بحث حول الخلافة والخلفاء

منيب الهاشمي

بحث حول الخلافة والخلفاء

المؤلف:

منيب الهاشمي


المحقق: زينب الوائلي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٢

ونسخ أديانهم ، وبقاء قصصهم وسائل إيضاح للدرس والعبرة لمن ورثوا الكتاب والنبوة ، وذلك انه لا سبيل للاستبدال والنسخ في عالم المسلمين ، وهم أصحاب الرسالة الخاتمة (١) ، والحقيقة اننا لم نفتقد فن الاختلاف وآدابه وأخلاقياته ، لأن كل اختلاف مذهبي أو فقهي أو عقائدي ، لابد وأن ينتهي الى ما انتهى إليه أهل الكتاب من يهود ونصارى ، وما حذّر منه القرآن الكريم قد وقع المسلمون فيه ، وتجزّأوا الى مذاهب وفرق ومدارس دينية متطاحنة ، انما نبحث هنا عن أسباب وعلل هذا التفرّق والاختلاف الذي بدأ فور رحيل النبي ، وأخذ في اتساع بمرور الزمن.

اسباب الاختلاف وعِلله

وقد قام العلماء بتصنيف الكثير من الكتب التي تعرّضت لمباحث أسباب الاختلاف.

ويعرّف بعضهم علم الخلاف بأنه علم يمكّن من حفظ الاشياء التي استنبطها إمام من الأئمة ، وهدم ما خالفها دون الإستناد الى دليل مخصوص ، اذ لو استند الى الدليل ، واستدل به لأصبح مجتهداً وأصولياً (٢).

واذا اشتدت خصومة المتجادلين ، وآثر كل منهما الغلبة ، بدل الحرص على ظهور الحق ووضوح الصواب ، وتعذّر أن يقوم بينهما تفاهم أو اتفاق ، سميت تلك الحالة ب«الشقاق» : وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا. فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ (٣).

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) أدب الاختلاف ، ص ٢٤.

(٣) أدب الاختلاف ، ص ٢٥.

٣٤١

ويعتقد هذا البعض بأن الخلاف ربما يمليه الهوى ، بأن يكون مناقضاً لصريح الوحي من كتاب وسُنّة ، ويتصادم مع مقتضيات العقول السلمية ، وخلاف آخر في أمور فرعية تتردد أحكامها بين احتمالات متعددة ، ولا سبيل الى تحاشي الوقوع في المزالق إلا باتباع قواعد يحتكم إليها في الاختلاف حتى لا يتحوّل الى شقاق وتنازع وفشل (١).

ولسنا ندري ما هي هذه القواعد التي يقصدها هذا الكاتب للحيلولة دون أن يتحوّل الاختلاف الى شقاق ونزاع؟ إذ كل ما عرفناه من التأريخ بأن الفقهاء الذين برزوا في الصدر الاول للاسلام ، وبالضبط في أوائل القرن الثاني الهجري ، كانوا هم أنفسهم يختلفون ويتنازعون فيما بينهم ، ويطعن كل منهم في الآخر ، ويعدّ الاحكام الفقهية وغير الفقهية للآخر ، ليست شرعية ولا مطابقة للشرع الاسلامي ، بل كان كل فقيه يشكك بشرعية القواعد الاصولية للآخر ، بالرغم من ان أكثرهم كان يقرّ بأنه مجتهد قد يصيب او يخطئ ، ويكره أن يقلّده الآخرون ، خاصة تلامذته وأتباعه ، وطالما صرّح هذا الامام أو ذاك بأن الحديث النبوي إذا صحّ فهو دينه ، وليضربوا بفتاواه وأحكامه بعرض الجدار اذا كانت تُخالف أو تتعارض مع الحديث النبوي الصحيح ، وما أن يموت هذا الامام أو الفقيه حتى ينبري تلامذته وأتباعه على تقليده واعتبار فقهه وفتاواه وقواعده الفقهية مقدّسة لا تقبل النقاش أو التشكيك أو النقد ، ثم تتحول أحكام وفتاوى هذا الفقيه أو الامام الى مذهب ومدرسة فقهية يتبعها الكثير من المقلّدين الذين يطعنون بالمذاهب الأخرى واتباعها ، ويشوّهون سمعتهم أمام الملأ ، مما أفضى ، ليس فقط الى الاختلاف والتنازع والشقاق ، بل الى صدامات دموية ، أضعفت المجتمع الاسلامي طيلة قرون ، مع ظهور القناعات الجديدة ، وكتب الصحاح المعتمدة والمعتبرة التي صُنّفت بعد

__________________

(١) أدب الاختلاف ٢٨ ـ ٢٩ ـ ٣٠ ـ ٣١.

٣٤٢

جهود حثيثة من البحث والتنقيب والجرح والتعديل ، وظهور المئات من الأحاديث التي عدّت صحيحة والتي استدعت مراجعة وتنقيح الفقه المعتمد لدى هذا المذهب الفقهي أو ذاك ، لكن الأتباع تمادوا في تقليد تلك المذاهب وانكبّوا على تقليدها دون اعادة قراءة أو غربلة لفقه المذهب الذي كان قبلاً مجرد فقه استنبطه فقيه ، لم يثبت لديه الكثير من الأحاديث النبوية ، كما هو الحال مع المذهب الحنفي مثلاً.

