بحث حول الخلافة والخلفاء

منيب الهاشمي

بحث حول الخلافة والخلفاء

المؤلف:

منيب الهاشمي


المحقق: زينب الوائلي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٢

المذاهب السُنّية الاربعة تحت المجهر

الامام ابو حنيفة والانتقادات اللاذعة

تُرى هل صحيح ان الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة؟ (١).

وهل صحيح انه إمام في الفقه ، وبَلغَ في الفقه منزلة لم يصل إليها أحد ممن عاصره؟ (٢). وهل هو أفقه من الآخرين وإمام أهل الرأي والامام الاعظم ، وهو المحدّث الأمين .. الثقة ... الأدق فطنة .. وإنْ كان أحدٌ ينبغي له أن يقول برأيه فهو ابو حنيفة النعمان فحسب.

كنا نتصوّر ان الهالة التي أحاطها به المؤرخون وأتباع المذهب الحنفي بالذات ، لا تسمح لأحد بتوجيه نقد ولو بسيط لعميد المذهب أبي حنيفة الامام الاكبر؟

ولكن عندما نتصفّح التأريخ ، ونقلّب صفحاته بدقة ، نكتشف ان أبا حنيفة كان الفقيه السُنّي الذي نال القسط الاوفر من الاتهامات والطعون والانتقادات اللاذعة والتجريح البليغ من لدن أقرانه أصحاب المذاهب الأخرى ، والفقهاء من زملائه المعاصرين له ، أو الذين جاءوا من بعده.

__________________

(١) تأريخ بغداد ـ الخطيب البغدادي ١٣ : ٣٤٥ ؛ تذكرة الحفاظ ـ الذهبي ١ : ١٦٨ ؛ البداية والنهاية ـ ابن كثير ١٠ : ١١٤.

(٢) المذاهب الفقهية : ٣١.

٢٢١

وأولى الملاحظات التي ينبغي توجيهها للمذهب الحنفي ، أن أبا حنيفة النعمان لم يكن يرضى أن يقلّده الآخرون من تلامذته ، فهو أساساً غير متيقن من فتاواه وأحكامه ، فهو على حد قوله : يرى الرأي اليوم ويتركه غداً ، ويرى الرأي غداً ، ويتركه في غده ، ولذلك نهى أتباعه من تدوين كل ما يسمعونه منه (١).

ولم يشأ أبو حنيفة ، الانتصار لرأيه ، إذ شجّع تلاميذه على الاستقلال برأيهم ، ونهاهم عن التزام أقواله ، وتحرّر بعضهم من التقليد الأعمى له ، كلما انقدح لهم وجه الحق في غير مقالة أبي حنيفة ، ووجدوا الدليل المُخالف لما ذهب إليه (٢).

فكيف إذن يحق لأحد ، التأكيد ان أبا حنيفة ، أعلم الفقهاء المعاصرين له؟ وهناك من يكتشف أخطاءه ومثالبه الفقهية؟

بل ان قول أبي حنيفة بالخصوص : هذا الذي نحن فيه رأي ، لا نجبر أحداً عليه ، ولا يجب على أحد قبوله بكراهية ، فمن كان عنده شيء أحسن منه فليأت به (٣) ، لدليل على عدم إطمئنان الامام بفتاواه وأحكامه ، وإن هناك من الرجال ، من هو أعلم منه ، وأعمق في التفقّه والإفتاء.

ثم ان أبا حنيفة ، لم يؤلّف في مذهبه كتباً ، لأنه لم يكن يُريد أن تصبح أحكامه وأقواله ، مرجعاً للآخرين ، وهو بالتالي كان فقيهاً كالفقهاء الآخرين من قبله ، كفقهاء المدينة وغيرهم ، من أمثال سعيد بن المسيب وسفيان بن عيينة وأبي ثور وسفيان الثوري الخ .. ولكن تلاميذه ، كأبي يوسف القاضي ومحمد بن الحسن الشيباني ، هم الذين ألّفوا

__________________

(١) المذاهب الفقهية : ٤٥.

(٢) المذاهب الفقهية : ٤٤.

(٣) أدب الاختلاف : ٧٧.

٢٢٢

الكتب في المذهب ، وبالتالي شاع الفقه الحنفي وتحوّل الى مذهب وكُرِّس في المجتمع وذاع صيته ، خاصة وان أبا يوسف تولّى القضاء على مذهب استاذه ، مما ثبّت أحكامه.

والمعروف ان أبا حنيفة كان يأبى التعامل مع السلطة العباسية أو تولّي القضاء لها ، ولذلك آثر المكوث في السجن على القضاء حتى مات وهو في سجن أبي جعفر المنصور ، فكيف يحق لأبي يوسف والعديد من تلاميذ أبي حنيفة ، أن يتمرّدوا على موقف استاذهم ، فيتولّوا القضاء للخليفة العباسي هارون الرشيد والخلفاء من بعده ، خاصة وان الخلفاء العباسيين المتوارثين للحكم ، كانوا ظَلَمة حسب اعتقاد الامام أبي حنيفة ، ولم يكن يسوّغ التعامل معهم ، ولسنا ندري لو طال به العمر ، ورأى تلاميذه يُسارعون في تولّي القضاء للحكام العباسيين ، فماذا كان ردّ فعله سوى نعتهم بالخيانة؟ ولولا تولّي هؤلاء للقضاء والوظائف الحساسة في البلاط العباسي ، لما شاع المذهب الحنفي الذي دوّنه أبو يوسف القاضي وأقرانه ولَما بلغ هذه الشهرة والانتشار.

