الأصول في علم الأصول - ج ٢

ميرزا علي الإيرواني النجفي

الأصول في علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

ميرزا علي الإيرواني النجفي


المحقق: محمّد كاظم رحمان ستايش
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-424-879-1

الصفحات: ٣٠٤
الجزء ١ الجزء ٢

نعم ، إشكال العلم الإجمالي بالنسخ يمنع عن التمسّك بشيء من الخطابات للإجمال العرضي. ولا يجدي هنا ما قيل في الجواب عن هذا الإشكال في المقام السابق ؛ فإنّ الأصول اللفظيّة مدارها على عمل أرباب اللسان ، والظاهر أنّهم لا يتمسّكون بشيء من أطراف العلم الإجمالي من غير فرق بين الإجمال بين أطراف مبتلى بها وبين الإجمال بين أطراف غير مبتلى بها ، فإذا علم إجمالا بالتجوّز في أحد خطابين : أحدهما خطاب تكليف والآخر خطاب قصّة وحكاية سقط خطاب التكليف عن الحجّيّة.

[التنبيه] السادس :

لا إشكال في أنّ خطاب «لا تنقض» أو خطاب سائر الأصول قد سبق لجعل الحكم ، وأمّا الموضوع الخارجي فلا يعقل فيه الجعل ، فلو كان مجرى الأصل حكما كان مفاد «لا تنقض» إنشاء حكم ظاهري مماثل للحكم المتيقّن ، ولو كان موضوعا كحياة زيد وعدالة عمرو كان معنى «لا تنقض» إنشاء أحكام ذلك الموضوع بلا واسطة. وهل معناه خصوص ذلك أو معناه إنشاء مطلق أحكامه ولو مع الواسطة؟ وأيضا هل معناه خصوص ذلك ، أو معناه إنشاء مطلق أحكامه ولو مع الواسطة؟

وأيضا هل معناه خصوص جعل الأحكام اللازمة لذلك الموضوع المترتّبة عليه ، أو معناه جعل مطلق الأحكام المرتبطة به ، سواء كانت لازمة له أو ملزومة أو كلازمة؟ فيكون المتيقّن من مفاد الأصل جعل مجراه أو جعل أحكام مجراه بلا واسطة ، وأمّا أحكام مجراه مع الواسطة أو الأحكام الملزومة لمجراه أو الملازمة له بلا واسطة فضلا عمّا كانت مع الواسطة بأن كانت ملزومة للملزوم ، وهكذا في لازم الملزوم وملازمه ، وهكذا في ملزوم اللازم وملازمه ، فكلّها داخلة تحت عنوان الأصل المثبت الذي وقع البحث عنه.

فللمثبتيّة جهتان :

إحداهما : كون الحكم المترتّب على مجرى الأصل مترتّبا عليه مع الواسطة ، والاخرى عدم كون الحكم مترتّبا ، بل ملزوما أو ملازما ولو كان بلا واسطة ، فتتداخل الجهتان فيما إذا كان مع الواسطة وملزوما أو ملازما كملزوم اللازم وملازمه ، أو لازم الملزوم أو الملازم وملزومها أو ملازمهما ، وهكذا.

٢٠١

ومنشأ الإشكال في المسألة هو أنّ دليل الأصل هل يعمّ بمدلوله لكلّ حكم كان ثابتا حال اليقين ، فيكون مدلول «لا تنقض اليقين» هو وجوب أن يعمل الشاكّ عمل المتيقّن ، والمتيقّن كان عمله مطلق ترتيب الآثار ولو مع الواسطة ، بل والعمل بالملزوم والملازم ، أو أنّ مدلوله يختصّ بحكم كان ثابتا بما هو متيقّن بكذا لا كلّ ما كان ثابتا ولو لأجل يقين آخر يتولّد من اليقين الأوّل؟

والحقّ هو الثاني ، ومع ذلك فالأخبار تشمل أحكام اليقين مع الواسطة. نعم ، لا تشمل الملزوم والملازم.

أمّا كون الحقّ هو الثاني فلوضوح أنّ الحكم الوارد على عنوان يكون متقوّما بالعنوان الذي ورد عليه ، فإذا قال : «لا تنقض اليقين» فمعناه أنّ كلّ ما لليقين ـ أعني ما للمتيقّن بواسطة اليقين ـ من الحكم رتّبه ، دون كلّ حكم كان عند تحقّق اليقين ولو لا لأجل هذا اليقين.

وأمّا شمول الأخبار لآثار اليقين ولو مع الواسطة كالأحكام المترتّبة على نبات اللحية المترتّب عادة على بقاء الحياة إلى زمان الشكّ ، فلأنّ المراد من النقض في المقام هو معاملة النقض دون النقض الحقيقي ، على ما عرفت.

وأيضا المراد من اليقين هو اليقين المرآتي دون نفس صفة اليقين ، فيكون محصّل معنى «لا تنقض اليقين» : اعمل عمل بقاء اليقين بالالتزام بأحكام المتيقّن ، دون عمل عدم بقاء اليقين بترك الالتزام بأحكام المتيقّن. ومن المعلوم أنّ عمل البقاء ليس هو خصوص القيام بأحكام المتيقّن بلا واسطة ، بل هو مع القيام بأحكامه مع الواسطة ، فيكون نقضه عبارة عن ترك القيام بشيء من تلك الأحكام المعدودة أحكاما لليقين.

