بحث حول الخلافة والخلفاء

منيب الهاشمي

بحث حول الخلافة والخلفاء

المؤلف:

منيب الهاشمي


المحقق: زينب الوائلي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٢

فاستجابوا لها وأقبلوا على متاعها ، وخالفوا في سبيل أمر رسول الله الذي حذّرهم من ترك مواقعهم بحيث لم يثبت حول رسول الله سوى حفنة مؤمنة. لكن يبقى الفارون المتخاذلون والعاصون ، يمتلكون صدق الايمان وحسن القصد ، وهم الرعيل الاول من أهل الايمان في الارض ، لمخالفة «غير مقصودة» ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً (١).

فلو كان الفارّون من أحد ، كما يصفهم هؤلاء بكل هذه الخصال الحميدة ، وبأن نواياهم صادقة ، فلِمَ يا ترى ذمّهم القرآن الكريم في أكثر من موقع بهذا الذمّ والتوبيخ والتحذير الشديد؟

إنها لمفارقة عجيبة لا يُصدّقها حتى السذج!! وفي معرض حديثنا عن معركة أحد ، نصّ كل مؤرخي غزوة أحد من أهل السير والأخبار ، على ان النبي خرج بألف من أصحابه ، فرجع منهم قبل الوصول ، ثلاثمائة من المنافقين ، وبقي معه منافقون لم يرجعوا خوف الافتضاح أو رغبة بالدفاع عن أحساب قومهم ، مما يدل على ان الصحابة المنافقين ليسوا قلة كما هو شائع وإنما هم أعداد غفيرة بحيث كان يغصّ بهم الجيش الاسلامي ، وان من المنافقين من كانوا يقاتلون المشركين ، خوفاً من افتضاح أمرهم ، أو دفاعاً عن أنسابهم دون إيمان أو قناعة بالحرب فعلاً ، مما يدل على مدى تغلغل المنافقين في صفوف الصحابة المؤمنين الى حد انخداعهم بهم.

وحين تناهى للمسلمين ، شائعة قتل النبي محمد «عليه الصلاة والسلام» ، أوغلو ا في الفرار لا يلوون على أحد ، كما قال تعالى : إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ (٢) أليس كان من

__________________

(١) نشرة العباد ـ لبنان ـ العدد ٢٩٧ ـ (درس من اُحد).

(٢) آل عمران ١٥٣.

١٤١

اللائق للصحابة الفارين عندما وصل اليهم خبر إستشهاد الرسول ، أن يستميتوا في القتال ومحاربة المشركين بدلاً من الفار ، واللوذ بالجبال ، وإيثار السلامة على الموت ، وما قيمة الحياة والفرار من الموت في ظل تكالب الاعداء والمشركين وسعيهم الدؤوب للقضاء على الاسلام وإجتثاث معاقل المسلمين؟

وهذا إن دل على شيء فانما يدل على مدى شدة جرم وخطيئة الفرار من الزحف ، وانها ليست مسألة هينة إطلاقاً.

١٤٢

الخلفاء الاربعة الاوائل في الميزان

الخليفة الأول ... والسيرة الذاتية

قبل الشروع في دراسة سيرة الخليفة أبي بكر ومدى صدْقية الصورة التي رسمها أهل السُنّة والجماعة عنه ، لابد من التوقّف عند الآية الكريمة التي أشارت الى قصة الهجرة النبوية من مكة الى المدينة ، حيث هاجر النبي سراً بصحبة أبي بكر ، واختبآ في غار ثور لكي لا يكونا تحت رصد قريش التي تتبّعت الرسول لالقاء القبض عليه وقتله.

نزلت في هذا المشهد ، الآية الكريمة : إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّـهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّـهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّـهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّـهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (التوبة ٤٠) .. والجمهور المسلم في الواقع تأثر جداً بهذه الآية المباركة ، معتقداً ، بأنها من مناقب أبي بكر وفضائله التي لا تعدّ ولا تحصى ، اذ تناقلت الأجيال ، قضية هجرة الرسول وصاحبه ، وكأن هذه الفضيلة لا تعادلها فضيلة أو توازيها ، على مرّ التاريخ.

وحين نَتناول هذه الآية الكريمة بالتحليل والتمحيص ، لم نجد فيها أية منقبة أو فضيلة للخليفة الاول. لأن عبارة : فإذْ هما في الغار ، يعني هما الاثنين ، والمعية هنا لا تعدّ مزية أبداً ، كما ان حزن أبي بكر وخوفه من احتمال وقوعهما في قبضة كفار قريش ، لا معنى له ، مع اطمئنان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن الله سينجيهما بعد المحنة الطارئة ،

١٤٣

ولذلك ذكّره : بأن الله معهما ، وليس هناك أي داع للخوف أو الحزن. واللافت في هذه القضية ، ان الله أنزل سكينته على النبي فقط ، وليس على صاحبه مع ان الذي حزن وخاف هو أبو بكر لا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وان المنطق يفترض بأن السكينة تنزل على الإثنين معاً ، كما هو ديدن الآيات الأخرى التي تصف إنزال السكينة الالهية على النبي والذين آمنوا معه ، ولا تستثني المؤمنين من هذه السكينة ، كقوله تعالى : ثُمَّ أَنزَلَ اللَّـهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ (التوبة ٢٦) ، وقوله عزّ وجل هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ (الفتح ٤).

