بحث حول الخلافة والخلفاء

منيب الهاشمي

بحث حول الخلافة والخلفاء

المؤلف:

منيب الهاشمي


المحقق: زينب الوائلي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٢

التساهل في الأحكام

كان المعروف عن عثمان بن عفان ، التساهل في القضايا الدينية ، بعكس عمر بن الخطاب الذي كان متشدّداً في هذا المجال ، ولذلك فإن ربيعة بن أمية بن خلف قد أدمن الشراب ، بل وشرب الخمر في شهر رمضان ، فعاقبه الخليفة الثاني وغرّبه الى ذي المروة ، فلم يزل هناك حتى توفي عمر واستخلف عثمان ، فقيل لربيعة : قد توفي عمر واُستخلف عثمان ، فلو دخلت المدينة ما ردّك أحد ، فلحق بالروم وتنصر (١).

وبسبب الانفتاح والتحرّر من التعاليم الدينية ، فقد كان كعب الأحبار في عهد عثمان يفتي مجلسه بما يرضي الخليفة في مسألة الأموال ، وأنكر عليه أبو ذر ذلك ، حتى وكزه بعصاه مرّة في صدره ، وأخرى على رأسه ، قائلاً له : ما أجرأك يا بن اليهودي على القول في ديننا.

عثمان والحديث النبوي

لم يسمح عثمان بن عفان في عهده لأحد أن يروي أحاديث لم يُسمع بها في عهد أبي بكر أو في عهد عمر ، قائلاً : لم يمنعني أن أحدّث عن رسول الله ألا أكون أوعى اصحابه ، إلا أني سمعته يقول : من قال علي ما لم أقل فقد تبوأ مقعده من النار (٢).

ولسنا ندري اذا كان عثمان وهو الصحابي الكبير الذي كان ملازماً دوماً لرسول الله ومن أوعاهم ، ومع ذلك فهو يحذر الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، خشية الكذب عليه حسبما يدّعي ، فما بالنا بالصحابة الآخرين الذين لم يلازموا الرسول إلا قليلاً؟

__________________

(١) سنن الدارقطني ٢ : ٢١١ ؛ التأريخ الصغير ـ البخاري ١ : ٧٣.

(٢) الطبقات الكبرى ـ ابن سعد ٢ : ٣٣٧ ؛ تاريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٣٩ : ١٨٠.

٢٠١

عثمان وجمع القرآن

ما هي حقيقة جمع الخليفة عثمان بن عفّان للقرآن الكريم ، كما يقول أهل السُنّة والجماعة والكبار في مدرستهم؟ وهل هي مزية امتاز بها أو فضيلة تُحسب له؟

بعد البحث والتحقيق ، توصّلنا الى ما يلي :

أخبر الصحابي حذيفة بن اليمان الخليفة عثمان بأن يدرك الناس ، فقد غزا ارمينية ، فاذا أهل الشام يقرأون بقراءة أبي بن كعب ، فيأتون بما لم يسمع أهل العراق ، واذا أهل العراق يقرأون بقراءة عبد الله بن مسعود ، فيأتون بما لم يسمع أهل الشام فيكفّر بعضهم بعضاً (١).

ومن الملاحظ ان علياً قال بأن عثمان ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منّا ، وكان عثمان قد جمع الناس على مصحف واحد ، فلا تكون فرق ولا اختلاف.

فاذاً القضية لا تتعدى اختلاف قراءات فحسب ، فقد حدث أثناء خلافة عثمان بن عفان نزاع بين أهل العراق وأهل الشام على قراءة بعض السور ، وتخوّف الناس من فتنة قد تنشأ من اختلاف اللهجات والقراءات.

إذ عمل الفريق الذي كُلّف بمراجعة ونسخ المصاحف عن نسخة الرسول الاصلية أيام عثمان مدة خمس سنين ، تم خلالها كتابة المصاحف ، ثم ردّ عثمان الصحف الى حفصة ، وهي نفس نسخة أبي بكر الأصلية ، وأرسل الى كل جند من أجناد المسلمين ، وقد احتفظ عثمان بمصحف منها لأهل المدينة ومصحف لنفسه ، وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف الذي أُرسل اليهم (٢).

__________________

(١) فتح الباري ـ ابن حجر ٩ : ١٥ ؛ عمدة القاري ـ العيني ٢٠ : ١٨.

(٢) السنن الكبرى ـ البيهقي ٢ : ٤٢ ؛ تاريخ الاسلام ـ الذهبي ٣ : ٤٧٧ ؛ عمدة القاري ـ العيني ٢٠ : ١٨.

٢٠٢

ويقرّ الحارث المحاسبي بان المشهور عن الناس ، ان جامع القرآن ، عثمان ، وليس كذلك ، إنما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد على اختيار بينه وبين من شهد من المهاجرين والانصار لمّا خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات (١).

وهكذا اعتمد الخليفة الثالث على الصحابي علي وبقية المهاجرين والانصار في تحديد واختيار القراءة الصحيحة من بين القراءات وبالاعتماد على النسخة المودعة عند حفصة فحسب ، فاستنسخ نسخاً عديدة وزّعها على الامصار ، وحرق النسخ الأخرى ، وهذا العمل على ما يبدو وباعتراف واقرار كبار علماء مدرسة الخلفاء ، لم يكن جمعاً للقرآن الكريم كما يدّعي البعض.

