بحث حول الخلافة والخلفاء

منيب الهاشمي

بحث حول الخلافة والخلفاء

المؤلف:

منيب الهاشمي


المحقق: زينب الوائلي
الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٢

المجاز بأنه طاغوت لان الأمر يتعلق بالله تعالى؟

ألم ينزل القرآن الكريم باللغة العربية المحكمة : نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ (١) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا (٢).

وفي العبارات البلاغية ، نقرأ كثيراً ، كلمات تفيض بلاغة وسحراً.

فلِمَ يتم استثناء القرآن الكريم ـ وهو كتاب الله المنزل بلغة العرب ـ من هذه الاصول البلاغية المألوفة في الشعر والأدب العربي؟

والغريب ان الصحاح السُنّة المعتبرة ، تذكر بأن الله خلق آدم على صورته ، أي ان شكل آدم مطابق لشكل الله ومشابه له ، فكيف والحال هذه ، يفسّر أهل السُنّة والجماعة قوله تعالى : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (٣)؟

وكذلك قولهم بأن الله ينزل كل ليلة الى السماء الدنيا ويطلب من العباد ، الدعاء والاستغفار لكي يجيب دعواتهم ، وكأن الله تعالى لا يسمع أدعية الناس إلا إذا نزل بالقرب منهم. وهذه الاحاديث المروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والتي ملأت كتب الصحاح ، تتعارض والكثير من الآيات القرآنية التي تثبت بأن الله أقرب للإنسان من حبل الوريد ، أو قوله تعالى : وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (٤). فلِمَ ينزل الله الى السماء الدنيا إذا كان قريباً من الانسان ويسمع دعاءه وتوسلاته؟

__________________

(١) الشعراء ١٩٣ ـ ١٩٥.

(٢) يوسف ٢.

(٣) شورى ١١.

(٤) البقرة ١٨٦.

١٠١

: مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ (١).

وعليه فإن هذه الروايات المدوّنة في صحاح أهل السُنّة والجماعة ، فضلاً عن تعارضها مع العقل والمنطق البشري ، فهي توجّه طعنة بالغة للقرآن الكريم.

أما لقاء النبي الله تعالى خلال عروجه الى السماء ، فهو أيضاً مستحيل ، لأن الله ـ وبحكم العقل ـ لا يُرى بالعين المجرّدة ، والآيات القرآنية في هذا الصدد لا تقرّ بذلك أبداً ، فإن الذي رآه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عند سدرة المنتهى ، هو جبرئيل ، لا أكثر ولا أقل ، وحتى القاضي السُنّي الشهير (عياض) يتعرّض في كتابه (الشفاء) للقضايا المتعلقة بذات الله ، فعند شرحه لقول الله تعالى : (٢) ، يقرّ ويعترف بأن ما وقع من إضافة الدنو والقرب هنا من الله والى الله ، فليس بدنو مكان ولا قرب مدى (٣).

وما توصلنا اليه بعد البحث في رؤية أهل السُنّة والجماعة لمفهوم التشبيه ، هو انهم بأجمعهم يؤمنون برؤية الله في الآخرة ، استناداً الى الروايات التي تثبتها الصحاح ، وابرزها صحيحا البخاري ومسلم اللذان لا يتطرق اليهما الشك لديهم.

وهذا يستدعي إثبات الصفات لله ، أي اعضاء وحركات يقوم بها ، مثل الضحك ، والتحدّث الى اهل الجنة ، وهذا بحد ذاته ، تجسيد لله ، وانه بذلك مُحْدَث كسائر الاجسام ، وما الفرق بين رؤيته في الدنيا او الآخرة؟ .. المهم ان صفات الله ، في هذا

__________________

(١) المجادلة ٧.

(٢) النجم ٨ ـ ٩.

(٣) تفسير القرطبي ١٧ : ٩٠ ؛ نهاية الارب في فنون الادب ـ النويري ١٦ : ٢٩٩.

١٠٢

الشأن ، هي صفات حقيقية وليست مجازية ، وعليه فلا معنى لمزاعم الكثير من اهل السًنّة الذين لا يؤمنون برؤية الله في الدنيا او ان له اعضاء ، ويعتبرون أنفسهم من «أهل التنزيه» ، ماداموا يؤمنون برؤيته في الآخرة.

ولمّا كنّا قد أثبتنا بأن الله من المحال ان تكون صفاته حقيقية ، وانما هي مجازية ، فإن نظرية الجمهور السُنّي تنهار جملة وتفصيلاً.

وجاء العلم الحديث والفيزياء المتطورة لتفنّد النظرية السُنّية حول ماهية الله تعالى وصفاته ، فالسماوات والأرض تحكمها قوانين الجاذبية والمغناطيسية ، وهذه القوانين وضعها الله تعالى لامساك السماوات والأرضين ، وليست هي في حاجة الى أصابع تحرّكها كما تزعم روايات البخاري ومسلم ، وهما أفضل صحاح أهل السُنّة.