ترى لِمَ استثنى الله تعالى أبا بكر من السكينة المنزلة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ... فالله أعلم بذلك؟

الخليفة الأول والخوف على المصير

ومهما يكن فقد تَوصّلن بعد البحث والتحليل ، الى الحقائق التالية :

١ـ كان أبو بكر يجهل الكثير من الاحكام الشرعية ، فيضطر الى سؤال الصحابة عنها ، مع قربه من عهد الرسالة الاول ، فكان ـ لذلك ـ يُشاور أهل الرأي من الصحابة ، فيفتي برأيهم ، أو يستشهد صحابيين من الذين سمعوا الحديث عن رسول الله مباشرة ، فيُمضي الحكم ، أو يُجيب على الذين يستفتونه حتى لا يتحرّج بذلك ، كما في قضية الجدّة التي سألته حصّتها من الارث ، فأجابها بعد أن تأكد من بعض الصحابة (١) ، فإن أعيا أبا بكر أن يجد الحل في السُنّة النبوية ،

__________________

(١) الموطأ ٢ : ٥١٣ ، باب ميراث الجدة : مسند احمد ٤ : ٢٢٥.

١٤٤

يستشير الصحابة أو خيارهم ، فإن أجمع رأيهم على شيء ، قضى به (١) ، وفي بعض الاحيان ، اذا واجهت أبا بكر قضية ، لم يجد لها في كتاب الله اصلاً ، ولا في السُنّة اثراً ، اجتهد برأيه فيقول : ان كان صواباً فمن الله ، وان كان خطأ فمنه ، ويستغفر الله (٢).

وكثيراً ما يُسأل أبو بكر عن أمور ومسائل ، فيعجز عن الجواب. فمثلاً سُئل مرّة ، عن معنى الكلالة ، فقال فيها برأيه ، فإن كانت صواباً فمن الله ، وان كانت خطأ فمنه ومن الشيطان (٣).

وذات يوم جاء رجلاء الى أبي بكر ، وطلبا منه أرضاً سبخة عندهما ، فلم يكن يعلم إن ذلك له أم ليس له؟ فأقطعمها إياها ، وكتب لهما بذلك كتاباً (٤).

وعندما أتت جدتان أبا بكر ليطلبا ميراثهما ، فأعطى الميراث لأمّ الأمّ (دون أم الأدب) فقال صحابي كبير كان حاضراً : أعطيت التي لو أنها ماتت لم يرثها ، فتراجع وقسّمه بينهما (٥).

وبهذا فالخليفة الاول لم يكن من فقهاء الصحابة أبداً ، وانما كان جاهلاً بالكثير من الآيات القرآنية والاحاديث النبوية الشريفة ، فهو بذلك يعتمد على الآخرين ، وعندما يقع في حرج ، قد يفتي من عند نفسه من خلال الرأي المحض ، سواء أصاب الحق أم أخطأه ، وربما مضى على الخطأ والزلل إذا لم يسعفه أحد في اللحظة الحرجة ، كقطعه

__________________

(١) السنن الكبرى ٦ : ٢٣٤ ؛ سنن ابي داود ٢ : ٥.

(٢) سنن الدارمي ٢ : ٣٦٥.

(٣) سنن الدارمي ٢ : ٣٦٥ ؛ التمهيد ٥ : ١٩٧ ؛ كنز العمال ١١ : ٧٩.

(٤) الدر المنثور ٣ : ٢٥٢ ؛ السنن الكبرى ، البيهقي ٧ : ٢٠ ؛ الاصابة ٤ : ٦٤٠.

(٥) سنن الدارقطني ٤ : ٥١ ؛ السنن الكبرى ٦ : ٢٣٥ ؛ المصنف ـ الصنعاني ١٠ : ٢٧٥ ؛ الاستذكار ٥ : ٣٤٨ ؛ الاستيعاب ٢ : ٨٣٦.

١٤٥

يسار سارق ، وأمْره بأن يُحرق فجاءة السلمي بالنار ، في حين ان رسول الله نهى عن ذلك ، قائلاً : لا يعذب بالنار إلا ربّ النار (١).

٢ ـ كان أبو بكر يشكّك في نفسه وسلوكه دائماً ، فهو يقرّ بأن له شيطاناً عتريه أحياناً (٢). وقال مرّة ان لسانه قد أورده الموارد (٣).

وأقسم ـ مرّة ـ بأنه تمنى لو كان بعتَكمراً ، ولم يكن بشراً.

وقال ـ ذات مرة ـ وقد شاهد طائراً على شجرة بأنه ودّ انه طائر ليس عليه حساب ولا عذاب (٤).

٣ ـ ان أبو بكر غالباً ما يفرّ من حروب المسلمين مع المشركين ، ففي معركة أحد ، فرّ مع الفارين ، فقال له الرسول : ما منعك يا أبا بكر أن تثبت إذ أمرتك؟. وكان أبو بكر اذا ذُكر يوم أُحد بكى لأنه كان أول من فرّ من الزحف (٥).

