بحث حول الخلافة والخلفاء

منيب الهاشمي

بحث حول الخلافة والخلفاء

المؤلف:

منيب الهاشمي


المحقق: زينب الوائلي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٢

مقطوع بأنه كلام النبي ، وقد أنكر ابن برهان الامام على من قال بما قاله الشيخ ابن الصلاح ، وبالغ في تغليظه (١).

وقال النووي في شرح مسلم : لأن ذلك شأن الآحاد ، ولا فرق في ذلك بين الشيخين وغيرهما (٢).

ويذكر أحد علماء أهل السُنّة والجماعة المعاصرين ، نقداً لمسلم على البخاري ، حيث ان الامام مسلماً يقول بأن العلماء المتقدمين اكتفوا للاتصال بإمكان اللقاء والمعاصرة وحدها ، ثم نقل في آخر المقدمة إثباتاً لدعواه ، ثلاث روايات معنعنة ، قبلها المحدّثون بنفس المعاصرة وإن لم يثبت اللقاء.

وكان الامام مسلم قد قال هذا القول تعليقاً على قول البخاري بان عدم اشتراط السماع يبقي احتمال الانقطاع ، فاذا ثبت التلاقي مرّة ، غلب على الظن الاتصال.

ويعلّق مسلم أيضاً : فإن كانت العلة في تضعيف البخاري للخبر وتركه الاحتجاج ، إمكان الإرسال وانه لا يثبت إسناداً معنعناً حتى يرى فيه السماع من أوله الى آخره ، فيقول مسلم منتقداً البخاري : وكذلك كل إسناد لحديث ليس فيه ذكر سماع بعضهم من بعض وان كان قد عُرف في الجملة ، أن كل واحد منهم قد سمع من صاحبه سماعاً كثيراً ، فجائز لكل واحد منهم أن ينزل في بعض الرواية ، فسمع من غيره عند بعض أحاديثه ثم يرحله عنه أحياناً ، فحينئذ لا يبقى عدد كبير من الأخبار صالحاً للاحتجاج.

ويردّ العلامة الموقّر على مسلم مؤنباً بأنه كيف يليق به أن يتكلم عن الاسناد بمثل

__________________

(١) الضواء على السنة المحمدية ـ ابو رية : ٢٧٨.

(٢) شرح صحيح مسلم ـ النووي ١ : ٢٠.

٣٢١

هذا الكلام ، فإنه سوء أدب ، وان تلميذي الإمام مسلم كليهما لم يسمعا منه (صحيحه) تماماً (١).

ففات أبا محمد القلانسي ثلاثة أجزاء من آخر الكتاب ، أولها حديث الإفك ، وكذلك فات إبراهيم بن محمد سفيان ، ثلاثة مواضع ، فيقال فيها : أخبرنا ابراهيم عن مسلم ، ولا يقال فيها : أخبرنا إبراهيم ، قال : أخبرنا مسلم ، ولا قال : حدّثنا مسلم (٢).

وهنا يعترض مسلم على البخاري في مسألة الاسناد والإشكالات المأخوذة عليه ، في حين ان مسلماً نفسه وقع في تلك الإشكالات لأن العنعنة في كلتا الحالتين ، تثبت المعاصرة وليس بالضرورة تعني نقل الحديث مشافهة من واحد الى الآخر.

ويروي البخاري عن إبن عمر : قال النبي يوم الأحزاب : أن لا يصلي أحد (العصر) إلا في بني قريضة.

ويعلّق ابن حجر : كذا وقع في جميع النسخ عند مسلم (الظهر) مع اتفاق البخاري ومسلم على روايته عن شيخ واحد باسناد واحد!!

وفي الصحيحين ما ينوف على مائتين حديث من الغرائي ، وقد ألف الحافظ الضياء المقدسي في ذلك مُؤلفاً سمّاه «غرائب الصحيحين» ، ذكر فيه ما يزيد على مائتين حديث من الغرائب والأفراد المخرجة في الصحيحين (٣).

ويقول النووي في حديث «الأئمة من قريش» : أخرجه الشيخان ، مع ان لفظ الصحيح : «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم إثنان» وبين اللفظين والمعنيين

__________________

(١) الامام مسلم ـ الشيخ سليم الله خان الموقر ـ ص : ٣٩ ـ مجلة الفاروق العدد السنة ٢٠٠٥ م ـ باكستان.

(٢) شرح صحيح مسلم ـ النووي ١٢ : ١.

(٣) اضواء على السنة المحمدية ـ ابو رية : ٣١٣.

٣٢٢

تفاوت عظيم (١).

