الأصول في علم الأصول - ج ٢

ميرزا علي الإيرواني النجفي

الأصول في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

ميرزا علي الإيرواني النجفي


المحقق: محمّد كاظم رحمان ستايش
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-424-879-1

الصفحات: ٣٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

أمّا الكلام في الأوّل فنقول : هناك احتمالات أربعة :

الأوّل : أن يجري الأصل في كلّ منهما ويعمل بالأصل فيهما ، أمّا في السببي فبالنسبة إلى غير المسبّب من الآثار ، وأمّا في المسبّبي ففي خصوص نفسه.

الثاني : أنّ لا يعمل بالأصل في شيء منهما ، بل يتعارضان ويتساقطان.

الثالث : أن يعمل بالأصل في الشكّ السببي دون المسبّبي.

الرابع : بالعكس. وهذا الأخير باطل لا قائل به ، والبقيّة لكلّ منها قائل.

ونحن نذكر وجه تقدّم الأصل في الشكّ السببي الذي استقرّ عليه الرأي اليوم حتّى يتّضح الحال في الباقي ، فنقول : قد استدلّ على تقديم الأصل في الشكّ السببي بوجوه ، عمدتها وجهان :

الأوّل : أنّ كلّا من السبب والمسبّب وإن اشتمل على أركان الاستصحاب من اليقين والشكّ ، وليس أحدهما أولى بالاندراج تحت دليل «لا تنقض» من الآخر ، إلّا أنّ إدراج السبب يوجب خروج المسبّب عن كونه نقضا لليقين بالشكّ ، بل يكون نقضا لليقين بالحجّة ، وهو دليل «لا تنقض» الشامل للسبب حيث إنّ معناه ترتيب آثار بقاء ذلك السبب ، ومنه هذا المسبّب ، فيكون خروج المسبّب عن تحت عموم الدليل خروجا موضوعيّا وعلى وجه التخصّص.

وأمّا إدراج المسبّب فهو لا يوجب خروج السبب عن الفرديّة لعموم الدليل ؛ لعدم ترتيب الملزومات على الأصل الجاري في اللوازم ، فليس استصحاب نجاسة الثوب المغسول بما شكّ في عروض النجاسة له معناه الحكم بطهارة ذلك الماء بخلاف استصحاب طهارة الماء ؛ فإنّ معناه جعل أحكام الماء الطاهر له ومنه ارتفاع نجاسة ما غسل به ، فيكون ما غسل به متيقّن الطهارة بحكم هذا الاستصحاب بخلاف العكس ، وكلّما دار الأمر بين التخصيص والتخصّص حكم بالتخصّص صونا لأصالة العموم مهما أمكن.

هذا ، مضافا إلى أنّ تخصيصه يكون من غير وجه أو بوجه دائر ؛ لأنّه إن كان بلا مخصّص فهو الأوّل ، وإن كان لأجل شمول العموم للشكّ المسبّب فهو الثاني ؛ لأنّ المفروض أنّ فرديّة الشكّ المسبّب للعموم موقوفة على عدم شمول العموم للسبب ، فلو فرض أنّ عدم شمول العموم للسبب كان لأجل فرديّة الشكّ المسبّب له وشمول العموم إيّاه كان ذلك دورا.

٢٢١

الثاني : أنّ الشكّ في جانب السبب ، له لازمان واردان عليه في عرض واحد :

أحدهما حكم الشارع عليه بحرمة النقض بعموم دليل «لا تنقض» ، والآخر تكويني وهو توليده لشكّ آخر في جانب المسبّب ، فإذا كان هذا العموم وذلك الشكّ في مرتبة واحدة معلولين للشكّ في جانب السبب ، فكيف يصلح أن يكون أحدهما ـ وهو العموم ـ حكما واردا على المسبّب أيضا مع أنّ الحكم ينبغي أن يكون متأخّرا طبعا عن موضوعه؟!

ويتّجه على الوجه الأوّل : أن عموم «لا تنقض» إنّما يتوجّه إلى حكم أو موضوع ذي حكم. فأمّا الموضوع الخالي عن الحكم إمّا ذاتا أو بتعبّد شرعي فهو غير مشمول لهذا العموم وخارج عنه على وجه التخصّص ، وهاهنا لو كان العموم شاملا للشكّ المسبّب خلا الشكّ في جانب السبب عن هذا الأثر ، ولم يشمله عموم «لا تنقض» تخصّصا لا تخصيصا. مثلا : لو حكمنا بنجاسة الثوب في المثال كانت طهارة الماء غير محكومة شرعا بالمطهّريّة ، فكان «لا تنقض» لا يشملها ولو بالنسبة إلى هذا الأثر الخاصّ دون سائر الآثار ، فكان خروج كلّ منهما على تقدير دخول الآخر على وجه التخصّص دون التخصيص ، فتحصل المزاحمة ، ويسقط العموم عن الاعتبار بالنسبة إلى الجميع.

ويتّجه على الوجه الثاني : أنّ حكم العامّ وإن كان لازما للشكّ في جانب السببي لكنّ إذا سلم عن المزاحم ، وهو الآن أوّل الكلام ؛ فإنّ الخصم يدّعي مزاحمة شمولاه بشموله للشكّ في جانب المسبّب. وكون مرتبة المسبّب متأخرا لا يمنع عن المزاحمة ، ولا يقتضي تعيّن ذو المرتبة السابقة لشمول العموم ، كما هو واضح بملاحظة الأمثال والنظائر ؛ فإنّ «أكرم العلماء» إذا تزاحم فردان من أفراده أب وابن لا يتعيّن لشمول الأب.

وأمّا الكلام في الثاني ـ أعني ما إذا علم بارتفاع الحالة السابقة في أحد الشيئين ولم يكن الشكّ في أحدهما مسببا عن الآخر ـ فإمّا أن يكون الأثر مرتّبا على أحدهما فقط أو يكون مترتّبا على كليهما ، إمّا أن يلزم من إجراء الأصل في الأطراف مخالفة عمليّة لتكليف معلوم في البين أو لا يلزم إلّا مخالفة التزاميّة.

فهذه صور ثلاث.