كما انهزم أبو بكر ومن معه عندما بعثه رسول الله إلى خيبر وأعطاه الراية ، ومعه جمع من المهاجرين لمواجهة مرحب اليهودي (٦).

وفي غزوة السلسلة ، أمر النبي أبا بكر وثمانين رجلاً بمواجهة المشركين الذين اجتمعوا بوادي الرميل للاغارة على المدينة. فأخذ أبو بكر اللواء فمضى الى بني سُليم

__________________

(١) السنن الكبرى ٩ : ٧٢.

(٢) تخريج الاحاديث والآثار ١ : ٤٨١ ؛ تمهيد الاوائل : ٤٩٢ ؛ الطبقات الكبرى ٣ : ٢١٢ ؛ البداية والنهاية ٦ : ٣٣٤.

(٣) المصنف ـ ابن أبي شيبة ٦ : ٢٣٧ ؛ مسند ابي يعلى ١ : ١٧ ؛ الطبقات الكبرى ٥ : ١١.

(٤) المصنف لابن ابي شيبة ٨ : ١٤٥.

(٥) المستدرك على الصحيحين ٣ : ٢٧ ؛ مجمع الزوائد ٦ : ١١٢ ؛ فتح الباري ٧ : ٢٧٨.

(٦) المستدرك على الصحيحين ٣ : ٣٧ ؛ عمدة القارئ ١٦ : ٢١٦ ؛ المعجم الكبير ٧ : ٣٥ ؛ أسد الغابة ٤ : ٢١.

١٤٦

فهزموه ، وقتلوا جمعاً كثيراً من المسلمين ، وفرّ أبو بكر ، فساء رسول الله ذلك (١).

موقف الرسول من أبي بكر

لم يكن موقف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في كثير من الأحيان ـ إيجابياً من أبي بكر ، وانما كان «سلام الله عليه» يتخذ مواقف منه لا تنسجم والقداسة التي يضفيها الجمهور على صحابي كبير كأبي بكر الذي أصبح فيما بعد ، الخليفة الاول للمسلمين :

فعندما صلى رسول الله على قتلى أُحد ، وقال : انا أنا هؤلاء شهيد ، تأثّر أبو بكر الذي فرّ من المعركة ـ كما هو معروف ـ فقال : أليسوا إخواننا ، أسلموا كما أسلمنا ، وجاهدوا كما جاهدنا ، قال الرسول : بلى ، لكنه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يشهد عليه كما شهد على هؤلاء ، وانما قال له : بأنه لا يدري ما سيحدث هو والآخرون من الصحابة ، بعده ، مما جعل أبا بكر يبكي لهذا الردّ القاسي من الرسول (٢).

ومعنى سيحدثون من بعده ، أي سيبتدعون من أمور وأحكام تخالف سُنّته صلى‌الله‌عليه‌وآله وتعاليمه التي بعثه الله تعالى من أجل تطبيقها (٣) ، واذا كان الرسول مطمئناً بأن أبا بكر لا يحدث بعده ، لقال له : بأني سأكون عليك شهيداً مثل هؤلاء؟

جاء نفر من قريش الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتكلّموا معه ، وقالوا له بأنهم جيرانه وحلفاؤه ، بخصوص أناس من عبيدهم قد أتوا المسلمين ، ليس بهم رغبة في الدين ، طلبوا منه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يردّهم اليهم ، فأشار النبي على أبي بكر أن يعلن رأيه في هذا

__________________

(١) تخريج الاحاديث والآثار ٢ : ٦٢ ؛ الكشاف عن حقائق التنزيل ٢ : ١٨٢.

(٢) الموطأ ٢ : ٦٢ ، باب ما تكون فيه الشهادة.

(٣) كتاب المغازي ١ : ٣١٠.

١٤٧

الاقتراح من هؤلاء القرشيين ، فردّ أبو بكر بالايجاب ، وانهم صادقون في قولهم ، لكن الرسول تغيّر وجهه ، وذلك استغراباً من صاحبه أبي بكر ، كيف صرّح بصدْقهم مع ان الوقائع كلها تدلّ على كذبهم واحتيالهم على النبي (١).

موقف أبي بكر من الرسول

رفع أبو بكر صوته عند النبي حين قدم عليه ركْبُ بني تميم ، إذ قال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي ، فارتفعت أصواتهما في ذلك ، فأنزل الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٢). وذكروا آية أخرى في هذا السياق ، وهي قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّـهِ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّـهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) (٤).

ولاشك ان رفع أبي بكر لصوته عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ليس من الادب في شيء ، ولذلك وصف القرآن الكريم هذا السلوك بأنه محبط للأعمال ، أما الذين يغضّون أصواتهم عند الرسول ، فهم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ولهم المغفرة والأجر العظيم ، بعكس من يرفعون أصواتهم عند الرسول او يجهرون له بالقول.

__________________

(١) مسند احمد ١ : ١٥٥.

(٢) الحجرات ٢.

(٣) الحجرات ٣.

(٤) صحيح البخاري ، كتاب التفسير ، باب قوله تعالى : لا ترفعوا اصواتكم فوق صوت النبي ٦ : ٤٦ ؛ و٨ : ١٤٤ ؛ اسباب النزول للواحدي : ٢٥٨ ؛ صحيح الترمذي ، ج ٢ ، باب تفسير القرآن ؛ صحيح النسائي ٢ : ٣٠٤.

