الصحاح والسُنن والمسانيد.

* الرسول الاكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدرسة السُنّية ، ليس معصوماً في الواقع ، فهو يخطأ ويرتكب الزلل ويمَسّه الشيطان ويُمارس أفعالاً مُشينة ومُخلّة بالأدب والأخلاق.

* يرتكب بعض الصحابة القبائح والكبائر ويعصون الرسول ويفرّون من الزحف والقتال ويُحارب بعضهم بعضاً وغير ذلك من الفعال والممارسات الممقوتة ،

٣٦١

ولم يكونوا بالمستوى اللائق لحمل السُنّة النبوية ، وليس كما تدّعي النظرية السُنّية بعدالتهم أجمعين.

* طبق الاطروحة السُنّية ، تم تدوين الحديث النبوي بعد القرن الأول من الهجرة ، لأن السُنّة النبوية كانت في صدور الرجال ، ولم تُدوَّن إلا في أواخر العهد الأموي وأوائل العهد العبّاسي حيث انبرى أصحاب السُنن والمسانيد في التدوين بإشارة من الحكأم والسلاطين.

* الخلفاء الذين جاءوا بعد وفاة الرسول ، وبالأخص الأول والثاني والثالث ، لم يكونوا كما يصفهم أهل السُنّة والجماعة ، بالقمّة في العلم والأخلاق والسير وفق المنهج النبوي ، بل كانوا يفتقرون في الكثير من الاحوال للعلم والاطّلاع على الأحكام والسُنن النبوية ، بل وكانوا في بعض الأحيان يفتون حسب أذواقهم الشخصية ويمرّرون الأحكام والقوانين التي تتوافق وسياستهم في الحُكْم ، بالرغم من تصادمها مع الشريعة الاسلامية والأوامر القرآنية والنبوية ، بل وان أحكامهم وسياساتهم تتصادم فيما بينها في كثير من الأحيان.

* مذاهب أهل السُنّة والجماعة ، وخاصة المذاهب الأربعة ، لم تكن في الحقيقة مذاهب في البداية ، وانما كان اصحابها فقهاء مجتهدين ، وضعوا قواعد أصولية وفقهية ، ونصحوا تلامذتهم على الاجتهاد أيضاً والتحرّر من التبعية الفقهية ، وكان أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم ، يقرّون بخطئهم وان أحكامهم وفتاواهم قابلة للنقد ، لكن أتباعهم وتلامذتهم حوّلوا فقهم الى مدارس فقهية والى مذاهب فيما بعد ، بدفع من الحُكّام الذين نصَّبوهم قضاة وموظفين في البلاط ، ولم يكن أتباع تلك المذاهب وأنصارها على وفاق دائماً ، وانما كانوا يتصارعون ويتلاعنون ، وفي بعض الأحيان يتقاتلون وتسيل الدماء

٣٦٢

من جراء تلك الصراعات.

* لم يكن القرآن الكريم ولا النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد رضيا بالاختلافات الفقهية أو في الفروع دون الاصول والاعتقادات ، وما حصل في القرون الأولى ، هو نشوب اختلافات وصراعات ليس في الجانب الفقهي فقط ، وانما طالت الشقاقات والاختلافات ، القضايا والمسائل الاعتقادية ايضاً.

* عند قراءة الصحاح والسُنن المعتبرة ، وخاصة صحيحي البخاري ومسلم اللذين يُعتبران عند أهل السُنّة والجماعة ، أفضل الصحاح ـ إطلاقاً ـ ولا يتطرق اليهما الشك والطعن ، والإدعاء بأنهما مقطوع بصحتهما ، نجد ان هذه الرؤى ما هي إلا إفتراضات تفتقر الى الدليل ، وانما يقف أبرز علماء أهل السُنّة والجماعة ، موقف النقد والتجريح بحق الصحيحين ، وهذا ما يزيل عنهما إطار القداسة التي فرضها حلولهما علماء سُنّة لكي لا يقدح فيها أحد.

٣٦٣

رحلة بحث عن الحقيقة الغائبة

بعد جولتنا المفصّلة في مدرسة الخلفاء والجمهور ، وما لقينا فيها من مفاجآت لم تكن في الحسبان ، نظراً لكون ثقافتنا السابقة ، كانت سطحية عن هذه مدرسة الجمهور حيث لم نكن موفقين للإطلاع ـ بعمق ـ على التفاصيل الدقيقة ، والحقائق الناصعة عن أصول ومباني نظرية أهل السُنّة والجماعة.

واليوم ـ بحمد الله ـ صرنا مطمئنين بأن ما نشأنا عليه من ركائز وقناعات وتصورات عن مدرسة الخلفاء ، قد تلاشت بفعل الحقائق التي اكتشفناها من خلال التوغل في هذه المدرسة بحيث تغيّرت قناعاتنا السابقة ، وأصبحنا أكثر وعياً وتصميماً على المضي في البحث عن الحقيقة الكبرى ، أو اللغز المحيّر الذي أدى إلى تمذهب الاسلام ، وتوزّع أتباعه إلى مذاهب وطوائف متناحرة ، أفضت في آخر المطاف ، إلى أن تصبح الأمّة الاسلامية ، أذل الامم وأحطّها من حيث القوة والتماسك والتقدم التقني والاقتصادي.