وأما الانتقاد الموجّه الى البخاري ومسلم فيما يتعلق بالمتون من جهة مخالفتهما للكتاب أو السُنّة المتواترة ونحو ذلك فلم يتصدّوا ، لأن ذلك من متعلّقات علماء الكلام والأصول (٢).

وهكذا يتضح بأن المزاعم القائلة بأن ما جاء في الصحيحين لا يمكن أو يصح نقده وتجريحه لأنه مقطوع فيه ليس إلا مزاعم تفتقر الى الدليل والمنطق ، لأن علماء أهل السُنّة والجماعة على مرّ ال تأريخ قد انتقدوهما وأظهروا ما فيهما من العلل والضعْف والأخطاء.

__________________

(١) شرح صحيح مسلم ـ النووي ١٢ : ١٩٩ ـ ٢٠٠.

(٢) اضواء على السنة المحمدية ـ ابو رية : ٣١١.

٣٢٣

الاختلاف .. مذموم دائما

في اعتقاد أهل السُنّة والجماعة ـ وكما قرأنا في موضوع الاختلاف ـ ان الخصومة في الدين غير الاختلاف في فروعه التي لم ينص عليها ، واذا تجاوز حدوده يتحوّل الاختلاف من ظاهرة بناء الى معاول للهدم (١).

ولا تتعدّى الاختلافات المقبولة ، القضايا الفقهية التي تضمحل وتزول حين يُحتكم الى النصوص التي تعلو الشبهات من كتاب وسُنّة ، فيذعن الجميع للحق في ظل أدب نبوي كريم ، لأن سبب الخلاف لا يعدو أن يكون عدم وصول سُنّة في الأمر لأحدهم ، ووصولها للآخر ، أو اختلافاً في فهم النص أو في لفظه (٢).

ومن فضل الله ـ حسب المفهوم السُنّي ـ أن جعل الجانب الفقهي في دائرة ما يجوز فيه الاختلاف الذي هو واقع لاشك فيه ، وقد صُنّفت تصانيف لأسباب اختلاف الأئمة في الفروع ، طبق الآية الكريمة : وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً (٣).

__________________

(١) أدب الاختلاف ٢٧.

(٢) أدب الاختلاف ٧٧.

(٣) هود ١١٨.

٣٢٤

والإختلاف بين البشر أمر لا مفرّ منه ، وهو سُنّة كونية أوجدها الباري لحكمة بالغة (١).

وعند الجمهور على الدوام ، ان الخلاف الفقهي ، لم يكن من أصول الشرع ، ولا من أركان العقيدة الاسلامية ، التي يُكفَّر منكرها ، كما لم يكن من نصوص الشرع القطعية في ثبوتها ودلالتها (٢).

وهذا الاختلاف الفقهي في مجرّد الفروع والاجتهادات الفقهية ، لا في الأصول والعقائد ، ولذلك لم يُسجَّل في تأريخ الاسلام ، ان أدّى الى صدام مسلَّح هدّد وحدة المسلمين.

والإختلاف المعتبر السائغ ، مَعْلم من معالم كمال الشريعة وصلاحها لكل زمان وإنسان ومكان ، ودليل على الحيوية الفكرية (٣).

وهو اختلاف تنوّع لا إختلاف تضاد ، ولا اختلاف هوى يؤدي الى الفرقة والتباغض والتحزّب والمعاداة (٤). وهو اختلاف مُخلص ينمّي العلم ، أما الخصومة فتضيّعه.

وهو ظاهرة ايجابية كثيرة الفوائد ، ورياضة للأذهان وتلاقح للآراء (٥).

ولما كان الاختلاف في الفروع ، مشروعاً وطبيعياً جداً وهو من الدين ، فهو في نطاق المتغيرات ، ويشمل ما عدا الاصول والثوابت القطعية ، وفي غير أصول العقائد والعبادات

__________________

(١) أدب الاختلاف ١٠٥ ـ ١٠٦.

(٢) نشأة وتطور الفقه الاسلامي (٢) ـ د. محمود محمد علي ـ مجلة الجذور ـ العدد (١٧) ـ آذار ١٩٩٢ م.

(٣) الخلاف المُعتبر ـ علي بن عبد العزيز الشبل ـ الفاروق ـ السنة ٢٢ ـ العدد ٨٧.

(٤) فقه الثوابت والمتغيّرات ـ الدكتور علي محي الدين القرداغي ـ مجلة الشريعة الاردنية ـ العدد ٤٩٠.

(٥) آدب الاختلاف ٢٧.

٣٢٥

وأكثر ما يظهر في عالم المعاملات والاقتصاد ، وهكذا فان معظم الشريعة ، صادرة عن الاجتهاد ، ولا تفي النصوص بعشر معشارها (١).