وهناك مبان ثلاثة في كلمة «لا تنقض اليقين بالشكّ ولكن تنقضه بيقين آخر» على أحدها تخرج جميع الصور الثلاث ـ حتّى ما لم يكن أثر لأحد الطرفين ـ عن كونه مجرى

٢٢٢

للأصل ، وعلى الآخر جميع الصور يكون مجرى للأصل ـ عكس الأوّل ـ ما لم يمنع مانع خارجي ، وهو لزوم طرح تكليف فعلي في البين ، وعلى الثالث يفصّل بين صورة عدم الأثر لأحد الطرفين فيجري في طرف ذي الأثر ، وبين الصورتين الاخريين فلا يجري فيهما.

فأمّا المبنى الأوّل ، فهو أن يكون الشكّ منصرفا إلى الشكّ البدوي فلا يشمل المقرون بالعلم الإجمالي ، فبمجرّد أن حصل علم إجمالي خرج الشكّ عن كونه مجرى للأصل ، فلو علم إجمالا بجنابته أو جنابة شخص آخر لم يجر استصحاب عدم الجنابة فضلا عن سائر الصور. لكنّ الانصراف لا وجه له.

وأمّا المبنى الثاني ، فهو أن يكون الشكّ شاملا للشكّ المشوب بالعلم الإجمالي ، ولكن لمزاحمة قوله : «ولكن تنقضه بيقين آخر» الشامل لليقين الإجمالي الموجود في البين وعدم مرجّح لأحد الفقرتين على الاخرى ، مال الأمر صائر إلى الإجمال وسقوط الرواية عن الحجّيّة في مورد التزاحم.

ومن المعلوم أنّ مورد التزاحم هو مورد شمول «انقض» ومورد شمول «انقض» هو ما يكون للمتيقّن في البين أثر شرعي ، ولا أثر شرعي فيما كان المتيقّن مردّدا بين ذي أثر وغير ذي أثر ، فتبقى هذه الصورة تحت فقرة «لا تنقض» بلا حصول مزاحمة ، وتحصل المزاحمة بالنسبة إلى الفقرة الاخرى.

وأمّا المبنى الثالث ، فهو ألا تزاحم الفقرة الأولى بالفقرة الثانية ؛ إمّا لعدم وجود هذه الفقرة في جميع الروايات فسقوط الموجود منها ذلك عن الاعتبار بسبب الإجمال لا يمنع عن حجّيّة الخالي منها عن ذلك ، وإمّا لأنّ اليقين لا يشمل اليقين الإجمالي ، وإمّا لأنّ اليقين وإن شمل اليقين الإجمالي لكن ظاهر الفقرة ورود اليقين بالخلاف والشكّ لمحلّ اليقين الأوّل طابق النعل بالنعل. وهذا غير حاصل في المقام ؛ لأنّ اليقين الأوّل كان يقينا تفصيليّا واليقين بالخلاف يقين إجمالي لم يحصل على شكله يقين سابقا ليكون هذا يقينا آخر له ، فلا تشمله كلمة «انقض».

نعم ، إذا تيقنّا بوجود أحد شيئين على سبيل الإجمال ثمّ شككنا في بقائه شمله «لا تنقض» كما أنّه لو تيقنّا في ارتفاعه شمله «انقض».

وهذا الوجه ممّا خطر بالبال ؛ إمّا لأنّ دلالة «لا تنقض» بالعموم ؛ لأنّ الجنس واقع في

٢٢٣

حيّز النفي بخلاف «انقض» فإنّه بالإطلاق والعموم الوضعي يكون بيانا للعموم الإطلاقي ، وإمّا لأنّ «انقض» ليس كلمة جعل وتعبّد ، بل إشارة إلى ما هو حكم العقل من العمل على طبق القطع ، وحكم العقل يختصّ بمورد يلزم من ترك العمل بالقطع ترك تكليف في البين ، ولا حكم للعقل فيما إذا علم بتطهير أحد شيئين على سبيل الإجمال علم بنجاستهما سابقا ، فلذا لا يكون مانع من التعبّد بنجاستهما جميعا.

والحقّ بين المباني هو هذا المبنى. وعليه ، فالمقتضي ـ وهو عموم الدليل لجريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي ـ موجود ، والمانع الموجب لرفع اليد عن هذا العموم ليس إلّا حكم العقل ، وحكم العقل يختصّ بمورد يلزم منه الترخيص ولو في بعض الأطراف ، فلا إشكال.

أمّا إن قلنا : إنّه لا يمنع من الترخيص في بعض الأطراف ، وإنّما الممنوع هو الترخيص في جميع الأطراف ، فيحتاج طرف العموم في جميع المقدّمات إلى ضمّ مقدّمة أخرى ، وهي أنّ رفع اليد عنه في واحد معيّن ترجيح بلا مرجّح ، وأحدهما مردّدا لا وجود له في الخارج ، وعنوان أحدهما ليس من أفراد العامّ. وأمّا شمولاه لجميع الأطراف مع رفع اليد عن ظاهر الطلب في كونه تعيينيّا وحمله على التخييريّة فهو مستلزم لاستعمال اللفظ في معنيين : التعيين ، والتخيير ، فيتعيّن الإجمال ، وبالنتيجة رفع اليد عن العموم في جميع الأطراف.

وأمّا الحكم بالتخيير بين الاستصحابين كما في كلّ حجّتين تعارضتا ـ بناء على السببيّة ـ فقد يمنع من جهة اختصاص ذلك بما إذا علم بوجود المقتضي في كليهما ، وهو في المقام غير معلوم.

وفيه : أنّ طريق معرفة المقتضي والملاك في سائر المقامات ـ وهو شمول دليل الاعتبار ـ قائم ، فتخصيص المقام بعدم العلم بالمناط باطل.

[التنبيه] الثالث عشر :

الاستصحاب لا يعارض اليد سواء اعتبرنا اليد من باب الأماريّة كما هو مبنى بناء العقلاء

٢٢٤

وسيرة المتشرّعة ، أو اعتبرناه من جهة مجرّد التعبّد كما يظهر من رواية حفص بن غياث (١) ؛ لأنّه وارد في مورد الاستصحاب ، وقلّ ما يخلو مورده منه بحيث لو قدّمنا دليل الاستصحاب لكنّا قد طرحنا دليل اليد إلّا في مورد كان تخصيص العامّ بذلك مستهجنا جدّا.

وأمّا حكم الفقهاء بتقديم قول الخارج إذا اقرّ ذو اليد بأنّ الملك كان سابقا له وقد تلقّاه منه ـ مصرّحا بعضهم بأنّ ذلك للاستصحاب ـ فليس ذلك تقديما للاستصحاب على اليد ، حتّى لو كان إقراره بالملك للخارج إقرارا بملك سابق على زمان يده ، ولم يكن المقرّ له مصادفا لجزء من زمان يده حتّى تكون يده باطلا بإقراره.