ثم ان الله ليس له مكان ولا مقر محدّد ومعيّن يسكنه في السماء لأن الآيات التي تشير الى وجود الله في السماء ، ما هي الا تعبير رمزي عن السمو والرفعة ، وإلا اننا حينما نرفع رؤوسنا نحو السماء وندعو الله تعالى ، فإن كل الذين يدعون الله في أطراف المعمورة ، يرفعون رؤوسهم نحو السماء التي ستكون في الاطراف الأخرى من الأرض ، أي في سماء معاكسة لاتجاه سمائنا وهكذا كل أطراف الأرض ، بمعنى ان الله موجود في السماوات حول الأرض بشتى الاتجاهات ، وهذا إن دل على شيء فانما يدل على ان الله لامتناه ، فكيف يتوافق قولنا ان الله في السماء مع وجوده في شتى الاتجاهات وليس في اتجاه واحد؟

واذا سأل العباد ربهم فإنه يجيب دعوة الداعي اذا دعاه كما يؤكد القرآن الكريم ذلك ، والله الذي هو أقرب الى الخلق من حبل الوريد ، فما هو لزوم نزوله الى السماء الدنيا ولبْثه حتى الفجر يدعو الناس كي يستجيب لدعوتهم ، بينما هو يسمعهم حيثما كانوا لقربه منهم!!.

١٠٣

كما ان وجود الأعضاء من يدين وقدمين ووجه وأسنان وأصابع مهما كان كنهها ، إنما يدل ، ليس فقط على ان الله مُحدَث ، بل على حاجة الله الى هذه الاعضاء (الصفات) ، فاليد والاصابع ليمسك السماوات والأرض ، والعين لكي يرى ، والقدم لكي يقف عليها ، فهل هو بحاجة الى هذه الأعضاء حتى يتحرك بها بطلاقة؟

تُرى ما جدوى الاضراس التي يؤمن بها أهل السُنّة وان فم الله يحويها؟ هل لكي يسحق بها الطعام؟ سبحان الله عمّا يصفون. أما العرش الذي يعتقد أهل السُنّة والجماعة بأن الله يجلس عليه ، فهو في الحقيقة ، عرش رمزي خلقه الله تعالى لاثبات قدرته وعظمته ، حيث تحفّ الملائكة حوله وتسبّح بحمد ربها كما يقول القرآن الكريم ، هذا العرش مثله مثل الكعبة المُشَرّفة التي جعلها الله بيتاً رمزياً له ، لا أن يسكنه كما هو معلوم ، وكل الروايات التي تبيّن جلوس واستواء الله على العرش وان لكرسيه أطيطاً وما إلى ذلك ، فهي روايات واضحة الوضع ولا تنسجم مع العقل والمنطق وتعاليم القرآن الكريم حيث ان كرسي الله الرمزي يسع السماوات والأرض على حد التعبير القرآني : وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (١).

__________________

(١) البقرة ٢٥٥.

١٠٤

الموقف المريب من القرآن الكريم

إننا بعد تمحيص كتب جمهورنا المسلم وخاصة كتب الحديث من صحاح وسنن ومسانيد ، فضلاً عن تصانيف خاصة بعلوم القرآن وتدوينه ، نكتشف ان الكتب والآثار المعتمدة لدى أهل السُنّة والجماعة وبالذات البخاري ومسلم ملأى بالاحاديث والروايات التي تدل على تحريف القرآن الكريم وانه تعرّض للزيادة والنقصان والتلاعب ، كما ان النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله مات وتركه هنا وهناك ، وقصاصات عند هذا وذاك ، ولم يعنِ بجمعه ، ولذا فقد ضاع الكثير منه ، ولم يبق إلا هذا الموجود في أيدي الناس (١).

__________________

(١) للتحقّق يُرجى مراجعة المصادر التالية : القاري ـ العيني ١٦٥ : ١١ ؛ صحيح البخاري ٢٦ : ٨ ؛ التمهيد ـ ابن عبد البر ٤ : ٢٣٦ ؛ نواسخ القرآن ـ ابن الجوزي : ٣٥ ؛ صحيح البخاري ٧ : ١٧٥ ؛ صحيح مسلم ٣ : ٩٩ ؛ سنن الدارمي ٣١٩ : ٢ ؛ مسند ابي داود : ٧٣ ؛ الاتقان ـ السيوطي ٢ : ٦٧ ؛ مجموعة الفتاوى ـ ابن تيمية ٢٠ : ٣٩٩ ؛ فتح الباري ـ ابن حجر العسقلاني ١٢ : ١٢٧ ؛ مجمع الزوائد ـ الهيثمي ٦ : ٦ ؛ صحيح مسلم ٣ : ١٠٠ ؛ الدر المنثور ـ السيوطي ١ : ١٠٥ ؛ تفسير الآلوسي ١ : ٣٥١ ؛ الدر المنثور ـ السيوطي ٧٩ : ٦ ؛ صحيح البخاري ٤ : ٤٥١ ؛ صحيح مسلم ٢ : ٢٠٦ ؛ سنن الترمذي ٢ : ٢٦٢ ؛ صحيح البخاري ٧ : ١٢٧ ؛ الدر المنثور ـ السيوطي ٦ : ٢١٩ ؛ المعجم الكبير ـ الطبراني ٩ : ٣٠٧ ؛ فتح الباري ـ ابن حجر العسقلاني ٤٩٢ : ٨ ؛ الاستذكار ـ ابن عبد البر ٢ : ٣٥ ؛ الجامع لاحكام القرآن ـ القرطبي ١٦ : ١٤٩ ؛ الاتقان ـ السيوطي