أما إحراق النسخ القرآنية الأخرى ، فنعجب كيف سمع عثمان لنفسه باحراقها وهي التي تضم آيات الله المباركة ، عدا بعض التحريفات أو القراءات غير المقبولة؟ في بعض السور ، وكان الأحرى به أن يتلفها من خلال وسائل أخرى غير الحرق ، كالطمس في الماء مثلاً.

عثمان والمشاركة في حروب المسلمين

لقد عابوا على عثمان بن عفّان في زمن الرسول ، غيبته عن معركة بدر وفراره يوم أحد ، وعدم حضوره بيعة الرضوان.

وكان الخليفة عثمان قد ولّى الدبر يوم أُحد ، مع سعد بن عثمان وعقبة بن عثمان وهما إخوان من الانصار من بني زريق وغيرهم ... انهزم هؤلاء حتى بلغوا

__________________

(١) البرهان ـ الزركشي ١ : ٢٣٩ ؛ الاتقان ـ السيوطي ١ : ١٦٦.

٢٠٣

موضعاً بعيداً ، ثم رجعوا بعد ثلاثة أيام ، فقال لهم الرسول حين رآهم : لقد ذهبتم بها عريضة (١).

ويقول ابن الزبير في قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ... (٢) منهم عثمان بن عفان ، وسعيد بن عثمان وعلقمة بن عثمان الانصاريان ، قد بلغوا جبلاً بناحية المدينة فأقاموا هناك ثلاثاً (٢).

وعن ابن عباس في قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا (٤) ، نزلت في عثمان ورافع بن المعلّى ، وخارجة بن زيد (٥).

وكان الصحابي المقداد بن الاسود التميمي قد قال في يوم الشورى ، مشيراً الى عثمان بن عفان : ان وليتموها أحداً من القوم فلا تولوها من لم يحضر بدراً ، وانهزم يوم أُحد ، ولم يحضر بيعة الرضوان ، وولّى الدبر يوم التقى الجمعان (٦).

الفتنة والمصير الحتوم

كانت خلافة عثمان بن عفان ، اثني عشرة سنة ، قضى منها ست سنوات دون ان ينقم عليه احد ، بل كان أحب الى قريش من عمر بن الخطاب ، لأن عمر كان شديداً

__________________

(١) الاستيعاب ـ ابن عبد البر ٣ : ١٠٧٤ ؛ تفسير الآلوسي ٤ : ٩٩.

(٢) آل عمران ١٥٥.

(٣) تفسير البحر المحيط ـ ابن حيان الاندلسي ٣ : ٩٧ ؛ الاصابة ـ ابن حجر ٣ : ٩٥ ؛ تاريخ الطبري ٢ : ٢٠٣.

(٤) الزمر ٣٠.

(٥) الدر المنثور ـ السيوطي ٢ : ٨٨.

(٦) انظر : صحيح البخاري ٥ : ٣٤ ؛ عمدة القاري ـ العيني ١٧ : ١٥٢.

٢٠٤

عليهم ، فلما وليهم عثمان لان لهم ووصلهم ، ثم توانى في السنوات الست الأخيرة من حكمه في أمر الناس ، واستعمل أقرباءه وأهل بيته من بني أمية وغيرهم وحمّلهم على رقاب الرعية ، فكتب لمروان بخمس خراج مصر ، وأعطى أقرباءه المال ، واتخذ الاموال واستلف من بيت المال قائلاً : ان أبا بكر وعمر تركا من ذلك ما هو لهما وانه أخذه فقسّمه في أقربائه ، فأنكر الناس عليه ذلك (١).

موقف عائشة من ممارسات وسلوك الخليفة الثالث

تُعدّ أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر ، من أوائل الذين طعنوا بسياسة الخليفة عثمان وانحرافه عن السنّة النبوية ، وتلاعبه بأموال المسلمين ، وإيثاره بني أمية على سائر المسلمين.

وذات يوم كان عثمان يخطب ، إذ دلت عائشة قميص رسول الله ، ونادت : يا معشر المسلمين ، هذا جلباب رسول الله لم يبلَ ، وقد أبلى عثمان سُنّته. فقال عثمان : رب اصرف عني كيدهن ان كيدهن عظيم (٢).

موقف طلحة والزبير من عثمان بن عفان

من أبرز الذين حرّضوا الناس ضد الخليفة الثالث ووقفوا موقفاً عدائياً منه ، ومحاصرته الى أن قُتل ، هو الصحابي الكبير طلحة بن عبيد الله المعروف بطلحة الخير ، أما الزبير فيأتي في الدرجة الثانية في هذا المجال.

__________________

(١) الطبقات الكبرى ـ ابن سعد ٣ : ٦٤ ؛ تأريخ الاسلام ـ الذهبي ٣ : ٤٣٢ ؛ تأريخ الخلفاء ـ السيوطي : ١٧٣.