إذ ان أبا يوسف أول من صنع أصول الفقه على مذهب استاذه ، وبثّ علمه في اقطار الأرض ، ولم يكن الامام ابو حنيفة سوى فقيه يقر بالخطأ والزلل والقصور ، وان رأيه مجرد رأي قابل للنقاش والرفض أو القبول ، ولم يكن يَدور في خلده ان تصبح فتاواه وأحكامه ، مذهباً مشهوراً يُطبق الآفاق من خلال تلاميذه وأتباعه الذين تبوأوا المقاعد القضائية والوظيفية للبلاط العباسي الذي كان يتهرّب منه الامام نفسه!! (١).

ونأتي الآن للخوض في حيثيات المذهب الحنفي نفسه ، لنعرف مدى صحة الادعاءات التي أطلقها أصحاب المذهب الحنفي والمدافعون عنه ، حول أعلمية الامام أبي حنيفة وفقاهته التي لم يبلغها أحد من معاصريه.

__________________

(١) المذاهب الفقهية : ٤٦ ـ ٥٣.

٢٢٣

أبو يوسف على خطى أستاذه

لم يطع أبو يوسف استاذه أبا حنيفة عندما نصحه بعدم كتابة كل ما يسمعه منه ، لأن أحكامه وفتاواه تتغير باستمرار ولا تعرف الثبات ، بينما يقول أبو يوسف انه لم يخالف أبا حنيفة في آرائه أبداً وانما إذا اصدر حكماً مخالفاً لحكم أبي حنيفة في الموضوع نفسه ، فإنما هو حكم سابق لاستاذه كان أصدره ثم رغب عنه. بمعنى ان ابا يوسف يستنسخ آراء استاذه جملة وتفصيلاً.

غير ان أبا يوسف القاضي تمرّد على تعاليم استاذه أبي حنيفة حين أخذ يفتي للسلطان بلا حساب ، بعد أن أصبح قاضياً لبني العباس ، نفقد أفتى لزبيدة زوجة الرشيد بما تحب وترغب ، فجازته خير جزاء ، وبعثت له أموالاً وموادَ نفيسة مقابل فتاواه وأحكامه. وصلّى هارون الرشيد ـ مرة ـ إماماً وقد احتجم ، فصلى الامام أبو يوسف خلفه ، ولم يُعد الصلاة مع ان الحجامة عنده تنقض الوضوء (١).

ولم يتورع أبو يوسف القاضي ان يقول في أستاذه : ان أبا حنيفة كان مُرجئاً جهمياً حتى مات على ذلك ، فقيل له : فأين أنت منه؟ قال : إنما كان مدرّساً ، فما كان من قوله حسناً قبلناه ، وإن كان قبيحاً تركناه (٢).

موقف مالك من أبي حنيفة

ويكشف مالك بن أنس عن حقيقة ابي حنيفة بالقول : لو خرج على هذه الأمّة بالسيف كان أهون ، اببا حنيفة كَادَ الدين ، ومن كَادَ الدين فليس له دين (٣). وما ينبغي

__________________

(١) أدب الاختلاف : ١١٨.

(٢) تأريخ بغداد ـ الخطيب البغدادي ١٣ : ٣٧٢.

(٣) المصدر السابق ١٣ : ٤٠١.

٢٢٤

لبلد يُذكر أبو حنيفة فيه أن يُسكن (١). وما ولد في الاسلام مولود اضرّ على أهل الاسلام من أبي حنيفة (٢). وكانت فتنة أبي حنيفة أضرّ على هذه الأمّة من فتنة إبليس (٣).

موقف أحمد بن حنبل من ابي حنيفة

كان ابن حنبل عندما يكتب الحديث ، يختلف الى أبي يوسف القاضي لأنه أميل إليه من أبي حنيفة. وعند ابن حنبل ان رأي أبي حنيفة مذموم (٤). وصرّح ابن حنبل في رسائل عقائده بثلُب أبي حنيفة.

موقف الشافعي من أبي حنيفة

وحين نظر الشافعي في كتاب لأبي حنيفة فيه عشرون ومائة ، أو ثلاثون ومائة ورقة ، وجد فيه ثمانين ورقة في الوضوء والصلاة ، ووجد فيه إما خلافاً لكتاب الله ، أو لسُنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو اختلاف قول ، أو تناقضاً ، أو خلاف قياس.

سأل ابن إدريس الشافعي محمد بن الحسن الشيباني : نشدتك الله من كان أعلم بسُنّة رسول الله : مالك أو أبو حنيفة : فقال : مالك ، ولكن صاحبنا أقيس. فقال الشافعي : قلت نعم ، ومالك أعلم بكتاب الله من أبي حنيفة ، فمن كان أعلم بكتاب الله وسُنّة رسوله ، كان أولى بالكلام ، فيسكت الامام محمد بن الحسن (٥).

__________________

(١) راجع : تأريخ بغداد ـ الخطيب البغدادي ١٣ : ٤٠١.

(٢) المصدر السابق ١٣ : ٤٣٠.

(٣) المصدر السابق ١٣ : ٣٩٦.

(٤) أنظر : الجرح والتعديل ـ الرازي ٨ : ٤٥٠ ؛ ضعفاء العقيلي ـ العقيلي ٤ : ٢٨٥.