وكيف يكون ذلك من تقديم الاستصحاب على اليد مع أنّه لا استصحاب لو لا اليد؟ إذ لا يقين وجداني بالملك السابق ، وإنّما اليقين بالملك السابق يقين تعبّدي حاصل من اليد بحكم «إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ» فتكون اليد هي التي مهّدت أركان الاستصحاب وهيّأت مقدّماته ، وشأن المتعارضين أن يكون كلّا من المتعارضين تامّ الجهات والأركان لو لا معارضه ، بل ذلك من تقديم الإقرار على اليد ، فكما إذا أقرّ بملك فعلي أخذ بالإقرار وترك اليد كذلك إذا أقرّ بملك سابق ؛ فإنّ إقراره ذلك إقرار بالاستمرار بحكم الشارع بالملازمة بين الثبوت والاستمرار.

ولذا تقدّم اليد على الاستصحاب فيما إذا كانت الحالة السابقة متيقّنة بالوجدان لا بالإقرار ، فالشارع بحكمه بالاستصحاب وسّع في دائرة الإقرار كما وسّع بحكمه ذلك في دائرة الطهارة المجعولة شرطا في «لا صلاة إلّا بطهور» وهل يتوهّم متوهّم أنّ ذلك من معارضة الاستصحاب بالدليل الاجتهادي؟!

__________________

(١) وهي ما رواه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال له رجل : أرأيت إذا رأيت شيئا في يدي رجل أيجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال : «نعم» قال الرجل : أشهد أنّه في يده ، ولا أشهد أنّه له ، فلعلّه لغيره ، فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : «أفيحلّ الشراء منه؟» قال : نعم ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «فلعلّه لغيره ، فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكا لك؟ ثمّ تقول بعد الملك : هو لي وتحلف عليه ، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟ ثمّ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق».

الكافي ٧ : ٣٨٧ / ١ ؛ الفقيه ٣ : ٣١ / ٩٢ ؛ التهذيب ٦ : ٢٦١ / ٦٩٥ ؛ وسائل الشيعة ٢٧ : ٢٩٢ أبواب كيفيّة الحكم ، ب ٢٥ ، ح ٢.

٢٢٥

ثمّ إنّ المبحث في أصل اعتبار اليد ، وأنّه أمارة أو أصل؟ وأنّه هل يستفاد من أدلّته اعتبار اليد بما هي يد أو اعتبارها من باب أصالة الصحّة التي هي أعمّ من كون المتصرّف مالكا أو مأذونا من قبل المالك أو الشارع ، وبها يقوم للمسلمين سوق من غير حاجة إلى ثبوت الملك؟ وأنّ اليد هل هي دليل على أصل الملك أو على كونها طلقا أيضا ـ فيكون مع تردّد ما في اليد بين كونه ملكا طلقا أو وقفا أو أمّ ولد دليلا على نفي العنوانين ـ وأنّ اليد كما تكون دليلا على الملك تكون دليلا على الحقّ أيضا ـ كما في اليد على الأوقاف العامّة ، وكاليد على ما يعلم أنّه مال غير ، ويحتمل أن يكون لحقّ رهانة ونحوه ـ وأنّ اليد كما تكون دليلا على ملك العين تكون دليلا على ملك المنفعة أيضا أولا إلى غير ذلك مقام آخر.

والمهمّ هاهنا تقديمه على الاستصحاب بعد الفراغ عن اعتباره.

[تمّ ولله الحمد ، وقد نقلته إلى البياض في يوم ٢٠ ذي العقدة. الجاني يوسف نجل المصنّف الإيرواني قدس‌سره].

٢٢٦

رسالة

التعادل والتراجيح

٢٢٧
٢٢٨

رسالة التعادل والتراجيح

التعارض الذي هو موضوع البحث في المقام هو تزاحم الأمارتين في الاندراج تحت دليل الاعتبار بعد اندراج كلّ منهما لو لا الآخر في موضوعه ، لا التعارض بمعنى تنافي الدليلين في لسانهما كما في «يجب» و «لا يجب» أو «يجب» و «يحرم» ؛ ولهذا يشمل الدليلين المعلوم كذب أحدهما مع عدم ارتباط أحدهما بالآخر كدليل من باب الطهارة وأخر من باب الديات.

ثمّ التعارض بالمعنى الثاني لا يكون في الدلالة ؛ إذ الدلالة والكشف والإراءة لا يعقل فيها التعارض إلّا بتبع الواقع المكشوف ، ففي الحقيقة التعارض يكون في مدلول الدليلين ، ويكون توصيف الدليلين به بالعرض والمجاز.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ البحث في المقام يقع في عنوانين :

الأوّل : في تعادل الدليلين المتعارضين.

الثاني : في ترجّح أحدهما على الآخر.

وقبل الدخول في البحث ينبغي تقديم أمرين :

الأوّل : أنّ البحث في هذين العنوانين هل يعمّ صورة مرجّح دلالي مع أحد المتعارضين ، أو أنّ صورة [وجود] المرجّح الدلالي ترجع إلى المرجّح الدلالي ولا تنظر إلى التعادل ولا إلى الترجيح ، وإنّما النظر إلى هذين العنوانين والبحث عنهما يكون مع تكافؤ الدلالتين.

الثاني : أنّه مع إمكان الجمع بين الدليلين بوجه ولو مع تكافؤ دلالتيهما هل يتعيّن الجمع ،

٢٢٩

فلا يرجع إلى حكم التعادل ولا إلى حكم الترجيح إلّا بعد تعذّر الجمع ، أو أنّ الجمع غير العرفي لا ينظر إليه ، وأنّ المتعارضين الممكن جمعهما وغير الممكن جمعهما في حدّ سواء في دخولهما في محلّ البحث وجريان حكم التعادل والترجيح عليهما؟

وقبل الخوض في التكلّم في الأمر الأوّل ينبغي الإشارة إلى ضابط الجمع العرفي.

فاعلم أنّ الجمع العرفي يدور مدار كلمة واحدة ، وهي قوّة أحد المتعارضين في مقام الدلالة على صاحبه سواء بلغ مبلغ الصراحة أم لم يبلغ. والحاكم والمحكوم لا يشذّ عن هذا الضابط ؛ فإنّ تقديم الحاكم على المحكوم أيضا يكون بهذا المناط.