وعلى العموم فإن أهل السُنّة ، جعلوا من الاختلاف علْماً ، صنّفوا فيه المصنفات ، والكل ـ على حد زعمهم ـ يستقي من أدب النبوة (٢).

هذا هو ـ باختصار ـ تبرير الجمهور المسلم للاختلاف الذي وقع بعد رحيل الرسول إلى بارئه الاعلى ، ونشوء المدارس والمذاهب الفقهية في التأريخ الاسلامي ، خصوصاً في القرون الثلاثة الأولى.

ونحن كالمعتاد ، قرّرنا التوغل في موضوع الاختلاف بين المسلمين ، لنتقصّى الحقيقة حول هذا الموضوع الخطير ، وهل ان النظرية السُنّية صادقة في الإدعاء بأن الاختلاف إنما حدث في الأمّة بموجب الأمر الالهي ، أو انه حدثٌ غير مشروع وليس للدين أية صلة فيه؟.

وما توصّلنا إليه من استنتاجات ، كانت كما يلي :

ليس هناك أي دليل من القرآن أو السُنّة النبوية يثبت مشروعية الاختلاف ، أيا كان نوع هذا الاختلاف ، سواء كان اختلافاً فقهياً في الفروع ، أو في العقائد والأصول ، بل على العكس ، فإن القرآن الكريم طالما ندّد بالاختلاف والفرقة والشقاق باعتبارها أموراً سلبية تؤثر على تماسك الأمّة الاسلامية كما سنرى.

ان الاختلاف والخصومات التي حدثت بين المدارس الفقهية ، بل وبين الفقهاء أو أصحاب المذاهب أنفسهم ، حتى في بداية نشوء تلك المدارس والمذاهب ، لم تكن

__________________

(١) فقه الثوابت والمتغيرات ـ د. علي محي الدين القرداغي ـ مجلة الشريعة الأردنية ـ العدد ٤٩٠.

(٢) أدب الاختلاف ـ ١٢٦.

٣٢٦

اختلافات تلتزم بآداب الاختلاف في أكثرها ، وانما كانت صراعات وخصومات أدّت الى كثير من المصادمات الفكرية والعقائدية والفقهية ومن ثَم جدّت نزاعات دموية أيضاً مما أحدث شروخاً في جسد الأمّة الاسلامية لا تزال تثن منها لحد الآن.

ان السباب والتسقيط والاتهام في الدين ، والطعن في المعتقد الذي كان يدور بين الكثير من الفقهاء ، وخاصة الكبار منهم ، هو الأمر المشهور في ذلك الوقت ، وبالذات في القرنين الثاني والثالث الهجريين التي تُعتبر خير القرون حسب منطق الجمهور.

والآن ... نتناول بعض الآيات القرآنية التي نزلت بخصوص الاختلاف والفرقة والخصومة ، والموقف الالهي منها : أول هذه الآيات القرآنية التي يتمسّك بها أصحاب المذاهب ، باعتبارها تضفي مشروعية على الاختلاف بين المذاهب والطوائف والفرق ، كأمر وقع لا مفرّ منه ، ولابد أن يحصل كشيء طبيعي مقبول ... هذه الآية هي : وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ١١٨ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١).

ان هذه الآية المباركة تبيّن ان الله تعالى لم يشأ أن يجعل من الناس أمّة واحدة لأنه انما خلقهم للامتحان والاختبار ، وهم يختلفون دوماً عدا الذين رحمهم الله ، وإن مصير الذين اختلفوا في النهاية ، جهنم لأنهم عصوا الله ورُسُله ، ولو أطاعوهما لما اختلفوا ، وكانت الجنة ـ حتماً ـ مأواهم.

ومن المؤكد ان الآية جاءت لذم الاختلاف لا لِمَدْحه ، لأنها أوضحت عاقبة المختلفين ، ولا نفهم كيف أصبحت ذريعة لتشجيع الاختلاف والتنظير له كما يؤكد

__________________

(١) هود ١١٨ ـ ١١٩.

٣٢٧

الكثير من علماء الجمهور؟ كلّما في الأمر ان الله أوضح ان الاختلاف من شيمة البشر ، وهو خصلة مذمومة حتماً ، لكنه لم يمدحها أبداً ، ولم يقل إنها رحمة للناس ، وان الاختلافات في الفروع مقبولة بعكس الاختلافات العقائدية والاصولية.

أما الآية القرآنية الأخرى التي نزلت بخصوص الاختلاف والفرقة وتوضيحهما ، هي قوله تعالى : وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١). وهذه الآية صريحة جداً في ان الله إنما خلق الناس أمّة واحدة ـ بالفطرة ـ ، إلا انهم اختلفوا باتّباعهم للشيطان ونفوسهم الأمّارة بالسوء ، ولولا إرسال الرُسُل والكتب المقدسة ، لانقرضت الانسانية من جراء الاختلاف ، غير ان الله بلطفه ، منع العاقبة المأساوية للبشرية.