١٠٥

فالقرآن الكريم على هذا الأساس ، لم يُجمع ـ وإن كان مكتوباً متفرّقاً ـ ولم يعتمد المسلمون في العهد الاول إلا على نصه المحفوظ في الصدور ، بوجوده اللفظي ، وأنّه هكذا تواتر ، لا بوجوده الكتبي.

بينما يقول العديد من المؤرخين السُنّة بأن قرآناً كثيراً قد أُنزل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقُتل الحفظة يوم اليمامة ، الذين كانوا قد وعوه ، ولم يعلم بعدهم ولم يكتب (١).

يتضح من الحقائق المذكورة آنفاً ، ان أُمّهات الكتب المعتبرة لدى أهل السُنّة والجماعة ، كالبخاري ومسلم وغيرهما تقرّ إقراراً تاماً بتعرّض القرآن الكريم للتحريف ، وان القرآن الحالي ليس هو القرآن الذي أُنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في حينها ،

__________________

١ : ١٣٣ ؛ تفسير الآلوسي ٢٥ : ١٣٢ ؛ صحيح مسلم ٣ : ١٠٠ ؛ الدر المنثور ـ السيوطي ٥ : ٤٨ ؛ فتح القدير ـ الشوكاني ٤ : ٣٦ ؛ صحيح البخاري ٩٤ : ٦ ؛ صحيح مسلم ١ : ١٣٤ ؛ السنن الكبرى ـ البيهقي ٧ : ٩ ؛ الجامع لاحكام القرآن ـ القرطبي ٣٢٠ : ٩ ؛ الدر المنثور ـ السيوطي ٤ : ٦٣ ؛ زاد المسير ـ ابن الجوزي ٤ : ٢٤٤ ؛ صحيح البخاري ٨ : ٢٦ ؛ الاتقان ـ السيوطي ٢ : ٦٦ ؛ الدر المنثور ـ السيوطي ١ : ١٠٦ ؛ الدر المنثور ـ السيوطي ٥ : ١٧٩ ؛ صحيح البخاري ٥ : ١٨٥ ؛ تفسير الآلوسي ١٥ : ٦٩ ؛ صحيح مسلم ٢ : ١١٢ ؛ سنن ابي داود ١ : ١٠٢ ؛ سنن الترمذي ٤ : ٢٨٥ ؛ سنن النسائي ١ : ٢٣٦ ؛ تفسير الآلوسي ٢١ : ١٥٢ ؛ تأريخ مدينة دمشق ٧ : ٣٣٨ ؛ الدر المنثور ـ السيوطي ٥ : ١٨٣ ؛ الدر المنثور ـ السيوطي ٦ : ٧٩ ؛ كنز العمال ـ المتقي الهندي ٢ : ٥٦٨ ؛ الاتقان ـ السيوطي ١ : ١٧٨ ؛ صحيح مسلم ٣ : ١٠٠ ؛ الاتقان ـ السيوطي ٦٧ : ٢ ؛ الدر المنثور ـ السيوطي ١ : ١٠٥ ؛ مجمع الزوائد ـ الهيثمي ٧ : ٢٨ ؛ المعجم الاوسط ـ الطبراني ٢ : ٨٦ ؛ الدر المنثور ـ السيوطي ٣ : ٢٠٨ ؛ عمدة القاري ـ العيني ١٨ : ٢٥٣ ؛ تفسير القرطبي ٨ : ٦٢ ؛ الاتقان ـ السيوطي ١ : ١٧٧ ؛ تفسير الرازي ٣ : ٢٣٠ ؛ التمهيد ـ ابن عبد البر ٢٧٥ : ٤ ؛ الموطأ ـ الامام مالك ٢ : ٨٢٤.

(١) كنز العمال ـ المتقي الهندي ٥٨٤ : ٢.

١٠٦

غير ان علماء الجمهور لا يلتفتون إلى هذه الحقيقة التأريخية المدوّنة في تصانيفهم ويتجاوزونها ، مقرّين بأن القرآن الكريم لم يتعرّض الى التحريف أو الزيادة والنقصان وانه هو القرآن نفسه لم يتغيّر أبداً.

هذا القول الفصل كما هو معلوم يطرحه أكثر علماء السُنّة من المتقدمين والمتأخرين.

فمحمد الغزالي يقول بان العالم الاسلامي الذي امتدت رقعته في ثلاث قارات ، ظل من بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الى يومنا هذه بعد أن سُلخ من الزمن أربعة عشر قرناً لا يعرف إلا مصحفاً واحداً مضبوط البداية والنهاية ، معدود السور والآيات والالفاظ.