١٤٨

أبو بكر وحرق الحديث النبوي

أقدم الخليفة أبو بكر في عهده ـ وكما هو معلوم ـ على منع تدوين الحديث النبوي أو التحدّث به بين المسلمين ، وأكثرهم ـ بالطبع ـ من الصحابة ، وحجته في ذلك ، انّ نَقَلة الحديث أو المتحدثين به ربما لم يكونوا أمناء في التحدّث عن الرسول ، وبالتالي سيأتي الحديث مشوّهاً أو مبتوراً أو عكس المراد تماماً ، أو موضوعاً ، أي لم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قال به أصلاً.

ولهذا قام بحرق الأحاديث التي جمعها ، كما منع الناس من التحدّث بالاحاديث النبوية بعد أن رأى اختلافاً شاسعاً بين الاحاديث التي يتحدّث بها المسلمون ويتداولونها فيما بينهم ، وأكثر هؤلاء من الصحابة لأنه لم يمض على وفاة الرسول سوى عام أو أقل من عام ، وأمر الخليفة أبو بكر بأن يكون القرآن هو الحكم بين الناس ، ليستحلّوا حلاله ويحرّموا حرامه (١).

وهنا لابد من وقفة عند الموقف المعارض للخليفة أبي بكر من تدوين الحديث النبوي أو التحدّث به :

١ ـ من المعروف ان القرآن الكريم ، يحمل مفاهيم مُوجزة ومُختصرة عن الدين وأحكامه ، وخوّل السُنّة النبوية ، مهمة التفصيل والتوسّع في استعراض الأحكام والمفاهيم الاسلامية والتعاليم الالهية الدقيقة ، فالقرآن وإن قال : مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ (٢) ، وذلك على سبيل الاجمال والكليات ، لكن تأتي الآية القرآنية الأخرى ، لتؤكد : وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ٥ : ١ ؛ الانوار الكاشفة : ٥٣.

(٢) الأنعام ٣٨.

١٤٩

إِلَيْهِمْ (١). فيما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : اني تركت فيكم ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً .. كتاب الله وسُنّتي».

وإذا كان الصحابة ـ طبق إدعاء الجمهور ـ جميعهم عدولاً ، فالمفروض على حكّام المسلمين بعد رحيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أن يبادروا الى تدوين السُنّة النبوية والسماح للصحابة بنشر وإذاعة هذه السُنّة بين أوساط المسلمين ليكونوا على علم بفرائضهم ومعتقداتهم ، وتفاصيل الحلال والحرام في حياتهم والتي ذكرها القرآن بشكل مقتضب.

ثم لو تمّ منع تدوين وإشاعة الحديث النبوي ، حينئذ سيعجز المسلمون من الحصول على تعالم الاسلام المُفصّلة والاحكام الدقيقة التي هم بحاجة ماسة إليها ، والتي من غير الممكن إلتماسها من القرآن فقط.

٢ ـ لو كان الصحابة باجمعهم عدولاً ، فلِمَ شكّك الخليفة أبو بكر بهم إلى درجة أن جَمَع هذه الاحاديث ، وهي ٥٠٠ حديث ، وهي عشر معشار ما تحدّث به الرسول طيلة فترة البعثة المباركة ، وأقدم على حرقها بالرغم من ان الكثير منها كان صحيحاً؟ فهل يحق لأحد حرق الأحاديث النبوية؟.

٣ ـ لو كان الصحابة يتحدّثون بالاحاديث النبوية ، ولكنهم يختلفون فيها اختلافاً شديداً ، ولم تمض سوى سنة أو سنتين على رحيل الرسول الى بارئه الاعلى ، فهذا يعني ان الكثير من هذه الاحاديث ، اما موضوع أو متلاعب بنصوصها ومعانيها ، أو محرّفة قليلاً أو كثيراً ، وبالتالي سيبرز الاختلاف والتعارض واضحاً بينهما ، ولو كان كذلك ، فليس من حق أحد أن يمنع تدوين أو إشاعة السُنّة التي تركها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لكي لا يضل الناس من بعده أبداً ، وانما المنطق

__________________

(١) النحل ٤٤.

١٥٠

يدعو الى البحث عن الأمناء من الصحابة لتدوين السُنّة لا منعها منعاً باتاً ، ثم ان الأمر الحازم من الخليفة ابي بكر بأن يكون القرآن معياراً للحلال والحرام ، سيوجّه ضربة قاصمة للحديث النبوي ويجعله عبثاً ولا قيمة له ، فلماذا يا ترى دعا النبي للتمسك بالقرآن والسُنّة النبوية معاً ، كي لا يضل المسلمون بعده أبداً؟

وهل بمقدور المسلم الاعتماد على القرآن فقط في تبيان الحلال والحرام؟

وإن تَعْجب فالعجب قول الذهبي الذي يحاول أن يبرّر الموقف المتخذ من قبل الخليفة أبي بكر بالقول : بأن مراد الخليفة ، التثبّت في الأخبار ، والتحرّي لا سدّ باب الرواية ... ولم يقتل : «حسبنا كتاب الله» (١).