وهذه الآية هي الأخرى ، جاءت لذم الاختلاف وانه سبب هلاك الامم بالرغم من ان الله خلق البشر للتوافق والاجتماع لا للإختلاف والخصومة والتمزق.

ولا يحدد الله تعالى او يميّز بين الاختلاف الفقهي ، والاختلاف العقائدي عند ذم الاختلاف واعتباره من المآسي البشرية وسلبيات الانسان في الآيات السابقة.

أما الآيات الأخرى في هذا الشأن ، فكلها يذمّ الاختلاف الذي كان من شأن الامم السابقة التي اختلفت من بعد أن جاءتها البينات ، أي الرُسُل والكتب السماوية ، حيث كان على هذه الأمم وبالأخصّ ابناء الأمة اليهودية والمسيحية ـ أن يتّبعوا ويطيعوا رُسلهم حتى يزول الاختلاف ويضمحل ، لكنهم بغوا وتمادوا في عصيانهم ، مما أدّى الى الاختلاف والشقاق والخصومات وبروز المذاهب الدينية العديدة بد رحيل انبيائهم كما هو معروف.

__________________

(١) يونس ١٩.

٣٢٨

بل وصف القرآن الكريم ، التفرّق في الدين من صفات المشركين : وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ٣١ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا (١) ، وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ (٢) ، وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٣). وهنا وصف الله تعالى التفرّق بعد إقامة الحجة ، بغْياً بين الذين تفرّقوا واختلفوا وكانوا شيعاً ومذاهب وفِرَقاً كثيرة : وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤).

أي ان الذين أوتوا الكتاب من بني إسرائيل وغيرهم ، تفرّقوا واختلفوا ، وأنشأوا المذاهب والفرق والنحل ، انما خطوا تلك الخطوات بالرغم من دعوات أنبيائهم للوحدة والاجتماع ووحدة الكلمة؟

: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّـهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّـهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (البقرة ٢١٣).

وهذه الآية الكريمة واضحة جداً في بيان الموقف الالهي من الاختلاف بين الناس

__________________

(١) الروم ٣١ ـ ٣٢.

(٢) الشورى ١٤.

(٣) يونس ١٩.

(٤) البينة ٤.

٣٢٩

وكيفية إزالته ، فالناس كانوا أمّة واحدة بالفطرة الالهية ، فاختلفوا بفعل اتّباعهم للشيطان الرجيم الذي أغواهم وحثّهم على الاختلاف والفرقة والتناحر ، فبعث الله النبيين والرُسُل من أجل حل مشكلة الاختلاف بين الناس لكي يتحِدوا كما يريد الله تعالى لهم ذلك ، غير انهم تمادوا في اختلافهم وتفرّقهم بعدما جاءت البينات ، إلا قليلاً هداهم الله الى الحق واتحدوا تحت ظل التشريع الالهي ، لذا قالت آية أخرى : ليبين لهم الذي يختلفون فيه.

وآيات قرآنية أخرى دعتهم الى سبيل الله ليتّبعوه ، ولا يتّبعوا السُبُل الأخرى التي تفرّقهم ولا تجمعهم : وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ (١).

وحذّر الله تعالى الذين فرّقوا دينهم ، واختلفوا وكانوا شيعاً وفرقاً ومذاهب بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس منهم في شيء : إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ (٢).

وبيّن الله ان الذين تفرّقوا من بعدما جاءتهم رسالات السماء بأن مصيرهم جهنم والعذاب العظيم : وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٣).

بل ان القرآن الكريم لكونه من عند الله ، وليس من صنع البشر ، فهو لم يتضمن

__________________

(١) الأنعام ١٥٣.

(٢) الأنعام ١٥٩.

(٣) آل عمران ١٠٥.

٣٣٠

أي اختلاف ، لأن الاختلاف مذموم عند الله بأي حال من الأحوال : وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّـهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا النساء ٨٢.

ولعدم مقبولية الاختلاف عند الله أو الفرقة بين المؤمنين ، فقد ذمّ تأسيس المنافقين لمسجد ضرار الذي كان أحد أهدافه بثّ الفرقة والاختلاف بين المؤمنين : وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ (١).

وحين أمر الله تعالى المسلمين جميعاً بالتمسك بحبل الله والاعتصام به وعدم التفرّق والاختلاف الذي يؤدي الى الضعف وذهاب قوة المسلمين ومناعتهم ، علينا أن نتقصى معنى حبل الله في آيته الكريمة : وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا (٢) ، يقول علماء الجمهور عن حبل الله وهو القرآن : من وظائفه العامة ، رفع طرف معين الى الاعلى ، وصون الاطراف المتفقة أو المختلفة من التفكيك والتفرّق ، وهي وظائف مثّلها القرآن العظيم أحسن تمثيل.