(٥) الانتقاء ـ ابن عبد البر : ٢٤.

٢٢٥

البخاري وأبو حنيفة

يقول الامام البخاري ، صاحب الصحيح الشهير ، عن أبي حنيفة بأنه كان مرجئاً ، سكتوا عن رأيه وعن حديثه (١). وقالا لبخاري في كتابه في الضعفاء والمتروكين : أبو حنيفة ، النعمان بن ثابت الكوفي ، قال نعيم بن حماد : ان يحيى بن سعيد ومعاذ بن معاذ ، سمعا سفيان الثوري يقول : قيل : أُستتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين (٢). وينقل البخاري عن سفيان بن عيينه عن أبي حنيفة : لعنه الله ، كان يهدم الاسلام عروة عروة ، ما وُلد في الاسلام مولود أشرّ منه (٣).

سفيان الثوري وأبو حنيفة

يقول سفيان الثوري عن أبي حنيفة : ما وضع في الاسلام من الشر ما وضع أبو حنيفة (٤).

وذات يوم قال سفيان الثوري وقد جاء نعي أبي حنيفة : الحمد لله الذي أراح المسلمين منه (٥).

أما سفيان بن عيينه فيقول : ولم يزل أمر الناس معتدلاً حتى غيّر ذلك أبو حنيفة

__________________

(١) التتأريخ الكبير ـ البخاري ٨ : ٨١.

(٢) المجروحين ـ ابن حبان ٣ : ٦٤ ؛ تاريخ بغداد ـ الخطيب البغدادي ٣١٨ : ١ ؛ ضعفاء العقيلي ـ العقيلي ٤ : ٢٨٢.

(٣) الانتقاء ـ ابن عبد البر : ١٤٩.

(٤) تأريخ بغداد ـ الخطيب البغدادي ١٣ : ٣٩٧.

(٥) تأريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٦٣ : ٤٢٢ ؛ لسان الميزان ـ ابن حجر ٦ : ٢٣٣ ؛ المجروحين ـ ابن حبان ٣ : ٦٦.

(٦) الاحكام ـ ابن حزم ٦ : ٧٨٩ ؛ تأريخ بغداد ـ الخطيب البغدادي ١٣ : ٣٩٥.

٢٢٦

الاوزاعي وأبو حنيفة

يقول الامام الاوزاعي : إنا لا ننقم على أبي حنيفة أنه رأى ، كلنا يرى ، ولكننا ننقم عليه أنه يجيئه الحديث عن النبي (صلى الله عليه وسلّم) فيخالفه الى غيره (١).

إتهامات بحق أبي حنيفة

ـ ابن الجارود ، جُلّ حديثه وَهْمٌ ، وقد أختلف في إسلامه (٢).

ـ ضعّفه النسائي من جهة حفظه ، وابن عدي وآخرون (٣).

ـ قال سلمة بن سليمان لابن المبارك : وضعت من رأي ابي حنيفة (٤).

ـ حماد بن أبي سليمان : أبلغ عني أبا حنيفة المشرك اني بريء منه حتى يرجع عن قوله في القرآن (٥).

ـ عبد الرحمن بن مهدي : ما أعلم في الاسلام فتنة بعد فتنة الدجال أعظم من رأي أبي حنيفة (٦).

ـ عمر بن قيس وهو من أعلام أهل السُنّة وأعيان التابعين : من أراد الحق فليأت الكوفة فلينظر ما قال أبو حنيفة وأصحابه فليخالفهم (٧).

__________________

(١) تأويل مختلف الحديث ـ ابن قتيبة الدينوري : ٥٢ ؛ تأريخ بغداد ـ الخطيب البغدادي ١٣ : ٣٨٦.

(٢) الانتقاء ـ ابن عبد البر : ١٥٠.

(٣) ميزان الاعتدال ـ الذهبي ٤ : ٢٦٥.

(٤) جامع بيان العلم وفضله ـ ابن عبد البر ٢ : ١٥٧.

(٥) التأريخ الكبير ـ البخاري ٤ : ١٢٧ ؛ تأريخ بغداد ـ الخطيب البغدادي ١٣ : ٣٧٧.

(٦) تأريخ بغداد ـ الخطيب البغدادي ١٣ : ٣٩٦.

(٧) المصدر السابق ١٣ : ٤٠٨.

٢٢٧

نقد لاذع بحق أبي حنيفة

روى الخطيب البغدادي كثيراً من النقد اللاذع ، والجرح البليغ ، بحق أبي حنيفة ، وجمع كل ما قيل في أبي حنيفة من قدح وذمّ حتى المكفّرات ، ثم رجّحها (١).

ومما نقله الخطيب :

ـ يوسف بن اسباط : ردّ أبو حنيفة على رسول الله أربعمئة حديث أو أكثر.

ـ وكيع : وجدنا أبا حنيفة خالف مئتي حديث.

ـ حماد بن سلمة : ان أبا حنيفة استقبل الآثار والسنن ، فردّها برايه.

ـ أبو حنيفة : لو أدركني النبي وأدركته لأخذ بكثير من قولي ، وهل الدين إلا الرأي الحسن.

ونقل الخطيب هذا وأمثاله عن أبي حنيفة النعمان ، بالاساليب المعتبرة ، عن كل من أبي عوانة ، وجماد بن سلمة ، وحماد بن زيد ، ووكيع ، والحجاج بن أرطأة ، وفيان بن عيينة وغيرهم.

