الأصول في علم الأصول - ج ٢

ميرزا علي الإيرواني النجفي

الأصول في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

ميرزا علي الإيرواني النجفي


المحقق: محمّد كاظم رحمان ستايش
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-424-879-1

الصفحات: ٣٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

التعارض ، وذلك يعمّ صورة التعارض وغيرها ، فإن كان الحكم في حقّ من تعارضت عنده أمارتان هو مؤدّى الأمارة الراجحة تعيّن الأخذ بها ، وإلّا لم يكن للاستحباب أيضا معنى.

هذا ، مع أنّ من نظر مقبولة عمر بن حنظلة (١) وتأمّل في تعليلاتها قطع بفساد هذا الحمل.

إذا عرفت هذا فلنشرع في ذكر الأخبار وبيان مؤدّاها في مقامات ثلاثة :

المقام الأوّل : في إطلاقات التخيير

فمنها : رواية الحسن بن جهم عن الرضا عليه‌السلام قلت له : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيّهما الحقّ؟ قال : «فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت» (٢).

ومنها : رواية الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا سمعت من أصحابك الحديث ، وكلّهم ثقة ، فموسّع عليك حتّى ترى القائم عليه‌السلام فتردّ إليه» (٣).

ومنها : رواية علي بن مهزيار قال : قرأت في كتاب لعبد الله بن محمّد إلى أبي الحسن عليه‌السلام : اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في ركعتي الفجر في السفر ، فروى بعضهم : صلّها في المحمل ، وروى بعضهم : لا تصلّها إلّا على الأرض. فوقّع عليه‌السلام : «موسّع عليك بأيّة عملت» (٤).

ومنها : ما عن الاحتجاج في جواب مكاتبة محمّد بن عبد الله الحميري إلى صاحب الزمان عليه‌السلام ـ إلى أن قال عليه‌السلام : ـ «في الجواب عن ذلك حديثان : أمّا أحدهما : فإذا انتقل من حالة إلى أخرى فعليه التكبير ، وأمّا الآخر : فإنّه روي أنّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ثمّ جلس ثمّ قام ، فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، وكذلك التشهّد الأوّل يجري هذا المجرى ، وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صوابا» (٥).

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٤ / ١٠ ؛ الفقيه ٣ : ٥ / ٢ ؛ التهذيب ٦ : ٣٠١ / ٨٤٥ ؛ وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١.

(٢) الاحتجاج : ٣٥٧ ؛ وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢١ أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٤٠.

(٣) الاحتجاج : ٣٥٧ ؛ وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢١ أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٤١.

(٤) التهذيب ٣ : ٢٢٨ / ٥٨٣ ؛ وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٢ أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٤٤.

(٥) الاحتجاج : ٤٨٣ ؛ وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢١ أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٣٩.

٢٤١

ومنها : المروي في عيون الأخبار ـ في حديث طويل ـ عن أحمد بن الحسن الميثمي أنّه سأل الرضا عليه‌السلام يوما وقد اجتمع عنده قوم من أصحابه ، وكانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الشيء الواحد ـ إلى أن قال عليه‌السلام : ـ «إنّ الله تعالى نهى عن أشياء ليس نهي حرام بل إعافة وكراهة ، وأمر بأشياء ليس بأمر فرض ولا واجب ، بل أمر فضل ورجحان في الدين ، ثمّ رخّص في ذلك للمعلول وغير المعلول. فما كان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهي إعافة أو أمر فضل فذلك الذي يسع استعمال الرخصة فيه. إذا ورد عليكم عنّا الخبر فيه باتّفاق يرويه من يرويه في النهي ولا ينكره ، وكان الخبران صحيحين معروفين باتّفاق الناقلة فيهما يجب الأخذ بأحدهما ، أو بهما جميعا ، أو بأيّهما شئت وأحببت ، موسّع ذلك لك من باب التسليم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والردّ إليه وإلينا ، وكان تارك ذلك من باب العناد والإنكار وترك التسليم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشركا بالله العظيم.

فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله تعالى ، فما كان في الكتاب موجودا حلالا أو حراما فاتّبعوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما كان في السنّة موجودا منهيّا عنه نهي حرام ، ومأمورا به عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر إلزام فاتّبعوا ما وافق نهي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمره ، وما كان في السنّة نهي إعافة أو كراهة ثمّ كان الخبر الأخير خلافه فذلك رخصة فيما عافه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكرهه ولم يحرّمه فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعا ، وبأيّهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والاتّباع والردّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» الحديث (١).

اعلم أنّ هذا الحديث وسابقه أجنبي عن التخيير بين الخبرين ، بل مؤدّاهما أنّ الحكم تخييري كما في التخيير في الأماكن الأربعة ، وفي خصال الكفّارة ، وموارد التخيير العقلي في أفراد المطلوب فيؤخذ بالخبرين جميعا ، بل ظاهر هذا الأخير أنّ حكمهم بالتخيير دائما من هذا القبيل ، فيكون شارحا لباقي الأخبار الآمرة بالتخيير. وقد وقع التصريح بما ذكرنا فيما رواه سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر ، كلاهما يرويه ، أحدهما يأمر بأخذه ، والآخر ينهاه عنه كيف يصنع؟

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ : ٢٢ / ٤٥.

٢٤٢

قال : «يرجئه حتّى يلقي من يخبره ، فهو في سعة حتّى يلقاه» (١).

وأمّا رواية الحارث بن المغيرة فلا إشارة فيها بأنّ ذلك حكم صورة التعارض حتّى يكون معناه التخيير ، فيحتمل أن يكون المراد : موسّع عليك في العمل بأخبار الآحاد حتّى ترى القائم ، إلّا أن يقال ـ بقرينة تحديد التوسعة برؤية القائم ـ : يعلم أنّ ذلك حكم صورة المعارضة ، وإلّا فحجّيّة خبر الواحد غير مغيّا برؤية القائم ، وإن كان ذلك منقوضا بأنّ التخيير في الخبرين المتعارضين أيضا غير مغيّا برؤية القائم.