(٢) تأريخ اليعقوبي ٢ : ١٧٥.

٢٠٥

وكان طلحة قد استولى على أمر الناس في الحصار (١). وكان الصحابة والثوار قد حصروا عثمان أربعين ليلة وطلحة يصلّي بالناس (٢). وكان أيضاً على الحرس الذي أحاطوا بدار الخلافة ، وهو أول من رمى بسهم في دار عثمان الذي كان ظمآناً من العطش ، فنادى : اسقونا شربة من الماء ، وأطعمونا مما رزقكم الله ، فناداه الزبير : يا نعثل ألا والله ، لا تذوقه ، وقال الزبير : وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ (٣).

أما محمد بن أبي بكر فقد أجلب على عثمان بن تيم ، وأعانه على ذلك طلحة (٤).

وناجى طلحة ، عبد الرحمن بن عديس البلوي ، وهو صحابي ممن بايع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تحت الشجرة ، وشهد فتح مصر ، وكان ممن سار الى عثمان من مصر ، فقال ابن عديس لاصحابه : لا تتركوا أحداً يدخل على هذا الرجل ولا يخرج من عنده. فقال عثمان : اللهم أكفني طلحة فإنه حمّل علي هؤلاء وألّبهم ، والله إني لأرجو أن يكون منها صفراً ، وأن يُسفك دمه ، إنّه انتهك مني ما لا يحلّ له (٥).

وكان تعليق طلحة : فإن قتل (أي عثمان) فلا مَلَك مقرّب ولا نبي مرسل (٦).

__________________

(١) أنساب الاشراف ـ البلاذري ٥ : ٥٦٨.

(٢) تأريخ الطبري ٣ : ٤٠٤.

(٣) سبأ ٥٤.

(٤) الثقات ـ ابن حبان ٢ : ٢٥٨ ؛ أنساب الاشراف ـ البلاذري ٥ : ٥٥٧.

(٥) تأريخ الطبري ٣ : ٤١١ ؛ الكامل في التأريخ ـ ابن الاثير ٣ : ١٧٤.

(٦) أنساب الاشراف ـ البلاذري ٥ : ٥٦٥.

٢٠٦

موقف أهل المدينة من عثمان

يتشكل أهل المدينة من المهاجرين والانصار ، ولم يبق أحد منهم إلا حنق على عثمان ، وزاد ما فعل الخليفة بابن مسعود وعمّار وأبي ذر ، من حنق أهل المدينة وغيظهم ، فقام أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمنازلهم ، وما منهم أحد إلا وهو مُغتم لما في الكتاب الذي بعثه عثمان مع غلامه إلى عامله في مصر حيث أمره بقتل العديد من الصحابة هناك.

وكتب أهل المدينة الى عثمان يدعونه الى التوبة ، ويحتجّون ويُقسمون له بالله لا يمسكون عنه أبداً حتى يقتلوه أو يعطيهم ما يلزمه من حق الله (١).

وقد كتب المهاجرون وبقية الشورى لاهل مصر : تعالوا إلينا وتداركوا خلافة رسول الله قبل ان يسلبها أهلها ، فإن كتاب الله قد بُدّل ، وسُنّة رسوله قد غيّرت ... غُلبنا على حقنا وأستولي على فيئنا ... الخلافة اليوم ملك عضوض من غَلَب على شيء أكله (٢).

ولما رأى الناس ما صنع عثمان ، كتب من بالمدينة من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الى من بالآفاق منهم ، وكانوا قد تفرّقوا في الثغور : انكم خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عز وجل ، تطلبون دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإن دين محمد قد أُفسد من خلفكم وتُرك ، فهلمّوا فأقيموا دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأقْبَلوا من كل أفق حتى قتلوه (٣).

__________________

(١) تأريخ الطبري ٣ : ٤٠٣.

(٢) تأريخ الاسلام ـ الذهبي ٣ : ٤٨٠ ؛ الاستيعاب ـ ابن عبد البر ١ : ٢١٣ ؛ أنساب الاشراف ـ البلاذري ٥ : ٥٩٦.

(٣) تأريخ الطبري ٣ : ٤٠١.

٢٠٧

إذاً فإن أصحاب النبي خذلوا عثمان ، وكرهوا الفتنة ، والدليل على موقف الصحابة السلبي من عثمان ، إرسال الخليفة الثالث كتاباً الى معاوية جاء فيه ان أهل المدينة قد كفروا وأخلفوا الطاعة ، ونكثوا البيعة ... لكن معاوية تربّص به وكره مخالفة أصحاب رسول الله ، وقد عَلمَ اجتماعهم (١).

كما قال عبد الرحمن بن عثمان : إن المهاجرين والأنصار لو حُرموا دم عثمان ، نصروه ، وبايعوا علياً على قتلته ، فهل فعلوا؟ (٢).

وكان معاوية قد قال في ايام خلافته ، للصحابي عامر بن واثلة (أبو الطفيل) : أكنت ممن قتل عثمان؟ قال : لا ، ولكن من شهد فلم ينصره. قال معاوية : ولمَ؟ قال : لم ينصره المهاجرون والانصار (٣).