أليس هذا دليلاً قاطعاً بأن المقصّر في ظهور هذه الاختلافات والنزاعات المذهبية ، هم أتباع المذاهب الاسلامية ، وبالأخص المذاهب الاربعة المعروفة التي ينتمي إليها هؤلاء الذين يرفعون لواء أدب الاختلاف وفنه وفلسفته ، وينادون بضرورة ايجاد أخلاقية تتحكم بأدب الاختلاف حتى لا يتحول الى شقاق ونزاع مرير.

ونعود فنكرّر مرّة أخرى بأن علماء الجمهور الكبار ، بل حتى الصحابة قد حذّروا من الاختلاف ، من أمثال الصحابي الكبير «عبد الله بن مسعود» ، يقول بأن الخلاف شرّ (١) ، وذلك لسبب بسيط جداً هو ان ما يُسمّى بأدب الاختلاف وأخلاقه وما إلى ذلك ، ليس إلا أفكاراً نظرية لا وجود لها على أرض الواقع ، وان أصل الاختلاف مرفوض لأنه شرّ وفتنة ومُقدَّمته لنزاعات متفاقمة.

وحسناً يقول الامام السبكي بأن الرحمة تقتضي عدم الاختلاف ، قال تعالى : وَلَـٰكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ (٢). وكذا السنّة النبوية ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «انما هلكت بنو إسرائيل بكثرة سؤالهم وإختلافهم على أنبيائهم» ، والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة.

__________________

(١) انظر : فتح الباري ـ ابن حجر ٢ : ٣٣٣.

(٢) البقرة ٢٥٣.

٣٤٣

ومن علماء الجمهور من يقول بأن المسلم له أن يأخذ بظاهر النص ، وله أن يستنبط من المعاني ما يحتمله النص ويمكن التدليل عليه (١).

ألا ترون ان بذور الاختلاف إنما تنمو من الفهم المتعدد للنص الواحد ، إذ بتعدّد المفاهيم والمعاني ، تتعدد الآراء الفقهية الى حدّ التعارض والتضاد ، ومن ثم تبرز أحكامٌ متعارضة كثيرة ، تشيع النزاع في أوساط الأمّة.

وذات يوم سمع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أصوات رجلين اختلفا في آية ، فخرج صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي وجهه الغضب ، قائلاً : انما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب (٢) ، ويعني قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، اختلافهم في تفسير نصوص الكتب المقدسة ، لأنه بداية تُمهّد لنشوء المدارس والمذاهب الفقهية والعقائدية وما يؤول إليه من نزاع وشقاق وفشل.

ولا ننسى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ولا تختلفوا فإن من قبلكم اختلفوا فهلكوا (٣).

والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هنا لم يحدّد طبيعة الاختلاف الذي يؤدي الى الهلاك ، وإنما عمّم قوله ليشمل كل أنواع الإختلاف ، وهذه الرواية نقلها أصحّ كتاب بعد القرآن الكريم على حد تأكيد الجمهور المسلم ، وهو صحيح البخاري.

ويروي صحيح النسائي حديثاً آخر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الشأن ، يقول فيه : اقرأوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم ، فاذا اختلفتم فيه فقوموا (٤).

ولابد من التأكيد بأن القرآن لا يتضمن آيات الاحاكم الفقهية فقط ، وانما يتضمن

__________________

(١) أدب الاختلاف : ٣٧.

(٢) صحيح مسلم ٨ : ٥٧ ؛ الجامع الصغير ـ السيوطي ١ : ٣٩٨.

(٣) صحيح البخاري ٣ : ٨٨ ؛ الفتاوى الكبرى ـ ابن تيمية ٤ : ٤١٨.

(٤) صحيح البخاري ٦ : ١١٥ ؛ السنن الكبرى ـ النسائي ٥ : ٣٣.

٣٤٤

أسس العقائد وعلم الكلام كما هو معلوم.

والمعروف عن الأئمة والفقهاء وعلماء الصدر الأول للاسلام ، والذين أصبحت مدارسهم الفقهية والعقائدية ، مذاهب يتّبعها الملايين ، قد تناولوا العديد من الأمور المبهمة التي تخصّ الصفات الالهية وخلق الكون والقرآن ، وهي أمور عقائدية وكلامية لاشك في ذلك ، وأدّت تلك الخطوات ، الى نشوب خلافات طاحنة في التأريخ الاسلامي ، كان ينبغي أن لا تحدث أباً ، خاصة وانها ليست مهمة وجوهرية ، كالامور العقائدية الأخرى ، فضلاً عن الفقهية. ثم ألم ينه الشرع الاسلامي عن الخوض في هذه الأمور التي تؤدي الى الاختلافات والانقسامات كما يدّعي جهابذة العلماء؟ فلماذا خاض فيها هؤلاء الأئمة والعلماء ، كإبن حنبل وابي الحسن الاشعري وغيرهما؟

ولوعدنا الى الاختلافات على المستوى الفقهي أو الفروع ، والتي يعتبرها علماء الجمهور ، مقبولة شرعاً ، بل ومُحبّذة أيضاً لأنها تثري الفقه الاسلامي وهي رحمة للأمّة ، لنعرف ماذا حدث بسببها؟

يقول ربيعة الرأي ، وهو إمام مجتهد ومن أبرز شيوخ الامام مالك ، عن أهل العراق : رأيت قوماً حلالنا حرامهم ، وحرامنا حلالهم ، وتَركتُ بها أكثر من أربعين ألفاً يكيدون هذا الدين.