ثمّ لو سلّمنا أنّ مورده الخبرين المتعارضين منعنا أنّ معنى قوله : «موسّع عليك» هو التخيير في العمل بأيّهما شاء ، بل يحتمل قويّا ـ إن لم يكن ظاهره ـ أن يكون المراد هو التساقط والرجوع إلى الأصل ؛ فإنّ معنى التوسعة هو ذلك ، وإلّا فأيّ توسعة في الأخذ بخصوص الوجوب أو بخصوص التحريم الذي دلّ عليهما الخبران. ويشهد على ما ذكرنا جعل الحكم مغيّا برؤية القائم.

ومن ذلك يعلم الحال في الرواية الأولى ؛ فإنّ مادّة التوسعة في قوله : «فموسّع عليك بأيّهما أخذت» يناسب أن يكون الحكم تخييرا ، يجوز كلّ من الفعل والترك الذي دلّ عليه الخبران ، فكان الحكم ظاهرا هو الإباحة ، لا أنّه يتخيّر فيأخذ بكلّ منهما تعيينا فيصير واجبا معيّنا أو حراما كذلك بالاختيار.

وهذا مضافا إلى ما أشكلناه في معقوليّة التخيير بين الخبرين. فقد تحقّق أنّه ليس لنا دليل يدلّ على التخيير عموما.

المقام الثاني : في ذكر أخبار التوقّف

فمنها : ما عن ابن إدريس في السرائر عن كتاب مسائل الرجال علي بن محمّد عليه‌السلام : أنّ محمد بن علي بن عيسى كتب إليه يسأله عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك عليهم‌السلام ، قد اختلف علينا فيه ، فكيف العمل به على اختلافه؟ أو الردّ إليك فيما اختلف فيه؟

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٣ / ٧ ؛ وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٨ أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٥.

٢٤٣

فكتب عليه‌السلام : «ما علمتم أنّه قولنا فالزموه ، وما لم تعلموا فردّوه إلينا» (١).

ومنها : ما رواه جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام ـ في حديث ـ قال : «انظروا أمرنا وما جاءكم عنّا ، فإن وجدتموه للقرآن موافقا فخذوا به ، وإن لم تجدوه موافقا فردّوه ، وإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده ، وردّوه إلينا حتّى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا» (٢).

ومنها : ما رواه سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه‌السلام قلت له : يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالأخذ به والآخر ينهانا عنه. قال : «لا تعمل بواحد منهما حتّى تلقي صاحبك فتسأله» قلت : لا بدّ أن نعمل بواحد منهما ، قال : «خذ بما فيه خلاف العامّة» (٣).

وهذا الحديث الأخير يشرح أخبار التوقّف ، وبه يحصل الجمع بينها وبين أخبار الترجيح باختصاص هذه بحال التمكّن من الوصول إلى الإمام.

المقام الثالث : في ذكر أخبار الترجيح ، فنقول : مقبولة ابن حنظلة (٤) التي هي أشمل ما في الباب من أخبار الترجيح مختصّة بترجيح حكم الحاكمين المختلفين باعتبار ترجيح مدرك حكمه ، فلا يشمل المقام من ترجيح الخبرين في مقام الفتوى. نعم ، بتعليله لترجيح المشهور بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه يقتضي التعدّي ، فيحكم بعموم مرجّحيّة الشهرة فقط.

ومرفوعة زرارة المنقولة في عوالي اللئالي عن العلّامة (٥) لا سند لها.

وبقيّة الأخبار بين امر بالأخذ بمخالف العامّة وامر بالأخذ بموافق الكتاب بالأعمّ من الترجيح ، أو تعيين الحجّة عن اللاحجّة.

والرواية التي اشتملت على مجموع الأمرين هي ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال : قال الصادق عليه‌السلام : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله تعالى ، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردّوه ، فإن لم تجدوهما في كتاب الله

__________________

(١) السرائر ٣ : ٥٨٤ (المستطرفات) ؛ وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٠ أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٣٦.

(٢) أمالي الطوسي ١ : ٢٣٦ ؛ وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٠ أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٣٧.

(٣) الاحتجاج : ٣٥٧ ؛ وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢٢ أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٤٢.

(٤) الكافي ١ : ٥٤ / ١٠ ؛ الفقيه ٣ : ٥ / ٢ ؛ التهذيب ٦ : ٣٠١ / ٨٤٥ ؛ وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١.

(٥) عوالي اللئالي ٣ : ١٢٩ / ١٢.

٢٤٤

فاعرضوهما على أخبار العامّة ، فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه» (١).

وبهذا الحديث يحصل الجمع بين الطائفتين من الأخبار ، فيقيّد أخبار الترجيح بمخالفة العامّة بصورة عدم وجود المرجّح الكتابي.

ثمّ إذا أخذنا الترجيح بالشهرة من مقبولة عمر بن حنظلة كانت المرجّحات ثلاثا. ولا يبعد تقديم الترجيح بها على الترجيح بهذين قضاء النفي الريب عن المجمع عليه ، فكأنّه لا تعارض ، بل هذا هو الواقع الذي لا ريب فيه.