أما العالم السُنّي الكبير «محمد أبو زهرة» فيؤكد أن القرآن بإجماع المسلمين هو حجة الاسلام الأولى وهو مصدر المصادر له ، وهو سجل شريعته ، وهو الذي يشتمل على كلّها وقد حفظه الله تعالى الى يوم الدين ، كما وعد سبحانه إذ قال : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (١) (٢).

فيما يقول «مصطفى الرافعي» بأن القرآن الكريم الموجود الآن بأيدي الناس من غير زيادة ولا نقصان (٣).

وهنا يجب أن يعترف أهل السُنّة جميعاً بأن كل مصادرهم التأريخية التي تعتقد وتذكر تحريف القرآن الكريم ، مُتّهمة وغير صادقة في ذلك ، حتى يكونوا صادقين في ادعائهم

__________________

(١) الحجر ٩.

(٢) الامام الصادق ـ محمد ابو زهرة ص ٢٩٦.

(٣) كتاب إسلامنا ـ مصطفى الرافعي ص ٥٧.

١٠٧

بأن القرآن الكريم المتداول بين المسلمين ، لم يمسّه التحريف أو الزيادة والنقصان وإن الله حفظه بنص القرآن الكريم.

أيهما الحاكم : القرآن الكريم أم السُنّة؟

والمستغرَب في هذا الشأن ، إعتقاد علماء الجمهور بأن السُنّة قاضية على الكتاب ، وليس الكتاب بقاضٍ على السُنّة (١).

بل ويصر أهل السُنّة والجماعة على أن السُنّة النبوية تنسخ القرآن وتقضي عليه ، وأن القرآن لا ينسخ السُنّة ، ولا يقضي عليها.

ويمضي مكحول والاوزاعي الى أكثر من ذلك ، فيعتقد بأن القرآن ، أحوج الى السُنّة ، من السُنّة الى القرآن ، وذلك لأنها تبيّن المراد منه (٢).

وموضع اتفاق المسلمين هو : تخصيص الكتاب بما تواتر من السُنّة ، لكن الذي عليه الجمهور ان : خبر الواحد يخصّص عام الكتاب كما يخصّصه المتواتر.

غير ان الشاطبي يرفض هذه القاعدة السُنّة ، فيقول بإتفاق العلماء أجمع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد ، يشاطره في رأيه ، القطّان الذي ينسب عدم جواز نسخ القرآن الكريم بخبر الواحد الى الجمهور (٣).

بل أكثر من ذلك ، فالشافعي وأصحابه وأكثر أهل الظاهر من أهل السُنّة

__________________

(١) تفسير القرطبي ١ : ٣٩ ؛ الاصابة ـ ابن حجر ١ : ٣٥ ؛ تأويل مختلف الحديث ـ ابن قتيبة الدينوري : ١٨٦ ؛ جامع بيان العلم وفضله ـ ابن عبد البر ٢ : ١٩١.

(٢) تفسير القرطبي ١ : ٣٩ ؛ طبقات الحنابلة ـ محمد بن ابي يعلى ٢ : ٢٥.

(٣) مباحث في علوم القرآن ـ مناع القطان ـ ص ٢٣٧.

١٠٨

والجماعة قد قطعوا بامتناع نسخ القرآن بالسُنّة المتواترة أيضاً.

نعم ان علماء سُنّة كباراً كالشاطبي ، قد شخص قيمة القرآن ، وهو الحاكم على السُنّة وليس السُنّة حاكمة عليه ، ولذلك فهو يقول عن القرآن الكريم : ان الكتاب قد تقرّر انه علية الشريعة ، وعمدة الملة وينبوع الحكمة ، وآية الرسالة ونور الأبصار والبصائر ، وانه لا طريق الى الله سواه ، ولا نجاة بغيره ، ولا تمسّك بشيء يخالفه ، وهذا كله لا يحتاج الى تقرير واستدلال عليه لأنه معلوم من دين الأمّة ، واذا كان كذلك يلزم ضرورة لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة ، وطمع في إدراك مقاصدها واللحاق بأهلها ، أن يتخذه سميره وأنيسه ، وأن يجعله جليسه على مرّ الأيام والليالي ، نظراً وعملاً لا اقتصاراً على أحدهما ، فيوشك أن يفوز بالبُغية ، وأن يظفر بالطلبة ، ويجد نفسه من السابقين وفي الرعيل الأول.

أما حبر الأمة عبد الله بن عباس ، فيقول ان القرآن ذو شجون وفنون ، وبطون ، ومحكم ومتشابه ، وظهر وبطن ، فظهره التلاوة ، وبطنه التأويل (١).