نعم ، إذا تكثّرت الوسائط وبعدت حتّى لم تعدّ أحكام الواسطة أحكاما لليقين لم يكن الأخذ بتلك الأحكام عملا باليقين ، ولا عدم الأخذ بها نقضا له.

وبالجملة : الأحكام المترتّبة على الشيء ولو مع الواسطة أحكام للشيء كما أنّ ولد الولد ولد فكان الأخذ إبقاء لليقين وعدم الأخذ بها نقضا له. وهذا بخلاف الأحكام الملازمة أو الملزومة لليقين ، فإنّها ليست مترتّبة على ذلك اليقين بمعنى تنجّزها بسبب ذلك اليقين ، وإنّما تنجّز بيقين آخر متولّد من ذلك اليقين.

٢٠٢

لا يقال : إنّ الحال في أحكام اليقين مع الواسطة أيضا كذلك ، فإنّها لا تكون مترتّبة على ذلك اليقين ، بل تكون مترتّبة على اليقين بالواسطة.

فإنّه يقال : إنّ معنى ترتّبها على ذلك اليقين ليس بمعنى كون اليقين علّة تامّة في ترتّبها وإلّا لم تترتّب الأحكام بلا واسطة أيضا كوجوب الإنفاق المترتّب على الحياة ؛ لأنّها أيضا لا تترتّب بمجرّد اليقين بالحياة ما لم ينضمّ إليه اليقين بالحكم ، بل بمعنى دخل اليقين في ترتّبها.

ومن المعلوم أنّ اليقين بالحياة دخيل في ترتّب كلّ الأحكام المرتّبة على الحياة ولو بألف واسطة ؛ لأنّها أحكام مترتّبة بالاخرة على الحياة ، وهذا بخلاف الملزوم والملازم.

ودعوى عدم الإطلاق في الأخبار ، وأنّ متيقّنها هو النهي عن النقض الحاصل بترك ترتيب الآثار بلا واسطة ممنوعة. ولو صحّ ذلك لزم فيما إذا كانت الواسطة حكما شرعيّا أيضا الاقتصار على ترتيب نفس الواسطة دون الآثار المترتّبة عليها إذا كانت الآثار آثارا لخصوص الحكم الواقعي دون الأعمّ منه ومن الحكم الظاهري.

وبالجملة : معنى «لا تنقض اليقين» هو العمل حال الشكّ عمل المتيقّن بما هو متيقّن ، والمتيقّن بما هو متيقّن عمله مطلق الأعمال المترتّبة على متيقّنه بلا واسطة كانت أو معها. فالأخبار في ذاتها تشمل الآثار بلا واسطة ومعها.

ولكنّ الأصل بالنسبة إلى الآثار مع الواسطة يكون متعارضا وبالنتيجة ساقطا عن الاعتبار. فبالأخرة الأصل المثبت لا يكون حجّة ، بل عدم الحجّيّة بناء على ذلك يعمّ الآثار المترتّبة على الوسائط الخفيّة المعدودة آثار النفس المتيقّن أيضا مع أنّ القائلين بعدم الحجّيّة استثنوا ذلك.

بيان المعارضة : أنّ ذا الواسطة كما أنّه مسبوق باليقين بالوجود مثلا ، والأصل فيه البقاء ـ فيترتّب تمام آثاره حتّى المترتّبة على الواسطة ـ كذلك الواسطة مسبوقة باليقين بالعدم ، واستصحابها يقتضي نفي الآثار المترتّبة عليها ، وكلا الأصلين أصلان موضوعيّان في مرتبة واحدة.

وتوهّم حكومة الأوّل على الثاني في غاية الفساد ؛ فإنّ مجرى الأصل الثاني حسب المفروض ليس من الآثار الشرعيّة المترتّبة على الأوّل كي تتمّ الحكومة ، ويرتفع الشكّ فيه

٢٠٣

ارتفاعا حكما بإجراء الأوّل ، وإنّما أثره وحكمه يترتّب على الأوّل مع أنّه يترتّب على الثاني أيضا ، فهناك أصلان متعارضان أحدهما في موضوع قريب والآخر في موضوع بعيد.

والحال في كلّ أصل يخالف الأصل في الواسطة مع الأصل في ذي الواسطة كذلك. وفي مثل ذلك يكون البحث عن حجّيّة الأصل المثبت منشأ أثر ، أمّا فيما إذا وافق الأصل في الواسطة للأصل في ذيها فلا أثر للبحث ؛ لأنّ الأصل في الواسطة جار لترتيب أثرها من غير حاجة إلى القول بالأصل المثبت.

هذا إذا قلنا بالأصل المثبت على المسلك الذي سلكناه ، أمّا إذا قيل به من باب تعدّد التنزيل وأنّ التنزيل في الملزوم يستلزم تنزيلا آخر في لوازمه العقليّة والعاديّة فيرتّب آثار تلك الوسائط بتنزيل موضوعاتها المتّصلة بها فالأصلان كذلك متعارضان ، يعني أصالة الاستصحاب الجارية في الواسطة مع هذا الأصل المستفاد من الأصل في ذي الواسطة.