هذه الأمّة التي وصفها القرآن الكريم بأنها خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ (١). وإذا بها تتردّى إلى هذا المنعطف الخطير.

__________________

(١) آل عمران ١١٠.

٣٦٤

البداية ... البعثة المظفرة

من الغريب أن يصرّ البعض على أن لا يصلح آخر الأمّة إلا بما صلح أولها ... (١) وتساؤلنا الوجيه : لو صلح أول الأمّة ، وسارت على الصلاح والاستقامة ، لما آلت أمورها إلى هذا المنعطف الخطير؟ فلابد أن نتحرّى عن العوامل التأريخية لهذا الانحطاط ، فالاسلام كان من المفروض أن يعمّ كل أرجاء المعمورة ... فلِمَ توقّف وانحسرت شركته ، وأصبحت أمّته مطمع كل الأعداء الذين يفترسون أشلاءها من كل جهة.

ومه كل هذه الهواجس التي انتابتنا ، قرّرنا المضي في كشف كل الاوراق والسجلات الخفية مهما كانت ضخمة ويعلوها الصدأ وتغطّيها الأثرية ، لأننا ومنذ اللحظة التي قرّرنا فيها توخّي الحقيقة مهما كانت صعبة ومؤلمة ، صرنا لا يعمني كل مقدّس حتى يثبت لنا بالشواهد والأدلة الدامغة ، أنه حقاً مقدس ، لا كما تعلّمناها من الآباء والاجداد الذين ربما كانوا مخطئين في حساباتهم وقناعاتهم التي ورثوها عن أجدادهم.

قمنا بالقراءة والتحليل مجدّداً ، وتصفحنا التأريخ بإمعان ، بلا انحياز إلى هذا المذهب أو ذاك ، او الى هذه الفرقة او تلك ... فتوصلنا إلى حقائق مذهلة ورهيبة ، ونتائج باهرة ، فعزمنا على تدوينها لكي ينتفع بها المسلمون الباحثون عن الحقيقة ، وهم أحرار في الحكم على التأريخ ، لكن الحقيقة الكبرى تبقى كالشمس الساطعة ، وليس لنا ولا للآخرين أن يغطّوها بأكفهم مهما حاولوا ـ إمعاناً في تقليد الآباء والأجداد.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّـهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ

__________________

(١) الفتاوى الكبرى ـ ابن تيمية ٣ : ٥٨.

٣٦٥

آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (١).

ولكي يكون موضوع البحث ، شاملاً لسائر الجوانب والنواحي والخفايا ، ولا يَدعُ أمراً أو تساؤلاً أو مأخذاً إلا ويتناوله بحياد وموضوعية ، فإن كل أحد ـ باستثناء رسول الله ـ مُعرَّض للنقد والتحليل حتى تثبت نزاهته ومكانته وإخلاصه عبر موقفه من صاحب الدعوة الإسلامية ، وطاعته للأوامر الالهية والنبوية والتزامه بوصاياهما من خلال القرآن الكريم والروايات المعتبرة ، ثم سيرته في عهد الرسول أو بعد رحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

حين هبط الوحي على النبي محمد «ص» في غار حراء ، سارع وأبلغ زوجته السيدة خديجة بنت خويلد بالخبر ، فأسلمت فوراً هي وعلي بن أبي طالب ، ابن عمه الذي لم يكن يبلغ الحلم بعد ، والذي شرع بالصلاة مع النبي دون غيره من ذوي قرباه من بني هاشم. ولم يلبث أن آمن آخرون من قريش وبني هاشم ، وأصبحوا صحابة له صلى‌الله‌عليه‌وآله

وأحسّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بما يمتلك من فراسة إلهية وذكاء خارق بأن علياً ليس كغيره من الصحابة ، فقد كان ملازماً له ، ولم يفارقه أبداً ، وكان يطيعه إطاعة تامة ، فضلاً عن استيعابه لما ينزل عليه من قرآن استيعاباً عميقاً وشاملاً ، إذ لم تفته شاردة ولا واردة من الآيات والتشريعات النازلة.

هذه العناية النبوية والاحتضان الخاص لعلي دون غيره من الصحابة المقرّبين ، أوحت لرسول الله وبأمر من الله تعالى عند نزول الآية الكريمة : وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢) أن يدعو أقاربه من بني هاشم إلى جلسة خاصة ، ولم يكن مستعداً منهم للتجاوب مع شروطه الصعبة سوى علي الذي كان أصغر القوم سنّاً ، فردّه الرسول

__________________

(١) البقرة ١٧٠.

(٢) البقرة ١٧٠.