والحقيقة ان الخليفة أبا بكر لم يُرد التثبّت والتحرّي عن الحديث الصحيح ، وإلا لأكد ذلك للمسلمين ونَقَلة الحديث النبوي ، وانما حصر الحلال والحرام في كتاب الله لا غير ، ولا ندري ما الفرق بين «بيننا وبينكم كتاب الله» وبين «حسبنا كتاب الله»؟ فالعبارتان تعنيان ان القرآن الكريم هو الفيصل في الأمور والحاكم والبديل عن السُنّة النبوية ويغني عنها ، وبالتالي لا حاجة للسُنّة النبوية بوجود القرآن الكريم؟

ولابد في هذا المجال ، الاشارة الى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنه أُوتي القرآن الكريم ومصله معه ، فيوشك رجل يجلس على أريكته ويقول للناس عليهم بالقرآن ليحلّوا حلاله ويحرّموا حرامه ، أو يقول بعد أن يأتيه أمر النبي أو نهيه ، بأنه لا يدري فما وجده في كتاب الله اتّبعه (٢).

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ١ : ٣.

(٢) سند احمد ٤ : ١٣١ ؛ سنن ابي داود ٢ : ٣٩٢.

١٥١

كما يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله : أيحسب أحدكم متكأ على أريكته يظنّ ان الله لم يحرّم شيئاً إلا ما في هذا القرآن ، ألا واني والله لقد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء ، انها لمثل القرآن أو أكثر.

وهذا الحديث النبوي إنما يشير الى رجال وخلفاء يأتون من بعده ، يدعون الناس الى التمسك بالقرآن الكريم فحسب ، ويمنعونهم من تداول السُنّة النبوية بأي حجة من الحجج ، وينطبق بالتأكيد على الخليفة أبي بكر لأن عبارة النبي وأبي بكر ، متشابهتان ، ان لم يكونا متطابقتين ، وليس لأحد ان يحاول تبري الموقف المتخذ من الخليفة الأول من خلال ذرائع وهمية لا تصمد في دفاعها عن مسلك الخليفة أبي بكر المضاد لتدوين الحديث وتداوله بين المسلمين.

وقد التفت بعض الباحثين والمؤرخين الى هذه المسألة فاعترف بأنها من أعظم دلائل النبوة ، وأوضح اعلامها (١) ، وهو يقصد بذلك ، الإبلاغ النبوي لواقعة منع تدوين السُنّة النبوية من قبل الخليفة أبي بكر ، ومن جاء بعده. أما دفاع البعض عن موقف الخليفة الاول وتبرير موقفه ، والادعاء بأن الرسول انما أراد بقوله : «متكأ على أريكته» ، هم أصحاب الترف والدعة ، الذين لزموا البيوت ، ولم يطلبوا العلم من مظانه (٢) ، فهي حجة داحضة لم تُصبْ الحقيقة أبداً ، لأن الخليفة أبا بكر ، لم يقصد ذلك البتة ، وإنما كان مُراده من المنع بأن القرآن كافٍ لمعرفة الحلال والحرام.

وبالفعل فقد أكد البيهقي ، إشارة إلى إخباره «عليه الصلاة والسلام» بشبعان على أريكته ، يحتال في ردّ سُنّته ، بالإحالة الى ما في القرآن من الحلال والحرام دون السُنّة :

__________________

(١) دلائل النبوة ، البيهقي ١ : ٢٤.

(٢) تفسير القرطبي ١ : ٣٨ ؛ دفاع عن السنة ـ محمد ابي شهبة : ١٥.

١٥٢

فكان كما أخبر النبي ،وقد ابتدع من ابتدع وظهر الضرر (١) ، وعمّ الانحراف في سائر نواحي الحياة الاسلامية ، وبرزت البدع والفِرَق المُختلفة بسبب الاعتماد على القرآن دون السُنّة النبوية التي بقيت بغير تدوين لأكثر من قرن كما يؤكد جهابذة أهل السُنّة والجماعة.

أبو بكر وجمع القرآن

من الأمور التي يرددها الجمهور دائماً في أوساطه الشعبية والدينية ، هي جمع الخليفة أبي بكر للقرآن الكريم ، والحديث الذي يستند اليه في تأكيده على جمع الخليفة الاول للقرآن ، هو الذي ينقله صحيح البخاري ومفادّه ان عمر بن الخطاب ذهب الى الخليفة أبي بكر وطلب منه جمع القرآن ، فأجابه أبو بكر بأنه كيف يفعل شيئاً لم يفعله رسول الله الا وهو جمع القرآن. ثم أذعن أبو بكر في النهاية ، وطلب من زيد بن ثابت ، القيام بالمهمة ، وقال زيد بأنه تتبع القرآن يجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال (٢).

ونستنتج من هذه الرواية التي يعدّها أهل السُنّة من اصح الروايات ، لأن الذي يرويها هو البخاري الذي يَعدّ صحيحه أصح الكتب بعد كتاب الله ، ونخلص بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يجمع القرآن ، وإنما تركه موزّعاً هنا وهناك ، ومبثوثاً في هذه الرفعة أو تلك ، بل وبعضه محفوظ في صدور الرجال من الصحابة الذين ربما يموتون في أي لحفظة ، ويذهب سرّ الآيات والسور المحفوظة في الصدور الى الأبد ، ولَستُ أعلم كيف يرضى

__________________

(١) دلائل النبوة ٦ : ٥٤٩.