تنبيهان :

الأوّل : استصحاب الشخص لترتيب آثار الشخص ممّا لا إشكال فيه. وهل يرتّب عليه آثار الكلّي المنطبق على ذلك الشخص من دون استصحاب للكلّي؟ إشكال ، بل الظاهر العدم ؛ فإنّ التعبّد بالشخص وإن كان تعبّدا بالكلّي لكن تعبّد بالكلّي بما هو متشخّص ومتخصّص بخصوصيّة كذا ، فكلّ أثر للكلّي بما هو كذلك ـ الذي هو عبارة أخرى عن أثر الشخص ـ يرتّب ، أمّا الأثر للكلّي بما هو كلّي ولا بشرط فلا ؛ حيث لم يتعبّد بالكلّي بما هو كذلك ، ولا ملازمة بين التعبّد بالشخص والتعبّد بالكلّي بما هو ؛ فإنّه يمكن أن يتعبّد بوجود زيد ولا يتعبّد بوجود الإنسان بل يتعبّد بعدمه.

وكون الكلّي في الخارج عين الفرد لا يقتضي أن يكون التعبّد بالفرد عين التعبّد بالكلّي ، إلّا على النحو الذي ذكرناه ، أعني يكون التعبّد بالفرد عين التعبّد بالكلّي المحدود والمشخّص ، فكلّ ما له محدود من الأثر يرتّب دون ما له مطلقا.

ثمّ لو سلّمنا ترتّب آثار الكلّي باستصحاب الفرد فإنّما ذلك في الكلّي المنتزع من مقام الذات والذاتيّات ، وأمّا المنتزع من مقام العرض والعرضيّات كعنوان «زوج» و «عالم» فلا يرتّب قطعا ما لم يستصحب الذات على ما كان عليه من الصفة ، فيستصحب زيد الزوج

٢٠٤

والعالم لترتيب آثار الزوجيّة والعالميّة.

توضيح ذلك : أنّ الشكّ تارة يكون في كلّ من الذات والعنوان ، فيشكّ في وجود زيد ثمّ على تقدير الوجود في زوجيّته وعالميّته ، وأخرى لا يكون شكّ في العنوان على تقدير بقاء الذات بأن علم أنّه لو كان الذات فهو زوج وعالم ، ويكون الشكّ فيه لأجل الشكّ في بقاء الذات.

وعلى الأوّل تارة يكون العنوان مسبوقا باليقين كالذات ويكون قد تمّ فيه أركان الاستصحاب ، وأخرى لا يكون.

لا إشكال في عدم ثبوت أحكام العنوان باستصحاب الذات في جميع الأقسام من غير فرق بين المنتزع من مبدأ انتزاعي كالزوجيّة والحرّيّة ، والمنتزع من مبدأ خارجي منضمّ إلى الذات كالعالميّة والأبيضيّة ، غاية الأمر إن كان تمّ أركان الاستصحاب في العنوان استصحب الذات بما هو معنون بالعنوان ورتّب آثار الذات بما هو وبما هو معنون ، وإلّا لم يرتّب إلّا آثار الذات وإن علم بالعنوان على تقدير بقاء الذات.

الثاني : لا ريب في أنّ التكليف من الأمور الاختياريّة ، فكما أنّ للمولى أن يكلّف عبده له ألا يكلّف ، وليس كلّ من التكليف وعدمه ضروريّا. وأيضا للمولى أن يخبر عن كلّ من التكليف وعدم التكليف ، أو ينشئ على طبق كلّ منهما.

إنّما الإشكال في أنّ عدم التكليف أمر مجعول حتّى يجري فيه أو لأجل ترتيبه الاستصحاب ، أو ليس إلّا عدم الجعل؟

وقد ذهب حضرة الأستاذ [إلى] أنّ عدم التكليف في استصحاب البراءة الأصليّة وإن لم يكن حكما مجعولا في الأزل ، ولا ذا حكم ، إلّا أنّه حكم مجعول فيما لا يزال (١).

وفيه : أنّ عدم الفرق بين عدم التكليف فيما زال وبينه فيما لم يزل في المجعوليّة وعدمه أوضح من أن يحتاج إلى البيان ، وهل يعقل الميز بين عدم وعدم مع أنّ عدم معقوليّة الجعل في العدم ممّا لا ينبغي أن يرتاب فيه؟! وهل الأحكام المجعولة التكليفيّة تزيد عددها على خمسة؟ إلّا أن يؤوّل قوله : «لا أريد منك» إلى جعل الإباحة والترخيص ، وقلنا : إنّ الإباحة حكم مجعول.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤١٨.

٢٠٥

هذا مضافا إلى أنّ مجرّد المجعوليّة غير كاف في جريان الاستصحاب ، فإنّ الاستصحاب في الحكم هو جعل المماثل ، فإذا كان عدم التكليف فيما لا يزال حكما مجعولا لم يماثل حينئذ عدم التكليف فيما زال الذي ليس هو حكما مجعولا.

وبالجملة : إثبات المجعوليّة في عدم التكليف ممّا لا يمكن ، ومع ذلك استصحاب البراءة أو الاستصحاب الموضوعي لأجل التكليف ممّا لا مساغ إلى إنكاره ، فيتعيّن نفي اعتبار أن يكون المستصحب أو ما بلحاظه الاستصحاب أمرا مجعولا ، بل كفى أن يكون أمرا بيد الشارع بما هو شارع نفيا وإثباتا. وقد عرفت أنّ للشارع ألا يكلّف ابتداء أو يرفع تكليفه بعد أن كلّف كما أنّ له ألا يكلّف ، بل قد عرفت أنّ التكليف أيضا ليس أمرا مجعولا ، بل إرادة حاصلة في نفس المولى غير متولّد عنوانه من الإنشاء.