٣٦٦

ثلاث مرات ، ولما لم يجرأ أحد من بني هاشم على قبول شروطه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والتي كانت بمثابة إلقاء حجة على القوم ، لاثبات عجزهم عن هذه المهمة الخطيرة والمقدسة التي طرحها النبي ، فأعلن ما يُسرّه من أمره في عليّ حيث ثبّته كأخ له ووزير ووصي وخليفة دون بني هاشم أجمعين (١).

والحديث النبوي حول الإنذار ، واضح جداً ، وليس بحاجة إلى تفسير أو شرح أو توضيح ، ولذلك حاول بعض علماء الجمهور ـ جاهدين ـ تجاهل قضية الإنذار برمّتها ، خوفاً من وقوف الجمهور السُنّي على حقيقة ما حدث في تلك الواقعة التي جرت في العهد المكي ، لأن تناسي هذه الواقعة أفضل من إبرازها ، وخلق الأعذار الواهية أو تأويلها بغير ما تشير إليه من معنى.

وآخر استبدل هذه العبارة ، بعبارة «وكذا وكذا» ، فخفي على أغلب جمهور المسلمين المخدوعين ، تلك العبارة وما تعنيه من دلالة على الخلافة بلا أي مواربة.

والواقعة ... حدثت في العهد المكي ، أي حدثت مبكراً ، وأراد رسول الله فيها ، تثبيت عليّ خليفة له بلا منازع ، حتى لا يطمع رجل أو صحابي ـ بعدها ـ بهذا الموقع الخطير ، ولكي لا يزعم أحد بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يفكّر في الاستخلاف ويمهد له.

وشفع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هذا التأكيد منه بأحاديث كثيرة جداً في حق عليّ ، وتعيين الله له بالخلافة والإمامة من بعده ، سواء بالتلميح تارة ، أو بالتصريح تارة أخرى.

وفي العهد المكي ، عاش النبي وصحابته ، محنة كبرى ، بسبب الضغوط القرشية ، إلى درجة أن هاجر الجميع إلى الحبشة للخلاص من القمع والإضطهاد ، ولذلك لم يكن هنام مفرٌّ من الهجرة إلى المدينة التي أسلم اكثرها ، خاصة بعد مبايعة وفود من زعمائها

__________________

(١) الشعراء ٢١٤.

٣٦٧

للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. فهاجر على أثرها إلى يثرب واستقبله أهلها أفضل إستقبال.

واستقرّ الرسول وصحابته المهاجرون معه في المدينة لتصبح عاصمة لدولته الفتية ، واحتضنه أهلها من الأوس والخزرج الذين أسماهم القرآن الكريم بالأنصار ، فيما أسمى الوافدين معه من مكة ، بالمهاجرين.

ومن الطبيعي أن يمدح القرآن ، الأنصار لأنهم آووا الرسول ونصروه في موقع الشدّة ، بعكس ما فعل أهل الطائف بالرسول عندما لجأ إليهم من استهزاء وضرب وتنكيل. وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَـٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ... (الانفال ٧٢).

كما أن كتاب الله مدح المهاجرين والأنصار بصورة عامة واجمالية ، وليس بصورة استغراقية تفصيلية كما هو معتاد في اللغة العربية.

والقرآن الكريم حين أثنى على المهاجرين والأنصار ، فلأنهم آزروا الرسول ونصروه دون المشركين والكفار الذين آذوه وكانوا يحاربونه بشتى الوسائل ، وخاصة الانصار الذين فتحوا أبوابهم وبيوتهم لاستقبال النبي والمهاجرين ، ولم يجدوا في نفوسهم حاجة أو غضاضة : حِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١).

كان هذا الموقف القرآني قبل أن يُمتحن المهاجرون والأنصار من خلال الفتن والشدائد والبلايا ، حيث تبيّن الصابرون والثابتون والمرابطون من المتقهقرين والمتخلّفين ، واتضح أهل الطاعة لله ولرسوله من العصاة والمتمردين على أوامره

__________________

(١) الحشر ٩.

٣٦٨

ونواهيه ، حيث بدأت الحروب والصراعات مع أعداء الدين من المشركين والمنافقين واليهود.

ألم يفرّ من معارك شهيرة مثل أُحد وحُنين ، الآلاف من المهاجرين والأنصار ، ويتركوا الرسول وحده مع ثلّة من بني هاشم؟ ألم يعصِ الكثير من الصحابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونزلت العشرات العشرات من الآيات التي تحذّر المهاجرين والأنصار من الاستمرار في العصيان وضرورة التوبة والعودة إلى طاعة الله ورسوله ، وإلا فسيكون مصيرهم جهنم مع بطلان الأعمال.