فلولا أظهريّة الحاكم لما كان يستحقّ التقديم على صاحبه ، سواء جعلنا الحاكم بمعنى المفسّر الفعلي لدليل المحكوم بحيث كان مقامه مقام «أي» و «أعني» الذي لازمه لغويّة دليل الحاكم لو لا دليل المحكوم ـ كما ذهب إليه شيخ مشايخنا المرتضى (١) قدس‌سره ـ ، أو جعلنا الحاكم بمعنى المفسّر بالقوّة والمفسّر الشأني بحيث لو فرض في قباله دليل كان هذا مفسّرا له فلا تلزم لغويّته لولاه ـ كما ذهب إليه الأستاذ (٢) (طالب ثراه) ـ ، أو قلنا : إنّه لا هذا ولا ذاك ، وأنّ الحاكم يقال لدليل محدّد للحكم الواقعي ، وكان في مقام ضبط الواقع بما هو واقع لا بما هو مدلول الدليل ، فإنّه لا ينافي بوجه دليل ذلك الحكم الذي هذا حدّده وإن كان دليله إطلاقا وعموما بل يقدّم هذا عليه ويعدّ شارحا لمدلوله ، ومحدّدا لمفاده.

مثل : دليل نفي الضرر ناظر إلى تحديد الأحكام الواقعيّة ، وأنّ الأحكام ليست في مورد الضرر ؛ فإنّه لا يعدّ معارضا لدليل تلك الأحكام ، بل يعدّ شارحا لمؤدّياتها لكن لا بما هي مؤدّياتها بالفعل ليرجع إلى التفسير الأوّل ، أو بالقوّة ليرجع إلى التفسير الثاني ، بل ذات المؤدّى ونفس الواقع صار مؤدّى دليل بالفعل ، أو بعد هذا ، أو لم يصر مؤدّى دليل أصلا.

هذا ، مع أنّه ليس عنوان الحاكم عنوان دليل ليهتمّ في أمره ، بل اصطلاح من الأصوليّين لجمع خاصّ من الجموع العرفيّة ، وقد عرفت أنّ مناطه كمناط سائر الجموع هو الأظهريّة ، لا أنّ الحاكم يقدّم ولو كان أضعف من المحكوم كما قيل (٣) ؛ إذ لو لا قوّة الحاكم في الدلالة على

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧٥٠ و ٧٥١.

(٢) كفاية الأصول : ٤٣٧ ؛ درر الفوائد : ٦٤٢ ـ ٦٤٦.

(٣) كفاية الأصول : ٤٣٨.

٢٣٠

تحديد الواقع من المحكوم الكاشف عن سعة الحكم وعدم تحديده بهذا الحدّ لم يعقل تقديمه عليه.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ البحث في عنوان التعادل وعنوان الترجيح يعمّ كلّ دليلين تعارضا ـ كان بينهما جمع عرفي أو لم يكن ـ فحكم صورة الجمع حكم سائر الصور ترجيحا وتخييرا ، ولا وجه لإخراج صور الجمع العرفي عن إجراء أحكام التعارض والإرجاع إلى الجمع العرفي إلّا توهّم أنّ دليل الاعتبار بجعل الأمارتين الظنيّتين كأمارتين قطع بصدورهما. ومن المعلوم أنّ الحكم في أمارتين قطعيّتين بينهما جمع عرفي هو الجمع فكذلك ما بحكمه ، فإنّه لا فرق بين سند قطعي بالوجدان وسند قطعي بحكم الشارع وتعبّده (١) ، لكنّه توهّم فاسد.

ويتّضح ذلك ببيان أمور :

الأوّل : أنّ الاعتبار فيما ثبت اعتباره بدليل الاعتبار هو بنفس دليل الاعتبار والعمل عليه والأخذ به سندا ودلالة ، وهو الحجّة في كلّ باب لا الأمارات الخاصّة القائمة على كلّ حكم حكم ، على أن يكون «صدّق» دليلا على الدليل ، ومعتبرا سند تلك الأمارات.

بيان ذلك : أنّ دليل «صدّق» على إجماله واختصاره حاو لكلّ حكم هو مدلول للأمارة منشئ لما يطابقه ويماثله ، فتمام كتاب وسائل الشيعة في طي «صدّق» وتحت طيلسانه. ومعنى اعتباره له ليس إلّا هذا ، ولا يتعقّل أن يكون معنى لاعتباره سندا لأمارة غير ما ذكرنا. فيكون في الحقيقة المعتبر سندا ودلالة هو هذا ، غاية الأمر لا يتعيّن مقدار مدلول هذا إلّا بملاحظة ذاك ، فذاك مقدّر لمدلول هذا ، ومقياس يتعيّن به مدلوله.

وبالجملة : كتاب وسائل الشيعة له وجودان : وجود بنحو البسط وهو الكتاب الخارجي الذي من كلام الرواة المحتمل للصدق والكذب ، وأخر بنحو اللفّ وهو الكتاب الإجمالي الذي تتكفّله عبارة «صدّق» غير المحتمل للكذب ، وهذا الكتاب هو الحجّة دون ذاك ، وإنّما نحتاج إلى ذاك لأجل التوصّل إلى مدلول هذا وتعرّفا على مضمونه وتعيينا لمؤدّاه. ثمّ بعد ذلك المقدار في العمل والفتوى على هذا دون ذاك.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٣٩.

٢٣١

الثاني : أنّ دليل «صدّق» مصاديقه وأفراده هو كلّ واحد واحد من الأمارات لا كلّ اثنين اثنين أو ثلاثة على صفة الاجتماع والانضمام حتّى يكون المتعارضان منضمّين مصداقا واحدا لدليل «صدّق».

الثالث : أنّ دليل «صدّق» مؤدّاه تقرير الظهور الذي تتضمّنه الأمارات فينشأ مطابق ظهور كلّ منها ، ولا يتكفّل ما هو خارج عن الظهور.

الرابع : أنّ دليل «صدّق» ظهوره بالنسبة إلى أفراده ظهور واحد لا يختلف بالقوّة والضعف ، يعني أنّ ظهور دليل «صدّق» بالنسبة إلى أمارة دلّت على وجوب إكرام العلماء ، وأخرى دلّت على عدم وجوب إكرام زيد في حدّ سواء ، وإن اختلف ظهور الأمارتين ، بل كانت إحداهما نصّا.