أبو حنيفة بين الحديث النبوي والقياس والرأي

الطريقة التي اتبعها أبو حنيفة النعمان في استنباط الاحكام الشرعية ، هي انه يبحث في كتاب الله ، ثم في السُنّة النبوية ، ثم يأخذ بأقوال الصحابة إذا اتفقوا ، أما اذا اختلفت آراؤهم ، يأخذ بقول أحدهم.

والمهم عند أبي حنيفة هو ان الحديث النبوي اذا صحّ فهو مذهبي.

__________________

(١) المذاهب الفقهية : ٣٥ ـ ٣٦.

٢٢٨

وأبو حنيفة ، يقدّم القياس الجلي على الخبر الواحد المعارض له (١). والمدافعون عن أبي حنيفة يزعمون انه انما كثر القياس في مذهبه ، لكونه في زمن قبل تدوين الحديث ، ولو عاش حتى تدوين الاحاديث الشريفة ، وبعد رحيل الحُفّاظ في جمعها من البلاد والثغور ، وظفر بها ، لأخذ بها وترك كل قياس كان قاسه.

وتعليقنا على هذا الادعاء من أصحاب المذهب الحنفي : لِمَ تأخر تدوين الحديث النبوي الى أواسط القرن الثاني الهجري ، بحيث اضطر الفقهاء والمجتهدون للاستفادة من القياس والرأي لاستنباط الاحكام الشرعية مع نُدرة الاحاديث النبوية التي لو دوّنت في حينها لما حصل ما حصل من اختلاف في الأحكام المستنبطة وبُعْدها عن الحكم الصحيح الذي أراده الله تعالى للمسلمين.

ثم ان الحقائق تثبت ان الاحاديث كانت متوافرة عند أبي حنيفة ، لكنّه كان يردّها ، لمخالفتها القياس في نظره ، وقد تكون الاحاديث التي يردّها مما عَمَل به غيره ، لصحّتها أو لحُسنها وصلاحيتها للاحتجاج (٢). وإن كثيراً من أهل الحديث استجازوا الطعن على أبي حنيفة لردّه كثيراً من أخبار الآحاد والعدول ، لأنه كان يذهب في ذلك الى عرضها على ما اجتمع عليه من الأحاديث ومعاني القرآن ، فما شذّ عن ذلك ردّه وسمّاه شاذاً (٣).

ولذلك فان اتهام أبي حنيفة بأنه يُقدّم القياس ويعتد بالرأي من دون الحديث ليس بباطل ، وان الذين يقولون بأنه ما يكون لأبي حنيفة ولا لغيره ولا لأحد من أهل الايمان

__________________

(١) أدب الاختلاف : ٩٤ ـ ٩٥.

(٢) المذاهب الفقهية : ٣٨ ـ ٣٩.

(٣) الانتقاء ـ ابن عبد البر : ١٤٩.

٢٢٩

والعلم ، أن يترك سُنّة رسول الله ، اذ لا يترك السُنّة إلا مبتدع ، ولا يزيغ عنها إلا هالك ، قد أقرّوا بزيغ أبي حنيفة من حيث لا يشعرون.

وأما الذين يدّعون بأن أبا حنيفة إنما اخذ بالقياس وترك الحديث الصحيح ، فإنه لابد أن يكون القياس مسبوقاً بنص صحيح من الشارع ، فما في القياس طرح للسُنّة ، بل هو العمل بسُنّة هي أقوى في نظر المجتهد من سُنّة أخرى (١).

فهو زعم عجيب يفتقد الدليل والبينة ، لأن أبا حنيفة لم يدّع ذلك أبداً ، وانما هو يُعمل الرأي والقياس إذا لم يطمئن للحديث وشكّك بصحته ، فيما يُثْبت الفقهاء الآخرون صحته المطلقة ، ومن حقنا أن نتساءل : لماذا يخفي أبو حنيفة ، خبر الحديث الصحيح عنده يا ترى ، فهل يخفيه لكي يثير الشكوك حول نفسه؟ أم ان هؤلاء يحاولون الدفاع عن صاحب المذهب الحنفي بكل الذرائع والمبررات مهما كانت واهية ومُضادة للعقل ، هذا في وقت يعترض الشافعي على أبي حنيفة لعمله بالحديث المُرسل ، للجهل بصفات الراوي التي تصحّ بها الرواية ، بينما ترى أبو حنيفة ان المُرسل في قوة المُسند يحتج به ، ووجه احتجاجه بأن الصحابة أنفسهم أرسلوا (٢) .. لكن الصحابة ليسوا كلهم عدولاً ، كما أثبتنا من قبل ، واذا كان بعض الصحابة يثق بالآخر ، فربما اندسّ بين الصحابة العدول ، صحابة مشكوك فيهم ، ويتظاهرون بالتقوى والصلاح ، فيضعون من الأحاديث ما يشوّه الحديث النبوي ، بعد ان أثبت القرآن الكريم والرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه بأن هناك صحابة منافقون وفي قلوبهم مرض ، بل وان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه كان يجهل حالهم ، فينقل الصحابي الثقة ، الخبر المكذوب منهم دون أن يعلم ولا يذكر اسماءهم

__________________

(١) المذاهب الفقهية : ٤٠.

(٢) المذاهب الفقهية : ٤٢ ـ ٤٣.