(٢) صحيح البخاري ٦ : ٩٨ ؛ الاتقان في علوم القرآن ١ : ١٦١.

١٥٣

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يترك القرآن ، هكذا مشتتاً ، ومصيره مجهولاً ، فلربما ضاع بعض تلك الرُقع أو أكلتها الأرَضَة أو الحيوانات الداجنة ، أو مات الحَفَظة أو قُتلوا في الحروب؟

فهل يعقل أن يدع رسول الله أمّته التي هي آخر الأمم قاطبة ، ويرحل بعد أن يوصيها بالتمسك بالكتاب والسُنّة؟ ويبقى القرآن هكذا ، لا يعرف أبناؤه مصيره لأنه موزّع ومشتت هنا وهناك ، هذا في وقت بقيت سُنّته صلى‌الله‌عليه‌وآله هي الأخرى غير مدوّنة ، وانما محفوظة في صدور الرجال أو في رُقَعْ مُعرّضة للزال أو هي طعام للدواجن؟!

والغريب ان الخليفة أبا بكر يستغرب ممّن يدعوه لجمع القرآن ، فيما لم يجمعه الرسول أو يدعو الى جمعه؟

وما من شك ان هذا الحديث موضوع لأنه يجعل من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رجلاً لا يبالي ولا يفكّر بمصير أمّته الخاتمة ولا بمستقبلها الذي يكتنفه الغموض وهي خير الامم على الارض قاطبة ـ والى يوم القيامة!!!

وما يثير الانتباه ان الاحاديث الأُخر المروية عند اهل السُنّة والجماعة حول قضية جمع القرآن ، لو تفحّصناها لوجدناها مُتعارضة ومتفاوتة وتختلف اختلافاً كبيراً ، بحيث من الصعب التوفيق فيما بينها ، أو لنقُل من المحال

فمرّة يدّعي مؤرخو الجمهور المسلم بأن عمر أول من جمع القرآن في المصحف (١) بينما يقول آخرون إنَّ جمع أبي بكر للقرآن ، كان بمنزلة الأوراق ، وُجدت في بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيها القرآن منتشر ، فجمعها أبو بكر من خلال زيد بن ثابت ، حيث ربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء ، كما أمر أبو بكر زيداً باستنساخ نسخة من القرآن

__________________

(١) كتاب المصاحف لابن ابي داود السجستاني : ٩ ـ ١٠.

١٥٤

المجمع من الاوراق (١).

ومع ذلك يأتي من يُكابر ويلتفّ حول الحقيقة فيدّعي بأن القرآن لم يُجمع ـ وان كان مكتوباً متفرّقاً ـ ولم يعتمد المسلمون في العهد الأول إلّا على نصّه المحفوظ في الصدور ، بوجوده اللفظي ، وانه هكذا تواتر ، لا بوجوده الكتبي (٢).

ولا ندري ما المقصود بأنه محفوظ في الصدور ، والكل يعلم أن الذين حفظوا القرآن بأجمعه كانوا معدودين ، فكيف نقبل هذا الرأي الساذج؟ وإذا آمنا بهذا الرأي ، فيعني بأن أبا بكر لم يجمعه من الصدور وانما جمعه من الأوراق المتفرّقة ، وبالتالي لم يُضِفْ أي جهد من عند نفسه حتى يأتي من يقول ويزعم بأن الخليفة الاول هو أول من جمع القرآن الكريم ، بينما كان مجموعاً في عهد الرسول بأمره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنما قام بتجليده ، فليس من حق أحد الإدعاء بأن التشكيك في الخليفة الأول هو تشكيك في القرآن ، إذ كان مجموعاً في زمن الرسول ، بل وكان مصحفاً في العهد النبوي كما هو مشهور ، وكان الرسول يدعو المسلمين الى تلاوته كما جاءت أحاديث كثيرة تؤكد ذلك.

__________________

(١) الاتقان ١ : ١٦٠.

(٢) حجية السنة : ٤٠٧ ؛ فتح الباري ١ : ١١٤ ؛ النشر في القراءات ـ ابن الجوزي ١ : ٦.

١٥٥

الخليفة الثاني ـ شخصية تثير الاهتمام

لم يكن من السهولة أن يجرأ أحد على البحث في سيرة الخليفة الثاني ، عمر بن الخطاب ، وسَبْر أغوار حياته العامة والخاصة ، لمعرفة مدى صحة ما ينقله التأريخ عن ها الصحابي الذي حَكَم المسلمين لأكثر من عشر سنوات ، وتناقلته ألسنَة المؤرخين والباحثين عن شخصية عبقرية كشخصية عمر الذي كانت له اليد الطولى في تثبيت الدين ونشر الاسلام في المناطق المحيطة بالجزيرة العربية ، والوصول الى مدينة القدس وتحريرها من براثن الروم ... ولذلك فلطالما يتردّد المرء عن تناول حياته وسيرته بالبحث والتنقيب خوف الوقوع في شبهات ربما تقلّل من قداسة هذا الخليفة الراشد ، وتزيل الهالة التي تحيط بشخصيته الخارقة ، ولكننا لما ان هدفنا هو تبيان الحقيقة مهما كانت صعبة ، وشق الطريق لها مهما كان وعراً ، قرّرنا الخوض فيها حتى النهاية ، لكشْف الملابسات التأريخية بدون رتوش أو تعديلات أو تلاعب ، سعياً للوصول الى الحق الذي لا ريب فيه والمنزّه من عبث العابثين.