كما ان الهدف الذي رام تحقيقه ، أن يكون المؤمنون الصادقون ، بعيدين عن كل فرقة أو نزاع ، حريصين على تجنب كل ما يلحق بصفوفهم الشقاق وحتى الصداع ، فكم من حرب شنها على المتفرّقين ، وكم من نذير أنذره الذين هم بأوضاعهم غير معتبرين.

والحال هذه انّ القرآن الكريم في حربه ضد الاختلاف والفرقة والشقاق والنزاع بين المؤمنين ، وما يؤول اليه من تمزيق لوحدة المسلمين وتشتّتهم وضعفهم وزوال قوتهم وذهاب ريحهم ، لم يكن ليفرّق بين اختلاف واختلاف ، إذ ان كل اختلاف أو نزاع سواء

__________________

(١) التوبة ١٠٧.

(٢) آل عمران ١٠٣.

٣٣١

كان فقيهاً أو عقائدياً أو كلامياً وما إلى ذلك ، فهو اختلاف مرفوض لا يرضاه الله لعباده أبداً لأنه معروف النتائج مُسبقاً ، ولا يؤول إلا الى عواقب سيئة ووخيمة تهدّد مصير الأمّة أمام أعدائها على المستوى القريب أو البعيد.

ولما كان القرآن الكريم ، وهو الميزان الحق في سلوك المسلمين وعملهم نهجهم في الحياة ، يأبى عليهم أي اختلاف أو نزاع أو خصومة وما شاكل ذلك ، فكيف يحق لأحد ان يدّعي ان الله تعالى أباح لعلماء المسلمين أن يختلفوا وذلك لأن الاختلاف في هذا المجال ، رحمة للمسلمين وسعة وذو منافع وفوائد عديدة ، وهو ظاهرة بناء لا هدم وغير ذلك من حجج وذرائع أطلقها مؤيدو نشوء المذاهب والفرق والطوائف في التأريخ الاسلامي ، ولا يمتلكون أيّ مُسوّغ أو دليل ، سواء كان من القرآن الكريم أو السُنّة النبوية الشريفة كما سنعرف بعد قليل.

وآية أخرى صريحة بأن المؤمنين ينبغي عليهم اذا تنازعوا في شيء ، واختلفوا في أي أمر من الأمور أن يردوه الى الله ورسوله ، أي الى القرآن الكريم والسُنّة النبوية ، وبذلك سيزول اختلافهم وتتحد كلمتهم وأقوالهم المختلفة ، اذا كانوا فعلاً يؤمنون بالله واليوم الآخر : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ... وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (١).

وآية أخرى أكثر صراحة في هذا المقام ، تدعو المسلمين أن يحكّموا الرسول في نزاعاتهم واختلافاتهم ، ويتقبّلوا حكمه وقضاءه ، ويسلّموا له دون أي نفور أو كراهية في أنفسهم ، وإلا فانهم ليسوا بمؤمنين : فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا

__________________

(١) النساء ٥٩.

٣٣٢

شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... تَسْلِيمًا (١).

والذين فرّقوا دينهم الى مذاهب وفرق واتجاهات متعدّدة ، يبرأ منهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وليس له أدنى مسؤولية عن تفرّقهم ، وأمْرهم وعاقبتهم الى الله الذي سينبؤهم يوم القيامة بما كانوا عليه من التشتّت والتمذهب والتفرّق في الدين : إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّـهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٢).

وآية أخرى تؤكد بأن مهمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هي تبيين أسباب الاختلافات بين الناس : لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ... (٣).

بل والاكثر من هذا ، ان الله إنما أنزل القرآن على رسول الله لكي يبيّن للناس ، ويوضّح الاختلافات الناشئة فيما بينهم حتى تزول وتضمحل ، ويصبحوا متلاحمين ومتحدين ، لا يتناحرون فيما بينهم : وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ... يُؤْمِنُونَ (٤).

وهناك آية في هذا المجال ، تشدّد على ان الله يبتلي المؤمنين ويبيّن لهم يوم القيامة ما كانوا فيه من الاختلاف والتناحر : وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا ... تَخْتَلِفُونَ (٥).

__________________

(١) النساء ٦٥.

(٢) الأنعام ١٥٩.

(٣) النحل ٣٩.

(٤) النحل ٦٤.

(٥) النحل ٩٢.

٣٣٣

والله حذّر المسلمين أن لا يكونوا من المشركين الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً وفرقاً متعدّدة : مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ... فَرِحُونَ (١).