أقول : الذي يظهر من رواية الحسن بن الجهم ـ عن الرضا عليه‌السلام قال : قلت له : تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة ، فقال : «ما جاءك عنّا فقس على كتاب الله تعالى وأحاديثنا ، فإن كان يشبهها فهو منّا ، وإن لم يكن يشبهها فليس منّا» قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ، ولا نعلم أيّهما الحقّ؟ قال : «فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت» (٢). إنّ أخبار الترجيح لتعيين الحجّة عن اللاحجّة في موضوع عدم وثاقة الراوي ، فتكون موافقة الكتاب أحد الجهات الموجبة لحجّيّة الرواية ، والجهة الاخرى مخالفة العامّة. وقد ورد الأمر في رواية ابن أسباط في مورد عدم المفتي من الشيعة بإتيان فقيه البلد واستفتائه ثمّ الأخذ بخلاف ما أفتى به (٣). والجهة الثالثة وثاقة الراوي.

ففي مادّة التعارض إن كانت الحجّيّة بإحدى الجهتين الأوليين لم يكن إشكال ؛ فإنّه يأخذ الحجّة ويترك اللاحجّة ، وإن كانت بالجهة الثالثة وكانت تلك الجهة مشتركة في الروايتين كان الحكم هو التخيير ، وقد تقدّم تفسير التخيير. وعلى ذلك كان الحكم في مادّة التعارض المبحوث عنه الذي هو مع وثاقة الراوي هو التخيير مطلقا بما قدّمناه من التفسير.

اعلم أنّه ورد في بعض الأحاديث الأمر بأحدث الروايتين صدورا في مورد التعارض ، بل هذا هو مقتضى القاعدة من غير حاجة إلى ورود التعبّد به كما فهمه الراوي أيضا في روايته (٤) ، لكن لم أجد من أفتى به ، بل استظهر صاحب الوسائل من الأخبار اختصاص هذا

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٨ أبواب صفات القاضي ب ٩ ، ح ٢٩.

(٢) الاحتجاج : ٣٥٧ ؛ وسائل الشيعة ٢٧ : ١٢١ أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٤٠.

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٥ أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٢٣.

(٤) الكافي ١ : ٥٣ / ٨ ؛ وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٩ أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٧.

٢٤٥

الترجيح بزمان الإمام ونسب حمله على زمان الإمام إلى الصدوق ، ولم أعرف وجها للاستظهار ولا وجها للحمل ، بل عرفت أنّ الترجيح بذلك هو مقتضى القاعدة ما لم يرد الردع عنه. والحقّ ورود الردع عنه بكلتا طائفتي أخبار التخيير والترجيح.

وأمّا دلالة الأخبار فهي مختصّة بالحديث الذي ينقله نفس الإمام ، أو الفتوى التي يفتيها دون الحديث المنقول عنه.

ففي رواية الحسين بن المختار ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : أرأيت لو حدّثتك بحديث العام ثمّ جئتني قابل بأيّهما كنت تأخذ؟» قال : كنت اخذ بالأخير. فقال لي : «رحمك الله» (١).

وعن أبي عمرو الكناني قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : «يا أبا عمرو ، أرأيت لو حدّثتك بحديث ، أو أفتيتك بفتيا ، ثمّ جئتني بعد ذلك فسألتني عنه ، فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك ، أو أفتيتك بخلاف ذلك ، بأيّهما كنت تأخذ؟» قلت : بأحدثهما وأدع الآخر. فقال : قد أصبت يا أبا عمرو ، أبى عبد الله إلّا أن يعبد سرّا ، أما والله لئن فعلتم ذلك إنّه لخير لي ولكم ، أبى الله عزوجل لنا في دينه إلّا التقيّة» (٢).

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق مجموع الطوائف الثلاث من الأخبار هو الردع عن الجمع العرفي ـ لو قلنا بالجمع العرفي في الأخبار ولم ننكره ـ فضلا عن الجمع الاقتراحي المنسوب إلى صاحب عوالي اللئالي.

ودعوى أنّ موضوع السؤال في الأخبار هو الحديثان المتعارضان أو المختلفان ، والتعارض أو الاختلاف لا يصدق مع الجمع العرفي ، فلا تعمّ الأخبار صورة الجمع العرفي ؛ مدفوعة بمنع عدم صدق التعارض والاختلاف في مورد الجمع العرفي ، لا سيّما في بعض أفراد الجمع العرفي المبني على تدقيق النظر في تشخيص الظاهر والأظهر.

كما أنّ دعوى أنّ مورد السؤال هو صورة التحيّر ، ولا تحيّر لأهل المحاورة في صورة الجمع العرفي ، مدفوعة بأنّه يكفي في صحّة السؤال احتمال أن يكون الحكم في صورة

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٣ / ٨ ؛ وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٩ أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٧.

(٢) الكافي ٢ : ١٧٣ / ٧ ؛ وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٢ أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١٧.

٢٤٦

تعارض الخبرين هو التساقط والرجوع إلى أمر آخر ، أو الأخذ بواحد معيّن أو مخيّر دون الجمع العرفي الذي عليه بناء أهل العرف في كلام سمعوه من الإمام عليه‌السلام. وعليه فلا يكون مخصّص لعموم السؤال.

وأمّا دعوى أنّ بناء أهل المحاورة على الجمع العرفي ، وسيرتهم على ذلك تكون مقيّدة لإطلاق الأخبار ، فمدفوعة بما تقدّم في حجّيّة خبر الواحد من أنّ الظهور يكون رادعا عن السيرة لا السيرة مخصّصة للظهور ؛ وذلك لأنّ عملهم عند وجود الظهور بالظهور لا بالسيرة الجارية على خلاف الظهور ، وهذا معنى ردع الظهور للسيرة. فلو كان عملهم في ذلك على العكس كان ذلك معنى تخصيص السيرة للظهور.