[التنبيه] السابع :

لا ينبغي الإشكال في أنّ العلم بانتقاض الحالة السابقة يسدّ باب الاستصحاب بالنسبة إلى مقدار الشكّ ، فإذا علم بالحادث وشكّ في زمان حدوثه استصحب عدمه إلى زمان اليقين بوجوده ، ويرتّب على ذلك آثار عدمه في ذلك الزمان دون حدوثه بعده أو تأخّره أو عدم تقدّمه.

وبالجملة : كلّ عنوان خارج عن عنوان عدم الحدوث في زمان الشكّ ، لكنّ العدم المستصحب ليس هو عدم حدوث هذا الحادث يعني كون هذا الحادث متّصفا بعدم الحدوث في زمان الشكّ الذي هو مفاد ليس الناقصة ، يعني إذا كان الأثر لاتّصاف هذا الحادث الخارجي بعدم الحدوث في زمان الشكّ على سبيل معدولة المحمول لم يجر الاستصحاب ؛ لعدم اليقين بهذه الحالة في زمان حتّى يستصحب ، بل المستصحب هو السلب التامّ وعدم حدوث المتيقّن في زمان الشكّ ، فإن كان لهذا العدم أثر رتّب وإلّا لم يجر الاستصحاب. هذا إذا قيس إلى الزمان.

وهكذا الحال إذا قيس إلى حادث آخر معلوم التأريخ ، فيحكم بعدم حدوث المجهول عند ذلك المعلوم التأريخ ، ولا يحكم بعدم هذا الحادث عنده ولا بتأخّره عنه أو عدم تقدّمه عليه أو عدم تقارنه إلّا على سبيل السلب التامّ ؛ فيقال : الوجود المتقدّم أو المتقارن أو

٢٠٦

المتأخّر لم يكن حين لم يكن أصل الوجود ، فكذا الآن ، بشرط ألا يعارضه الأصل في جانبه بعنوان آخر أو جانب الآخر المعلوم التأريخ ؛ فإذا هذا الأصل يجري في جانب معلوم التأريخ مع ترتّب الأثر عليه.

وهكذا الكلام في مجهولي التأريخ إذا لم يكن لنظيره من المجهول الآخر أثر حتّى يعارض أصله بأصله.

ودعوى أنّ الأركان في مجهولي التأريخ غير تامّ ؛ إذ من جملة الأركان المتوقّف عليه صدق النقض اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، ولا اتّصال هنا من جهة أنّ المشكوك الذي يراد ـ بالأصل ـ الحكم بعدمه هو حدوث أحدهما في زمان الآخر ، وزمان الآخر مجهول مردّد بين متّصل بزمان اليقين ومنفصل ، فبالنتيجة يكون زمان هذا مجهولا مردّدا بين متّصل ومنفصل ، ومع ذلك كيف يستصحب عدمه؟!

مدفوعة أوّلا : بأنّ زمان الآخر حيث كان مجهولا مردّدا بين متّصل ومنفصل كان كلّ هذا الزمان المتردّد فيه ظرفا للشكّ في وجود هذا ، والمفروض أنّ الكلّ متّصل بزمان اليقين ، فيحكم بعدمه في كلّ هذا الزمان.

وثانيا : أنّ المستصحب إذا لم يكن له أثر في قطعة من قطعات شكّه المتّصلة بزمان اليقين لم يمنع ذلك من استصحابه في القطعة الاخرى المنفصلة ، فيحكم ببقائه مستمرّا إلى زمان الشكّ المنفصل ، والوجه فيه أنّ رفع اليد عن اليقين في القطعة المنفصلة يعدّ نقضا لليقين بالشكّ ، ويشمله خطاب «لا تنقض» فكذلك في المقام ، فالقطعة وإن كانت منفصلة يحكم فيها بالبقاء مستمرّا من القطعة المتّصلة إليها.

ومن ذلك ظهر جريان استصحاب كلّ من الطهارة والحدث في زمان الشكّ فيما إذا علم بعروضهما مترتّبين ولم يعلم السابق منهما من اللاحق ؛ فإنّ اليقين بكلّ منهما حاصل ، وأيضا الشكّ حاصل في بقائه بعد وجوده متّصلا إلى هذا الزمان الذي يشكّ في بقائه ، فيحكم ببقائه لو لا المعارضة باستصحاب الآخر. وليس يقصد من استصحاب كلّ منهما الحكم باستمراره من الساعة المتّصلة بزمان الشكّ حتّى يقال : لا يقين بأحدهما معيّنا في الساعة المتّصلة ليستصحب ، بل يستصحب كلّا منهما من الساعة الواقعيّة التي هو فيها مستمرّا إلى زمان الشكّ ؛ فإنّه يحتمل في كلّ منهما هذا الاستمرار وإن قطع بخلافه في واحد منهما على سبيل

٢٠٧

الإجمال ، فإنّ موارد العلم الإجمالي أبدا كذلك.

[التنبيه] الثامن :

إذا شكّ في بقاء صفة النبوّة في النبيّ فإذا كانت هذه الصفة قابلة للارتفاع استصحبت إن كان لوجودها الواقعي أثر بلا دخل اليقين بها ، لكن بشرط قيام الدليل على الاستصحاب إمّا لبناء العقلاء على ذلك أو لدلالة الدليل التعبّدي من الشخص اللاحق المحتمل نبوّته.