وقد حدّد الله تعالى الطريق الرحب لحل مشكلة الاختلاف بين المسلمين ـ فقهاء وغير فقهاء ـ وذلك بأن يعودوا الى الله الذي يمثّله القرآن الكريم والسُنّة النبويّة الشريفة ، وبذلك تزول الاختلافات بين المسلمين ـ أصولاً وفروعاً ـ فقهاً وعقائد : وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّـهِ ... أُنِيبُ (٢).

وأوضح الله سبحانه وتعالى موقفه من الاختلاف بصورة جلية في آية قرآنية حيث قال بأنه يوصي المسلمين كما أوصى الانبياء من قبل أي نوح وابراهيم وموسى وعيسى بأن يطبّقوا الدين على أنفسهم ولا يتفرقوا فيه إلى شيع ومذاهب وأحزاب مختلفة : شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ ... مَن يُنِيبُ (٣).

الاستنتاج

ماذا يمكن ان نتوصل اليه من حقائق ، خلال إستقرائنا للموقف القرآني من الاختلاف والتفرّق والتمذهب الذي نشأ بين اتباع الامم المختلفة عبر الحقب المتعاقبة للرسالات السماوية حتى الرسالة الاسلامية الخاتمة؟

يمكن ان نتوصل الى ما يلي :

يؤكد القرآن الكريم أنَّ الاختلاف قد شاع بين أتباع الديانات المختلفة ، وفي

__________________

(١) الروم ٣١ ـ ٣٢.

(٢) الشورى ١٠.

(٣) الشورى ١٣.

٣٣٤

مقدمتها ، اتباع النبي موسى وعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بسبب معصيتهم لانبيائهم وعدم تمسّكهم بالكتب المقدسة ، وأوامر أولئك الانبياء كما ينبغي ، وذلك لاختلافهم في التعاطي مع تلك الكتب وتطبيقها على مسيرتهم وحياتهم على وفق أهوائهم ومصالحهم الضيقة ، وأفضى ذلك الى انقسامهم الى مذاهب وفرق متناحرة ، وقد بيّن القرآن الكريم ان مصير هؤلاء الى النار والعذاب الأليم.

١ ـ أجمعت الآيات القرآنية التي تناولت موضوع الاختلاف على ان الذين اختلفوا في دينهم ، انما جاء هذا الاختلاف والتفرّق والتنازع بعد نزول الحجج الالهية عبر الانبياء ، ولذلك فهم غير معذورين في تلك الاختلافات التي أثاروها بعد وضوح البينات والحجج في المناهج السماوية التي أرشدتهم الى مَواطن الوحدة والتلاحم والتوافق في ظل المسيرة الموحّدة للتعاليم الدينية التي شخصت مواطن الاختلاف والفرقة وحذّرتهم من ولوجها ، ولذا فإن اختلافاتهم ونزاعاتهم برزت بسبب عصيانهم لرُسُلهم وعدم تمسّكهم بالقيم الدينية الالهية بالصورة الصحيحة التي يرتضيها الله ورُسُله (عليهم السلام).

وحدّد القرآن الكريم الحلّ لازالة الاختلاف ومحْوه من خلال العودة الى الله وكتبه وأنبيائه ، والتمسّك بالمبادئ السماوية بشكل كامل ، وعدم الاذعان للأهواء والمنافع والنَزَعات النفسية المريضة ، وبذلك يقبل الله من تلك الأمم أعمالها ويجزيها خير الجزاء ، ويعدها بالجنة والحياة السعيدة.

لم يشر القرآن الكريم في تطرّقه لمسألة الاختلاف والنزاع ، الى أي نوع من الاختلاف يعني ، وانما جاء التعبير بلفظ عام ، ليشمل كل الاختلافات ، سواء العقائدية ، أو الفقهية والتعبدية التي تخص فروع الدين.

٣٣٥

٢ ـ ان الاختلافات الدينية بين الناس ، تنبع في الأساس ، من عصيانه وعصيان رُسُله ، وعدم اتّباع التعاليم الالهية بصورة تامة ، وقد أوضح القرآن ذلك بأفضل صورة في قوله تعالى : وَأَطِيعُوا اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ... (١).