إذاً ... فالقرآن هو الحاكم على السُنّة وليس العكس صحيح ، غير إن علماء من أهل السُنّة والجماعة كالبيهقي وعبد الرحمن بن مهدي والخطابي ويحيى بن معين ، يرفضون أولوية القرآن الكريم ، والحديث النبوي الشريف حول «عرض السُنّة النبوية على القرآن الكريم لمعرفة هل توافقه أم لا حتى تُضرب بعرض الجدار». فيقول عبد الرحمن بن مهدي بأن الزنادقة والخوارج وضعوا ذلك الحديث ، يعني ما رُوي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله إنه قال : «ما أتاكم عني ، فإعرضوه على كتاب الله ، فإن وافق كتاب الله ، فأنا قلته ، وان خالف كتاب الله ، فلم اقله ، وإنما أنا موافق كتاب الله وبه هداني الله»

__________________

(١) الاتقان ـ السيوطي ٢ : ٤٨٧ ؛ الدر المنثور ـ السيوطي ٢ : ٦.

١٠٩

وهذه الالفاظ لا تصح عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه (١).

ويدّعي البيهقي بان هذا الحديث ، باطل لا يصح ، وهو ينعكس على نفسه بالبطلان ، فليس في القرآن دلالة على عرض الحديث على القرآن (٢).

وكذلك الخطابي الذي يقول بأنه حديث باطل لا أصل له. ويشاطره في ذلك يحيى بن معين.

وأهل السُنّة والجماعة في قضية الناسخ والمنسوخ ، يؤمنون بثلاثة أنواع من النسخ ، وهي :

١. نسخ الحكم دون التلاوة.

٢. نسخ التلاوة دون الحكم.

٣. نسخ التلاوة والحكم معاً.

__________________

(١) جامع بيان العلم وفضله ـ ابن عبد البر ٢ : ١٩١.

(٢) دلائل النبوة ـ البيهقي ١ : ٢٧.

١١٠

حرمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في التراث السُنّي

هل حقاً أن للرسول الصادق الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، موقعاً مرموقاً عند أهل السُنّة والجماعة؟ لأنهم طالما ادّعوا احترام وتبجيل خاتم الأنبياء وصاحب الخُلق العظيم ، وأنهم حَمَلة سُنّته ، والسائرون في طريقه دون غيرهم من الفرق والنحل والطوائف.

غير أننا بعد أن التوغّل في كتب الحديث السُنّية ، وخاصة الصحاح التي هي موضع ثقة كل أهل السُنّة والجماعة ، توصّلت الى حقائق راسخة ، تُثبت أن معظم أهل السُنّة لا يراعون حرمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من خلال تدوين روايات وأحاديث مكذوبة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله وتؤكد استخفافه بالمجتمع وعدم حيائه واحترامه للأخلاق والمعايير الاسلامية ، اضافة الى اخطائه المتكررة وسهوه في الكثير من الامور الشرعية والفرائض الواجبة كالصلاة مثلاً ، بحيث يصحّح المسلمون أخطاءه التي لم يلتفت إليها (١).

ذو الخُلُق العظيم في صحاح السُنّة

فكتب الصحاح التي هي موضع اعتماد جلّ أهل السُنّة والجماعة ، وغيرها من كتب السنن والمسانيد ، تروي بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كغيره من الناس ، يمسّه الشيطان ، ويقرّ

__________________

(١) كتب الام ـ الشافعي ٧ : ٢٠٧ ؛ المعجم الاوسط ـ الطبراني ٣ : ٢٤٢ ؛ المجموع ـ النووي ٤ : ٨٨.

١١١

هو بذلك ، وانه في بعض الأحيان يعتريه المسّ ويستثني الشيطان أناساً آخرين دونه في المنزلة ـ بالطبع ـ (١).

ويصف القرآن الكريم ، خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنه ذو خلق عظيم وعلى صراط مستقيم ، وعلى هدى قويم ، وعلى الحق المبين ، وتأتي صحاح أهل السُنّة ، لتصف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأوصاف وأفعال وممارسات لا يفعلها حتى المسلم العادي ، ويخجل من اقترافها أسوياء الناس (٢).

إذ كان النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله يُسحَر حتى ليخيل اليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله ، ويأتي أهله ، وهو في الحقيقة لا يأتيها ، وقد اعترف صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنه كان مسحوراً ، الى أن ذهب عنه أثر السحر بعد مدة كما يؤكد صحيح البخاري (٣).

هذا ي حين علّق العالم السُنّي الكبير محمد عبده على سحر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قائلاً : وقال كثير من المقلّدين الذين لا يعقلون ما هي النبوة : ان الخبر بتأثير السحر في النفس الشريفة قد صحّ فيلزم الاعتقاد به ... والقرآن ينفي السحر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعدّه من افتراء المشركين عليه ، وان المشركين كانوا يقولون إن الشيطان يلابسه ، وملابسة الشيطان

__________________

(١) صحيح مسلم ـ ٢ : ١٣٨ ؛ سنن النسائي ـ ١ : ٢٩٨ ؛ السنن الكبرى ـ البيهقي ٢ : ٢١٨.