وهكذا الكلام إذا شكّ في بقاء الرسالة بمعنى كونه مأمورا بالبعث فعلا بعد ما كان مأمورا به سابقا. هذا بالنسبة إلى من كان من أمّته أوّلا ثمّ شكّ ، أمّا من لم يتيقّن في زمان كونه من الأمّة بأن تولّد وبلغ في عصر ظهور الشخص اللاحق فلا محلّ للاستصحاب في حقّه ؛ لأنّ ذلك من إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر كما تقدّم في استصحاب عدم النسخ.

نعم ، يجري الاستصحاب بناء على جريانه في القسم الثالث من الكلّي ، فيقال : كان جنس الرسالة موجودا ولو في ضمن شخص منه ، وهو الرسالة بالنسبة إلى جماعة انقرضوا ، وقد شكّ في بقاء هذا الجنس في ضمن الرسالة إلى جماعة أخرى حدثوا فيستصحب بقاء هذا الجنس ، لكن لا يثبت به الشخص وكون الرسول رسولا بالنسبة إلى الجماعة اللاحقة ، فإن كان لمطلق بقاء الجنس أثر رتّب ، وإلّا فلا استصحاب.

وبالجملة : لا استصحاب فيما إذا كان المطلوب هو اليقين وكان الأثر مترتّبا على صفة العلم. ولا استصحاب أيضا فيما إذا كان المتيقّن ثبوت الصفتين بالنسبة إلى جماعة والمشكوك ثبوتهما بالنسبة إلى جماعة أخرى ، إلّا على المبنى الذي ذكرناه.

ولا استصحاب أيضا فيما إذا لم يقم الدليل في الشريعة اللاحقة أو في مجموع الشريعتين على الاستصحاب. ولو كان الدليل هو بناء العقلاء الكاشف عن إمضاء الشريعتين فيكون مورد جريان الاستصحاب ما إذا كان الأثر مترتّبا على واقع الصفتين بلا دخل اليقين ، وأريد استصحابهما بالنسبة إلى من حصل اليقين بحصولهما في حقّه بكونه من أمّة النبيّ السابق ، وقام الدليل على الاستصحاب من الشريعة اللاحقة.

أمّا إذا انتفى أحد الأمور المذكورة مع العلم إجمالا بحقّيّة إحدى الشريعتين فلا يكون مكلّفا بالاعتقاد التفصيلي قطعا لتعذّره. وأمّا الإتيان بوظائف الشريعتين من باب العلم

٢٠٨

الإجمالي بتوجّه إحدى الطائفتين من التكاليف بل الإتيان بالوظيفة المشتركة بينهما فمبنيّ على ألا يكون الاعتقاد التفصيلي بإحدى الشريعتين شرطا في صحّة العمل ، وإلّا لم يمكن الاحتياط كما لا يمكن الاحتياط في العبادات مع اعتبار قصد الوجه التفصيلي.

ومن ذلك يظهر الجواب عن استصحاب الكتابي إذا أراد الإقناع ، ونزيد على ذلك بعدم الشكّ لنا إذا أراد الإلزام.

[التنبيه] التاسع :

لا إشكال في عدم الرجوع إلى الأصل مع وجود دليل اجتهادي ، وقد وقع اشتباه صغروي فيما إذا كان عامّ وخاصّ مقصور مفاده ببعض أزمنة شمول العامّ غير متعرّض لبقائه في باقي أزمنة شمولاه نفيا وإثباتا في أنّه هل يرجع في حكمه إلى العامّ ، أو أنّ المقام ممّا خلا عن الدليل الاجتهادي ، ويكون المرجع استصحاب حكم المخصّص؟ فهنا مقامان :

الأوّل : في الرجوع إلى العامّ وعدمه.

الثاني : في الرجوع إلى استصحاب المخصّص وعدمه.

أمّا المقام الأوّل فتوضيح الحال فيه : أنّ العامّ يكون على أقسام أربعة ؛ فإنّ قطعات الأزمنة إمّا أن تكون قيدا دخيلا في موضوع الحكم ومكثّرا لأفراد العامّ ، فيكون للعامّ أفراد عرضيّة وأفراد طوليّة هي تلك الأفراد العرضيّة بعينها ملاحظا إيّاها مع كلّ قطعة قطعة من قطعات الزمان ، وإمّا أن يكون ظرفا لها فلا يكون للعامّ إلّا سنخ واحد من الأفراد ، وهو الأفراد العرضيّة فقط ، وكلّ منهما ينقسم إلى قسمين ، فهذه أربعة أقسام.

فإنّ ما كان الزمان فيه قيدا مكثّرا لأفراد العامّ تارة يكون مكثّرا لحكمه أيضا ، بأن يكون العموم استغراقيّا ، وكلّ فرد من الأفراد العامّ المتكثّرة بتكثّر الزمان له حكم مستقلّ ، فيكون بإزاء كلّ فرد من الأفراد العرضيّة أحكام متعدّدة بتعدّد قطعات الأزمنة المتكثّرة لذلك الفرد الواحد ، فبإزاء كلّ قطعة حكم ، وأخرى لا يكون مكثّرا لحكمه ، بل كان هناك حكم واحد متعلّق بمجموع تلك الأفراد من حيث المجموع.