وحين نقرأ سيرة الصحابة وكبارهم بالذات مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يتجلّى لنا أن الكثير منهم كانوا يعصونه دوماً ، ويخاطبونه بجفاء وينادونه كما ينادي بعضهم بعضاً ، ويخالفون أوامره ، ويتخذون منه مواقف سيئة ، والقرآن الكريم يشير إلى الكثير من تلك المواقف ، وان كان لم يُفصح عن أسماء الصحابة ـ صراحة ـ وإنما يلمّح إلى سلوكهم وأعمالهم وممارساتهم ، لكن ـ والحق يُقال ـ لم تكن قلة من الصحابة ـ وعلى رأسها الصحابي علي بن أبي طالب ـ من ضمن هؤلاء الذين يوجّه القرآن الكريم إليهم نقداً لاذعاً واتهاماً شديداً ، ولم يكن علي قد ناله القرآن بأي شيء من تلك الطعون والإتهامات؟ بل بالعكس فإن الآيات التي نزلت في حقه ، تربو على الثلاثمائة آية باعتراف ابن عم النبي عبد الله بن عباس ، وبتأكيد المفسرين ، ولم ينزل في حق أحد مثل هذا ال عدد الكبير من الآيات التي تدلّ على فضل ومكانة وعلو شأن الصحابي علي بن أبي طالب.

ولم تكن الآيات القرآنية وحدها تبيّن فضل وشأن علي ، بل وجاءت السُنّة النبوية هي الأخرى لتعزيز هذه المكانة والمنزلة ، التي هي ليست كفضائل ومناقب الصحابة والخلفاء الآخرين ، وإنما لتثبيت إمامته وخلافته لرسول الله. شئنا أم أبينا ـ وكان

٣٦٩

المسلمون في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يَعُون هذه الحقيقة الناصعة ، ويقرّون بأن علياً في الفضل والمكانة والسمو يأتي بعد النبي وان تعيينه كأخ ووصي ووزير وخليفة له ، أمر مفروغ منه ، ولا يحتمل التأويل أو المغالطة ، ففي حادثة الموآخاة المشهورة والمعروفة ، آخى الرسول بين الصحابة من المهاجرين والأنصار ، لكنه إدّخر علياً لنفسه ، وأصبح أخا الرسول في الدنيا والآخرة ، حتى لا يدّعي أحد من الصحابة ، هذه الفضيلة الكبرى التي لم تدانِها فضيلة (١).

وهي الأخوّة الأبدية والخاصة ، ليست من طراز : «ان المؤمنين أخوة» التي تتسع لجميع المؤمنين.

هذه الأخوّة الخاصة ، تزكية من النبي لعليّ على أنه منزّه عن الخطأ والانحراف ، وأنه سيبقى مستقيماً حتى النهاية ، لأن أخوّته الابدية للرسول ، تؤكد هذه الحقيقة.

وعموماً فإنّ واقعة الإنذار ، فضلاً عن قضية المؤاخاة التي أكدت أخوّة علي للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً ، تضمنت :

١ ـ التأكيد على أن علياً وصي للنبي ، كما هو حال أوصياء الانبياء على طول التأريخ ، إذ إن لكل نبي وصياً ، ووصاية علي للرسول من هذا القبيل.

٢ ـ التأكيد على وزارة علي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والوزير هو المساعد والمدير لشؤون الحاكم ، والوزير من الموآزرة والدعم والمعاضدة ، والمشاركة في حكم الناس ... والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا التأكيد المبكّر لوزارة علي له ، يعلن بأن لعلي شأناً خاصاً دون الصحابة الآخرين والمقرّبين له.

٣ ـ تعيين الرسول لعليّ بأنه خليفة له من بعده ، وهذا التأكيد النبوي جاء عقب

__________________

(١) سنن الترمذي ٥ : ٣٠٠ ؛ المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٤ ؛ عمدة القاري ـ العيني ٢ : ١٤٧.

٣٧٠

الأمر القرآني بوجوب إنذار الرسول لعشيرته الأقربين من بني هاشم ، ونسنتج من ذلك ان خلافة علي لرسول الله هي خلافة منصوبة من قبل الله تعالى ، وهي خلافة جعلية ، ليس لعليّ أن يتخلى عنها أو يتنازل عنها ـ طوعاً ـ للآخرين ، كما ان النبوة اختيار وتنصيب إلهي ليس من حق النبي التنازل عنها بأي حال من الأحوال.

والخلافة ، عموماً ـ جعلية ، فهي استخلاف من قبل جهة لجهة أخرى ، إذ يقول الله تعالى : ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ (١) ، إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (٢).

ولا يحق لأحد ان يدّعي أنه خليفة لرسول الله ، وهو لم يعيّنه ولم يختره ، واذا ما اختارته جهة أخرى ونسبت الاختيار لرسول الله ، فهذه خيانة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنما ينبغي أن يُقال هو خليفة لتلك الجهة وليس لرسول الله ، حسب تعريف الخلافة في اللغة العربية.

ولذا كان المسلمون في العهد النبوي ، متيقّن أن الرسول ، وفي العديد من المناسبات والمواضع ، قد أكد خلافة عليّ له ، فضلاً عن إمامته ، وإن الله هو الذي جعل علياً خليفة له صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وحسب اطلاعنا ، فإن قضية الخلافة كانت محسومة لعلي ، من خلال تصريحات الرسول في هذا الشأن ، أو تلميحاته أيضاً.

فعندما يقول رسول الله : «علي مع الحق والحق مع علي يدور مع حيث دار» (٣). فهو يعني فيما يعني :

__________________

(١) يونس ١٤.