وانتقاماً من أهل المدينة ، بعث يزيد اليهم ثلاثاً يصنعون ما شاءوا لمداهنتهم الذين قتلوا عثمان.

أين دُفن الخليفة الثالث؟

هكذا لم يف الخليفة الثالث بتعهداته التي تعهّدها للثائرين ، فهو لم يغيّر سياسته أبداً ، فلا هو استبدل ولاته من بني أمية وأقاربه بولاة آخرين ، ولا هو تخلّى عن مروان وبني أمية ، ولا هو تنحّى ليختار المسلمون خليفة بديلاً عنه ، وتوصّل الثوار الذين كانت قياداتهم من الصحابة المدعومين من المهاجرين والانصار ، الى إن عثمان لم يتب

__________________

(١) تأريخ الطبري ٣ : ٤٠٢.

(٢) الامامة والسياسة ـ ابن قتيبة الدينوري ١ : ٩٧.

(٣) تأريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٢٦ ـ ١١٦ ؛ الامامة والسياسة ـ ال دينوري ١ : ١٦٥ ؛ التذكرة الحمدونية ـ ابن حمدون ٧ : ٢١٧.

٢٠٨

وقد نكث تعهداته مراراً وليس هناك من حل إلا تصفيته وإنهاء حكمه ... وهكذا تم قتل الخليفة الثالث.

وبعد مقتل عثمان بن عفان ، نُبذ ثلاثة أيام بدون دفن ، ولما سمع الناس بمحاولة دفنه ، قعدوا له بالطريق بالحجارة ، وخرج به أفراد يسيرون من أهله ، حيث حمله أربعة ، فلما وُضع ليُصلّى عليه ، جاء نفر من الانصار ، يمنعونهم الصلاة عليه ، ومنعوهم أن يُدفن بالبقيع ، وقالوا : لا يُدفن في مقابر المسلمين أبداً ، وقيل لم يُصلّ عليه ودفن بغير صلاة ، وتم دفنه في حش كوكب ، كانت اليهود تدفن فيه موتاهم ، ولما ظهر معاوية على الناس ، أمر بهدم الحائط حتى أفضى به الى البقيع ، فأمر الناس أن يدفنوا موتاهم حول قبره حتى اتصل ذلك بمقابر المسلمين ... ولم يشهد جنازته إلا مروان بن الحكم وثلاثة من مواليه وابنته الخامسة ، وكادت تُرجم جنازته (١).

__________________

(١) تأريخ الطبري ٣ : ٤٣٩ ؛ المنتظم ـ ابن الجوزي ٥ : ٥٨.

٢٠٩

الخليفة الرابع .. السيرة والمسيرة

علي بن أبي طالب ، ابن عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وزوج ابنته فاطمة ، ووالد أسباطه الحسن والحسين وزينب ، وهو الصحابي الذي قضى سائر أوقاته الى جوار رسول الله ، إذ تربّى في أحضانه قبل البعثة المباركة ، وصاحَبَه بعد البعثة في حلّة وترحاله الى أن وُري الثرى ، وبذلك يُعتبر عليّ الصحابي الذي تنطبق عليه صفة الصحبة والمُلازمة أكثر من الصحابة الآخرين ، ومن ثَّمَّ بايعه المسلمون خليفة عليهم بعد مقتل الخليفة الراشد الثالث ، ليصبح الخليفة الراشد الرابع. ومع كل هذه الخصال والمناقب الجليلة لعلي ، فلابد من استقصاء أحواله وتفحّص سلوكه وتصرفاته ومواقفه ، سواء في عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أو عندما انتخبه المسلمون خليفة عليهم ، لنعلم مدى انطباقها مع التعاليم الاسلامية وأوامر القرآن الكريم والسُنّة النبوية المطهّرة ، وذلك للتأكّد من سلامة سيرته العملية كما هو الحال مع كل الصحابة الآخرين الذين عاصروا الرسالة الاسلامية منذ إعلان إسلامهم وحتى وفاتهم.

علي في نظر القرآن الكريم

نزل الكثير من الآيات القرآنية في حق علي بن أبي طالب ، وقد أوصلها عبد الله بن عباس الى نحو ثلاثمائة آية ، ونحن هنا نذكر بعض الامثلة :

٢١٠

يقول ابن عباس : ان الآية وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّـهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا (١) نزلت في حق علي (٢).

والآية القرآنية : وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَـٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (٣) تقصد يوشع (مؤمن آل يس) وعلي الذي سبق الى الرسول (٤).

وقد نزلت في حق علي عند مبيته على فراش الرسول ، الآية الشريفة : وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ وَاللَّـهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (٥). ونادى جبرائيل : بخّ بخّ من مثلك يا بن أبي طالب ، الله يباهي بك الملائكة (٦).

وفي علي نزلت الآية الكريمة : وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّـهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ (٧) حين أذّن بالآيات من سورة براءة (٨).

وفي رسول الله وفي علي ، نزلت الآية المباركة : وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٩) ، وهما

__________________

(١) النور ٤٧.

(٢) انظر : تفسير السمعاني ٣ : ٥٤١.