وما كان الزمان فيه ظرفا تارة يكون ظرفا محضا لم تكن فيه شائبة القيديّة كما في مثل : أكرم العلماء ؛ فإنّ الإكرام من جهة أنّه لا بدّ أن يقع في زمان يحتاج إلى الزمان بلا أخذ الزمان

٢٠٩

دخيلا في الحكم ، بل تمام موضوع الحكم هو نفس الإكرام ، وأخرى تكون له مدخليّة في الجملة كما إذا أخذ إكرام العلماء مقيّدا بكونه في شهر كذا أو سنة كذا موضوعا للحكم ؛ فإنّ الإكرام الواقع فيما عدا ذلك الشهر والسنة يخرج لأجل هذا التقييد عن موضوع الحكم ، وأمّا الإكرام الواقع في كلّ جزء من أجزاء ذلك الشهر أو السنة فهو مصداق للطبيعة المأمور بها من غير خصوصيّة لقطعة من قطعات ذلك الشهر والسنة في الحكم ، بل طبيعة الإكرام المقيّد بكونه في ذلك الشهر أو السنة موضوع للحكم ، وأيّ فرد من مصاديق هذه الطبيعة حصل فقد تحقّق امتثال الأمر بها وسقط الأمر.

وإذا اتّضحت لك الأقسام الأربعة فنقول : لا إشكال في حكم القسمين الأوّلين ـ أعني قسمي القيديّة ـ وأنّ أحد قسميه ـ وهو ما كان الزمان قيدا مكثّرا للحكم ـ يرجع فيه بعد خروج قطعة منه إلى العموم ؛ لأنّ خروج كلّ قطعة فرد من التخصيص غير خروج القطعة الاخرى ، والمتيقّن من التخصيص خروج القطعة الأولى ، فيرجع فيما عداها إلى أصالة عدم التخصيص.

والقسم الآخر ـ وهو ما كان الزمان قيدا غير مكثّر للحكم ، بل كان الحكم حكما واحدا متوجّها إلى مجموع القطعات ـ لا يرجع فيه إلى العموم ؛ لأنّ الحكم الواحد المتوجّه إلى المجموع ينتقض ويبطل بخروج قطعة كما ينتقض بخروج مجموع القطعات. وبعبارة أخرى : الحكم الواحد المتوجّه إلى المجموع من حيث المجموع يذهب ويزول رأسا بخروج فرد واحد لانهدام الهيئة الاجتماعيّة الدخيلة في الحكم بذلك ، فلا يبقى محلّ لأصالة عدم التخصيص.

وأمّا القسمان الأخيران ـ وهما قسما الظرفيّة ـ فالحقّ أنّ خروج الخاصّ في زمان تقييد لإطلاق فرد من أفراد العامّ إطلاقا ضمنيّا. ومعلوم أنّ الإطلاق يؤخذ به فيما عدا مورد التقييد ، فكما أنّه إذا قال : «أكرم زيدا» ثمّ قيّد إطلاقه الأزماني بقوله : «لا تكرمه يوم الجمعة» أخذ بإطلاق «أكرم» في الحكم بوجوب الإكرام في سائر الأيّام ، كذلك إذا قال : «أكرم العلماء» الشامل بعمومه لزيد ، ثمّ الشامل بإطلاقه الأزماني لوجوب إكرام زيد في أيّ زمان كان ، فإنّه إذا خرج زمان من أزمنة الإطلاق كان ذلك تقييدا للإطلاق لا تخصيصا للعموم ، ويتمسّك في بقيّة الأزمنة بالإطلاق ، ولا يعقل الفرق بين التصريح ـ كما فيما ذكرناه من

٢١٠

المثال ـ وبين الحكم في ضمن العموم في أنّ أصالة الإطلاق محكّمة في ما عدا مورد القيد.

فقد تحصّل أنّ قسما واحدا من الأقسام الأربعة لا يتمسّك فيه بالدليل الاجتهادي ، وهو الذي أخذ الزمان فيه قيدا غير مكثّر للحكم ، بل كان حكم واحد على سبيل العموم المجموعي متوجّها إلى مجموع قطعات الزمان. وبقيّة الأقسام بين ما يتمسّك فيه بأصالة العموم وبين ما يتمسّك بأصالة الإطلاق.

ثمّ اعلم أنّه لا فرق في مورد عدم التمسّك بين أن يخرج بدليل المخصّص من مبدأ الأزمنة أو من منتهاه أو من الوسط ، كما لا فرق في عدم التمسّك بين أن يكون لإثبات الحكم في الزمان المتأخّر عن زمان المخصّص وبين أن يكون لإثباته في الزمان المتقدّم ؛ فإنّه إذا انحلّ الحكم الواحد المتوجّه إلى المجموع من حيث المجموع بخروج واحد من ذلك المجموع لم يبق للأخذ بدليل ذلك الحكم في البقيّة مجال ، واحتاج إثبات الحكم فيما عدا ذلك المجموع إلى دليل آخر ؛ فإنّ مجموع ما عدا الخارج موضوع غير موضوع المجموع بضميمة الخارج.

المقام الثاني : في الرجوع إلى استصحاب حكم المخصّص فيما لا يرجع فيه إلى الدليل الاجتهادي.

فاعلم أنّ جريان الاستصحاب وعدمه يدور مدار كيفيّة أخذ الزمان في دليل المخصّص ، فإن أخذ ظرفا جرى الاستصحاب ، وإن أخذ قيدا لم يجر. ولا نظر في ذلك إلى دليل العامّ ، ولا ملازمة بين أخذ الزمان بنحو في دليل العامّ وبين أخذه بذلك النحو في دليل المخصّص ـ كما يلوح من شيخ مشايخنا المرتضى (١) ـ بل يجتمع كلّ من النحوين في دليل المخصّص مع كلّ من النحوين في دليل العامّ كما هو واضح.