(٢) البقرة ٣٠.

(٣) شرح نهج البلاغة ـ ابن ابي الحديد المعتزلي ٢ : ٢٩٧.

٣٧١

١ ـ انّ علياً معصوم من ارتكاب الخطأ والخطيئة والزلل.

٢ ـ ان علياً مع الحق دوماً ، فهو على الحق عندما يتكلم ، أو عندما يصمت ، وهو على الحق عندما يحارب أو عندما يسالم ، وهو على الحق حين يمارس أيّ عمل أو خطوة أو يتخذ أي قرار.

٣ ـ والانسان المسلم حين يكون بهذا المستوى من الاستقامة ، فهو الأوْلى بالحكم من الآخرين ، مهما كانت منزلتهم من رسول الله ، لأن هذا الانسان المستقيم إذا مارس الحكم والسلطة فلا يزيغ أبداً ، ولا يظلم ، ولا يتلاعب بحقوق الناس ، ولا يعطّل حدود الله ، ولا يستغل منصبه لمآرب شخصية وذاتية ، ولا يخرج عن الحق قيد أنملة بإتجاه الباطل.

وأولوية هذا الشخص ل لخلافة ، أمر عقلي ومنطقي وشرعي أيضاً حتى يحكم بين الناس بالعدل والاحسان ، وإعطاء كل ذي حقّ حقه ، فمن الظلم ـ والعياذ بالله ـ أن يسمح الله ورسوله لسواه أن يتصدّوا لهذا الموقع الحساس والخطير ، فهم أشخاص يفتقدون للفرقان الذي يفرّق ويميّز بين الحق والباطل ، فيقترفون أخطاء وزلّات ويحكمون بالهوى وهم يتسنّمون أكبر مواقع الحكم والقوة والسلطة بعد النبوة ، ويدّعون أنهم «خلفاء لرسول الله» وبحكم مواقعهم ، سيصبح رعاياهم عُرضة لمختلف أنواع الغين والاجحاف والظلم ومُجانبة الحق الذي بيّنته الشريعة الاسلامية كما سيتضح فيما بعد.

لأن الذي يتجسّد فيه الحق ، وينطق بالحق ، ويتحرّك على وفق الحق ، وإنه مع القرآن والقرآن معه (١) ، فهو يتمتع بخصائص النبوة عدا الوحي ، وبالتالي فهو لا يزيغ

__________________

(١) المعجم الصغير ـ الطبراني ١ : ٢٥٥ ؛ مجمع الزوائد ـ الهيثمي ٩ : ١٣٤ ؛ الجامع الصغير ـ السيوطي ٢ : ١٧٧ حديث ٥٥٩٤ ؛ كنز العمال ١١ : ٦٠٣ ـ حديث ٣٢٩١٢.

٣٧٢

أبداً ولا يُزيغ الأمّة معه ، هذا ما نفهمه من هذه الاحاديث النبوية بحق الصحابي علي بن أبي طالب.

ووصايا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بحق عليّ ، كانت في سبيل تهيئة الأمّة وترويضها لاستيعاب هذه الحقيقة ، وهي ان علياً هو امتداد له في كل شيء باستثناء الوحي ومهمة النبوة.

فشجاعة عليّ من شجاعة رسول الله ، وعِلمُه من علمهِ ، ونهجه من نهجه ، وسياستُه من سياسته ، وكانت الأمّة تفهم هذه الحقيقة ، والبعض يستسيغها ويتقبّلها ويدعمها لأنها صادرة عن الرسول ويجب طاعته طاعة عمياء ، لأن مكانة علي العظمى والفريدة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تؤهّله لأن يكون وصيه وخليفته ، والبعض الآخر وخاصة من مهاجري قريش أو قريش نفسها بعد الفتح ، لم يكونوا يستوعبون هذه التوصية النبوية ويتقبّلونها ، بل ان حقدهم على علي ، دعاهم للامتعاض والتربّص حتى وفاة الرسول ، لأنهم يكنّون حقداً مضاعفاً على علي بن أبي طالب ، يظهرونه مرّة ، ويخفونه مرّات ، خاصة وإن رسول الله لم يفوّت فرصة أو مناسبة إلا ويذكّرهم بمكانة علي واستخلافه له ، واستحقاقه المطلق للحكم من بعده ، وان خلافته أمر إلهي لا يقبل النقض أبداً ، وانه لم يتصف أحد من الصحابة بما اتصف به علي ، ولذلك فهو الوحيد المؤهّل لخلافته.

وحين قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا مدينة العلم وعلي بابها ، فهو يعني بأن علياً هو الباب الوحيد لمدينة علمه ، وإلا لقال إنّ علياً أحد أبوابها (١).

وعندما ندقّق في هذا الحديث الصحيح ، يتّضح لنا ان النبي يوجّه الأمّة إلى حقيقة

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٢٧ ؛ الاستيعاب ـ ابن عبد البر ٣ : ١١٠٢ ؛ المعجم الكبير ـ الطبراني ١١ : ٥٥.