(٣) الواقعة ١٠ ـ ١١.

(٤) شواهد التنزيل ـ ج ٢ ـ حديث ٩٢٤ ؛ تفسير الدر المنثور ـ ذيل الآية الشريفة وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ.

(٥) البقرة ٢٠٧.

(٦) اسد الغابة ـ ابن الاثير ٤ : ٢٥.

(٧) التوبة ٣.

(٨) شواهد التنزيل ـ ج ١ ـ حديث ٣٠٧ ؛ فضائل علي ـ ابن حنبل ـ حديث ٢١٢.

(٩) البقرة ٤٣.

٢١١

أول من صلّى وركع (١).

ونختم حديثنا في هذا المقام بقول عبد الله بن عباس : ليس آية من كتاب الله : «يا أيها الذين آمنوا» إلا وعلي أوّلها وأميرها وشريفها ورأسها وقائدها. ولقد عاتب الله أصحاب محمد في آي من القرآن ، وما ذكر علياً إلا بخير (٢).

موقف الرسول من علي بن أبي طالب

كان علي أول من صلى مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣). ويقول ابن عباس : إن أول من أسلم علي بن أبي طالب (٤).

أما أنس بن مالك ، فيقول : بُعث النبي يوم الاثنين ، واسم علي يوم الثلاثاء (٥).

ويقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : قُسمت الحكمة عشرة أجزاء فأُعطي علي تسعة أجزاء والناس جزءاً واحداً (٦).

ويقول صلى‌الله‌عليه‌وآله : ان الله أوحى إليّ في علي ثلاثة أشياء ، ليلة أُسري بي : انّه يسد

__________________

(١) شواهد التنزيل ـ ج ١ ـ حديث ١٢٤.

(٢) مجمع الزوائد ـ الهيثمي ٩ : ١١٢ ؛ المعجم الكبير ـ الطبراني ١١ : ٢١١ ؛ تأريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٤٢ : ٣٦٣.

(٣) انظر : الطبقات الكبرى ـ ابن سعد ٣ : ٢١ ؛ انظر : مسند احمد ١ : ١٤١.

(٤) مجمع الزوائد ـ الهيثمي ٩ : ١٠٢ ؛ المعجم الكبير ـ الطبراني ١١ : ٢١ ؛ اسد الغابة ٤ : ١٧.

(٥) تأريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٤٢ : ٢٨ ؛ اسد الغابة ـ ابن الاثير ٤ : ١٧ ؛ المنتظم في تأريخ الامم والملوك ـ ابن الجوزي ٥ : ٦٧.

(٦) تأريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٤٢ : ٣٨٤ ؛ البداية والنهاية ـ ابن كثير ٧ : ٣٩٦.

٢١٢

المسلمين ، وإمام المتقين وقائد الغرّ المحجّلين (١).

ويقول صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو ان الاشجار أقلام ، والبحار مداد ، والجن حسّاب ، والانس كتّاب ، ما أحصوا فضائل علي بن أبي طالب (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : عنوان صحيفة المؤمن حب علي بن أبي طالب (٣).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : علي مني بمنزلة رأسي من بدني (٤).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لأعطينّ هذه ال راية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، يفتح الله على يديه ، ليس بفرار ، فجثم الناس على الركب ... واعطى علياً الراية (٥).

علي في نظر رموز المسلمين وعلمائهم

قال ابن عباس : كان علي بن أبي طالب ، صاحب لواء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر ، ويوم أُحد ، ويوم خيبر ، ويوم الاحزاب ، ويوم فتح مكة ، ولم تزل معه في المواقف كلها (٦).

__________________

(١) تأريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٤٢ : ٣٠٢ ؛ اسد الغابة ـ ابن الاثير ٦٩ : ١ ؛ ميزان الاعتدال ـ الذهبي ٤ : ٣٩٨.

(٢) ميزان الاعتدال ـ الذهبي ٣ : ٤٦٦ ؛ لسان الميزان ـ ابن حجر ٥ : ٦٢.

(٣) الجامع الصغير ـ السيوطي ٢ : ١٨٢ ؛ تأريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٥ : ٢٣٠ ؛ لسان الميزان ـ ابن حجر ٤ : ٤٧١.

(٤) الجامع الصغير ـ السيوطي ٢ : ١٧٧ ؛ تأريخ بغداد ـ الخطيب البغدادي ٧ : ١٢.

(٥) تأريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٤٢ : ١١٥.

(٦) تأريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٤٢ : ٧٢.

٢١٣

أما ابن مسعود فيقول : أقضى أهل المدينة علي بن أبي طالب (١).

ويؤكد المسعودي : والذي حفظ الناس عنه ٠علي) من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيف وثمانين خطبة يوردها على البديهة (٢).

ويقول عبد الله بن مسعود : ان القرآن نزل على سبعة أحرف ، ما منها حرف إلا وله ظهر وبطن ، وان علي بن أبي طالب عنده الظاهر والباطن (٣).

وخصّ الكنجي الشافعي باباً في تخصيص علي بمئة منقبة دون سائر الصحابة.