[التنبيه] العاشر :

يعتبر في جريان الاستصحاب بقاء الموضوع. والمراد ببقاء الموضوع تعلّق الشكّ بما تعلّق به اليقين لا بقاء الموضوع في الخارج ـ كما يوهمه ظاهر العبارة ـ والتعبير بالبقاء

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٦٨٠ ـ ٦٨١.

٢١١

باعتبار استمرار الموضوع في النفس من طور اليقين إلى طور الشكّ ، فهو مستمرّ في النفس بتبادل الصفتين من تحت صفة اليقين إلى تحت صفة الشكّ.

فإذا حصل الشكّ في حياة زيد بعد اليقين بحياته استصحبت حياته ، وإذا حصل الشكّ في بياض زيد أو سواد لحيته أو سائر عوارضه مع الشكّ في حياته استصحبت تلك العوارض بلا حاجة إلى إحراز حياته إذا كان تمام الموضوع للأثر وجود تلك العوارض ؛ فإنّ التعبّد بوجود العرض الذي هو في معنى توجّه أحكام ذلك العرض لا يتوقّف على وجود موضوع العرض في الخارج ؛ فإنّ العرض بوجوده التكويني لا يكون إلّا في موضوع لا بوجوده التعبّدي.

نعم ، نفس التعبّد يحتاج إلى الموضوع ، لكن موضوعه هو المكلّف والفعل المكلّف به.

ثمّ لا فرق في جريان الاستصحاب في العوارض بين استصحابه في نفس العوارض بوجوداتها المحموليّة التي هي مفاد كان التامّة وبين استصحابه في النسبة وفي اتّصاف الذات بتلك العوارض ، فكما صحّ أن يقال : بياض زيد كان والآن كما كان صحّ أن يقال : زيد كان أبيضا والآن كما كان مع عدم إحراز وجود زيد في كلا الموردين ؛ فإنّ موضوع الاستصحاب هو النسبة لا وجود زيد ، والنسبة باقية ، يعني تلك النسبة التي كانت متيقّنة هي التي صارت مشكوكة فتستصحب.

لا يقال : إذا لم يحرز وجود زيد كيف يحكم عليه بالاتّصاف بالصفة التي كانت متيقّنة.

فإنّه يقال : معنى الحكم بالاتّصاف هو التعبّد بأحكام الاتّصاف لا ثبوت واقع الاتّصاف ، حسب ما عرفت في التعبّد بوجود الصفة.

إن قلت : فرق بين المقامين ؛ فإنّ المحكوم بأحكام الاتّصاف ـ الذي هو عبارة أخرى عن الوجود التعبّدي للاتّصاف ـ موضوعه هنا هو وجود زيد ، فلا يعقل مع عدم إحراز وجوده ، قلت : نعم ، موضوعه وجود زيد ويحكم عند الشكّ في وجوده بأنّ وجود زيد كان متّصفا بالبياض ، فهو باق على اتّصافه ، والتعبّد بالاتّصاف موضوعه هو الاتّصاف لا وجود زيد الخارجي ، فكما يقال ـ عند الشكّ في حياته ـ : إنّ زيدا كان حيّا فهو إلى الآن حيّ ، كذلك يقال ـ عند الشكّ في بياضه ـ : زيدا كان أبيض فهو إلى الآن باق على البياض.

وبالجملة : استصحاب حياة زيد واستصحاب عوارضه على سبيل الثبوت المحمولي

٢١٢

واستصحاب عوارضه على سبيل الثبوت الربطي كلّها جارية عند الشكّ في حياته.

نعم ، لا يرتّب باستصحاب الاتّصاف إلّا آثار اتّصاف شخص زيد لا اتّصاف الشخص الخارجي الذي لو كان زيد حيّا كان هو ذلك الشخص ، فما لم يحرز أنّ هذا الشخص المشار إليه في الخارج كان متّصفا لم يجر استصحاب اتّصافه ولم تترتّب آثار اتّصافه.

ثمّ الدليل على اعتبار بقاء الموضوع ـ بالمعنى الذي ذكرناه في الاستصحاب ـ هو توقّف صدق مادّة النقض. عليه ، فلولاه لم يكن الالتزام بأحكام المتيقّن إبقاء ولا رفع اليد عن أحكامه نقضا.

والاستدلال على ذلك بالدليل العقلي ـ أعني لزوم قيام العرض بلا موضوع لو لا بقاء الموضوع أو انتقاله إلى موضوع آخر ـ من الغرابة بمكان.

ومن ذلك يظهر أنّ المناط بقاء الموضوع بحسب نظر العرف لا الموضوع العقلي أو الموضوع في لسان الدليل الدالّ على الحالة السابقة ؛ وذلك لأنّ مدلول النقض كسائر مداليل الخطابات الموجّهة يرجع في تحديده إلى العرف ، والنقض العرفي كالبقاء العرفي يدور مدار ما يحسبه العرف موضوعا بحسب مناسبات الأحكام ، فيرى الموضوع للطهارة ولجواز النظر بدن المسلم والزوجة ، فإذا ماتا صدق ارتفاع الحكم الأوّل وبقاء الحكم الثاني ، وإن كان الموضوع في لسان الدليل عنوان المسلم والزوجة ، وهما متقوّمان بالنفس الناطقة وقد زالت.