وكان أهل الحجاز يرون ان حديث العراقيين أي (أهل الرأي والقياس) أو الشاميين لا يُقبل إذا لم يكن له أصل عند الحجازيين (من أتباع مالك).

فأهل الحجاز يعتقدون انهم قد ضبطوا السُنّة ، وكان حامل السُنّة وفقه الصحابة وآثارهم في المدينة ، سعيد بن المسيب وأصحابه الذين أخذ عنهم بعد ذلك المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وغيرهم ، وكان علماء المدينة ـ من التابعين ـ يرون ان السنن والآثار التي بين أيديهم ، كافية لتلبية الحاجة الفقهية ، وأنه لا شيء يدعوهم الى

٣٤٥

الأخذ بالرأي بكل ضروبه (١) ، بمعنى ان الرأي غير مشروع في اعتقاد مدرسة المالكي ، ومن المسلّم به أنه اذا كان أتباع مدرسة فقهية ما ، لا يرون مشروعية لقواعد يتمسّك بها أتباع مدرسة أخرى ، أن يطعنوا في الاحكام الصادرة عن تلك المدرسة الى حد التسقيط أو حتى التكفير ، مادامت تلك الاحكام الفقهية مبنية على أساس تلك القواعد التي يتبناها أصحاب المدرسة نفسها لأنها مقبولة في نظرهم على الأقل.

وهذا يدل على ان الاختلاف ـ أساساً ـ لا يُعتبر رحمة أو نعمة ـ كما يدّعي البعض ـ مادام كل صاحب مدرسة فقهية أو مذهب فقهي يتّهم المدارس الأخرى بلا مشروعية بعض قواعدها الفقهية ، سواء كانت سُنّة نبوية مشكوكاً بضعفها وصحّتها ، أو القياس والرأي ، أو المصالح المرسلة أو قواعد أخرى معروفة.

الاختلاف .. نعمة أم عذاب أليم!؟

هذا الاتهام والطعن والتشكيك يفضي الى نشوء اختلافات ونزاعات بين أتباع هذه المدرسة وتلك ، أو هذا المذهب وذاك ، ثم تتحول هذه النزاعات ـ بديهياً ـ الى شقاق وصراع مذهبي مدمّر.

ولذلك فإن من أكبر الأخطاء أن يزعم بعض مفكّري الجمهور ان البعض قد حوّل الاختلاف الذي كان في نظره ، نعمة أثرت الفقه الاسلامي ، إلى عذاب أليم ، وصار عاملاً من أخطر عوامل الفرقة والتناحر بين المسلمين ، وتحوّل الى نقمة بدّدت الكثير من طاقات الأمّة فيما لا جدوى منه ، وشغلتها بأمور جانبية كان لا ينبغي أن تنشغل بها (٢).

__________________

(١) أدب الاختلاف ٨١ ـ ٨٢.

(٢) أدب الاختلاف ١٣٥ ـ ١٣٦.

٣٤٦

ان هذا الرأي مجرّد رأي نظري يفتقر الى البعد الموضوعي من كل النواحي.

ويسارع بعض الكتّاب ليقرّ بأن الاختلاف أورث مشكلة كبيرة في حياة المسلمين وأورث الحياة التشريعية لدى المسلمين ، نوعاً من القلق الغريب ، كثيراً ما جعل الأمر الواحد من الشخص الواحد في زمن واحد ومكان واحد ، حلالاً عند هذا الفقيه ، وحراماً عند ذلك (١).

ويكفي انه قد أصبح لدينا أصل من الاصول الفقهية ، وباب واسع من أبواب الفقه ، عرف بباب «المخارج والحيل». وأصبح إتّقان هذا الباب والمهارة فيه ، دليلاً على سعة فقه الفقيه ونبوغه وتفوّقه على سواه ، وكلما تقدّم الوقت وضعف سلطان الدين على أهله ، تفاقم هذا الأمر ، وتساهل الناس في أمر الشرع حتى وصل الأمر لدى بعض القائمين على الفتاوى ، انهم أخذوا يفتون بما لا دليل عليه ، ولا يعتقدون بصحته ، زعماً منهم أن في ذلك تخفيفاً على الناس أن تشديداً يضمن عدم تجاوز الحدود كأن يرخّص بعضهم لبعض الحكّام بما لا يرخّص لعموم الناس (٢).

وهنا إقرار واضح بأن التساهل في الافتاء كان سبباً في إصدار الكثير من الفتاوى والأحكام التي ليس لها أي سند شرعي ، وقد جاءت هذه الخطوات الى جانب الحكّام الذين كانوا في حاجة ماسّة لإسباغ الشرعية على ممارساتهم وسياساتهم وممارساتهم الظالمة ازاء الرعية ، كما استغل هؤلاء الحكام ، فقهاء الحيل والتساهلات ، لاصدار الكثير من الفتاوى التي تشرّع لهم نهب الاموال والتلاعب بمقدرات ومصائر الشعوب ، فضلاً عن قمعهم وإسكاتهم بإسم الدين.

__________________

(١) أدب الاختلاف ١٤٢ ـ ١٤٣.

(٢) أدب الاختلاف ١٤٢ ـ ١٤٣.