(٢) صحيح مسلم ٣ : ١٠٠ ؛ صحيح البخاري ٢ : ١٣٨ ؛ عمدة القاري ـ العيني ٩ : ١٠٥ ؛ تفسير ابن كثير ٢ : ٥١ ؛ صحيح البخاري ١ : ٤٦ ؛ صحيح البخاري ٤ : ٤٦ ؛ صحيح البخاري ٧ : ١٩٣ ؛ سنن ابي داود ٢ : ٤٠٧ ؛ فتح الباري ـ ابن حجر ٦ : ٣١٩ ؛ صحيح البخاري ٣ : ٨٨ ـ ٨٩ ؛ صحيح البخاري ٥ : ١٨٥ ؛ دقائق التفسير ـ ابن تيمية ٢ : ٣٦٧ ؛ الدر المنثور ـ السيوطي ٤ : ٣٣٤ ؛ فتح الباري ـ ابن حجر ٨ : ٤١٨ ؛ صحيح البخاري ١ : ٦٢.

(٣) صحيح البخاري ٤ : ٩١ و٧ : ٨٨.

١١٢

تُعرف بالسحر عندهم ... والذي يجب اعتقاده ، ان القرآن مقطوع به ، وهو الذي يجب الاعتقاد بما يثبته ، وعدم الاعتقاد بما ينفيه ، وقد جاء ينفي السحر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث نسب القول بإثبات حصول السحر له الى المشركين أعدائه ووبخهم على زعمهم هذا ، فإذن هو ليس بمسحور قطعاً (١).

وهذا الحديث (سحر النبي) رواه الشيخان (البخاري ومسلم) وأحمد والنسائي (٢).

وعصمة النبي من تأثير السحر في عقله ، عقيدة من العقائد ، ولو كان هؤلاء يقدّرون الكتاب حق قدره ، ما هذروا هذا الهذر ، ولا وصموا الاسلام بهذه الوصمة.

وفي قضية إخلاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لأسرى بدر ، بعد أخذ الفداء ، قال بعض علماء أهل السُنّة والجماعة ، بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما أخذ الفداء كان مجتهداً ، وكان الصواب قتلهم ، وان عمر بن الخطاء قد انتقد الرسول ، فاذا هو صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبو بكر يبكيان ، وقال : ان كاد ليمسّنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم ، ولو نزل عذاب ما أفلت منه إلا ابن الخطاب ، حيث قال هؤلاء : أنزل الله تعالى : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّـهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّـهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّـهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٣). حيث قال أهل السُنّة ، بنزولها في التنديد برسول الله وأصحابه ، حيث آثروا عرض الدنيا على الآخرة ، فاتخذوا الأسرى ، وأخذوا منهم الفداء قبل أن يثخنوا في الأرض ، وزعموا أنه لم يسلم يومئذ من هذه

__________________

(١) تفسير جزء عم ـ محمد عبده ص ١٨٣ و١٨٦.

(٢) صحيح البخاري ٤ : ٩١ ؛ سنن النسائي ٧ : ١١٣ ؛ سنن ابن ماجة ٢ : ١١٧٣ ؛ مسند احمد ٤ : ٣٦٧.

(٣) الدر المنثور ـ السيوطي ٣ : ٢٠٣.

١١٣

الخطيئة الا عمر بن الخطاب ، وهم ادعوا ان النبي فعل ذلك بعد أن أثخن في الأرض ، وقتل صناديد قريش.

على أن آية : حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ (١) انما نزلت في واقعة أخرى ، وهي ان أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال بعضهم : العير أحب إلينا من قتال العدو ، وقال بعضهم : هلا ذكرت لنا القتال لنتأهب له؟ إنما خرجنا للعير لا للقتال؟ فتغيّر وجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأنزل الله تعالى : كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ (٢).

وحينما أراد الله أن يقنعهم بمعذرة النبي في إصراره على القتال ، قال : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّـهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّـهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣) ، ولذلك لم يبال إذ فاته أسر أبي سفيان واصحابه حين هربوا بعيرهم الى مكة.

وهكذا أراد بعض كبار أهل السُنّة أن يعطوا مزية الى عمر بن الخطاب ، وسلْبها من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان ان يصيبه عذاب أليم ، كبقية المسلمين ، في حين ينجو الصحابي عمر بن الخطاب. تُرى كيف تصف الصحاح «المقدّسة» الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وبهذه الاوصاف التي لا يتصف أو يتّسم بها أقل المسلمين درجة أو مستوى ، مع أن القرآن يصف الهادي الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله بقمّة الرحمة والهدى والخُلُق العظيم والاستقامة التي لا يصل اليها البشر :

__________________

(١) الأنفال ٦٧.

(٢) الأنفال ٥.

(٣) الأنفال ٦٧.

١١٤

ـ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (١) ذِكْرَىٰ لِلْعَالَمِينَ (٢) وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (٣).

: النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ (٤).

: لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (٥).

: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (٦).

إن صحاح أهل السُنّة تثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن معصوماً بعد النبوة ، فيما وقع الاجتماع على عصمة الانبياء من تعمّد الكذب في الاحكام الشرعية لدلالة المعجزة على صدقهم ، وأما الكذب غلطاً فمنعه الجمهور (٧).