ثمّ إنّه قد سنح بالخواطر وجهان آخران لخروج مورد الجمع العرفي عن مورد الأخبار :

الأوّل : أنّ السؤال في الأخبار عن الأخذ بأيّ الخبرين كاشف عن أنّ مورد السؤال التعارض على وجه التباين بحيث كان الأخذ بكلّ مستلزما لطرح الآخر ؛ إذ في مثل ذلك يسأل عن الأخذ بأيّهما.

الثاني : التمسّك في ذلك بما دلّ من الأخبار على الجمع العرفي مثل : ما عن محمد بن مسلم قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما بال أقوام يروون عن فلان بن فلان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يتّهمون بالكذب فيجيء منكم خلافه؟ قال : «إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن» (١).

وما عن داود بن فرقد قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا ؛ إنّ الكلمة لتنصرف على وجوه ، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ، ولا يكذب» (٢).

وفي كلا الوجهين نظر. أمّا في الأوّل فلأنّه يكفي في صحّة السؤال بكلمة «أيّ» استلزام الأخذ بكلّ طرح ظهور الآخر ، وهذا حاصل في مورد الجمع العرفي ، ولا يتوقّف صدق هذا اللفظ على استلزامه طرح الآخر رأسا.

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٢ / ٢ ؛ وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٨ أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٤.

(٢) معاني الأخبار : ١ / ١ ؛ وسائل الشيعة ٢٧ : ١١٧ أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٢٧.

٢٤٧

وأمّا في الثاني فبأنّه على تقدير الدلالة فإنّما تدلّ على الجمع في كلامين علم أنّهما منهم لا في روايتين لا يعلم صدورهما منهم.

مضافا إلى أنّ مرتبة الجمع العرفي ـ وأنّه مقدّم على الترجيح السندي أو مؤخّر عنه ـ غير مستفادة من هذه الأخبار. إلّا أن يقال : إنّ تأخيره مساوق لطرحه بالكلّيّة ؛ إذ لا يبقى مورد يخلو عن الحكم بالترجيح أو التخيير حتّى يكون موردا للجمع ، فلا بدّ من تقديمه. لكنّ هذا نحو جمع عرفي بين هاتين الطائفتين ، وهو أوّل البحث ، مع أنّ من المحتمل ـ كما هو ذهب إليه بعض ـ أن يكون الجمع متخلّلا بين الترجيح والتخيير ، فيكون مؤخّرا عن الترجيح مقدّما على التخيير.

تذييلان يتعلّق أحدهما بالتخيير والآخر بالترجيح :

أمّا الأوّل فقد وقع في التخيير في مقامين منه :

[المقام] الأوّل : أنّ المجتهد في موارد التخيير هل يفتي بالتخيير ، بمعنى أنّه يخيّر مقلّديه في العمل بمضمون أيّ الخبرين شاء كما هو مخيّر بينهما دون التخيير في المسألة الفرعيّة ، فإنّه منفي بحكم كلا الخبرين ، أو يفتي بما اختاره على وجه التعيين؟

يشهد للأوّل : أنّ اختياره الاقتراحي لم يدلّ دليل على وجوب اتّباعه ؛ فإنّ المجتهد متّبع فيما هو راجع إلى الاستنباط ، وهو نائب عن العامّي فيما هو عاجز عنه لا ما هو مستطيع فيه.

ويشهد للثاني أوّلا : عدم دليل على التقليد في المسائل الأصوليّة ؛ لعدم إطلاق في أدلّته ، والمتيقّن منه هو التقليد في المسائل الفرعيّة ، فلو جاز التقليد في المسائل الأصوليّة لجاز أن يقلّد الشخص المجتهد في مباني الأصول ، ثمّ يستقلّ هو باستنباط الأحكام من تلك المباني.

وثانيا : لو كانت الفتوى بالتخيير في مورد التكافؤ لكانت الفتوى بالترجيح في مورد الترجيح لا بمضمون ما رجّحه ، فلربّما يكون المقلّد رجاليّا يخطّئه في اعتقاده ، ويرى المزيّة في خلاف ما اعتقده ، أو ربّما لا يرى المزيّة ويعتقد التكافؤ. وعليه ، فلا يجوز الإفتاء بالترجيح أيضا ، بل يبيّن له الواقع وأنّ هاهنا روايتين تعارضتا ومضمونهما كذا وكذا ، فإن كان بينهما ترجيح في اعتقادك فخذ بالراجح ، وإلّا فتخيّر.

٢٤٨

الحقّ عندي الفتوى بالتخيير ؛ فإنّ حكم التخيير عامّ لا يختصّ بالمجتهد ، ونهاية ما يستنبطه المجتهد يفتيه للمقلّد ، ونهايته هنا هو التخيير في مورد الترجيح ؛ فإنّه بعد اعتقاده الترجيح يحتاج إلى إعمال قواعد نظريّة في تعيين الراجح من المتعارضين ، مع أنّ التزام الفتوى بالترجيح هناك مع تمكن المقلّد منه ممّا لا ضير فيه. وأمّا اختصاص التقليد بالمسائل الفرعيّة فهو ممنوع ، فإنّ عمدة أدلّته هي السيرة وبناء العقلاء على رجوع الجاهل إلى العالم وهو عامّ ، بل أدلّته اللفظيّة أيضا عامّة.

[المقام] الثاني : هل التخيير في مورد التخيير بدوي أو استمراري؟

والكلام تارة فيما تقتضيه الأدلّة اللفظيّة ، وأخرى في قضيّة الأصول العمليّة.