٢٣٠

لثقته بهم. وعليه فمن الخطأ الوثوق بالحديث المُرسل واعتماده في الفتوى.

ثم ان الحنفيين يثقون بالصحابي الراوي الى درجة ، يعتبرون فعله المخالف للقرآن ، تخصيصاً لعام القرآن ، لأن الصحابي لا يفعل فعلاً مخالفاً للقرآن الكريم بحكم حصانته الذاتية التي تمنعه من ارتكاب الافعال القبيحة أو المخالفة للنصوص القرآنية (١) ولذلك فقد توقّف أبو حنيفة في تحريم بعض المشروبات الكحولية لأنه ثبت ان بعض الصحابة كانوا يعاقرونها ، ولما تيقّن هو بأن القرآن الكريم قد حرّمها ، وحفاظاً على كرامة الصحابة ، امتنع عن تحريمها لكنه لا يحلّلها في الوقت نفسه ، مع ان الكثير من الصحابة قد ارتكبوا خطايا أكثر من شرب الخمر ، كقتل النفس المؤمنة المحترمة ، أو ممارسة خطيئة الزنا أو سرقة بيت المال ، أو التجسّس لصالح المشركين ، بل ان بعض الصحابة أو الكثير منهم ، قد فرّوا من الزحف في الحروب ، مع ان القرآن قد لعنهم ، وغير ذلك من الافعال المُشينة التي كان يمارسها الصحابة ، ويأتي القرآن أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليفضحهم ويشهّر بهم.

فإذن الادعاء بأن مذهب الصحابي على خلاف العموم ، مخصص له ، لكونهم يفترضون ان الصحابي ما كان ليذهب الى خلاف عموم دليل يعرفه إلا إذا كان يعلم عن رسول الله ما يخصّ ذلك العالم ، أو انهم يردّون الرواية اذا عمل الراوي (الصحابي) بخلافها لأنه لفرط الثقة فيه ، لا يظن به أن يعمل بخلاف ما رواه ، إلا أن يثبت عنده نسخه (٢) هذا الاستنتاج مغلوط وغير علمي ولا منطقي ويتعارض مع التأكيدات القرآنية والنبوية وسيرة الصحابة بأي حال من الاحوال.

__________________

(١) أدب الاختلاف : ٩٤ ـ ٩٥.

(٢) المذاهب الفقهية : ٤٢ ؛ أدب الاختلاف : ٩٤.

٢٣١

نموذج من الفتاوى الغريبة لأبي حنيفة

إذا تزوج أحدهم ، امرأة لا يحل له نكاحها ، كأمّه أو ابنته ، أو اخته ، أو جدّته ، أو خالته ، أو بنت أخيه ، عالماً بقرابتها منه ، وبتحريمها عليه ، لا حدّ عليه ، سواء كان عالماً بذلك أو غير عالم ، لكنّه يُعزّر ويوجع عقوبة اذا كان عالماً بذلك ، فالولد لاحق به ، والمهر واجب لهنّ عليه ، وذلك لأن العقد يورث شبهة حسب زعمه (١).

حكم الرأي بين الحنفيّة ومعارضيهم

يتشبث أصحاب المذهب الحنفي في دفاعهم عن تبنّي (الرأي) كقاعدة في الاستنباط الشرعي ، بالآية القرآنية : الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ (٢) ، غير ان هذه الآية لا تشير من قريب أو من بعيد لإعمال الرأي في استخراج الاحكام الشرعية ، كما ان المذهب الظاهري لا يحل لأحد العمل بالرأي لقوله تعالى : مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ (٣) ، وكل هذا اذا تعدى به ما ورد فيه النص فهو تعدّ لحدود الله (٤).

من شطحات أبي حنيفة عند الفقهاء

ـ كثرة الرواة لا تفيد الرجحان.

ـ تقديم القياس الجلي على خبر الواحد المعارض له.

ـ الأخذ بالاستحسان وترك القياس عندما تظهر الى ذلك حاجة.

__________________

(١) المحلى ـ ابن حزم ١١ : ٢٥٣.

(٢) الزمر ١٨.

(٣) الأنعام ٣٨.

(٤) المحلى ـ ابن حزم ٨ : ٤٨٥.

٢٣٢

ـ اذا خالف الراوي الفقيه روايته ثم صح عنه العمل بخلافه ، إن العمل بما رأى لا بما روى (١).

أبو حنيفة والحديث النبوي

اذا كان المدافعون عن المذهب الحنفي ، يعتبرون تقليل اعتماد أبي حنيفة على الحديث النبوي بسبب قلّة الصحيح فيه ، لأن ذلك تم قبل تدوين كتب الحديث والسنن المعتبرة من صحيح وسُنن وغيرها ، وإن أبا حنيفة لو عاش الى ذلك العهد لترك الكثير من آرائه وأقواله وفتاواه فهذا إقرار بأن تلك الآراء والأقوال كانت مخالفة للسُنّة النبوية الصحيحة المعتبرة ، فلِمَ يا ترى لم يتخل أتباع المذهب عنها بعد تدوين السنن والصحاح الوثيقة؟ وظلوا متمسّكين بها بالرغم من تحذير صاحب المذهب نفسه ، أي أبي حنيفة الذي طالب تلاميذه وأتباعه بعدم الالتزام الحرفي بكل ما رآه وأفتى به؟ إنه التقليد الاعمى؟؟. فكيف لنا أن نتّبع مذهباً ، هو في الحقيقة ، لم يكن سوى آراء وأقوال واحتمالات ، أطلقها فقيه لم يطمئن لها ، وانما عدّها محاولات تحتمل الصواب والخطأ ، فجاء تلاميذه وأتباعه ومريدوه ، وأنشأوا منها مذهباً ، اصبح مُعتَمداً ، بالرغم من انتقاد العشرات من علماء وفقهاء أهل السُنّة وأصحاب المذاهب الأخرى ، وتخطئتهم لصاحب المذهب ، وتوجيه مختلف الطعون والشكوك له ولآرائه الفقهية؟