ويذكر ابن حنبل علياً قائلاً في حقه : ما لأحد من الصحابة من الفضائل بالاسانيد الصحاح مثلها لعلي.

وفي موقع آخر يقول ابن حنبل : ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله من الفضائل ما جاء لعلي بن ابي طالب.

اما ابن عباس فيرى : ما نزل في أحد من كتاب الله ما نزل في علي.

بينما يجمع النسائي وأبو علي النيسابوري والقاضي إسماعيل ، قائلين : لم يرد في حق أحد من الصحابة بالاسانيد الحسان ما جاء في علي (٤).

علي في عهود الخلفاء الثلاث الاوائل

على أثر وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، اجتمع عدد من الانصار وبعض المهاجرين في

__________________

(١) فتح الباري ـ ابن حجر ٨ : ١٢٧ ؛ الاستيعاب ـ ابن عبد البر ٣ : ١٠٣ ؛ اسد الغابة ـ ابن الاثير ٤ : ٢٢ ؛ تأريخ الاسلام ـ الذهبي ٣ : ٦٣٨.

(٢) مروج الذهب ـ المسعودي ٢ : ٤١٩.

(٣) الاتقان ـ السيوطي ٢ : ٤٩٣ ؛ تفسير الثعالبي ١ : ٥٣.

(٤) الاتقان ـ السيوطي ٢ : ٤٩٣ ؛ تفسير الثعالبي ١ : ٥٣.

٢١٤

سقيفة بني ساعدة ، واختاروا أبا بكراً خليفة على المسلمين ، ولم يكن علي ضمن المجتمعين ، لأنه كان منشغلاً بتجهيز ودفن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وكان علي بن أبي طالب طيلة عهد الخليفة الاول ، مثال الرجل الناصح الذي يسعى لتطبيق الحدود الشرعية وعدم التواني أو التهاون في تنفيذها بحق مستحقيها ، ولم يطُلْ عهد الخليفة أبي بكر سوى سنتين ، إذ اوصى أن يكون عمر بن الخطاب ، خليفة من بعده على المسلمين.

ودام عهد الخليفة الثاني نحو عشر سنوات ، وكان علي مسالماً للنظام الحاكم مادام المسلمون لم يتذمّروا من سياسته ، وحاول علي توجيه الخليفة الثاني لتطبيق الحدود الشرعية ما استطاع الى ذلك سبيلاً ، وتعامل مع سياسة عمر بالتي هي أحسن ، فيشاوره إذا طل منه المشورة ، ولم يتوانَ عن الاجابة على الاسئلة والاستفسارات الشرعية التي يوجّهها له الخليفة الثاني ، بل وحتى تصحيح الأخطاء في قضاء الخليفة ، ولذلك طالما قال عمر في مدح علي اقوالاً مثل : أقضانا علي ، ولا أبقاني الله لمعضلة ليس لها ابو الحسن ولما طعُن الخليفة الثاني ، وتيقّن من موته ، عيّن هيئة للشورى من ستة أعضاء ـ من ضمنها ـ علي ، لتنتخب من بينها خليفة له ، وقد بيّن عمر مساوئ خمسة من أعضاء الشورى إلا علياً فقال لو اصبح خليفة فسيحمل الأمّة على المحجّة البيضاء.

واشترط عليه عبد الرحمن بن عوف إنْ أصبح خليفة أنْ يسير بسيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والخليفة الاول والثاني وان لا يختار وُلاتَه من بني هاشم ، فرفض الشرطين ، فهو رضي أن يسير على وفق سُنّة رسول الله دون الخليفتين الاول والثاني اللذين كانا مجتهدَين وليس من واجبه أن يستن بسُنّتهما ، كما ان في بني هاشم رجالاً أسوياء وكفوئين فلا معنى أن يهملهم أو يحرمهم من الولاية حسب الشرط الثاني.

وهكذا تم حرمان علي من الخلافة وتصدّى لها عثمان بن عفان الذي قبل

٢١٥

بالشرطين ، وكانت مدة ولايته في حدود اثنتي عشرة سنة ، في السنوات الست الأولى لم يكن هناك اعتراض أو نقد لسيرته في الحكم ، لكنه في السنوات الست الأخيرة من حكمه ، نكث العهد الذين عاهد هيئة الشورى عليه ، أي الالتزام بالشرطين ، فهو لم يسنن بسُنّة الخليفتين الاول والثاني ، فضلاً عن تجاوزه على سُنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم سلّط بني أمية على رقاب المسلمين ، فثارت ثائرتهم ومن بينهم المهاجرون والانصار ، وكانت سياسة علي ، إصلاح ذات البين ونزع فتيل الفتنة. وكان الطرفان ، الخليفة الثالث والثوار يستشيرونه ، فيشير على الطرفين بما يدرأ الفتنة قبل حدوثها ، وكانت مطالب الثوار معقولة وعادلة ، ولذلك طالما نصح عليّ ، الخليفة الثالث بالاستجابة لمطالب الثوار ، وهي عزل ولاته من أقاربه وبني أمية ، وتنحية مروان على الأخص ، والإتيان بولاة وعمال نزيهين مكانهم ، وتعهّد عثمان بن عفان بتحقيق مطالب الثوار ثم نكث عهده بتأثير من قريبه مروان بن الحكم.