وبعبارة أخرى : الاختلاف الظهوري إنّما يكون في الأمارات المنفصلة التي عرفت عدم العبرة بها ، وأمّا الذي عليه الاعتبار وهو المدار فلا اختلاف ظهوري فيه بالنسبة إلى شمولاته ، فكلّ المختلفات متوافقات هنا.

إذا عرفت هذه الجملة فاعلم أنّ قضيّة القاعدة في تعارض الأمارتين جميعا واحدة ـ كان بينهما جمع دلالي وتوفيق عرفي أم لم يكن ـ ولا يختصّ ما فيه الجمع بالجمع ؛ وذلك لأنّ دليل الاعتبار بشموله للعامّ ينشئ حكما على طبق العامّ ، وبشموله للخاصّ ينشئ حكما على طبق الخاصّ ، وإنشاءاه في مرتبة واحدة من الظهور ؛ لأنّ الجميع بعبارة واحدة هي عبارة «صدّق» ـ وقد عرفت أنّ العبرة بها ـ فيكون كعامّ وخاصّ تعارضا وقد توافق ظهورهما ، فكما لا يجمع هناك لا يجمع هنا.

وقد عرفت توهّما نشأ من حسبان أنّ الأمارة الظنّيّة بشمول «صدّق» تكون بمنزلة الأمارة القطعيّة ، فكما يرجع إلى الجمع في الأمارة القطعيّة إذا تعارض فردان منهما ، فكذلك ما هو بمنزلتها ، فدليل «صدّق» يعتبر سند الأمارة الظنّيّة ، ويحكم بالمعاملة معها معاملة الأمارة القطعيّة ، ومعاملة الأمارتين القطعيّتين إذا تعارضتا وكان بينهما جمع هو الأخذ بما يقتضيه الجمع (١).

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٣٩.

٢٣٢

وهو توهّم فاسد ، وإن شاع أمثال هذه التعبيرات في ألسنة الطلبة ؛ فإنّ دليل «صدّق» لا يجعل غير الصادر صادرا ولا يعتبر سند مظنون الصدور ، بل ينشئ حكما مماثلا لحكم الأمارة المظنونة الصدور ، وهذا معنى اعتباره لها ، ولا يتصوّر له معنى سواه.

إن قلت : مؤدّى : الأمارتين المتعارضتين بالعموم والخصوص منضمّة هو ما عدا الخاصّ من العلم ، فإذا شملهما دليل «صدّق» أنشأ حكما على طبق هذا المؤدّى ، وهو معنى الجمع.

قلت : مفاد «صدّق» قول هذا العادل وحده وذاك العادل وحده لا هذا منضمّا إلى ذاك ، فينشأ بشموله لكلّ واحد من الأمارات مدلول ذاك الذي يشمله ، وأمّا هذا منضمّا إلى ذاك فليس فردا لينشأ بشموله له ما هو قضيّة الجمع بينهما.

إن قلت : دليل «صدّق» وإن لم يشمل ابتداء إلّا هذا وحده وذاك وحده لكن بعد أن كان ما ينشئه بشموله متهافتا متناقضا ، فلا جرم يحمل على ما ذكرنا رفعا للتهافت والتناقض.

قلت : هذا هو مناط الجمع الذي نسب إلى صاحب عوالي اللئالي (١) ، وسنشير إلى ضعفه ، مع أنّه لو بني على ذلك لم تلزم رعاية جانب الأقوى دلالة ، بل يجمع بينهما كيفما اتّفق ، ولو برفع اليد عن الأظهر أو النصّ ، فإنّه بمناط ترك السند دون ترك الدلالة.

الثاني : في خروج مورد إمكان الجمع ـ والأخذ بسند كلّ من الروايتين المتعارضتين ـ عن مورد البحث حتّى تختصّ أحكام التعادل والترجيح بغير مورد إمكان الجمع ـ كما نسب إلى صاحب عوالي اللئالي ـ أو أنّه يعمّ الجمع ، ويعامل معاملة المعارضة في الجميع؟ وهذا بعد الفراغ عن تقديم الجمع الدلالي وإلّا كان هذا أحرى بعدم الاعتناء منه.

لا إشكال في أنّ كلّ خطاب عامّ يجب الأخذ بعمومه مهما أمكن ، ولا ترفع اليد عنه في شيء من مصاديقه مهما تيسّر. وقد عرفت أنّ معنى «صدّق» تقرير مؤدّى ظهور الروايات ، وينشأ الحكم على طبق مؤدّياتها ، فإذا أخبر عادل بأنّ «ثمن العذرة سحت» وأخبر عادل آخر بأنّه «لا بأس ببيع العذرة» أنشأ «صدّق العادل» بشموله لهما مطابق هذين الحكمين ، وحيث إنّه غير معقول فلا بدّ من الأخذ من مفاده بالمعقول ، والمعقول أمور : الأخذ بتمام مدلوله بالنسبة إلى هذا الخطاب دون ذاك ، أو ذاك دون هذا ، أو التبعيض بأخذ مقدار من هذا

__________________

(١) عوالي اللئالي ٤ : ١٣٦.

٢٣٣

ومقدار من ذاك على اختلاف المقدارين أيضا تركا وأخذا.

وليس للأخير ترجيح على الأوّلين كما ليس للأوّلين ترجيح على الأخير ؛ إذ ليس الأخير عملا بصدق في تمام مدلوله حتّى يتعيّن ، بل هو عمل في كلّ فرد بمقدار منه ، وليس الأخذ بنصفي فردين أولى من الأخذ بنصفي فرد واحد ـ وهو تمام أحد الفردين ـ كما أنّ العكس أيضا ليس بأولى ، وحينئذ فلو بني على استفادة التخيير من نفس دليل الاعتبار وجب التخيير بين الجمع والأخذ بأحدهما.

نعم ، على مبنى التساقط والرجوع إلى الأخبار الخاصّة كان ظاهر أخبار التخيير هو التخيير بين أخذ كلّ وطرح الآخر ، ولا يكون الجمع داخلا في أطراف التخيير.

ثمّ إنّ هاهنا أمورا :

[الأمر] الأوّل : أنّ كلّ دليلين كان أحدهما رافعا لموضوع الآخر حقيقة خارج عن موضوع التعارض حقيقة ، لا أنّه من المتعارضين اللذين كان بينهما جمع عرفي ، فأدلّة اعتبار الأمارة بناء على أنّها واردة على أدلّة الأصول غير متعارضة لها بوجه ، بل عمومها وشمولها يكون قاطعا لدابر أدلّة الأصول. فعدّ تقديمها عليها من الجمع والتوفيق العرفي ـ كما عن الأستاذ العلّامة قدس‌سره مع اختياره ـ (١) ممّا لا وجه له.