هذا النبي العظيم الذي يقول : إني لم أحلّ إلا ما أحلّ القرآن ، ولم أحرّم إلا ما حرّم القرآن. والذي دعا الصحابة إلى كتابة أقواله في الرضا والغضب ، لأنه لا يقول إلا حقاً ، والذي رواه الكثير من الرواة والمحدّثين وأخرجه الحاكم النيسابوري (٨).

__________________

(١) الأنبياء ١٠٧.

(٢) الأنعام ٩٠.

(٣) آل عمران ٩٦.

(٤) الأحزاب ٦.

(٥) الأحزاب ٢١.

(٦) الجاثية ١٨.

(٧) السنّة في الشريعة الاسلامية : ٥٣ ؛ أضواء البيان ٤ : ١١٧.

(٨) السيرة الحلبية ـ الحلبي ٣ : ٤٦٧.

١١٥

أيهما أرفع مكانة : الانبياء أم الصحابة؟

عند عقد مقارنة بين موقف أهل السُنّة والجماعة من عصمة الانبياء ، وموقفهم من مكانة الصحابة ومنزلتهم ، يبرز بكل وضوح ، تفوّق (قداسة) الصحابة على قداسة الانبياء والمرسلين أنفسهم ، لأن الانبياء ـ طبق المفهوم السُنّي لوظائف النبوة ـ لم يكونوا معصومين في الافعال والتصرّفات ، وان رسول الله في رأيهم بشر يخطئ ويصيب ، وانه إن فعل شيئاً من الصغائر سهواً لم يُقرّ عليه (١). هذا في حين ان الصحابة لا يقربهم ما يعتري كل انسان من سهو أو خطأ أو وهم أو نسيان ، فقد تمّت عصمتهم من الاقتحام في الذنب (٢) ، بينما رسول الله ـ عندهم ـ كالبشر العاديين يخطئ ويصيب ويسهو ويقترف الصغائر من الذنوب.

__________________

(١) تأريخ ابن خلدون ١ : ٤٧٣.

(٢) أضواء على السُنّة المحمدية ٤٢.

١١٦

حقيقة الصحابة وسيرتهم في القرآن والسُنّة

يُجمع أهل السُنّة والجماعة على عدالة الصحابة جميعاً ، وأن بساطهم مطوي بحيث لا يحق لأحد مهما كانت منزلته الدينية أو رتبته العلمية ، المساس بهم أو نقدهم ، لأنهم كانوا قمة في كل النواحي والأمور ، وكانوا ذوي مزايا وخصائص يفتقد إليها سائر المسلمين حتى في الوقت الحاضر ، لأنهم كانوا شريحة تحيط بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتقتدي به في حركاته وسكناته ، وتنهل من معارفه وعلومه وآدابه ، ولذا ينبغي الإطلاع ـ عن كثب ـ على حياة الصحابة ، وسلوكهم مع الرسول ، أو استجابتهم لأوامره وإرشاداته.

وذلك لانه ـ وحسب اعتقاد أهل السُنّة والجماعة ـ كان الصحابة الكرام ، يتلقون الأحكام من أقوال الرسول وأفعاله ، وإقرارته ، وسكوته ، وجميع أحواله.

وفي رأي الجمهور المسلم ، وجوب وتقديس واحترام وتقدير الصحابة ، وجعلهم قدوة في حياتنا ، لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله دعانا إلى ذلك ، بقوله : الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضاً بعدي ، فمن أحبهم ، فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله ، يوشك أن يأخذه (١).

__________________

(١) سنن الترمذي ٥ : ٣٥٨ ؛ صحيح ابن حبان ١٦ : ٢٤٤ ؛ تأريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكر ٤٦ : ٦٠.

١١٧

فلِمَ كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ حسب اعتقاد أهل السُنّة ـ يؤكد بأنه لا يحب الصحابة إلا مؤمن ولا يكرههم إلا منافق؟ وذلك لأن كراهية الصحابة وهم رموز بالنسبة للاسلام ، هي كراهية مغلّفة للاسلام.

كل هذه الادعاءات والتأكيدات ، تدعونا الى التريّث في البحث والتنقيب عن حياة الصحابة ، خوفاً من الوقوع في الزلل والاثم والخطيئة ، لكن هذا التردد لم يطل كثيراً ، لأن الواجب والمنطق السليم يدعوننا الى ضرورة تعزيز إيماننا بالصحابة وقداستهم من خلال الأسس المتينة لا المزاعم والادعاءات التي ربما تفتقد الى المصادر الصحيحة ، ولابد من تقصّي الدلائل القوية عن كل ما سمعنا وقرأنا لحد الآن.

كل هذه الأمور والافتراضات التي يقال عنها حقائق لا تقبل الشك والنقاش ، تبقى مجرد إدعاءات ، اذا لم تقم عليها بينة من القرآن والسُنّة المطهرة الصحيحة ، والتأريخ النقي النزيه غير المشوّه.

علم الصحابة في الميزان

يدّعي أهل السُنّة والجماعة بأن الصحابة يحملون أخلاق النبوة عِلماً وحِلماً ، وملاحظة السيرة النبوية تفضي الى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد كوّن عدداً كبيراً من علماء الصحابة ، كأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، ومعاذ بن جبل ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وزيد بن ثابت ، وغيرهم كثير.