فأمّا ما تقتضيه الأدلّة اللفظيّة فهل إطلاق قوله : «إذن فتخيّر» استمرار التخيير ، أو ظاهر الأمر بأخذ ما اختاره استمرار الأمر بأخذ ما حديث الاختيار له وإن زال اختياره عنه ، أولا ظهور له في هذا ولا ذاك؟

أقول : أمّا التمسّك بالإطلاق على استمراريّة التخيير فذلك أشبه شيء بالتمسّك بإطلاق النهي المتعلّق بالطبيعة على بقاء النهي بعد حصول العصيان. وكلاهما باطل ؛ فإنّ معنى التمسّك بإطلاق متعلّق الحكم هو تعميم المتعلّق بحسب الطوارئ والحالات المعتورة عليه. فيكون المتعلّق ما هو سار جار في طيّ تمام تلك الحالات ، وليست من تلك الحالات حالة عصيان الحكم التي هي حالة سقوطه ، فهل يبقى بعد السقوط حكم ومتعلّق حكم؟ كما أنّه ليست من تلك الحالات حالة إطاعة الحكم وسقوط الحكم بالإطاعة ، فهل يعقل بعد الإطاعة بقاء الحكم الأوّل حتّى يتمسّك بالإطلاق لإثباته؟

وبالجملة : بعد تحقّق الاختيار وامتثال أمر «اختر» لا يبقى مجال للتمسّك بإطلاق أمر «اختر» فإنّه قد أطيع بالاختيار الأوّل ، وسقط الأمر بالطبيعة بإتيان فرد من تلك الطبيعة.

وأمّا التمسّك بإطلاق هذا الأمر المنشأ على طبق ما اختاره فيقال : إنّه باق وإن ذهب الاختيار ، فقيه : أنّ الحكم المتعلّق بعنوان ـ كعنوان عالم وعادل ـ أقصى إطلاقه الاستمرار ما استمرّ العنوان لا الاستمرار أبدا وإن زال العنوان حتّى يكون العنوان من قبيل العلّة

٢٤٩

المحدثة فقط كما في (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(١) فإنّ ذلك خلاف الظاهر.

فتحصّل أنّ أوامر التخيير لا اقتضاء لها بالنسبة إلى ما بعد الاختيار ، والمرجع هو الأصول. وحينئذ فهل قضيّة الأصول هو استمراريّة التخيير ، أو أنّ قضيّتها بدويّته ، أو لا هذا ولا ذاك؟

فنقول : مقتضى استصحاب التخيير هو استمراريّته ، ومقتضى استصحاب الحكم المنشأ على طبق ما اختاره هو ابتدائيّته ، واستصحاب يحكم على الثاني.

هذا ما يخطر بالبال في بادئ النظر ، لكن التأمّل يقتضي بطلان كلا الاستصحابين.

أمّا استصحاب الحكم بالتخيير فلأنّه لا حكم متعلّق بالتخيير ، وليس التخيير واجبا من الواجبات ، بل هو كخطاب «صدّق» وخطاب «خذ بالراجح» إنشاء للحكم المطابق لما اختاره أو للراجح أو لقول العادل ، فلا حكم سوى ذلك الحكم المتوجّه إليه مطابقا لما اختاره من الخبرين ، واستصحاب يقتضي بدويّة التخيير ، لكنّ هذا الاستصحاب أيضا باطل ؛ لأنّ الموضوع في هذا الحكم هو الاختيار ، فإذا زال الاختيار لم يعقل بقاء الحكم كما في استصحاب النجاسة بعد زوال التغيّر ، لا أقلّ من الشكّ واحتمال مدخليّة الاختيار حدوثا وبقاء.

فإذا انسدّ باب الاستصحابين كان الأخذ بالحكم الأوّل مبرّئا للذمّة قطعا ويشكّ في براءة الذمّة. فإن قلنا في دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو التعيين كان الحكم هنا أيضا التعيين ؛ لأنّ مناط الحكم في المسألتين واحد ، وإن كان التخيير هنا بمعنى التخيير في تعيين الحجّة وهناك بمعنى كون الحكم تخييريّا.

وأمّا الكلام في الثاني (٢) : فاعلم أنّه قد يتعدّى على القول بالترجيح من المرجّحات المنصوصة إلى كلّ مزيّة موجبة لأقربيّة أحد المتعارضين إلى الواقع. ومورد التعدّي واستفادة العموم من النصّ فقرات ثلاث راجع بعضها إلى التعدّي من باب قياس مستنبط العلّة ، وبعضها الآخر إلى قياس منصوص العلّة.

فأمّا الأوّل فهو وقوع الترجيح في الرواية بالأعدليّة والأوثقيّة ؛ فإنّ الظاهر أنّ ذلك

__________________

(١) البقرة (٢) : ١٢٤.

(٢) وهذا هو التذييل الثاني يرتبط بالترجيح.

٢٥٠

بمناط حصول الوثوق من أحد الخبرين بما لا يحصل من الآخر من غير مدخليّة لأوثقيّة الشخص ، فلو حصل هذا الوثوق من جهة أخرى غير أوثقيّة الراوي رجّح ذيه على صاحبه.

وفيه : أنّ هذا أشبه شيء بالتمسّك بأدلّة حجّيّة خبر الواحد لإثبات حجّيّة الشهرة بدعوى أنّ المناط في حجّيّة خبر الواحد هو المظنّة ، والشهرة لا تقصر عن الخبر في إفادة الظنّ. ويتّجه عليه :

أوّلا : بعدم العلم بالمناط ؛ لاحتمال خصوصيّة السبب الخاصّ في ذلك.

وثانيا : لا يعقل أن يكون المناط أوثقيّة الرواية ؛ لعدم معقوليّة الوثوق بالمتعارض حتّى يعقل أوثقيّة أحدهما ، فلا بدّ أن يكون المناط هو خصوص أوثقيّة راوي أحدهما من راوي الآخر ، وإن لم يحصل وثوق فعلي منهما في مادّة التعارض.