__________________

(١) فتح الباري ـ ابن حجر ٩ : ١٣١ ؛ عمدة القاري ـ العييني ٢٠ : ٩٨.

٢٣٣

الامام مالك بن أنس : والتهرّب من السلطة الحاكمة

عند التحرّي عن آراء واستدلالات الامام مالك بن أنس ، إمام دار الهجرة ، وشيخ الحديث ، وصاحب المذهب الثاني من المذاهب الاربعة الشهيرة ، لمعرفة حقيقة علم الإمام ومدى تطابق الحقيقة مع الواقع ، نستنتج الحقائق والامور التالية.

مالك ومقدرته العلمية

لم يكن الامام مالك بن أنسن يجيب عن كل الاسئلة والاستفسارات الفقهية ، وانما كثيراً ما كان يُبدي عجزه عن الاجابة ، ويبقى حائراً لا يدري ما يقول ، فمرَّة سُئل عن أربعين مسألة ، فقال في ست وثلاثين منها بأنني لا ادري.

وذات يوم كان الهيثم بن جميل ، حاضراً عند مالك عندما سُئل عن ثمان وأربعين مسألة ، فأجاب عن اثنتين وثلاثين منها بأنه لا يدري (١).

وقَدمَ خالد بن خداش على مالك بأربعين مسألة ، فما اجابني منها إلا على خمس مسائل (٢).

وفي بعض الاحيان ربما كان مالك يُسأل عن خمسين مسألة ، فلا يُجيب عن واحدة منها ، ويُبدي حيرة في كلّها في الاطلاق. وجاء رجل الى مالك ليسأله عن مسألة ، قائلاً إن قومه أرسلوه يسأله عنها من مسيرة ستة أشهر ، فقال مالك له : أخبر الذي

__________________

(١) المجموع ـ النووي ١ : ٤١ ؛ تفسير القرطبي ١ : ٢٨٦ ؛ سير اعلام النبلاء ـ الذهبي ٨ : ٧٧.

(٢) سير اعلام النبلاء ـ الذهبي ٨ : ٧٧.

٢٣٤

أرسلك اني لا علم لي بها. فقال الرجل : ومن يعلمُها؟ قال مالك : من علّمه الله ، قالت الملائكة : لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١) (٢).

ويُبرّر مالك بن أنس عجزه عن الجواب ، بقوله : كان رسول الله ، إمام المسلمين وسيّد العالمين ، يُسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء ، فاذا كان رسول رب العالمين لا يجيب إلا بالوحي ، فمن الجرأة العظيمة ، إجابة من أجاب برأيه ، أو بقياس ، أو تقليد من يحسن به الظن ، أو عُرْف أو سياسة أو ذوق ، أو كشف أو منام ، أو استحسان أو خرص (٣).

وقال مالك ذات يوم : أفكلما جاءنا رجل ، تركنا ما نزل جبرئيل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لجدله (٤).

ونحن نستغرب كثيراً ، كيف يُبرّر مالك عجزه عن الاجابة بهذه الاعذار اللامسؤولة؟ فهو تارة يزعم بأن الذي يعلم الجواب عن الاسئلة هي الملائكة التي يعلّمها الله ، وطوراً يقول : أفكلما جاءه رجل ليحاوره ، يترك الشرع الاسلامي لجدله ، وحيناً يدّعي بأن الرسول وهو إمام المسلمين وسيّد العالمين ومع ذلك فهو لا يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء ، فمن الجرأة أن يجيب أحداً برأيه أو بقاس أو بإحدى الوسائل التي وصفها هو والفقهاء الآخرون لاستنباط الأحكام. تُرى هل ان الله تعالى كلّف الملائكة بالاجابة عن أسئلة الحياري من المسلمين؟ خاصة في الامور التكليفية ، أم ان

__________________

(١) البقرة ٣٢.

(٢) أدب الاختلاف : ١٢٧.

(٣) إعلام الموقعين ـ ابن قيم الجوزية ١ : ٢٥٦ ؛ طبع دار الجبل.

(٤) أدب ال اختلاف : ٩٥.