وكان الخليفة عثمان ، يحاول أن يجذب علياً الى جانبه في التصدّي للثوار ، لكن عليّاً لم يكن يوافق على أي خطوة من هذا القبيل إلا إذا غيّر الخليفة بطانته وسياسته في الحكم والعودة لتطبيق السُنّة النبوية.

وحين يأس من اي استجابة لعثمان ، انزوى في بيته حتى لا يكون شاهداً على نتائج الفتنة التي لم تكن في صالح الأمّة .. ولما عَلمَ علي بن أبي طالب أن الثوار ومن يحضّهم من المهاجرين والانصار ، يسعون الى قتل الخليفة ، خرج من عزلته ووضع إبنيه الحسن والحسين على باب دار الخلافة حتى يمنعوا الثوار من دخوله ، معتقداً ان قتل الخليفة عثمان سيؤدي الى فتنٍ ، واحدة تلو الأخرى ، والاجدر أن يقوم الثوار بعزل الخليفة بالقوة ، وانتخاب خليفة بديل له يحظى بقبول الجميع ، غير انّ تسوّر بعض الثوار الجدار والقيام بقتل عثمان ، أُسقط في يد علي ، ثم قيام أهل المدينة بأجمعهم بالضغط

٢١٦

على علي لكي يقبل بمبايعته خليفة على المسلمين ، حيث رفض علي في بادئ الأمر ، لان الفتنة كانت مستشرية معقّدة ، فطلب علي من المهاجرين والانصار ومعهم أهل الامصار ، انتخاب من يرونه يصلح للخلافة منهم ، لكن إصرار الجميع وإجماعهم على مبايعته ، اضطرّه الى القبول ، ولكن اشترط عليهم السير طبق السُنّة النبوية وإصلاح كل المفاسد السابقة ، فقبلوا بشروطه ، وتمت بيعة المهاجرين والانصار جميعاً عدا ثلاثة من الصحابة وهم ، عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة الذين رفضوا فقط مبايعة عليّ على قتال الناكثين ، لانهم لم يشهدوا ـ حسب رأيهم ـ حرباً بين مسلمين.

أما إعلان الحرب من قبل عائشة وطلحة والزبير ومعهم بنو أمية ، ضد علي حتى يسلّم قتلة عثمان ، تحت ذريعة الطلب بدم عثمان ، فما هي إلا حجة مرفوضة لأن علياً أصبح خليفة بدلاً من طلحة أو الزبير ، ولم يكن علي بن أبي طالب ، مستعداً لتسليم من ساهم في قتل الخليفة ، مادام القتلة الحقيقيون هم من حرّض على قتله مباشرة ، وهم عائشة وطلحة والزبير الذين لم يطالبوا بدم عثمان إلا عندما بايع المسلمون علياً ، ثم ان الخليفة لم يتب أبداً ولم يغير بطانته او يصحّح سيرته ، وان تسليم القتلة لهم ، سيكون تزكية وتنزيهاً لكل ممارسات عثمان المخالفة للقرآن والسُنّة النبوية ، ولذا عندما طلب الناكثون في حرب الجمل من عليّ تسليم القتلة ، أجاب جيشه برمته بأنهم قتلة عثمان ، لأنه كلهم ساهموا في قتله بطريقة أو بأخرى ، وان الناكثين هم من بايعوه ثم نكثوا البيعة ومن حقه قتالهم في تلك الحرب التي كانت بين معسكرين ، معسكر يضم عائشة وطلحة والزبير وبني أمية ومعهم شريحة من أهالي البصرة ، وبين علي الخليفة المُبَايع ومعه سائر المهاجرين والانصار وأهل الكوفة ومصر ، وهكذا انتصر عليّ على الناكثين ، وبقي يحكم أربع سنوات ونيف. وشهد حكمه ، فضلاً عن حرب الجمل ، حربين

٢١٧

أخريين ، الأولى حرب صفين من قبل معاوية وأهل الشام ، والثانية من قبل الخوارج الذين قتلوه وهو يصلي الفجر في محراب مسجد الكوفة.

وخلال تلك السنوات ، حاول جاهداً فيها ، أن يُقيم العدل ولا يخرج عن السُنّة النبوية ، فقد خرج علي يوماً الى السوق ومعه سيفه ليبيعه ، قائلاً : من يشتري مني هذا السيف؟ فوالذي فق الحبة لطالما كشفت به الكرب عن وجه رسول الله ، ولو ان عندي من إزار لما بعته (١).

واستعمل علي رجلاً من ثقيف على عكبرا ... فقال له علي : إن يبلغني عنك خلاف ما أمرتك عزلتك ، فلا تبيعن لهم رزقاً يأكلونه ، ولا كسوة شتاء ولا صيف ، ولا تضربنّ رجلاً سوطاً في طلب درهم ، ولا تهيّجة في طلب درهم ، فإنّا لم نؤمر بذلك ، ولا تبيعن لهم دابة يعملون عليها ، إنما أُمرنا أن نأخذ منهم العفو

قال الثقفي : إذاً أجيئك كما ذهبت!!