[الأمر] الثاني : أنّ مدار الجمع العرفي على وجود ظهور قويّ في البين ، فيتصرّف بسببه في الظهور الضعيف ، سواء كان ظهورا وضعيّا أو بالقرينة ، وسواء كان ذو الظهور القوي أحدهما أو كلاهما مجتمعا أو كلّا منهما ، فيكون هذا أظهر من الآخر في جهة وذلك أظهر من هذا في أخرى ، كما في «افعل» و «لا تفعل» فيؤخذ بصريح «افعل» وهو الترخيص في الفعل ، ويترك ظاهره وهو الرجحان والوجوب ، ويؤخذ بصريح «لا تفعل» وهو مرجوحيّة الفعل ، ويترك ظاهره وهو التحريم ، فكلّ يكون قرينة على صاحبه في جهة ، وقد عرفت أنّ التقديم على وجه الحكومة أيضا يدور مدار الأظهريّة ، ولو لاه لم يقدّم دليل على دليل.

[الأمر] الثالث : قيل : إنّ الحكومة والورود تكونان في الأصول اللفظيّة أيضا ، فالقرينة تكون واردة على أصالة الظهور إذا كانت قطعيّة ، وحاكمة إذا كانت ظنّيّة. وينبغي أن يراد من

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٣٨.

٢٣٤

الحكومة الظنّيّة حكومة دليل اعتبار سندها ، فإنّ اعتبار القرينة بإزاء العموم اللفظي ، يرجع إلى إلغاء العموم اللفظي ، وعدم الاعتداد به في مقابل هذه القرينة المنصوبة. هذا بناء على أن يكون اعتبار أصالة الظهور من باب أصالة عدم القرينة ، وأمّا اذا كان من باب الظنّ النوعي بإرادة الحقيقة الحاصل من الغلبة أو غيرها فالقرينة واردة مطلقا.

ويتّجه عليه الإشكال من وجوه :

[الوجه] الأوّل : أنّ الأصول اللفظيّة عبارة عن عمل أهل اللسان والمحاورة ، فهي مأخوذة من عملهم وعنوان عملهم. والعمل على طبق الظهور مع القرينة الظنّيّة التي اعتبرت إمّا أن يكون أو لا يكون ولا ثالث ، فإن كان فمعنى ذلك طرح دليل اعتبار سند القرينة ، وإن لم يكن فذلك معنى الورود ، وأنّ عملهم مقصور بغير صورة القرينة قطعيّة كانت أو ظنيّة معتبرة ، مع أنّ القرينة دائمة تكون قطعيّة ؛ فإنّ القرينة في الحقيقة هي دليل اعتبار هذه الأمارة الظنّيّة ، وهي قطعيّة سندا.

فيكون التعارض في الحقيقة بين عموم دليل اعتبار سند الخاصّ وبين دليل العامّ ، ومعنى تقديم الخاصّ هو أنّ أهل اللسان يأخذون بعموم دليل «صدّق» الشامل للخبر الخاصّ ، ويتركون العموم الذي هو في مقابله ، ولا يعكسون الأمر ، أو يتركون كلا الظهورين مع أنّ النسبة بينهما هو العموم من وجه.

[الوجه] الثاني : أنّ التفصيل بين اعتبار أصالة الظهور من باب أصالة عدم القرينة وبين اعتبارها من باب الظنّ النوعي باختيار حكومة القرينة الظنّيّة على الأوّل ، وورودها على الثاني ممّا لا نتعقّله ؛ فإنّ جهة البناء وكونها هذا أو ذاك لا توجب اختلاف النسبة ورودا وحكومة ، فإن كان العمل غير موجود مع القرينة كان ورودا ، منشأ عملهم كائنا ما كان.

[الوجه] الثالث : التفصيل بين المبنيين يؤذن بأنّ مبنى العمل إمّا هذا فقط أو ذاك فقط ، مع أنّه هذا وذاك جميعا ، هذا في مقام وذاك في مقام. فإن أحرز الظهور وشكّ في قيام قرينة منفصلة كان الأخذ بالظهور مبنيّا على أصالة الظهور من باب الظنّ النوعي بإرادة ما يطابق الظهور ، وإن لم يحرز الظهور ـ لقيام اتّصال الكلام بقرينة تمنع من انعقاد ظهوره الأوّلي ـ كان الأخذ بظهور الكلام لو لا القرينة مبنيّا على أصالة عدم القرينة ، والبناء على عدم القرينة ، فيؤخذ بظهور له لو لا القرينة.

٢٣٥

المقصد الأوّل : في حكم تعارض الأمارتين بحسب الأصل الأوّلي لو لا الأدلّة الخاصّة المتعرّضة لحكم خصوص صورة التعارض ، يعني أنّ دليل اعتبار الأمارة هل له اقتضاء في صورة تعارض فردين منها واجدتين لتمام ما يعتبر من الخصوصيّات ، أو ليس له اقتضاء إمّا ذاتا وبانصرافها عن صورة التعارض أو عرّضا ولحصول الإجمال فيه بسبب التعارض ، فلا يكون حجّة في كلّ واحد بعينه بالنسبة إلى مدلولهما المطابقي وإن كان حجّة فيهما ، أو في أحدهما بالنسبة إلى المدلول الالتزامي المشترك بينهما ، وهو نفي الثالث؟

فنقول : أمّا دعوى الانصراف ففي غير محلّها ؛ لعدم سبب الانصراف بعد دخول كلّ من المتعارضين في عنوان الموضوع ، وإن لزم من الأخذ بهما تصديق أمارة معلوم الكذب على سبيل الإجمال.

وأمّا الإجمال العرضي فمحصّل الكلام فيه أنّ شمول دليل الاعتبار لكلتا الأمارتين مستلزم للعمل بأمارة علم كذبها ، والأمارة المعلوم كذبها ولو على سبيل الإجمال لا يعقل اعتبارها طريقا إلى الواقع ، فلا جرم يحكم بعدم شمولاه لكلتا الأمارتين.

وأمّا شمولاه لأحدهما المعيّن فهو وإن لم يكن فيه المانع المذكور ، لكنّه ترجيح بلا مرجّح. والواحد المردّد ليس من أفراد العامّ. فلا مقتضى لشمولاه له.