٢٣٥

الإجابة من واجب العلماء والفقهاء يلمون بالتشريع الاسلامي؟ ولماذا قال تعالى إذن في كتابه الكريم : فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (١)؟ .. أليس من حق أفراد المجتمع المسلم ، الإجابة عن أسئلتهم وإشكالاته أم تظل معلّقة في أذهانهم دون جواب؟ مع ان الشريعة الاسلامية كانت متكاملة ، ولم يفرّد الله في الكتاب من شيء؟ ولِمَ يترك الامام مالك الشرع الذي جاء على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ليجادل الناس في أمور تدور في الفلك الشرعي حتماً ، وجوابها تتضمنه القواعد الشرعية من كتاب وأحاديث نبوية هائلة؟ ثم كيف يقارن مالك بن أنس بينه وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في موضوع الاجابة عن إشكالات وأسئلة المستفسرين ، فالرسول نبي مصطفى من قبل الله تعالى ، يتلقّى الشرع من الوحي مباشرة طيلة فترة نبوته حتى يكتمل الدين وتنتهي مهمة الوحي ، أما علماء المسلمين ، فمهمتهم تبليغ الدين الذي اكتمل برحيل النبي وانتهاء مهمة الوحي ، وأجوبة الاشكالات الفقهية والعقائدية انما متوافرة في القرآن والسُنّة ، ولا ندري ما الربط بين الاثنين إلا التهرب أو العجز عن الاجابة على استفسارات الناس؟

ثم لو كان الاعتماد على الرأي والقياس والاستحسان والقواعد الأخرى الموضوعة من قبل أصحاب المذاهب الفقهية ، يُعتبر جرأة عظيمة ، فلِمَ اذن وضعوا تلك القواعد وأفتوا الناس عبرها سواء كان مالك نفسه أو الفقهاء الذين سبقوه كأبي حنيفة والحسن البصري وسعيد بن المسيب وغيره؟ اذا كانت هذه القواعد نفسها مشكوكاً في صحتها ، ولا تؤدي الى تعيين الحكم الالهي في المسألة ، وانما هي مجرّد ظنون واحتمالات وشكوك لا ينبغي الاستدلال بها؟

__________________

(١) النحل ٤٣.

٢٣٦

الامام مالك والرأي

كان الامام مالك يفتي بالرأي بالرغم من انه كان ينتقده ويشكّك في مشروعيته في الاستنباط الفقهي ، فقد أحصى الليث بن سعد على مالك بن أنس ، سبعين مسألة كلها مُخالفة لسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مما قال فيها برأيه ، ولقد كتب إليه يعظه في ذلك.

وكان أحمد بن حنبل يؤكد بأن حديث مالك صحيح ، لكن رأيه ضعيف ، كما قال سلمة بن سليمان لابن المبارك : وضعت من رأي أبي حنيفة ، ولم تضع من رأي مالك؟ فقال ابن مبارك : لم أره علماً.

ومالك بن أنس نفسه بكى في مرض موته ، قائلاً : والله لوددت أني ضُربت في كل مسألة أفتيت بها رأيي سوطاً سوطاً ، وليتني لم أُفت بالرأي (١).

واذا كان مالك هكذا يشكّك بفتاواه وأحكامه التي وضعها ، وان الآخرين من رفاقه كانوا ينتقدون ضعف رأيه ، فلِمَ يا تُرى أقدم تلامذته على اتخاذ فقهه وأحكامه مذهباً ليُقتدى به ، ويتّبعه الكثير من المسلمين ، خصوصاً في المغرب والاندلس والعديد من الاقطار الاسلامية؟

الطعون على مالك بن أنس

ما أكثر الذين طعنوا وقدحوا في مالك ، واعابوا عليه ، علمه وفتاواه وآراءه ، منهم :

ـ محمد بن إسحاق الذي طعن في نسب مالك وقدح فيه (٢).

ـ وقدح في مالك ، ابن أبي ذؤيب وابن أبي حازم وعبد العزيز الماجشون وغيرهم ، وتكلموا فيه بكلام فيه جفاء وخشونة.

ـ وعاب جماعة من أهل العلم ، على مالك باطلاق لسانه في قوم معروفين

__________________

(١) الاحكام ـ ابن حزم ٦ : ٧٩٠.

(٢) نيل الاطار ـ الشوكاني ٣ : ٣٤١ ؛ فتح الباري ـ ابن حجر ٢ : ٣١٥ ؛ عمدة القاري ـ العيين ٦ : ١٨٥.

٢٣٧

بالصلاح والديانة والصدق والأمانة (١).

ـ وتكلّم في مالك كذلك ، عبد العزيز بن أبي سلمة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وابن أبي يحيى ، وابن أبي الزناد ، فقد عابوا أشياء في مذهبه ، وتكلّم فيه غيرهم.

ـ وتحامل على مالك ، الشافعي ، وبعض أصحاب أبي حنيفة في شيء من رأيه.

ـ وعابه قوم في إنكار المسح على الخفين في الحضر والسفر ، وكلامه في علي وعثمان ، وفي فُتواه بإتيان النساء في الأعجاز ، وفي قعوده عن حضور الجماعة في مسجد رسول الله ، ونسبوه بذلك الى ما لا يحسن ذكره.

ـ وكان أحمد بن حنبل يرى بأن ابن أبي ذؤيب أفضل من مالك ، إلا ان مالكاً أشدّ تنقية للرجال منه (٢).

الموطأ في الميزان

المشهور عن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور انه يوم حجّ الى بيت الله الحرام ، دعا مالك بن أنس ، فدخل عليه وحادثه وسأله فأجابه ، ثم عزم عليه المنصور أن يقوم باستنساخ الموطّأ الذي ألفه مالك بأمر الخليفة نفسه ، عدة نسخ ، ثم يبعث الى كل مصر من أمصار المسلمين بنسخة ، وأن يعملوا بها ولا يتعدّوها الى غيرها ، لأن أهل المدينة هم أهل العلم ، فأبى مالك أن ينفّذ تلك الفكرة ، لأن الناس قد سبقت اليهم أقاويل ،

__________________

(١) تهذيب الكمال ـ المزي ٢٤ : ٤١٥ ؛ سير اعلام النبلاء ـ الذهبي ٧ : ٣٨ ؛ تأريخ بغداد ـ الخطيب البغدادي ١ : ٢٣٩.