٣٤٧

وهكذا ضاعت مقاصد الشرع بضياع تقوى الله ، وأُهملت قواعده الكلية.

ولقد هان الرجال الذين يحمون بيضة الدين ، وهان على الناس دينهم حتى غدا تجاوز الحدود ، أمراً يقبل عليه الناس بحجّة التيسير ، فصار ذلك شأن بعض المفتين من الذين هدموا جدار الهيبة ، وأباحوا لأنفسهم الإفتاء بما يستجيب لهوى النفوس ، قابلهم فرق تصلّب وتشدّد ، وحاول أن يبحث عن أغلظ الأقوال وأشدّها ليفتي من يستفتيه ، ظناً منه أنه في هذا يخدم الاسلام (١).

وهكذا أمسى حال المسلمين مع الاسلام اليوم ، لقد تفرّقت الأمّة شراذم وفئات ، وانحسر الفكر الاسلامي ، ولم يعد هو المهيمن على حياة المسلمين وتفكيرهم ، وانفتحت عقول المسلمين وقلوبهم لكل ألوان الفكر المغاير للاسلام (٢).

إذن فمن الخطأ اعتبار أنَّ هناك اختلافاً مقبولاً ومشروعاً وسائغاً ، وآخر غير سائغ ومرفوض ، لأن أساس الاختلاف قائم على اختلاف مشروعية الاصول والقواعد الفقهية عند هذا الفقيه أو ذاك منذ الصدر الأول للاسلام ، ثم توسّع الاختلاف بمرور الأيام حتى أخذ المفتون يفتون من لدن أنفسهم ودون أي مسوّغ ودليل شرعي أو سند ديني.

وعليه فما هي قيمة المزاعم التي تؤكد الخلاف المُعتبر والسائغ الذي وجوده ظاهرة طبيعية بين أوساط الأمّة ، لا يوجب تناقضاً أو تحزّباً أو معاداة. أو هو مَعلم من معالم كمال الشريعة وصلاحها لكل زمان ومكان ، كما يدّعون.

والخلاف المُعتبر ـ حسب قول هؤلاء ـ هو ما تردّد بين طرفين واضحين وأصلين

__________________

(١) أدب الاختلاف ، ١٤٤.

(٢) أدب الاختلاف ، ١٥٧.

٣٤٨

شرعيين ، الحق متردد بينهما ، وبه حصل الإشكال والخلاف كما يقول الشاطبي (١).

وهنا يبدو التناقض والتضاد بأجلى صورهما ، فإذا كان الاصلان شرعيين ، فكيف يتردّد الحق بينهما؟ فهل هذا يعني غير ان الأصل الشرعي ربما يفضي الى حكم باطل ، لأن الحق واحد وليس له وجوه متعدّدة ، واذا كان الأصل الشرعي الأول يبطن حقاً ، فإن الاصل الشرعي الثاني ـ من البديهي ـ يبطن باطلاً ، والعكس صحيح.

وهذا من المحال ان يحصل ، ولذا لابد أن يكون أحد الأصلين غير مشروع والآخر مشروعاً ، وبالتالي فإن الاختلاف في هذه الحالة ، غير معتبر وغير سائغ إطلاقاً.

مزاعم تفتقد للصدْقية والدليل

أما الشيخ ابن تيمية فيسمّي الاختلاف المقبول أو المُعتبر ، باختلاف التنوّع ، كأن يكون كل واحد من القوانين أو الفعلين مشروعاً ، كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة ، فزجرهم عن الاختلاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : «كلاهما محسن». ومثله في صفة الأذان والإقامة والتشهد والاستفتاح (٢).

نعم ، اذا كان القولان أو الفعلان مشروعين ، كإختلاف القراءات التي اعتبرها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مقبولة ، إلا ان الاختلاف في القراءات ليس اختلافاً عقائدياً أو فقهياً. أما الاختلاف في الأذان والإقامة والتشهّد والاستفتاح ، فهو أيضاً غير مشروع ، لأن هذه الامور تعبّدية وغير جائز أو مشروع ، الاختلاف فيها أبداً.

ومن الاصول المشروعة التي يقصد بها ابن تيمية (الحديث النبوي) أن يكون كل

__________________

(١) الخلاف المُعتبر ـ علي بن عبد العزيز الشبل ـ الفاروق ـ السنة ٢٢ ـ العدد ٨٧.

(٢) الخلاف المُعتبر ـ علي الشبل ـ الفاروق ـ السنة ٢٢ ـ العدد ٨٧.

٣٤٩

من القولين في معنى القول الآخر ، لكن العبارتين مختلفتان ، غير ان الجهل أو الظلم يحمل على الثناء على أحد المقالتين ، وذم الأخرى ، فيحدث الاختلاف (١).

وهذا يدلّ على ان الرواية بالمعنى تؤدي الى حصول اختلافات ومنازعات بين المسلمين ، فلِمَ يا تُرى لم يُدوَّن الحديث في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتى لا يضطر الرواة بعد مرور فترات طويلة على وفاة رسول الله ، الى تدوين الحديث بالمعنى ، وما يؤدي إليه من تعارضات في الأحكام الفقهية واحتقانات بين الفقهاء ، وبالتالي نشوب خلافات بين أتباعهم.