وأمّا شمولاه لهما وحمل الحكم على التخييري فهو مستلزم لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد : التخييري بالنسبة إلى صورة التعارض ، والتعييني بالنسبة إلى غيرها. فيؤول الأمر إلى إلغاء دليل الاعتبار وإذا ألغي بالمرّة ، بمعنى أنّه كما لا يؤخذ بكلّ من الأمارتين في مدلولهما المطابقي كذلك لا يؤخذ بهما في مدلولهما الالتزامي حتّى نفي الثالث ، فجاز الرجوع إلى الأصل المخالف لهما لا أنّه يؤخذ بهما في نفي الثالث ، ولا أنّه يؤخذ بأحدهما في نفيه.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّ اعتبارهما جميعا بالنسبة إلى المدلول الالتزامي ـ حيث لم يعلم بكذبهما فيه ـ مستلزم للتفكيك في اعتبار الأمارة بين المدلول المطابقي والالتزامي ، ولو جاز ذلك لزم في صورة العلم التفصيلي أيضا بكذب أمارة أن يؤخذ بمدلولها الالتزامي غير معلوم الكذب وهذا وإن لم يكن فيه محذور ؛ لأنّ الالتزام يتّبع المطابقة وجودا لا حجّيّة ،

٢٣٦

لكن جملة واحدة فرد واحد من عموم «صدّق» لا فردين أو أزيد بحسب مداليلها العرضيّة والطوليّة ، فإذا لم يشمل «صدّق» جملة لم يشملها بتمام مداليلها ، أو لا تتبعّض في الشمول وعدمه باعتبار مداليلها.

وأمّا الثاني : فلأنّه بذاك الملاك الذي بطل اعتبار أحدهما مردّدا أو معيّنا بالنسبة إلى المدلول المطابقي يبطل اعتباره بالنسبة إلى المدلول الالتزامي.

هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إنّا نمنع عدم المقتضي لاعتبار أحدهما المردّد ؛ فإنّه وإن لم يكن من أفراد العامّ واللفظ لا يشمله لكن الخروج لا بعنوان يصير قرينة على بقاء اللابعنوان. مثلا لو قال : أكرم الرجلين ، ثمّ قال : لا تكرم أحدهما ـ أحدا غير معيّن واقعا ـ كان قوله ذلك قرينة على أنّ واجب الإكرام أيضا أحدهما غير معيّن. وهذا ليس من قبيل إرادة الباقي من العامّ بعد خروج الخارج بالتخصيص حتّى يقال : إنّ الفرد المردّد لم يكن من أفراد العامّ ليبقى تحته بعد خروج الخارج ، بل من قبيل قرينة المجاز.

فحسب ما بيّنّاه يكون الأصل الأوّلي في المتعارضين هو التخيير ، إلّا أن يقال بالفرق بين المثال الذي كان إخراج أحدهما بالدليل اللفظي وبين المقام الذي يعلم أنّ الاثنين جميعا غير مشمول للزوم المحذور ، وهو اعتبار معلوم الكذب في البين لا أنّ عنوان الواحد خارج ؛ لوضوح أنّ عنوان الواحد لم يكن مشمولا حتّى يكون خارجا سيّما مع العلم بكذبه.

هذا كلّه بناء على مسلك الطريقيّة في الأمارات. وأمّا على مسلك السببيّة فكذلك عينا لو قلنا بأنّ معلوم الكذب ولو إجمالا غير مشمول.

فالحال لا تخلو إمّا أن يكون التعارض من جهة العلم الإجمالي بالكذب من غير تناقض وتضادّ في مدلول المتعارضين ، أو يكون من جهة التناقض والتضادّ.

فعلى الأوّل يعمل بكلا الخبرين كما إذا لم يكن هناك تعارض ، وهو واضح.

وعلى الثاني فإمّا أن يكون مفاد الخبرين حكمين إلزاميّين أو لا ، فعلى الأوّل فإمّا أن يكون الحكمان الإلزاميّان واردين على موضوع واحد أو على موضوعين ، فعلى الأوّل يحكم بالإباحة مع تساوي الملاكين ، أو بغير الإباحة من سائر الأحكام مع اختلاف الملاكين حسب مراتب الاختلاف من كون المزيّة في أحدهما مزيّة ملزمة أو غير ملزمة ، وأيضا كون المزيّة في جانب المصلحة أو المفسدة. وعلى الثاني يحكم بالتخيير مع عدم

٢٣٧

الأهمّيّة ، وبمراعاة جانب الأهمّ مع الأهمّيّة. وهكذا فيما إذا دلّ أحد الخبرين على استحباب فعل والآخر على كراهته ، أو دلّ أحدهما على استحباب فعل والآخر على استحباب ضدّه.

وعلى الثاني فالحكم يكون على كراهته ، أو دلّ أحدهما على استحباب فعل والآخر على استحباب ضدّه.

وعلى الثاني فالحكم يكون على طبق الإلزامي ؛ لأنّ غير الإلزامي مصلحته لا اقتضاء فلا يزاحم المصلحة المقتضية للإلزام ، ولا يعقل أن يكون الحكم غير الإلزامي عن مصلحة مقتضية للحكم غير الإلزامي ؛ فإنّ عدم الإلزام ينشأ دائما من ضعف المصلحة ، والضعيف لا يزاحم القوي ومعنى السببيّة في الأمارات هو سببيّة قيام الأمارة في موارد الأحكام الترخيصيّة لإعدام المصلحة الملزمة بإحداث ما تعادلها من المفسدة ، فتصل إلى حد اقتضاء الاستحباب أو الكراهة.

نعم ، إذا قلنا بالمصلحة في نفس الحكم أمكن أن يكون الحكم الترخيصي عن مصلحة مقتضية للحكم الترخيصي ، فتزاحم حينئذ الإباحة مع الوجوب إذا كان الحكمان في موضوع واحد ويكون الحكم تابعا لذي الجهة القويّة ، ومع التساوي يحكم بإباحة غير اقتضائيّة. وإذا كان الحكمان واردين على موضوعين متضادّين كان الحكم التخيير مع مساواة الملاكين كما في الواجبين المتزاحمين.

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكرنا بين أن يقال بوجوب الموافقة الالتزاميّة للأحكام وبين أن لا يقال ؛ فإنّ وجوب الالتزام ـ لو قلنا به ـ عقلي وفي رتبة متأخرة عن الحكم لا يزاحم به ملاك الحكم أصلا ، فمعاملات الملاكات الواقعيّة لا تتغيّر وتتبدّل بالقول بوجوب الالتزام.