حقيقة شجاعة عمر وجرأته

قبل البدء في تصفّح سيرة الخليفة الثاني ، ارتأينا أن نتثبّت من النظرية السُنّية حول جرأة عمر بن الخطاب وشجاعته ، بحيث أصبح الاسلام عزيزاً بعد أن كان خائفاً ، فور اعتناق الخليفة عمر للدين الاسلامي.

أول ما يلفت نظرنا في هذا الصدد ، غلظة عمر وفضاضته في علاقته بالاشخاص

١٥٦

من حوله ، حيث يقرّ الصحابة بأنه كان فضاً غليظاً قبل تصدّيه للخلافة ، مما كان يثير حفيظة وسخط المسلمين ، واستمر في سلوكه هذا بعد تسلّمه للسلطة غداة وفاة الخليفة أبي بكر ، خاصة وانه كان يستعمل وسيلته الشهيرة «الدرّة» وهي سوط في تعامله مع الرعية.

وفضاضة القلب وغلظته ، أمر مرفوض عند الله تعالى ، حيث قال عزّ وجل لنبيه الكريم : وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (١) ، أي ان هذه الصفة الذميمة تدعو لانفضاض المؤمنين من حول زعيمهم وقائدهم ، بينما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ذا خلق عظيم ، يبشُّ في وجوه رعيته ويكسب مودّتهم وقلوبهم.

فهذه الصفة السلبية ما اكن ينبغي أن يتّصف بها الخليفة الثاني أو على الأقل كان عليه أن يتجنّبها أو يخفّف منها قدر المستطاع ، وينبذ اسلوب استعمال السوط في تعامله مع من حوله ، أسوة بالرسول والخليفة الاول ، لكنه تمادى في هذا الاسلوب القاسي طيلة تربّعه على كرسي الخلافة والحكم.

ويبد ان الخليفة الثاني واصل إسلوبه الفج مع رعاياه حتى آخر لحظة من حياته ، لأنه يوم طَعْنه من قبل غلام المغيرة بن شعبة ، كان لا يكبّر حتى يلاحظ الصف المتقدم في الصلاة ، فإن رأى رجلاً متقدماً من الصف أو متأخراً ، ضربه بسوطه المعهود (أي الدرّة) ..

وان دلّ هذا على شيء فانما يدلّ على ان الخليفة الثاني حتى آخر لحظة من حياته لم يتخلّ عن أسلوبه العنيف ضد مواطنيه (٢) وإلّا هل من الانصاف في شيء أن يَقْدم أي

__________________

(١) آل عمران ١٥٩.

(٢) كنز العمال ١٢ : ٦٧٩.

١٥٧

رجل ولو لم يكن خليفة أو حاكماً بضرب أحد ذلك الضرب المبرح لأمر تافه جداً لا يستحق كل هذا ال ضرب الذي يُعتبر في القانون الالهي عقوبة ضد المقترفين خطايا أو آثاماً كبيرة يستحقون بسببها الجلد أو التعزير.

عمر وحروب المسلمين

ويبدو من خلال التفرّس في سلوك الخليفة الثاني في العهد النبوي ، ان ما يقال عن جرأته وشجاعته ، إنما هي شجاعة موجّهة ضد البسطاء من المسلمين الذين كان أكثرهم من الصحابة أو التابعين ، وإلا فإن مشاركة عمر في حروب النبي ضد المشركين تدلّ على خشيته من قتال الكفار ، وفراره من الزحف ، شأنه في ذلك شأن الكثير من الصحابة ، وهذه كُتُب التأريخ تشهد بمواقفه في معارك المسلمين ضد الكفار والمشركين ، اذ يروي المؤرخون ان عمر بن الخطاب كان يفرّ مع الفارّين عندما يقع المسلمون في مأزق ، ويتكالب الكفار عليهم من كل جانب ، وتبلغ القلوب الحناجر (١).

ونحن عند انهماكنا في دراسة دور الخليفة الثاني في معارك المسلمين الاولى مع الكفار والمشركين ، دار في ذهننا ، السؤال التالي : اذا كان عمر قد انهزم في معارك وحروب وغزوات مثل أُحد وحنين وخيبر وذات السلاسل ، فما هو دوره في الحروف الأخرى التي خاضها النبي والمسلمون ضد الكفار والمشركين؟ (٢)

وبعد الإمعان في هذا الإشكال أو الغموض ، توصّلنا الى ان الخليفة عمر في هذه الحروب ، لم يكن له دور ايجابي في القتال ، ولذا لم يذكر التأريخ أسماء مشهورين من

__________________

(١) المغازي ، الواقدي : ٩٠٤ ؛ التوبة ٢٥ ـ ٢٦ ؛ صحيح البخاري ٥ : ١٠١ ؛ البداية والنهاية ٤ : ٣٧٦ ؛ المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري ٣ : ٣٧ ؛ كنز العمال ١٠ : ٤٦٢ ؛ مجمع الزوائد ٩ : ١٢٤.