كما ان قول ابن تيمية بأن الجهل أو الظلم يحرّف معنى إحدى المقالتين ، بحيث يصبح المعنيان مختلفين بعد أن كانا متفقين ، فهو اعتراف ضمني بأن هذا الاختلاف غير مشروع أو سائغ أبداً ، لأن أحد القولين وهو الذي يحمل المعنى الصحيح فهو على حق ، أما القول الآخر الذي يدمعه الجهل والظلم ، فهو يتضمن المعنى الخاطئ ، وهو بالتالي يصبح قولاً سقيماً ومرفوضاً ، ثم ما هو الدليل على ان الطريقتين مشروعتان حتى يكون الذين سلكوهما مُحقّين؟ إذ لو كانت الطريقتان مشروعتين ، لما كان هذا الاختلاف والتنازع والطعن بين الذين تبنّوهما؟ إذ لابد وأن تكون إحدى الطريقتين ، مشكوكاً في أمرها ، بل ربما تكون الطريقتان في الأصل ، غير مشروعتين تماماً.

ويرى علماء من الجمهور المسلم ، بأن الخلاف قد عُرض للأئمة من عدّة أوجه ، وجميع وجوه الخلاف متولد منها ، حيث يستعرض البطليوسي هذه الوجوه التي تدلّ على ان سبب الاختلاف هو في الحقيقة يأتي أولاً من اختلاف الرؤية حول الحديث النبوي ، وهي ناجمة عن خطأ المجتهد في تشخيص الحديث النبوي وليس للارادة الالهية

__________________

(١) الخلاف المُعتبر ـ علي الشبل ـ الفاروق ـ السنة ٢٢ ـ العدد ٨٧.

٣٥٠

أي تدخّل في نشوء الاختلاف (١). وهذا دليل صارخ على أنَّ هذا الاختلاف غير مُعتبر أو مقبول ، بل انه نابع من خطأ المجتهد ، وان الارادة الالهية لم تسمح به رحمة بالمسلمين كما يدّعي علماء الجمهور.

الاسباب الوجيهة للاختلاف

فالبطليوسي يستعرض ـ هنا ـ سبب الاختلاف الناتج عن علل الحديث ، والتي منها فساد الإسناد ، ونقل الحديث بالمعنى دون اللفظ ، وإسقاط شيء من الحديث لا يتم المعنى إلا به ، والإرسال وعدم الإتصال ، وإن بعض رواة الحديث صاحب بدعة أو متهم بالكذب وعدم الثقة ، أو مشهور ببله وغفلة ، أو يكون متعصّباً لبعض الصحابة ، منحرفاً عن بعضهم ، وإذا لم يفتعل الحديث ، بدّله وغيّر بعض حروفه ، أو حرص الناقل على الدنيا ، وتَهافتَ على الاتصال بالملوك لنيل المكانة والحظوة عندهم ، فإن كان بهذه الصفة لم يُؤمن عليه ، التغيير والتبديل والافتعال للحديث والكذب ، حرصاً على مكسب يحصل عليه ، وقد نبّه رسول الله على نحو هذا بقوله : ان الاحاديث ستكثر بعدي كما كثرت عن الانبياء قبلي ، فما جاءكم عني فأعرضوه على كتاب الله ، فما وافقه كتاب الله فهو عني.

ومن العلل ، نقل الحديث على المعنى دون اللفظ بعينه ، وهذا الباب يعظم فيه الغلط جداً ، وقد نشأت منه بين الناس شغوب شنيعة.

ومن العلل أيضاً ، التصحيف ، أي الخطأ اللغوي والإملائي في التدوين ، وهو

__________________

(١) مقدمة كتاب الإنصاف في التنبيه على الاسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم ـ البطليوسي الاندلسي.

٣٥١

عظيم الفساد ، وربما لم يكن بين المعنيين المتضادين ، غير الحركة أو النقطة ، وهذا النوع كثير جداً ، وضع فيه الدارقطني كتاباً سمّاه «تصحيف الحفّاظ» (١) ، وهكذا يتضح أنَّ هذه الهفوات والأخطاء والأكاذيب وغيرها هي التي تتسبب في شيوع الاختلافات بين الفقهاء حول نظرتهم للنص النبوي الذي يُعدّ بعد القرآن أهم أصل في الاستنباط الشرعي ، ثم تأتي القواعد الأخرى ، منها القياس والرأي والاستحسان والمصالح المرسلة وعمل أهل المدينة ، التي لم يضعها فقهاء المدارس الفقهية إلا مضطرين بعد الاختلاف في مدى مقدار الثقة بالسنّة النبوية ، وإحجام الكثير منهم عن اتخاذ الحديث النبوي مصدراً للاحكام الشرعية ، لعدم الاطمئنان بصحته ، ومن الطبيعي ان الاختلاف بين الفقهاء حول الثقة أو عدم الثقة في بعض الاحاديث النبوية ينجم عنه اختلاف في تبنّي هؤلاء للقواعد الفقهية الأخرى بين الايمان بمشروعيتها أو مشروعية بعضها ، أو التشكيك في بعضها الآخر ، وهذا ما حصل بالفعل ، وأدى الى هذه النزاعات والخصومات الفقهية على طول التأريخ الاسلامي ... وهي في الحقيقة ليست ظاهرة طبيعية ، وليست للارادة الالهية أيّ تدخل فيها أو في نشوئها ، وانما نشأت من عدم تدوين الحديث النبوي في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعده مباشرة ... فلماذا يدّعي علماء الجمهور ان الله سمح بالاختلاف رحمة منه ، لاثراء العقل الانساني ، وهي من فضل الله تعالى؟

اختلافات نابعة من الهوى والرأي وانعدام الرؤية الصحيحة

وهنا لابد من طرح الملاحظات التالية :

__________________

(١) انظر : أضواء على السنة المحمدية : ١٠١.