٣٧٣

مفادها بأن علمه الذي يتشكل من سُنّته وتفسيرها ومعرفة تفاصيلها ، وعامّها وخاصها ، وناسخها ومنسوخها ، فضلاً عن استيعابه لعلوم القرآن قاطبة ، إنما يُؤخذ من عليّ وحده دون الآخرين ، وإن الكل إذا ابتغوا الوصول إلى علم الرسول ، فعليهم الرجوع إلى عليّ باعتباره عميد أهل البيت بعده.

وهذه الحقيقة ، تعكس إمامة عليّ للأمّة في زمن الرسول وبعده ، لا فرق ذلك ، وهو الخليفة من بعده حتى يقود الأمّة إلى شاطئ النجاة ، دون أن تتمزق وتتورع إلى فرق ومذاهب وطوائف وشِيَع متعدّدة ، ودون أن تزيغ عن الخط المستقيم معيّناً ومُحدّداً من قِبل الله ورسوله ، للمزايا والخصائص التي يتّسم بها ، فلا مجال هناك لأي طامع أو مُدّعٍ يحاول ركوب هذا المنصب الخطير ، وهو غير مؤهّل له ؛ فضلاً عن تزايد عدد المتنافسين لهذا الموقع ، وتصارعهم فيما بينهم مما يُضعف تماسك الأمّة المُفضي إلى فشلها وانكسارها وذِهاب ريحها واستحواذ الأعداء على مقدّراتها.

ومما يدعم موقع علي وزعامته للأمّة بعد رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن يسمح لأحد من الصحابة أن ينتقد علياً أو يطعن فيه ، أو يمسّه ولو بكلمة سوء واحدة ، إذ كان يغضب لهذا المسلك من قبل الصحابة ، بينما كان يسمح اذا طعن أيّ صحابي بصحابي آخر أو نال منه باستثناء عدد محدود جداً.

والاحاديث النبوية بخصوص عليّ وأمانته وموقعه بين أوساط المسلمين ، تتسم بما يلي :

١ ـ ان مصدرها وموحيها هو الله تعالى ، وليس هي من لدن النبي كما يدّعي البعض ، فقد كان رسول الله يقول دوماً بأن الله هو الذي أمره أن يتحدّث عن مكانة وموقع عليّ دون الآخرين.

٣٧٤

٢ ـ تجعل تلك الاحاديث النبوية ، سيرة علي ميزاناً لمواقف وممارسات الصحابة الآخرين ، أو فرقاناً لتمييز الحق من الباطل. فكل موقف يناصر علياً ويؤيده ويدعمه ، فهو موقف محق تماماً ، وكل موقف يعادي علياً ويحاربه وينال منه ، فهو موقف مبطل.

٣ ـ أكثر الفضائل والمناقب الواردة في حق عليّ ، لم يكن مثلها أو على شاكلتها للصحابة الآخرين ، بل ينفرد عليّ بها ، ويتميز بها دونهم أجمعين.

٤ ـ إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لم يؤمِّر أحداً على علي بن أبي طالب مطلقاً وإنما كان عليّ في كل المواقف والحروب هو القائد العسكري دائماً ، ضمن مجموعته التي يبعثها للقتال او لمهامٍ اخرى.

٥ ـ لم يوجّه رسول الله نقداً ولو بسيطاً لعليّ ، ولم يتهمه أو يُدينه في كل المراحل التي قضاها معه ، سواء في مكة أو المدينة ، بينما لم يزكّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أحداُ من الصحابة كما زكّى علياً ، فضلاً عن ادانته واتهامه لصحابة كبار.

من هم أهل البيت؟

سؤال طالما راودنا ، بالرغم مما سمعناه من الذين يتفقون على أن المراد من أهل البيت هم الذين تُحرم عليهم الصدقة ، وهم جميع بني هاشم وبي المطّلب ، وهناك من يضيف نساء النبي إليهم طبق الآية الكريمة : إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (١).

غير اننا حين تعمّقنا في هذا الموضوع ، اكتشفنا ان هناك مؤامرة على أهل البيت

__________________

(١) الأحزاب ٣٣.

٣٧٥

النبوي ، سعت لتجريدهم من القداسة التي منحهم الله تعالى إياها ، حيث ان أهل البيت في المعنى الاخص الذي قصدته الآية المباركة ، هم الرسول وعلي وفاطمة والحسن والحسين فقط ، إذ أن رسول الله جَمَع هؤلاء تحت الكساء ، وقال إنه وهؤلاء الأربعة ، هم فقط أهل البيت ، ولا أحد سواهم تنطبق عليه الآية الكريمة ، حتى ان «أم سلمة» حينما أرادت الدخول معهم ، منعها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مؤكداً أنه لا يحق لها الدخول لأن هؤلاء الخمسة فقط هم المعصومون من الخطأ والزلل ، والمطهّرون من الرجس (١).