وأما الثاني والثالث فهو تعليل الترجيح بالشهرة ب «أنّ المجمع عليه لا ريب فيه» ، وتعليل الترجيح بمخالفة العامّة بأنّ الرشد في خلافهم وفيما وافقهم التقيّة ، بتقريب : أنّ الريب المنفي في المجمع عليه ليس هو مطلق الريب المساوق للقطع بالواقع ، بل الريب بالإضافة إلى الآخر ، والتعليل يقتضي التعدّي إلى كلّ ما يوجب أبعديّة أحد الخبرين عن الريب بالنسبة إلى الآخر. وكذا تعليل الأخذ بمخالف العامّة بأنّ الرشد في خلافهم ليس بمعنى أنّ خلافهم هو مرّ الواقع (١) ، بل بمعنى أنّ فيه أمارة الرشد بسبب مخالفة العامّة.

وفيه : أنّ هذا مبنيّ على أن يكون الريب المنفي بمعنى الريب عند المخاطب حتّى بقرينة وجود جنس الريب في الخبر المجمع عليه على الريب بالإضافة إلى الخبر الشاذّ ، أمّا إذا كان بمعنى عدم الريب التعبّدي فيكون إنشاء للحكم بلسان نفي الريب كما في مثل : «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه ثقاتنا» (٢) فلا يبقى مجال للتعدّي. ويمكن أن يكون المراد من نفي الريب نفي كون المجمع عليه قابلا للريب ، وصالحا له ، وممّا ينبغي أن يرتاب فيه ، مريدا بذلك إنشاء الحكم على طبقه ، لا أنّه لا ريب فيه فعلا. ومنه يظهر الكلام في التعليل بالرشد في خلاف العامّة.

__________________

(١) مرّ : شدّ عليه الحبل. وهو كناية عن كلّ ممتنع يسلّط عليه ، وفي المقام «مرّ الواقع» بمعنى تحصيل الواقع والشّدّ عليه.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٥٠ أبواب صفات القاضي ، ب ١١ ، ح ٤١.

٢٥١

وينبغي التنبيه على أمور :

[الأمر] الأوّل : لا ريب في قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى العمل في مادّة البيانات. فالبيانات المتأخّرة عن وقت الحاجة في الأخبار من تخصيص وتقييد وقرينة مجاز ـ حتّى أنّه ربما يكون العامّ صادرا من الأمير عليه‌السلام والخاصّ من العسكري عليه‌السلام إن سلّمنا أنّه لم يبيّن قبل زمان العسكري عليه‌السلام ببيان لم يصل إلينا ، وسلّمنا وصول وقت الحاجة للسابقين على زمان البيان بالنسبة إلى مادّة البيان ـ محكومة بأنّها بيانات بالنسبة إلى ما هو المطلوب من اللاحقين عن زمان العسكري عليه‌السلام دون السابقين على زمانه ، وأنّ المطلوب من السابقين هو العموم تكليفا واقعيّا وإن ضايقت فتكليفا ظاهريّا.

وعلى ذلك فالخاصّ الصادر بعد حضور وقت العمل بالعامّ يمكن فيه الالتزام بالتخصيص والنسخ ، كما ذلك في عكس ذلك بجعل الخاصّ المتقدّم مخصّصا ، أو العامّ المتأخّر ناسخا. ومجرّد قلّة النسخ خارجا لا يوجب قوّة ظهور الدليل في الاستمرار على ظهوره في استيعاب الأفراد.

ثمّ لا فرق فيما ذكرناه بين العموم وبين الإطلاق المنعقد ظهوره بمقدّمات الحكمة فضلا عمّا قلنا بأنّ ظهوره أيضا مستند إلى الوضع ؛ فإنّه مع عدم البيان في مقام البيان ينعقد للإطلاق ظهور فكان مصادمه مصادما للظهور ، ويأتي فيه البيان الآتي في العامّ بالنسبة إلى الخاصّ.

[الأمر] الثاني : إذا زادت أطراف المعارضة عن اثنين بأن كانت ثلاثة أو أزيد ، فتارة يتكلّم في الجمع الدلالي بينها ، وأخرى في العلاج السندي. فهنا مقامان :

وقبل الدخول فيهما ينبغي تقديم أمر ، وهو أنّ التعارض المفروض بين الثلاثة تارة يكون بين اثنين مع واحد بحيث لا يكون بين الاثنين منهما معارضة كما في مثل : «أكرم العلماء» مع مثل : «لا تكرم النحويّين» و «لا تكرم الحكميّين» ، وكما في مثل : «أكرم العلماء» و «لا تكرم فسّاقهم» و «أكرم سادات فسّاقهم». وكما في مثل : «أكرم العلماء» و «لا تكرم الفسّاق» و «أكرم فسّاق العوام».

وأخرى يكون بين كلّ واحد وصاحبه كما في مثل : «أكرم العلماء» و «لا تكرم الشعراء» و «يستحبّ إكرام السادات».

٢٥٢

المقام الأوّل : في الجمع الدلالي بين المتعارضات الثلاث ، فنقول :

لا إشكال في الجمع حيث يكون بين المتعارضات الثلاث في ظهوراتها الأول جمع دلالي ، ولم تنقلب النسبة بين اثنين منها بعد ملاحظة أحدهما مع ثالث ثابت بإجماع أو عقل كما في مثل : «أكرم العلماء» و «لا تكرم زيدا» الثابت بالإجماع مع مثل : «لا تكرم عمرا» فيخصّص بكلا المخصّصين.