(٢) تهذيب الكمال ـ المزي ٢٥ : ٦٣٤ ؛ تذكرة الحفاظ ـ الذهبي ١ : ١٩١ ؛ تأريخ بغداد ـ الخطيب البغدادي ٣ : ٩٩.

٢٣٨

وسمعوا أحاديث ، ورووا روايات ، وأخذ كل قوم بما سبق اليهم وعلموا به ، ودانوا من اختلاف أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وغيرهم ، وانّ ردّهم عمّا اعتقدوا به ، غير ممكن. وطلب الامام مالك من الخليفة المنصور أن يدَعْ الناس وما هم عليه ، وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم (١). وبعبارة أخرى طلب مالك من المنصور أن لا يحمّل الناس على العمل بالموطأ ، وانما يجب العمل بأحاديث الآحاد على من وثق بها رواية ودلالة ، وعلى من وثق برواية أحد وفهْمه لشيء منها أن يأخذ عنه ، ولكن لا يجد ذلك تشريعاً عاماً (٢).

وفي تصريحاته تلك ، يقرّ الامام مالك بحدوث اختلافات فقهية شديدة بين علماء الامصار المختلفة وفقهائهم ، وانهم قد تبنّوا أحاديث نبوية صدّقوها ووثقوا بها ، وطبّقوا مدلولاتها جيلاً بعد جيل ، ومن البعيد أن يتخلّوا عن قناعاتهم لاستيعاب ما توصّل إليه في الموطأ من أحاديث وآراء. وهذا إن دلّ على شيء فانما يدلّ على على أن ما دوّنه مالك في الموطأ إنما هو قناعات وانطباعات شخصية له ، من المحتمل أن يستسيغها بعض العلماء ، ويرفضها البعض الآخر ، ومن الخطأ تحميل الكل عليها ، لعلمه ـ أي مالك ـ بأن الموطأ ليس كتاباً مقدّساً أو ما يقارب ذلك ، وليس كتاباً يخلو من الأخطاء كما يزعم العديد من أتباع المذهب المالكي. بل ان من علماء السُنّة والجماعة يقول بأن مالكاً وضع في الموطأ ، نحو عشرة آلاف حديث ، ولم يزل ينظر فيه كل سنة ، ويحذف منه شيئاً فشيئاً حتى بقي نحو ٥٠٠ حديث ، ولو بقي حياً لحذفه كلياً ، والمتبقي من الموطّأ يحوي ثلاثمائة حديث مرسل ، وهذا المقدار يُعتبر أكثر من نصف مسانيده (٣).

والغريب ان عدد النسخ المنقولة عن الامام مالك ، غير معروف أو محدّد أبداً ،

__________________

(١) الانتقاء ـ ابن عبد البر : ٤١.

(٢) اضواء على السنّة المحمدية ـ محمود ابو رية : ٣٧٩.

(٣) المذاهب الفقهية : ٤٣ ـ ٤٤.

٢٣٩

فبعضهم يدّعي أن عشرين نسخة اشتهرت للموطأ ، وذكر بعض آخر بأنها ثلاثون ، والمستفيض منها أربع نسخ (١) ، بينما أكد الامام الشاه ولي الله ست عشرة نسخة في مقدمة كتاب أوجز المسالك.

كما ان نُسخة الموطأ عن أبي محمد سويد بن سعيد بن شهريار ، مشتكوك فيها لأن هذا متكلّم فيه عند المحدثين كالامام البخاري وابن المديني (٢).

وكذلك نسخة الموطأ عن أبي زكريا ، يحيى بن بكير المصري الذي ضعّفه النسائي. وفي نسخة الموطأ عن أبي مصعب أحمد بن الحارث ، زيادة على سائر نسخ الموطأ بنحو من مائة حديث (٣).

وفي الموطّأ على سبيل المثال : جاءت إمرأة أبي حذيفة الى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالت إن سالماً يدخل عليها وهي مكشوفة الرأس والجسم ، وليس لهم إلا بيت واحد ، ورجته أن يضع حلاً للمشكلة ، فأوصاها صلى‌الله‌عليه‌وآله أن ترضعه خمس رضعات ، فيحرم لبنها ، فعملت بوصيته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأصبح سالم ابناً لها من الرضاعة ، فاقتدت بها زوج الرسول عائشة ، فكانت اذا أحبّت أن يدخل عليها من الرجال ، أمرت أختها أم كلثوم وبنت أخيها فيرضعنه ، ويصبح محرماً لها (٤).

__________________

(١) الامام مالك بن أنس ـ الشيخ سليم الله خان الموقر ـ مجلة الفاروق ـ العدد (٨٧) ـ ٢٠٠٦ م ـ باكستان ص : ١٨.

(٢) الامام مالك بن أنس ـ الشيخ سليم الله خان الموقر ـ مجلة الفاروق ـ العدد (٨٧) ـ ٢٠٠٦ م ـ باكستان ٢ : ١٩.

(٣) الموطأ ـ مالك بن أنس ـ باب ما جاء في الرضاعة بعد الكبر.

٢٤٠