ولتأكيد هذه الحقيقة ، أقدم رسول الله ولعدة أشهر على المرور على بيت عليّ وفاطمة ودعوتهم إلى صلاة الفجر ، مردّداً آية التطهير ، ليرسّخ في الأذهان ان هذه الآية تعنيهم فقط (٢).

وقول الرسول عند ضمّ عليّ وفاطمة والحسن والحسين في كسائه : «إن هؤلاء أهل بيتي» هو نفي قاطع لأي إنسان يزعم انه من أهل البيت بالمعنى الخاص الذي أشارت إليه آية التطهير. وهذا المعنى الخاص للآية ، هو الذي أشارت إليه الأحاديث النبوية في هذا الشأن ، كحديث الثقلين الذين ينصّ على أن القرآن وأهل البيت ، هما الثقلان اللذان لا يفترقان حتى يردا على الرسول الحوض (٣).

أو حديث السفينة الذي يمثّل اهل بيت النبي بسفينة نوح ، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى (٤).

__________________

(١) شواهد التنزيل ـ الحاكم الحسكاني ٢ : ١١٠ ؛ سنن الترمذي ٥ : ٣٠ ـ ٣١ ؛ مسند أحمد ٦ : ٢٩٢.

(٢) جامع البيان ـ الطبري ٢٢ : ٩.

(٣) مسند أحمد ٣ : ١٧ ـ ١٨.

(٤) المستدرك على الصحيحين ٣ : ١٥١ ؛ الجامع الصغير ـ السيوطي ١ : ٣٧٣ ـ حديث ٢٤٤٢.

٣٧٦

وكل الاحاديث النبوية التي تؤكد وجوب اتّباع أهل البيت باعتبارهم أئمة المسلمين وقادتهم وأوْلى بهم من أنفسهم ، وان طاعتهم واجبة على الجميع وتؤول بهم إلى الجنة ، وعصيانهم يؤدي إلى النار ، واتّباعهم يؤدي إلى الفوز والنجاة ، وعدم اتّباعهم يفضي بهم إلى الخسران المبين ، هذه الأحاديث هي في الحقيقة تركّز على مفهوم اهل البيت طبق آية التطهير وتحدّده في هؤلاء الخمسة ، أوّلهم النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وآخرهم الحسين ، فهم وحدة متكاملة بعضها منصهر في بعض ، والاربعة امتداد للرسول الذي هو عميدهم في حياته ، وبعد مماته تعود القيادة والعمادة إلى صهره عليّ ، حيث إن الذي هم امتداد لرسول الله والذي شملتهم آية التطهير ، لابد أن يكونوا من سِنخ النبي من حيث العصمة والسلوك والعلم وعدا الوحي.

والمفروض أن يلجأ المسلمون إلى هؤلاء لحل مشاكلهم ومعضلاتهم وأسئلتهم المستعصية ، وهذا المفهوم لا ينطبق إلا على النبي والأربعة من آله. أما آل البيت على مستوى الاستغراق ، فهم كل أقارب النبي من بني هاشم الذين تُحرم عليهم الصدقة ، وينبغي احترامهم كأقارب للرسول ، بالرغم من وجود بعض العلماء فيهم كحبر الأمّة عبد الله بن عباس وغيره.

وكل تصريح للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حول أشخاص من غير بني هاشم يضمّهم إلى آل بيته ، كقوله عن سلمان الفارسي : «سلمان منا آل البيت» (١) ، وتصريح غير النبي في إلحاق أحدهم بآل البيت فهو من باب سيرهم على خط أهل البيت ومتّبعين لنهجهم ومنتمين إليهم انتماء روحياً وعقائدياً لا نسبياً.

ويبقى أهل البيت الذين طالما أوصى رسول الله ، المسلمين بهم في كل مناسبة

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ : ٥٩٨ ؛ المعجم الكبير ـا لطبراني ٦ : ٢١٣ ؛ عمدة القاري ـ العييني ٢٠ : ١٦٧.

٣٧٧

وواقعة ومنعطف ، خلال العهدين المكي والمدني ، هم هؤلاء الخمسة فحسب ، أي النبي وهؤلاء الأربعة الذي هم امتداد وتجسيد للنبي نفسه ، وكانوا معه تحت الكساء دون غيرهم.

أما لِمَ كان رسول الله يؤكد على هؤلاء في أكثر الأحيان ، فذلك لوجوب الرجوع إليهم بعد رحيله عن الدنيا ، لأنهم أعلم الناس وأفقههم بالقرآن والسُنّة النبوية.

هذه النتيجة توصّلنا إليها بعد بحث مرير في تأريخ الصدر الأول للإسلام ، وتقليب صفحاته الساخنة ، وبالأخص في العهد النبوي ... إذ كان رسول الله في حجّة الوداع التي سبقت وفاته ، قد عاد فأوصى بوجوب الرجوع إلى أهل بيته باعتبارهم الثقل الثاني بعد القرآن وذلك في حديث الثقلين المذكور.