٣٥٢

ـ يقول علماء الجمهور إن الأئمة اختلفوا في كثير من الامور الاجتهادية ، كما اختلف الصحابة والتابعون قبلهم ، وهم جميعاً على الهدى ، مادام الاختلاف لم ينجم عن هوى او رغبة في الشقاق (١).

وقد كان مجتهدو الصحابة يقولون عن اجتهادهم : «هذا رأي فإن كان صواباً فمن الله ، وان كان خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله منه بريئان» (٢).

وتعليقنا على هذا هو اذا كان اجتهاد هؤلاء واختلافهم ، نابعاً عن هدىً ونية حسنة وانهم ـ جميعاً ـ على الرشاد ، الى درجة ان العلماء من بعدهم كانوا يأخذون بفتوى الصحابي أو قوله أو رأيه ، كمصدر من مصادر التشريع ، في حين ان الصحابة أنفسهم يقرّون بان بعض فتاواهم وأقوالهم انما هي خطأ ومن الشيطان ، تُرى ما هو المعيار الذي يعتمده فقهاء التابعين وتابعي التابعين للأخذ بأقوال الصحابة ، مادام الصحابة الذين هم خير الناس بعد الرسول ، هم أنفسهم لا يميّزون أو يشخّصون ذلك الخطأ ، فكيف بالذين جاءوا من بعدهم؟ وهل يا تُرى الكلّ كان على هدىّ في ظل انعدام الرؤية الصحيحة ، وعدم الدراية والتشخيص الصحيح للموقف؟

والغريب هو التأكيد على ان الصحابة كانوا يختلفون حتى في أهم الفرائض وهي الصلاة ، حيث ان بعضهم كان يقرأ البسملة ، وبعضهم لا يقرأها ، ومنهم من يجهر بها ، ومنهم من يخفت ، وكان منهم من يقنت في صلاة الفجر ، ومنهم من لا يقنت فيها ، ومنهم من يتوضأ من الرعاف والقيء والحجامة ، ومنهم من لا يرى ذلك ، فأين كان هؤلاء الصحابة الذين عاش النبي بين ظهرانيهم لمدة ٢٣ عاماً ، وكان يصلّي فيهم يومياً؟

__________________

(١) أدب الاختلاف ، ص ١١٧ ـ ١١٨.

(٢) نشأة وتطور الفقه الاسلامي (٢) ـ د. محمود محمد علي ـ مجلة الجذور ـ العدد ١٧ ـ آذار ١٩٩٢ م.

٣٥٣

ألم يروا الرسول إنْ كان يقرأ البسملة أم لا ، أو يقنت لصلاة الصبح أم لا؟ (١). مع علمهم ان الصلاة عمود الدين وفريضة من أهم الفرائض؟ هل هي اللامبالاة وعدم الاهتمام والإهمال أم هو النسيان والغفلة؟ وكيف يحث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله المسلمين على الاقتداء بالصحابة وانهم أفضل الناس بعده؟ وهذا هو حالهم ، إذ لم يتقيّدوا ، ويضبطوا الصلاة الواجبة بتفاصيلها الدقيقة؟

وإذا كان الاختلاف بين الصحابة قد بدأ في الصلاة اليومية التي أدّوها مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي مسجده لسنوات طويلة ، وهم ملازمون له ليلاً ونهاراً في اداء هذه الفريضة؟ فكيف يكون الاختلاف في الامور الدينية الأخرى التي هم فيها اقل لصوقاً به أو احتكاكاً سوى البعض منهم؟ لا ريب ان الاختلاف سيتخذ ـ حينئذ ـ منحى متصاعداً ويستفحل عند التابعين ومن تبعهم بعد ذلك؟

ـ ومن المستغرب أن يدّعي الشاطبي بان حكمة الله هي التي سمحت بأن تكون الفروع والجزئيات قابلة للاختلاف ، حيث اقتضت حكمة الله أن يترك منطقة ليست قليلة دون أن ينزل فيها نص ، وهي منطقة العفو ، حينما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الحلال ما أحلّ الله في كتابه ، والحرام ما حرّم الله في كتابه ، وما سكت عنه فهو مما عفى عنه» أي سمح بالاجتهادات الفقهية الكثيرة ، حيث ان معظم الشريعة الصادرة عن الاجتهاد ، ولا تفي النصوص بعشر معشارها.

وأصبح الحديث دارجاً عن يسر الشريعة وسعتها ومرونتها (٢) ، ان هذه الاستنتاجات الساذجة ، تفتقر لأدنى معايير الموضوعية والمنطق ، فضلاً عن تعارضها مع

__________________

(١) أدب الاختلاف ، ص ١١٧ ـ ١١٨.

(٢) فقه الثوابت والمتغيرات ـ د. علي محي الدين القرداغي ـ مجلة الشريعة الأردنية ـ العدد ٤٩٠.