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ التخيير في غير ما كان التعارض من جهة العلم الإجمالي بكذب أحدهما وعدم صدوره ليس بمعنى التخيير بين الأخذ بهذه الأمارة أو بذاك ، بل الأخذ بمقدار من هذه وتلك على اختلاف مقدار المأخوذ من هذه وتلك أيضا من أطراف التخيير ، فيكون مركّبا من التخيير والجمع المنسوب إلى صاحب عوالي اللئالي ، فإن شاء أخذ بمضمون هذه تماما أو تلك تامّا أو مقدارا من مضمون هذه ومقدارا من مضمون تلك حسب ما استطاع.

والوجه في ذلك واضح على السببيّة ؛ لفرض حدوث المصلحة في آحاد مضمون

٢٣٨

كلّ من الأمارتين فيما إذا كان مفادهما عموما استغراقيّا ، وحيث تعذّر الجمع بين المصلحتين حكم العقل بإتيان المقدار الممكن ، والمقدار ليس خصوص مصلحة هذه أو تلك ، بل بعض كلّ منهما أيضا ممكن. فلو قامت أمارة على وجوب إكرام العلماء وأخرى على وجوب إكرام الشرفاء وتعذّر الجمع بينهما حكم العقل بإكرام المقدار الممكن ، إمّا العلماء فقط أو الشرفاء فقط ، أو بعض من كلّ منهما كنصف من هذا ونصف من ذاك أو ثلثين من هذا وثلث من ذاك ، وهكذا.

وأمّا على الطريقيّة فكذلك ، ولكن في غير صورة العلم الإجمالي بكذب أحدهما بمعنى عدم صدوره ؛ وذلك لأنّ دليل الاعتبار اعتبر كلتا الأمارتين ، وحيث إنّ كلتيهما بتمام مفادهما معلوم الكذب كما في «ثمن العذرة سحت» و «لا بأس ببيع العذرة» لا جرم رفع اليد عن كلتيهما بتمام مفاديهما ، وأمّا ما عدا ذلك الذي من جملته بعض من مفاد كلّ منهما فلا يعلم بكذبه فيؤخذ به تخييرا ؛ فإنّه من المحتمل صدورهما جميعا مع إرادة بعض من كلّ منهما.

هذا تمام الكلام فيما هو قضيّة القاعدة بالنسبة إلى المتعارضين بعد فرض شمول دليل الاعتبار.

المقصد الثاني : في حكم المتعارضين بالنظر إلى الأدلّة الخاصّة وأخبار العلاج.

فاعلم أنّ أخبار العلاج بين دالّ على التخيير بقول مطلق ، وبين دالّ على التوقّف كذلك ، وبين دالّ على الترجيح ثمّ بعده التخيير أو التوقّف.

وقبل الخوض في ذكر الأخبار وبيان العلاج بينهما ينبغي تقديم أمر ، وهو أنّه ما معنى التخيير بين الحجّتين بناء على الطريقيّة ، سواء جعلناه مقتضى الأصل الأوّلي أو كان مستفادا من الأخبار الخاصّة ، إمّا مطلقا أو بعد فقد المرجّح.

وأمّا بناء على السببيّة فمعناه الوجوب التخييري ولا إشكال فيه.

فاعلم أنّ التخيير قد يطلق في مقابل الاقتضاء ويراد منه الحكم الترخيصي مقابل الحكم الإلزامي ، وقد يطلق ويراد كون الوجوب تخييريّا مقابل الوجوب التعييني ، وقد يطلق ويراد منه التخيير الظاهري الذي أحد الأصول العمليّة الذي مورده دوران الأمر بين الوجوب

٢٣٩

والتحريم ، ومعناه إنشاء حكم ظاهري على سبيل التعيين مطابق ما اختاره المكلّف من الحكمين المتزاحمين.

وقد يطلق ويراد منه التخييري في تعيين الحجّة ، فتكون الحجّة هو ما اختاره المكلّف من الخبرين المتعارضين ، ومتعلّق الاختيار المأمور به في هذه الصورة لا يخلو عن أحد أمور ثلاث :

الأوّل : أن يكون متعلّقه الحجّة فتكون الحجّة الفعليّة عند تعارض الخبرين هي عنوان ما اختاره المكلّف من الخبرين المتعارضين لأن يكون حجّة في حقّه.

الثاني : أن يكون متعلّقه هو مضمون الخبرين ، فتكون الحجّة في حقّه ذاك الذي اختار أن يكون مضمونه حكما له.

الثالث : أن يكون متعلّقة هو ما اختاره من الخبرين لأجل العمل ، فيكون ذلك الذي اختاره للعمل هو الحجّة في حقّه.

والكلّ باطل.

أمّا أوّلا ؛ فلأنّ مقتضى جميع الاحتمالات ألا تكون له حجّة قبل مرتبة الاختيار ، فصحّ أن يرجع إلى الأصول حيث لم يختر ، أقصاه الحكم بالعصيان بترك الاختيار إذا كان الاختيار واجبا بنفسه. مع أنّ الاختيار ليس واجبا من الواجبات ، وليس معنى «تخيّر» إلّا إنشاء مماثل ما اختاره كما أنّ معنى «صدّق» إنشاء مماثل ما أدّت إليه الأمارة.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الحكم لا يعقل أن يكون تابعا لاختيار المكلّف ودائرا مداره ، مع أنّ الاختيار لا يتعلّق إلّا بفعل النفس ، فأمّا الذوات والأفعال فتلك غير متعلّقة للاختيار إلّا بواسطة فعل النفس. وعليه ، فكيف يعقل تعلّق الاختيار بالحكم الذي هو مضمون الخبر أو بالحجّة كما في الاحتمالين الأوّلين؟!

وبالجملة : لا معنى للأمر بالتخيير إلّا الترخيص في ترك الموافقة القطعيّة ، والاقتصار على الموافقة الاحتماليّة من دون إنشاء حكم شرعي على طبقه.

ومن ذلك يظهر أنّ حمل أخبار الترجيح على الاستحباب أيضا لا معنى له ؛ إذ ليس هناك أمر بالترجيح ليحمل على الاستحباب ، بل معنى الأمر بالترجيح هو إنشاء ما أخبرت به الأمارة الراجحة ، فمؤدّاه ومؤدّى دليل «صدّق» واحد ، غاية الأمر هذا يختصّ بصورة

٢٤٠