وأمّا مع انقلاب النسبة فهل تراعى النسبة المنقلب إليها أو تراعى النسبة المنقلب عنها فيخصّص دليل «أكرم العلماء» بدليل «أكرم النحويّين» الثابت بإجماع أو عقل ، ثمّ تنقلب النسبة بينه وبين «لا تكرم الحكميّين» إلى العموم من وجه ، فيعامل معاملة العموم من وجه ، أو يعامل معاملة العموم المطلق الثابت ابتداء بتخصيص «أكرم العلماء» ب «لا تكرم الحكميّين» أيضا؟

وكما تنقلب النسبة إلى ما لا جمع فيه فقد تنقلب النسبة إلى ما فيه الجمع كما في مثل : «أكرم العلماء» و «لا تكرم الفسّاق» المتعارضين بالعموم من وجه مع دليل «أكرم فسّاق العوام» ؛ فإنّ دليل «لا تكرم الفسّاق» بالتخصيص يخرج عن العموم من وجه إلى العموم المطلق.

وقد صرّح شيخنا المرتضى رحمة الله برعاية النسبة الحادثة في المتعارضات المختلفة النسبة ـ فيخصّص «لا تكرم الفسّاق» في المثال بدليل «أكرم فسّاق العوام» ، ثمّ يخصّص «أكرم العلماء» بدليل «لا تكرم الفسّاق» ـ قائلا بأنّ السرّ في ذلك واضح ؛ إذ لو لا الترتيب في العلاج لزم إلغاء النصّ أو طرح الظاهر المنافي له رأسا ، وكلاهما باطل (١).

والحقّ في المقام التفصيل ، وهو أنّ العلم بالمراد يرفع المعارضة بين الظواهر بمعنى أنّه لا يبقى للمعارضة أثر ولكن لا يحدث المعارضة ؛ وذلك لأنّ المعارضة تكون قائمة بين ظهورين متخالفين ، والعلم بالمراد لا يحدث الظهور ، ولكن يرفعها بمعنى أنّه بعد العلم بالمراد لا يبقى لمعارضة الظهورين أثر ؛ فإنّ الظهورين يتعارضان في الكشف عن المراد الواقعي ، فإذا علم بالمراد الواقعي من الخارج لم يبق اعتناء بالظهورين.

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٩٩.

٢٥٣

فإذا ورد عامّ وخاصّ قطعي لم يوجب تخصيص العامّ بالخاصّ انقلاب نسبته مع خاصّ آخر ورد في السنّة إلى العموم من وجه ، بخلاف ما إذا ورد عامّان من وجه مع ما يخصّص أحدهما بإخراج مادّة الاجتماع أو مادّة الافتراق عن تحته ؛ فإنّه يرفع المعارضة في الأوّل بالمرّة ، ويدخلهما في العموم والخصوص المطلق في الثاني ، وكذا في المتباينين كما في «ثمن العذرة سحت» و «لا بأس ببيع العذرة» إذا علم المراد من كلّ منهما ، وأنّه غير المراد من الآخر.

المقام الثاني : في العلاج السندي بين المتعارضات الثلاث ، فنقول :

أمّا بحسب الأصل الأوّلي فالكلام لا يختلف عن الكلام في المتعارضين ، وأمّا بحسب أدلّة العلاج فلا يبعد دعوى شمول أدلّة العلاج للمقام بنفسها أو بمناطها. وحينئذ فقد يكون الحكم هو الترجيح في مرتبة واحدة ، وقد يكون الحكم هو الترجيح في مرتبتين ، وقد يكون الحكم هو الترجيح والتخيير جميعا.

فإذا تعارضت أخبار ثلاثة بالعموم من وجه مع التكافؤ يحكم بالتخيير بين ثلاثة فيؤخذ بواحد منها في مورد الاجتماع ويترك الباقي ، ومع كون الترجيح لواحد قدّم ذو المزيّة على صاحبيه إن اختصّت المزيّة بواحد ، وإن اشتركت بين اثنين كما إذا كان راوي خبرين منها أعدل بالنسبة إلى الثالث مع تساويهما في العدالة رجّحا على الثالث ، ثمّ يحكم بالتخيير بينهما.

وهكذا فيما إذا كان التعارض بين واحد ومجموع اثنين كما في عامّ وخاصّين عرضيّين كما في «أكرم العلماء» مع مثل : «لا تكرم فسّاقهم» ، و «لا تكرم عدولهم» ، فيقدّم الراجح من العامّ ومجموع الخاصّين ، فإن كان الراجح الخاصّين ترك العامّ بالمرّة ، وإن كان الراجح العامّ حصل التعارض بين مجموع الخاصّين فيرجّح أحدهما على صاحبه مع المزيّة ، ويتخيّر مع التساوي.

هذا مع وجود المزيّة ، ومع التساوي يتخيّر فيؤخذ الاثنين ويترك الثالث ، فإمّا أن يؤخذ بالخاصّين ويترك العامّ ، أو يؤخذ بالعامّ مع أحد الخاصّين مخصّصا للعامّ به ويترك الخاصّ الآخر.

وبالجملة : في صورة تعارض الواحد مع مجموع الاثنين ينبغي الأخذ بالاثنين ترجيحا أو

٢٥٤

تخييرا ؛ لعدم المانع من الأخذ بالاثنين بخلاف صورة التعارض بين كلّ واحد من الثلاثة مع صاحبه.

[الأمر] الثالث : الترجيح بمخالفة العامّة من مرجّحات جهة الصدور. والفرق بين الترجيح بقوّة الدلالة الذي هو الجمع الدلالي والترجيح بجهة الصدور ـ بعد اشتراكهما في أنّ اللفظ المتصرّف فيه في كلّ منهما مستعمل في معناه ، وإنّما لم يرد معناها واقعا وجدّا لا استعمالا أنّه في الجمع الدلالي أريد واقعا وجدّا بعض مراتب المعنى إن لم يكن حقيقيّة فمجازيّة ، وفي الجمع بجهة الصدور لم يرد شيء من معاني اللفظ أصلا ، ولذا شمول دليل اعتبار السند لكلّ من المتعارضين في الأوّل محفوظ دونه في الثاني.