٣٥٤

الأدلة القرآنية ، لأن الله تعالى يقول : مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ (١) ، فليس هناك حكم ليس له أصل في القرآن ، من حلال وحرام ، انما السُنّة تتولى إظهاره وإبرازه وتفصيله ، طبقاً للآية الكريمة : وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (٢) ، فكيف والحال هذه لا تفي النصوص بعشر معشار الشريعة؟ وبالتالي فهي ليست محل نزاع بين المجتهدين ليحلّها أحدهم ويحرّمها الآخر حسب أهوائهما ، لتصبح هذه المنطقة المتنازع عليها ، جزءاً من الحلال والحرام ، في حين ان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أوضح بأن الحلال والحرام ما أحلّه الله وحرّمه في القرآن ومحدّداً فيه دون غيره ، فكيف يحق للارادة البشرية التدخل لتحلّل هذا وتحرّم ذاك ، وتحسبه من الدين؟ وليس هو كذلك : وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـٰذَا حَلَالٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّـهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّـهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (النحل ١١٦).

اختلاف نابع من تفاوت الثقة بالحديث النبوي

وقد علمنا سابقاً بأن أكثر فتاوى العلماء واختلافاتهم إنما هي ناجمة عن الاختلاف في درجة الثقة بالحديث النبوي ، أو بين وصول الحديث النبوي الى مجتهد ما ، وعدم وصوله للآخر ، أو بسبب رواية الحديث النبوي بالمعنى ، أو التلاعب في مفرداته وكلماته ، أو الحذف منه ، أو بسبب التصحيف وما إلى ذلك ، وكل هذه الاسباب والعوامل ، أدّت الى الاعتماد على الاصول والقواعد الفقهية ، كالقياس والرأي وعمل

__________________

(١) الأنعام ٣٨.

(٢) النحل ٤٤.

٣٥٥

أهل المدينة والمصالح المرسلة والاستحسان وشرع من قبلنا من أهل الكتاب ، بل وحتى هذ القواعد ، فهناك اختلاف في التعاطي معها أو نبذها والطعن فيها والتشكيك بها ، وهذا يدل على أن عدم الثقة بالحديث النبوي هو السبب في تلك الاجتهادات الفقهية الكثيرة ، وما أفضت اليه من اختلافات شديدة على طول التأريخ الاسلامي ، وبالخصوص في القرون الثلاثة الاولى ، فما علاقة ذلك بما يُشاع عن منطقة العفو المزعومة؟ ثم كيف يزعم القائل بأن الجميع متّبعون وملتمسون من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ويستقون من مَعينه ، مع تلك الفجوة العميقة بين المجتهدين ، وبين الحديث النبوي؟ وهذا الإدعاء يصح فقط في حالة وصول السُنّة النبوية بكاملها للفقيه أو المجتهد ، مع الايمان بصحتها ، وحينذاك يحق للمدّعي القول بأنه يتبع الرسول ويلتمس منه ، غير ان الواقع يثبت عكس ذلك ، ولكل هذه الاسباب الوجيهة ، اختلف الفقهاء تلك الاختلافات الشاسعة ، ونشأت المدارس الفقهية الكثيرة ، وتعدّدت المذاهب والفرق ، وما أفضت اليه من نزاعات وخصومات مريرة ، أضعفت الأمّة ، وأذهبت ريحها ، وشتّتتها وجعلتها مطمعاً للاعداء والمستعمرين.

تحوّل الاختلاف الى عصبيات وصراعات دموية

ونستعرض فيما يلي نماذج مما حدث في التأريخ من نزاعات وصراعات بين أتباع المدارس والمذاهب الاسلامية التي كان للحكام آنذاك دور في تأجيجها :

في عصر الاشرف ابن الملك العادل الأيوبي بدمشق الذي كان يميل الى المحدثين والحنابلة ، حصلت فتنة بين الحنابلة والشافعية بسبب العقائد ، وتعصب عزّ الدين بن عبد السلام الذي سمع من الحنابلة أذى كثيراً ، عليهم وجرت خبطة ، وكانت قد

٣٥٦

فُرضت على عزّ الدين الإقامة الجبرية في داره وكان لا يستفتي أحداً من الناس ولا يجتمع بأحد منهم.

وكان المذهب الشافعي غالباً في كثير من أقاليم الشرق ، كسجستان ، ومرو ، وسرخس ، ونيسابور ، ويذكر ان بين سجستان وسرخس كانت تقع عصبيات بين الشافعية والحنبلية ، تُراق فيها الدماء ، ويتدخل بينهم السلطان (١).

وفي المغرب ، شاع مذهب مالك ، وان الناس كانوا يقولون : لا نعرف إلا كتاب الله وموطّأ مالك ، فإن ظهروا على حنفي أو شافعي نفوه ، وإن عثروا على شيعي أن معتزلي ربما قتلوه. وكان أصحاب مالك يبغضون الشافعي ، لأنه أخذ العلم عن مالك ، ثم خالفه أي الشافعي.

ـ وأتباع المذاهب السًنّية كانوا في نزاع شديد جداً الى حد الاقتتال في الشوارع. وكان الحنابلة متشددين جداً في مسألة العبادة وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثم كانوا لا يكتفون بظاهر أمر الناس ، بل النفوذ الى حقيقة أمرهم ، ولم يكن الاحناف ، أقل تفى أو محافظة على مكارم الأخلاق من الحنابلة ، ولكنهم كانوا يرون ان الاسلام لا يجيز للمسلم أن يعترض في الأمور التي هي بينه وبين نفهس .. من أجل ذلك كان الحنابلة والحنفية ، يتنازعون علناً ويقتتلون (٢).