وقد عطف الله تعالى النزاع بين المسلمين على أمره باطاعته وإطاعة رسوله مباشرة ، لأن عصيان الله والرسول ، يستتبع حدوث نزاع وإختلاف بين الأتباع ، لكون عصيان الأوامر الالهية يؤدي الى إتّباع الأهواء وما تُمليه النفوس من ظنون وأفكار لا تمت للدين بصلة ، ويحسبها الأتباع وكإنها هي الدين نفسه ، ويحسب كل طرف أو فرقة متنازعة مع الفرق الأخرى انها على الحق ، وهي الصواب دون الفرق والنحل الأخرى ، وبذلك يحصل النزاع والاختلاف الذي يؤدي الى صراعات مدمّرة ، تُضعف الأمّة أيما ضعف وهوان ، الى درجة يصفها القرآن الكريم ، بذهاب الريح وتكالب الاعداء عليها من كل جانب ، وانها لو أطاعت الله ورسوله كما ينبغي ، لما حصل أي نزاع أو اختلاف أو شقاق.

هذه ال رؤية القرآنية لقضية الاختلاف ، وليس هناك أي رؤية أخرى يطرحها كتاب الله في هذا المجال.

الاختلاف في حديث رسول الله

ولو توغّلنا أكثر في مفهوم الاختلاف عند أهل السُنّة والجماعة ، لوجدنا ان

__________________

(١) الأنفال ٤٦.

٣٣٦

الاختلاف في مدرسة الجمهور ، ليس كما يدّعي الذين ينظرون إليه وكأنه حالة ايجابية مقبولة ومشروعة في الدين ، بل هناك نهي عن الاختلاف لما يمثّل من حالة سلبية لا يرضاها الله سبحانه وتعالى ، لأنها تؤدي الى النزاع والتناحر وزعزعة تماسك الأمّة الواحدة.

ألم يروِ صحيح البخاري ـ وهو أصح كتاب بعد كتاب الله عند الجمهور المسلم ـ بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : لا تختلفوا فتختلف قلوبكم؟ (١) ، بل وصحيح مسلم يرويه أيضاً ، ألم يقل صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما أفْلت ذوالخويصرة من ملاحقة أبي بكر وعمر بن الخطاب ، بأنه لو قُتل لما اختلف من الأمّة إثنان. وذوالخويصرة هذا هو الذي أسّس فرقة الخوارج فيما بعد ، والتي أدت الى نشوء الفرق والمذاهب في الأمّة الاسلامية بعد ذلك.

ثم أردت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قائلاً : إن بني اسرائيل افترقوا إثنين وسبعين فرقة ، وان هذه الأمّة ستفترق ثلاثاً وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا فرقة واحدة (٢).

ولم يكن توقّع الرسول بأن الأمّة الاسلامية ستفترق الى هذا العدد من الفرق التي تفاوتت بين الاختلاف العقائدي أو الفقهي ، الا كوْن إختلافاتها هذه ستفضي بالأمّة الى التمزق ثم الانهيار والابتعاد عن شرع الله الحقيقي الذي نزل على رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

علماء الأمّة وذم الاختلاف

فمن علماء الجمهور (رشي رضا) يقرّ في تفسير المنار بأن من أعظم ما ابتليت به الفِرق الاسلامية ، رمي بعضهم بعضاً بالفسق والكفر مع ان قصد الكل الوصول الى

__________________

(١) صحيح البخاري ٣ : ٨٩.

(٢) مسند أحمد ٤ : ١٠٢.

٣٣٧

الحق بما بذلوا جهدهم لتأييده والاعتقاد به والدعوة اليه ... فأين الاختلاف المبني على الاحترام المتبادل والاسلوب المهذّب في التعاطي بين المدارس الفقهية كما يدّعي البعض؟.

ويقول صاحب كتاب (رسالة الطوفي) بالحرف الواحد : فإن قيل : خلاف الأمّة في مسائل الأحكام ، رحمة وسعة ، فلا يحويه حصرهم من جهة واحدة لئلا يضيق مجال الاتساع ، قلنا : هذا الكلام ليس منصوصاً عليه من جهة الشرع حتى يُمتثل ، ولو كان ، لكان مصلحة الوفاق أرجح من مصلحة الخلاف فتقدّم.

ان الاختلاف في الواقع بدأ في عهد الصحابة ، حيث يذكر كتاب جامع العلم وفضله لابن عبد البر ، أقوال الصحابة بعضهم في بعض ، وكذلك أقوال أئمة التابعين بعضهم في بعض ، وهي أقوال يظهر انها تتضمن طعوناً واتهامات وتسقيطات تمليها اختلافات عقائدية ودينية ومذهبية.

ويبدو ان التعصّب المذهبي ، ولّد ضيق الصدر ، والزهد في الاطلاع على محاسن المذاهب الأخرى ، ودين الله في مجموعها لا في واحد منها كما يقول أحد كبار علماء السُنّة.

وهذا القول اعتراف صارخ بأن الاختلاف بين المذاهب الاسلامية الفقهية ، كان جارياً على طول التأريخ ، وليس التعصب المذهبي إلا نتيجة من نتائج الاختلاف الفقهي بين المذاهب والمدارس الفقهية التي كانت منتشرة في القرنين الثالث والرابع الهجريين.