الثقلان ... كتاب الله والعترة الطاهرة

ولا ندري كيف يحق للباحث الموضوعي والمنصف أن يفسِّر آية التطهير على انها نزلت في بني هاشم وزوجات الرسول كافة مع أن هؤلاء لم يكونوا بالمكانة التي تليق بأن يستووا مع الرسول بإذهاب الرجس والتطهير عنهم ، أو يكونوا ثِقلاً للقرآن وعِدلاً له؟ وكثير من بني هاشم ـ بالرغم من مكانتهم السامية ـ كانوا يفتقرون لتلك المكانة العلمية والعقائدية والدينية ، وكانوا مُعرّضين للوقوع في الخطأ وارتكاب الذنب في أي لحظة ، كما أن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن من بني هاشم ولسْن بالمستوى المطلوب ، وقد نزلت عدة آيات قرآنية لتوبيخهن وتهديدهنّ واتهام بعضهن بالزيغ عن الحق ... فمن المحال أن تنطبق الآية الكريمة إلا على هؤلاء الخمسة ، وأولهم ـ بالطبع ـ رسول الله ، كما هو تفسير آية التطهير ، والاحاديث النبوية الواردة فيها.

٣٧٨

تُرى هل من الممكن أن يكون جميع بني هاشم بالإضافة الى زوجات الرسول ، ثقلاً للقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ وهل هؤلاء كسفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق وهوى؟ وغيرها من الاحاديث الواردة في أهل البيت.

ومهما يكن فإن عليّاً كان ضمن الذين عنتهم آية ال تطهير ، أي انه من أهل البيت الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. وهو في الواقع كذلك ، لأنه يصبح في النتيجة ، ثقلاً وعدلاً للقرآن الكريم ، وهو تعبير آخر عن قول رسول الله : علي مع القرآن والقرآن مع علي ، أي انهما متوافقان ومتلازمان حتى النهاية ، ولا يفترق بعضهما عن بعض أبداً ، وكذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : علي مع الحق والحق مع علي ، الذي يعكس عصمة عليّ وعدم ارتكابه للخطأ والزلل ، لأنه لو ارتكب أي زلل أو ذنب أو انحراف ، فسيفارق الحق حتماً ، وسيفترق عن القرآن كذلك في أي مسألة مهما كانت بسيطة ، أو اقتراف ذنباً مهما كان صغيراً.

عليّ وقضية الولاية

قضية الولاية التي ثبّتها رسول الله في حق علي ، كما يقول الشيعة ، من أهم القضايا التي أثارت هواجسنا ودعتنا لبحث هذه القضية بعمق وشمولية ، لمعرفة الحقيقة التي ربما غابت عن الكثير من أمثالنا.

في البدء ، كنا نعتقد أن القضية برمتها لا تخرج عن كون الولاية التي عناها النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بحق علي ، هي النصر له ، ليس إلا ، حيث نزلت الآية القرآنية بحقه في قضية تصدّقه بالخاتم أثناء الصلاة ، إذ قال تعالى : إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا

٣٧٩

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (١) (٢).

ولكن عند بحث هذه المسألة بدقة ، وجدنا أنها تأخذ أبعاداً لم نكن نتصوّرها من قبل ، فالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أكّد مِراراً قضية ولاية عليّ ، وانها امتداد لولايته وولاية الله ... وكانت آخر وصية لرسول الله في هذا الصدد ، عندما قفّل راجعاً من الحجاج الكرام من مكة المكرمة في «حجة الوداع» وهي آخر حجة له في حياته ، وبالرغم من تنكّر الكثير من أبناء الجمهور لها ، كانت حقيقة واقعة لا يمكن إنكارها ، لأنها ثابتة تأريخياً ، وبالمصادر الوثيقة ، إذ رواها العشرات من الصحابة ، وفي مصادر روائية كثيرة ، مما دعانا إلى التحري عن هذه الحادثة والتأكّد من صحتها وواقعيتها ، لأن الكثير من العلماء والمحققين تنكروا لها واعتبروها بمثابة اسطورة لا وجود لها.

وبعد البحث والتنقيب والتحرّي الدقيق ، توصّلنا إلى أنها حقيقة لا تقبل الشك ، فرسول الله الذي كان عائداً مع جموع الصحابة وقوافل الحجيج من مكة المكرمة ، توقّفوا في منطقة ، تُدعى (غدير خم) وهي واحة فيها أشجار ومفترق طرق لقوافل الحجيج التي تتفرّق من هناك باتجاه مناطقها وبلدانها.

تُرى لِمَ توقّف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأوعز إلى الحجيج بالتوقف في تلك المنطقة؟ لابد أن أمراً خطيراً قد دعاه إلى هذه المبادرة؟ ولم يكتف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك بل أمر الجميع في ذلك الجو اللاهف ، واليوم القائض الشديد الحرارة ، أن يستعدوا للصلاة ، وبعد

__________________

(١) المائدة ٥٥.

(٢) انظر : شواهد التنزيل ـ الحاكم الحسكاني ١ : ٢١٧ ؛ انظر : تفسير البحر المحيط ـ أبي حيان الاندلسي ٣ : ٥٢٥.

٣٨٠