وكانت الري في أوائل القرن السابع الهجري ، تدمّرها العصبية المذهبية ، يبيد الحنفية والشافعية ، الشيعة أولاً ، ثم يثني الشافعية بالحنفية ، ويبيدوهم حتى يتركوا أحياءهم خراباً.

__________________

(١) انظر : طبقات الشافعية الكبرى ـ السبكي ٨ : ٢٣٨.

(٢) تأريخ الادب العربي ـ عمر فروخ ـ ٣ / ٣٨.

٣٥٧

أما في عهد المماليك ، فكانت هناك خلافات مذهبية ، حيث ان المالكية كان لهم في جامع دمشق ، محراب خاص بهم ، وكان نفر من رجال الدين يجسّمون هذه الخلافات بضروب من الأوهام ، وان أتباع المذاهب السُنّية أنفسهم كانوا لا يصلّي بعضهم خلف بعض (١).

ـ وفي عهد المماليك البرجية ، كان النزاع بين اتباع المذاهب الاسلامية موجوداً ، وخاصة بين الحنابلة والأشعرية والشافعية خاصة ، مما كان مألوفاً منذ قرون (٢).

ـ ولتلافي هذه الاختلافات الشديدة بين المذاهب الاسلامية ، اتخذ الموحّدون اسمهم من الرغبة في (التوحيد) بالاقتصار في أمور الدين على ما جاء في القرآن الكريم والحديث الشريف ، فهم سلفيون لا ينتمون الى مذهب من المذاهب التي كانت قد نشأت من قبل ، وقد نهى يعقوب المنصور (٥٨٠ ـ ٥٩٥ هـ) عن الإفتاء إلا بالكتاب والسُنّة دون القواعد والأصول الفقهية الأخرى ، واباح الاجتهاد لمن اجتمعت فيه شروط الاجتهاد ، كما نهى عن التقليد وعن الأخذ بالامور الخلافية (٣).

وفي أيام المنصور الموحّدي ، تُركت دراسة فروع الفقه (لما كان فيها من الآراء المختلفة في مفردات العبادات وأوجه المعاملات) وتقدّم المنصور الى الناس في ترك الاشتغال بعلم الرأي والخوض في شيء منه ، وتوعّد على ذلك بالعقوبة الشديدة.

ولما دخل الحافظ أبو بكر بن الجد على أبي يعقوب (موحّدي) ، وجد بين يديه

__________________

(١) تأريخ الادب العربي ٣ / ٦٠٩.

(٢) تأريخ الادب العربي ٣ / ٨٨٣.

(٣) تأريخ الادب العربي ٥ / ٣٦٢ ـ ٣٦٣.

٣٥٨

كتاب ابن يونس ، فقال له : انا أنظر في هذه الآراء المتشعبة التي أُحدثت في دين الله .. المسألة فيها أربعة أقوال أو خمسة أقوال أو أكثر من هذا؟ فأي هذه الأقوال هو الحق؟ وأيهما يجب أن يأخذ به المقلّد؟ (١).

هكذا إنتهت الحال بالمسلمين من جراء الاختلافات بين المجتهدين والفقهاء ، ولو اقتصرت الأمور في الفروع والفقه لهان المصاب ، وانما كانت الاختلافات تدور في الكثير من الأحوال في العقائد والأصول ، حتى ان الامام مهدي ، أوصى الناس بقراءة كتب الغزالي ، فصارت قراءتها شرعاً وديناً بعد ان كانت كفراً وزندقة (٢).

إلى هنا نصل الى النتائج التالية :

ـ لم يكن القرآن الكريم قد أشار الى مشروعية الاختلاف أبداً ، وانما وصف الاختلاف كحالة واقعة ، ثم بيّن مساوئ الاختلاف ، وان الحل يكمن في ردّ الاختلاف الى الله ورسوله حتى يضمحل ويتلاشى.

ـ لم يكن الله قد حكم بحكمته أن يكون هناك اختلاف مقبول أن سائغ أو مُعتبر أو حالة مشروعة ، وانما الاتلاف حَدثَ بسبب تعدّد وجهات النظر ازاء الحديث النبوي والقواعد الاصولية والفقهية المختلفة ، وكذلك لعوامل نابعة من ذات الانسان ، كالكذب والتحريف والتصحيف وإلى يغر ذلك.

ـ لم يكن الاختلاف قد حَدثَ في الفروع والفقه فقط ، وإنما امتد ليُطال الاصول والعقائد والامور الكلامية.

ـ ما يُسمى بأدب الاختلاف وأخلاقيته ، لم يكن إلا تبريراً يفتقر الى المصداقية ، إذ

__________________

(١) تأريخ الادب العربي ٥ / ٣٦٧ ـ ٣٦٨.

(٢) تأريخ الأدب العربي ٥ / ٣٦٩.

٣٥٩

كان الاختلاف قد بدأ بالطعون والتسقيط بين الفقهاء وأصحاب المدارس الفقهية ، وانتهى الى صراعات دموية بين الاتباع والمقلدين.

ـ لو تم تدوين الحديث النبوي في وقته ، لما نشأت تلك المدارس الفقهية الكثيرة وما أدّت اليه من مشاحنات ونزاعات طول التأريخ الاسلامي.

٣٦٠