ثمّ إنّه يتكلّم في مرتبة هذا المرجّح بالنسبة إلى بقيّة المرجّحات لا بحسب التعبّد الشرعي وأخبار العلاج ، بل بعد البناء على عدم دلالتها على الترتيب في العلاج ، وحينئذ فقد يقال بتقدّم مرتبته عقلا على سائر المرجّحات ، وقد يقال بتأخّره عنها ، وقد يقال باستوائه معها بحسب المرتبة من غير أن يقتضي العقل شيئا من التقدّم والتأخّر.

وأقوى الأقوال أخيرها ؛ وذلك لأنّ هذا المرجّح في الروايتين الظنّيّتين وإن كان من مرجّحات السند كسائر مرجّحات السند لا من مرجّحات جهة الصدور كما في الروايتين القطعيّتين ؛ فإنّه لا معنى لصدور ما يجب طرحه ، فلا جرم تكون نتيجة هذا المرجّح طرح السند ولا نعني بمرجّح السند إلّا هذا ، ولكن مع ذلك مرتبته متأخّرة عن مرتبة سائر المرجّحات ؛ فإنّ تعليل طرح السند إلى جهة الصدور وإسناده إليها كاشف عن أنّ الرواية في الجهات الراجعة إلى أصل الصدور مساوية مع معارضها ، فلا جرم تكون مرتبة هذا المرجّح بعد فقد سائر المرجّحات ، ويكون ذلك في المتكافئين من الجهات الراجعة إلى السند.

وهذا كما في كلّ تعليل بالأمور العارضة الطارئة الكاشف عن أنّ الذات في حدّ ذاته لا يقتضي ذلك الأمر ، وقد ذكر في آية النبأ (١) أنّ إسناد التبيّن إلى فسق المخبر كاشف عن أنّ

__________________

(١) الحجرات (٤٩) : ٦.

٢٥٥

الخبر في حدّ ذاته حجّة لا تبيّن فيه.

ومن ذلك يظهر بطلان ما ذهب إليه الأستاذ رحمة الله من كونه في عداد سائر المرجّحات بمجرّد كونه كسائرها من مرجّحات السند في الروايتين الظنّيّتين ، وإن كان من مرجّحات جهة الصدور في القطعيّتين ؛ زاعما أنّ شيخه المرتضى رحمة الله إنّما أخّر مقامه لأجل أنّه عدّه من مرجّحات جهة الصدور ، وجهة الصدور متفرّع على أصل الصدور (١). لكنّك عرفت أنّ تأخيره ليس مستندا إلى ذلك ، بل إلى أنّ الترجيح بجهة الصدور ولو كان ترجيحا سنديّا متفرع على التكافؤ في الجهات الراجعة إلى أصل الصدور.

وأمّا ما يقال في وجه تقديم مرتبة هذا المرجّح على سائر المرجّحات عكس ما قلناه فأحد وجهين :

الأوّل : أنّ هذا المرجّح داخل في الجمع الدلالي المقدّم على الترجيح السندي ؛ فإنّ الخبر المخالف يكون قرينة على التصرّف في جهة صدور الموافق ، وأنّه صدر لا بداعي بيان الواقع.

وفيه : أنّ الجمع الدلالي لا يكون مع الأخذ بسند الخبرين ، ولا يعقل هاهنا الأخذ بخبر الموافق مع حمله على التقيّة ، فلا جرم يكون داخلا في الطرح ، وهذا شأن الترجيح بحسب السند.

الثاني : أنّ خبر الموافق أمره دائر بين الصدور واللاصدور ، فإن لم يكن صادرا فلا حجّيّة فيه ، وإن كان صادرا كان محمله التقيّة فأيضا لا حجّيّة فيه ، فهو على كلّ حال ليس بحجّة ، وما ليس بحجّة لا يعارض الحجّة حتّى يلتمس باقي المرجّحات ، ففي الحقيقة لا يكون هذا من المرجّحات بل من المسقطات عن الحجّيّة.

وفيه : أنّ هذا كذلك لو كان الخبر المخالف قطعيّا ؛ فإنّه يتعيّن الموافق ـ على تقدير الصدور ـ للحمل على التقيّة ، وعلى تقدير عدم الصدور فهو غير صادر. وأمّا لو كان ظنّيّا محتملا لعدم الصدور لم يكن الخبر الموافق محمولا على التقيّة ؛ لعدم المعارض له حينئذ حتّى يحمل على التقيّة ، فلا جرم تحصل المعارضة بينهما ، وتكون المخالفة والموافقة

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٥٤ و ٤٥٥.

٢٥٦

للعامّة من المرجّحات لا من المسقطات عن الاعتبار.

[الأمر] الرابع : [حكم الترجيح بأمارة غير معتبرة] بناء على التعدّي من المرجّحات المنصوصة إذا تأيّد أحد الخبرين بأمارة أخرى غير معتبرة ـ سواء كانت ممّا قام دليل خاصّ على عدم اعتباره كالقياس ، أو قام دليل عامّ كما في مطلق الأمارات الظنّيّة المنهيّة عن العمل بها بدليل حرمة العمل بالظنّ بعد الفراغ عن أنّ الترجيح بها نوع بها ومشمول للأدلّة الناهية عموما وخصوصا ـ حصل التعارض بين الأدلّة الدالّة على الترجيح بمطلق المظنّة وبين تلك الأدلّة الناهية ، وبعد التساقط يبقى الترجيح به بلا مقتض يقتضيه فيرجع إلى مطلقات التخيير ، ومع عدمه فإلى الأصل الأوّلي في تعارض الخبرين.

قد تمّت ولله الحمد رسالة التعادل والتراجيح.

٢٥٧
٢٥٨

خاتمة

في الاجتهاد والتقليد

٢٥٩
٢٦٠