قال : وإن فعلتَ. قال : فذهبت فتتبعت ما أمرني به ، فرجعت والله ما بقي عليّ درهم واحد إلا وفّيته (٢).

وقال علي لابن عباس ، عندما ولاه البصرة : عليك بتقوى الله والعدل بمن ولّيت عليه ... وإياك والهوى فإنه يصدّك عن سبيل الله

وبعد مقتل علي ، قال ابنه الحسن : والله ما ترك صفراء ولا بيضاء ، إلا سبعمائة درهم فضلت من عطائه (٣).

__________________

(١) ذخائر العقبى ـ أحمد بن عبد الله الطبري : ١٠٧.

(٢) تأريخ مدينة دمشق ـ بن عساكر ٤٢ : ٤٨٨.

(٣) الطبقات الكبرى ـ ابن سعد ٣ : ٣٨ ؛ تأريخ الاسلام ـ الذهبي ٣ : ٦٥٢.

٢١٨

شجاعة علي

كانت شجاعة علي وبسالته ، مضرب الامثال ، هذا ما استيقناه من خلال دراسة سيرة هذا الصحابي الكبير ، إذ كانت راية الرسول معه في كل الغزوات والحروب ، ولم يُعرف عنه أبداً إنه تلكأ في معركة من المعارك ، ففي يوم بدر ، نزل جبرئيل من السماء ، وهو يقول : لا فتى الا علي ولا سيف إلا ذو الفقار (١).

وكما هو مشهور عنه ، ان نصف قتلى معركة بدر من المشركين ، قُتلوا على يده.

وفي معركة أُحد ، ثبت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يفرّ كما فرّ الآخرون.

وفي معركة الخندق ، هو الذي قتل أحد كبار أبطال المشركين وهو عمرو بن عبد ود العامري ، وانكسر جيش الكفار على أثرها.

وفي معركة خيبر ، هو الذي اقلع بابها ، ثم قتل قائد اليهود مرحباً.

وهذا في كل المعارك خاض عليّ في قتل الاعداء ولم يعرف التواني أو الضعف. وكان المشركون إذا أبصروا بعلي في الحرب ، عهد بعضهم الى بعض. بل ان خصمه معاوية بن أبي سفيان يقرّ بهذه الشجاعة ، قائلاً : هل رأيت أحداً قط بارزه علي إلا قتله.

كلمة أخيرة

هذه هي فضائل الصحابي الكبير علي بن أبي طالب ومناقبه الكثيرة ، كما توصلنا إليها من خلال التنقيب في بطون الكتب التأريخية والروايات المعتبرة لدى الجمهور

__________________

(١) تأريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٣٩ : ٢٠١ ؛ ميزان الاعتدال ـ الذهبي ٣ : ٣٢٤ ؛ الموضوعات ـ ابن الجوزي ١ : ٣٨٢.

٢١٩

المسلم ، حيث ثبت لنا في الوهلة الاولى ، أنّ علياً كان كغيره من الصحابة الكبار والخلفاء الراشدين الذين حازوا على قصب السبق في الفضائل والمزايا الخيّرة من خلال مدح الرسول لهم والثناء عليهم ، لكننا تيقنا إن علي بن أبي طالب ، تفوّق في الميدان العلمي والحربي ، حيث كان مُفرط الشجاعة والبسالة والثبات في الحروب والمعارك التي خاضها المسلمون ضد الكفار والمشركين كما يشهد له الجميع ، كما كان بارعاً في المعارف والعلوم والفقه والقضاء بحيث كان موجّها للآخرين الذين كانوا يستفتونه في الامور الفقهية والقضائية ، وكانت إجاباته حاسمة في هذا المجال.

غير ان هناك تساؤلات ظلت تراودنا ، وتبعث الحيرة والشك في أنفسنا ازاء هذا الصحابي المُقرَّب من رسول الله ، وتدعوننا للبحث في مزيد من صفحات التأريخ ، لاستجلاء الحقيقة ، وبامكاننا اختصارها فيما يلي :

١ ـ لِمّ لم يُسارع علي بن أبي طالب كغيره من المهاجرين والانصار لمبايعة الخليفة الاول ، بل تباطأ وتلكأ لمدة ستة اشهر ، ثم أعلن بيعته للخليفة أبي بكر؟

٢ ـ لِمَ نحّى علي معاوية بن أبي سفيان عن ولاية الشام؟ إذ لو أبقاه ولو مؤقتاً لما ثار عليه وشن حرباً ضده ، وكان ما كان من الفتن والمآسي التي جلبت الويلات على المسلمين؟ واذ كان الخليفة عليّ له ال حق في محاربة الأمويين ، فلِمَ قبل التحكيم مع معاوية بحيث أدى الى نشوء فتنة مدمّرة أخرى وهي فتنة الخوارج؟ أما كان لعلي أن يتلافى مثل هذه الفتن والبلايا والتداعيات التي تلتها؟ هذه وغيرها من التساؤلات بحاجة الى إجابة مقنعة.

٢٢٠