أما الادعاء بأن دين الله في مجموع المذاهب الاسلامية وليس في واحد منها ، فإنه يدلّ على ان كل مذهب على انفراد ، قاصر في تبيان الأحكام والتشريعات الاسلامية ، ولا يجسّد الدين الاسلامي تماماً ، فكيف والحال هذه يبرئ ذمة المقلّدين من المسلمين الذين يتبعون هذا المذهب أو ذاك؟

٣٣٨

بل ان القول بأن دين الله في مجموع المذاهب الاسلامية كلها وليس في واحد منها ، هي دعوة للمسلمين بتقليد كل المذاهب الاسلامية الموجودة على مرّ العصور حتى يكونوا على الاطلاع الكامل بالأحكام الاسلامية التي يضمّها الدين الاسلامي ، وهي خطوة مستحيلة ، وبذلك يضطر المسلمون لتقليد مذهب اسلامي واحد وان كان ناقصاً ومقصّراً ومبتوراً.

مفاسد الاختلاف

أما الامام الغزالي الذي عاش في القرن الخامس الهجري فيؤمن بتفشي الاختلافات ، ليس على مستوى الاختلاف الفقهي فحسب وإنما امتد ليطال الاختلافات العقائدية التي وضع أمامها كبار علماء الجمهور خطاً أحمر ، باعتبارها غير مشروعة في الدين الاسلامي. يقول الغزالي (ت ٥٠٥ هـ) : فأكب الناس على علم الكلام ، وزعموا ان غرضهم الذبّ عن دين الله ، والنضال عن السُنّة وقمع المبتدعة ، ... لما كان قد تولّد من فتح بابه من التعصّبات الفاحشة ، والخصومات الفاشية المُفْضية الى إرهاق الدماء وتخريب البلاد. فترك الناس الكلام وفنون العلم وانثالوا على المسائل الخلافية (١).

فكيف يحث لصاحب كتاب (دفاع عن العقيدة والشريعة) أن يدّعي بأن خلافاً فقهياً ونظرياً نشب بين مذاهب السُنّة نفسها ، بل بين أتباع المذهب الواحد منها ، ومع ذلك فقد حال العقلاء دون تحوّل هذا الخلاف الى خصام ، بارداً كان أو ساخناً؟

أو الذي يزعم بأن كرام الائمة من السلف كانوا يلتزمون بآداب الاختلاف ،

__________________

(١) إحياء الدين ـ الغزالي ١ : ٧١.

٣٣٩

وآداب سلفنا الصالح ، لا يمنع اختلاف الآراء من التقاء القلوب (١). وكنا قد قرأنا كيف ان أصحاب المذاهب الكبار ، كانوا يكفّر أحدهم الآخر ويطعن في إيمانه وتقواه ويلعنه أمام تلامذته ، ويُخرجه من ملّة الاسلام؟ فمن حق الاتباع والمقلّدين أن يقتدوا بأئمتهم وأصحاب مذاهبهم ، ويتوسّعوا في الاختلاف الى درجة النزاع والاصطدام وإراقة الدماء.

ويقول أحد مفكري الجمهور : لقد اتفقنا على فن الاختلاف ، وافتقدنا آدابه والالتزام بأخلاقيته ، فكان أن سقطنا فريسة التآكل الداخلي ، والتنازع الذي أورثنا هذه الحياة الفاشلة ، وأدى الى ذهاب الريح (٢).

ولقد حذّرنا الله تعالى من السقوط في علل الأديان السابقة ، وقصّ علينا تأريخهم للعبرة والحذر ، فقال : وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ٣١ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣).

واعتبر الاختلاف الذي يسبب الافتراق والتمزّق ، ابتعاداً عن أي هدي للنبوة ، أو انتساب لرسولها ، حين قال تعالى : «ان الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء» ، ذلك ان اهل الكتاب لم يُؤتوا من قلّة علم وضآلة معرفة ، وانما كان هلاكهم لأنهم وظّفوا ما عندهم من علوم ومعارف للبغي بينهم ، فهل ورثنا علل أهل الكتاب بدل أن نرث الكتاب؟ وهل ورثنا البغي بدل أن نرث العلم والمعرفة ونلتزم بأخلاقهما؟ ان الاختلاف والبغي وتفريق الدين من علل أهل الكتاب التي كانت سبباً في هلاكهم ،

__________________

(١) أدب الاختلاف ١٥٠ ـ ١٥١ ـ ١٥٢.

(٢) أدب الاختلاف ٨ ـ ٩.

(٣) المصدر السابق.

٣٤٠