(٢) السيرة الحلبية ٣ : ١٩ ؛ الدر المنثور ٦ : ٦٨ ؛ صحيح البخاري ٥ : ١٠١.

١٥٨

قريش أو أهل الكتاب ، كان عمر قد نازلهم في المعارك أو قتلهم ، وهذا يدل على ان عمراً كان يلعب دور المشاهد أو المتفرّج في ميادين القتال ، إذ ينوب عنه المقاتلون المسلمون الذين يستبسلون في قتال الاعداء ، وتوجيه الضربات المميتة لهم ، كما هو الحال في معركة بدر الكبرى ، ولكن في الامتحانات العسيرة التي يواجهها المسلمون ، كالانكسار الذي حلّ بهم في اُحد وحنين بسبب ضعفهم وركونهم الى جمع الغنائم أو شعورهم بالغرور ، هنا يبدو موقف عمر والآخرين الانهزامي حيث الخور والضعف والخلود الى الارض والخشية من المنازلة.

واذا كان عمر ، جريئاً شجاعاً مغواراً كما ينعته علماء أهل السُنّة وجهابذتهم ، بحيث أصبح الاسلام عزيزاً منيعاً باعتناق عمر له ، فلِمَ كان هذا الأخير لا يثبت قدراته إلا في أجساد الصحابة والمستضعفين الذين تلهب صدورهم وظهورهم ، سياطه الموجعة بحيث لم يفلت منها حتى النساء ، بينما كان الأحرى به ان يبرز بطولاته في سوح الوغى ضد ال كفار والمشركين الذين كانوا يحيقون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأتباعه ، لتوجيه الضربة القاصمة للاسلام في كل الحروب والمعارك الشهيرة.

موقف عمر من القرآن الكريم

كان عمر بن الخطاب ، الخليفة الراشد الثاني ، وبعظمته ومكانته تتحدث الأجيال التي نشأت وترعرعت في ظل المذاهب السُنّية ، حيث كان محدَّثاً ، تنزل الآيات القرآنية توافق آراءه ومقترحاته ، وكان رسول الله يذعن له في كثير من الأحيان. ورجل صحابي بهذه العظمة والمكانة السامية ، لابد من معرفة موقفه من القرآن الكريم ، وهل صحيح أنه كان مساهماً في جمع القرآن وحفظه من الضياع؟ وهل كان مؤمناً بصيانة كتاب الله من التحريف؟ وان ما بين الدفتين هو كتاب الله التام دون زيادة أو نقصان؟ وبالتالي كان

١٥٩

الخليفة عمر مؤتَمناً على القرآن والدين حسب وصايا الرسول للمسلمين بوجوب اتّباع سُنّة الخليفة الراشد الثاني ، وانه على الحق في كل أحواله كما تشهد العشرات من الاحاديث النبوية على ذلك ، وكما يدّعي أهل السُنّة بأنه الفاروق الذي يفرّق بين الحق والباطل؟

واذا كان عمر أول من جمع القرآن في مصحف (١) فما هو هذا المصحف؟ وما درجة صحته واعتباره؟ خاصة وهو القائل بأن القرآن الحقيقي أضعاف القرآن الموجود لدى المسلمين ، وإن من يقرأه فله بكل حرف زوجة من الحور العين ، ولا يعنينا تبرير العالم والمفسّر السُنّي (السيوطي) ، بأن عمر عني المنسوخ من الآيات القرآنية (٢).

فهل يا ترى ان الآيات المنسوخة من القرآن ، هي أضعاف الآيات المثبّتة في القرآن الحالي؟ ومن يقول بهذا الرأي فهو لا يحترم عقلة ودينه وتعاليم القرآن الكريم!! ولطالما كان عمر يقرأ آيات ليست من القرآن المعروف ، مدّعياً بأنها كانت ضمن القرآن وأسقطت منه (٣) ، ولم يقل إنها نُسخت أبداً.

وهناك مواقف لعمر بن الخطّاب تثبت بأنه كان يجهل آيات غريبة أو محرّفة من القرآن الكريم ، وعندما يتثبت من الصحابة الحفّاظ لكتاب الله ، يعود فيقرّ بها وربما يدوّنها في المصحف التابع له (٤) ، بالرغم من عدم وجودها في المصحف المعروف أو

__________________

(١) منتخب كنز العمال ، هامش مسند احمد ٢ : ٤٥ : تأريخ القرآن الكريم ـ محمد طاهر الكردي : ٤٤؛ الاتقان في علوم القرآن ، السيوطي ٢ : ٧٢ ؛ اضواء البيان ، الشنقيطي ١ : ١٢٣.

(٢) تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري ١ : ٣٦١ ؛ الموطأ ٢ : ٨٢٤ ؛ صحيح البخاري ٤ : ١١٥ ؛ صحيح مسلم ٥ : ١١٦ ؛ سنن ابي داود ٢ : ٢٢٩.

(٣) الدر المنثور ٦ : ٣٧٨ ؛ كنز العمال ٢ : ٥٦٨.

(٤) الاتقان ، السيوطي ٢٥ : ٢ ؛ المبسوط ٣٧ : ٩.

١٦٠