جيل من العلماء والأئمة ، كانوا فقهاء ، وحكماء ربانيين ، ولم يكونوا مجرّد نقلة.

فوظائف النبوة ، ورثها الصحابة عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولذلك فإن مذهب الصحابي حجّة مطلقاً. وان إجماع الصحابة أقوى الأدلة. ويُقصد بمذهب الصحابي : القول أو السلوك الذي يصدر عن الصحابة ، وتعبّد به من دون أن يعرف له مستند.

١١٨

فأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا طرأت لهم بعد وفاته ، حوادث وجدّت لهم طوارئ ، شرَّعوا لها ما رأوا أن فيه تحقيق المصلحة ، وما وقفوا عن التشريع لأن المصلحة ما قام دليل من الشارع على اعتبارها ، بل اعتبروا أن ما يجلب النفع أو يدقع الضرر حسبما أدركته عقولهم هو المصلحة ، واعتبروه كافياً لأن يبنوا عليه التشريع والأحكام ، كحرب أبي بكر لمانعي الزكاة ، ودرء القصاص عن خالد بن الوليد ، وايقاع عمر للطلاق الثلاث بكلمة واحدة ، وتجديد عثمان لأذان ثانٍ لصلاة الجمعة.

بل لا يسوّغ البعض من أهل السُنّة والجماعة ، الرجوع لغير الصحابي ، وجوّز بعضهم الرجوع الى الصحابة والتابعين دون غيرهم.

فهل يا تُرى هكذا كان الصحابة في المستوى العلمي والفقهي بحيث يؤهلهم لأن يكونوا ورثة النبي وحاملي علمه وحكمته ، وأُمناء على نقل الرسالة الى الأجيال اللاحقة؟

بعض علماء أهل السُنّة يشكّون في ذلك ، ويؤكدون أن الصحابة كلّهم لم يكونوا أهل فتيا ، ولا كان الدين يُؤخذ عن جميعهم ، وإنما كان ذلك مختصاً بالحاملين للقرآن ، العارفين بناسخه ومنسوخة ومتشابهه ومُحكمه ، بما تلقوه من النبي أو ممن سمعه منهم ، وكانوا يسمّون لذلك «القرّاء» ، أي الذين يقرأون القرآن ، لأن العرب كانوا أمّة أمّية ، فاختص من كان منهم قارئاً للكتاب ، بهذا الاسم لغرابته وبقي الأمر كذلك صدر الملّة (١).

وهذا يدلّ على انّ بعض الصحابة كانوا من «العلماء» وهم القرّاء ، وهم فئة قليلة

__________________

(١) تأريخ ابن خلدون ١ : ٤٤٦.

١١٩

من عامة الصحابة على كثرتهم الكاثرة ، فمن غير الصحيح ، انسحاب هذا الأمر على كل الصحابة وسائرهم الذين هم من العرب الأميين.

واذا كان ابن القيّم الجوزية قد ذكر ستة وأربعين دليلاً على حجية رأي الصحابة ، فليس في واحد منها دلالة إلا بعض الأحاديث ، مثل : أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهديتم (١).

وهذا الحديث كذَّبه المحدّثون ، وأكدوا بأنه موضوع ، وفي مقدمتهم ابن تيمية ، استاذ ابن القيّم الجوزية.

والغزالي الذي يقرّ بصراحة بأن قول الصحابي ، اذا لم يكن حديثاً نبوياً صريحاً ، فهو غير مقبول لأنه ربما قاله عن دليل ضعيف ، ظنّه دليلاً وأخطأ فيه ، والخطأ جائز عليه ، وربما يتمسك الصحابي بدليل ضعيف وظاهر موهوم ، وأما وجوب اتباعه ، دون تصريح بنقل الحديث النبوي ، فلا وجه له.

وقد ذهب قوم الى ان مذهب الصحابي حجّة مطلقاً ، وقوم الى انه حجّة ان خالف القياس ، وقوم الى ان الحجة في قول أبي بكر وعمر خاصة ، وقوم ان الحجة في قول الخلفاء الراشدين اذا اتفقوا ، وفي رأي العالم السُنّي الكبير (الغزالي) ان جميع هذه الأقوال باطلة (٢).

وهذا دليل قاطع على ان مذهب الصحابي ليس حجة بأي حال من الاحوال.

بل والأكثر من هذا ، فان الشافعي يصرّ بأن الصحابي اذا لم يرفع قوله الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فانّ قوله يعتبر هو وسائر المسلمين في الاجتهاد سواء ، أي لا يُقدّم رأيه وقوله على سائر المسلمين.

__________________

(١) تفسير الراوي ٢ : ٥ ؛ المبسوط ـ السرخسي ١٦ : ٨٣ ؛ عمدة القاري ـ العيني ١٠ : ٢٠٢.

(٢) المستصفى ـ الغزالي : ١٦٨.

١٢٠