لكن لو تمّ ذلك لزم الجري على هذه المسامحة حتّى مع القطع بمدخليّة الخصوصيّة المرتفعة ، والظاهر أنّهم لا يلتزمون بذلك.

ويمكن أن يقال : إنّ العبرة بالموضوع في لسان الدليل ؛ فإنّ الحكم يكون متقوّما بالموضوع في الخطاب ، ويكون بقاؤه وارتفاعه بحسب هذا الموضوع ، والعرف ليس له التصرّف في ذلك بوجه.

وأمّا حكمه بأنّ الموضوع في الواقع أوسع من الموضوع في لسان الدليل حيث يقوم الدليل على ثبوت الحكم بعد تبدّل بعض الخصوصيّات ، فذلك لأجل استكشافه من ذلك الدليل عدم دخل تلك الخصوصيّة ، ولذا كان الحكم ثابتا بعد ارتفاعها ، فتأمّل.

٢١٣

[التنبيه] الحادي عشر :

إذا سرى الشكّ إلى المتيقّن بأن تبدّل اليقين السابق بالشكّ فهل يعامل معاملة اليقين وعدم تبدّله بالشكّ ، وهو المسمّى بقاعدة اليقين ـ إمّا استفادة لها من أخبار الاستصحاب أو استفادة لها من غيرها من الأدلّة ـ أو يرجع إلى سائر الأصول والقواعد؟ فيه إشكال.

والكلام يقع في مقامات خمسة :

الأوّل : في إمكان الجمع بين القاعدتين في الإرادة من أخبار الاستصحاب.

الثاني : في لزوم المعارضة من إرادتهما معا من أخبار الاستصحاب أو استفادتها من سائر الأخبار وعدمها.

الثالث : أنّه في مقام الإثبات هل يتعيّن حمل الأخبار على إرادتهما معا بعد عدم المانع ذاتا ولا عرضا بسبب المعارضة من إرادتهما وعدمه؟

الرابع : في تعيين ظهور أخبار الاستصحاب في إحدى القاعدتين أو كلتيهما.

الخامس : في مفاد أخبار قاعدة التجاوز ، وأنّها هل تقتضي اعتبار القاعدة ولو بعنوان آخر غير عنوان الأخذ باليقين ، أو أنّ مقتضاها قاعدة أخرى تجتمع موردا مع قاعدة اليقين؟

أمّا الكلام في المقام الأوّل فنقول :

قد يتوهّم عدم إمكان إرادة القاعدتين من أخبار الاستصحاب لمكان لحاظ الزمان قيدا في متعلّق اليقين في قاعدة اليقين كدخله في متعلّقه واقعا ، فيكون الشكّ متعلّقا بذلك الذي تعلّق به اليقين دقّة ، وعدم لحاظه بل إلغاؤه عن متعلّقه ذات ما هو المتيقّن لا هو بقيد الحدوث في قاعدة الاستصحاب. ولا يمكن الجمع بين اللحاظ وعدم اللحاظ في عبارة واحدة ، وليس اليقين بشيء مقيّدا بكونه في الزمان الأوّل واليقين به لا بلحاظ هذا القيد فردان من اليقين بذلك الشيء ليشملهما إطلاق «لا تنقض اليقين» ، بل يقين واحد لوحظ تارة مقيّدا وأخرى غير مقيّد وفي كلّ من اللحاظين تستفاد قاعدة غير ما يستفاد في اللحاظ الآخر.

ويدفعه : أنّ لحاظ الزمان قيدا في اليقين وإن كان يوجب قصر العبارة بقاعدة اليقين ، لكنّ إلغاءه عن القيديّة وأخذه لا بشرط عن الزمان يوجب عموم العبارة وشمولها لقاعدة اليقين

٢١٤

والاستصحاب جميعا ؛ فإنّ اليقين بشيء والشكّ فيه الذي هو موضوع حكم «لا تنقض» في الرواية يشمل اليقين بحدوث شيء ، ثمّ الشكّ في حدوثه كما يشمل اليقين بحدوثه والشكّ في استمراره ؛ فإنّ كليهما يقين بذلك الشيء وشكّ في ذلك الشيء ، بل شمولها لليقين بالحدوث والشكّ في الحدوث أوضح وأجلى من شمولها لليقين بذلك الشيء حدوثا والشكّ فيه استمرارا.

والحاصل : شمول العبارة للاستصحاب يتوقّف على عدم لحاظ قيد الحدوث في متعلّق اليقين والشكّ ، بل جعل متعلّقهما ذات الشيء المتعلّق في مورد الاستصحاب بحدوثه اليقين وباستمراره الشكّ ، واللابشرط يجتمع مع ألف شرط ، فيشمل اليقين والشكّ المتعلّقين بالحدوث ؛ فإنّه يقين وشكّ بذلك الشيء كما يشمل اليقين والشكّ المتعلّقين بذلك الشيء لكن جميعا بحسب الحدوث.

وأمّا الكلام في المقام الثاني ، فالحقّ ثبوت المعارضة غالبا من اعتبار القاعدتين جميعا إمّا استفادة من أخبار الاستصحاب أو لمدرك مستقلّ ؛ فإنّ اليقين في مورد الشكّ الساري مسبوق غالبا بيقين آخر على الخلاف قبل ذلك ، فإذا تيقّنا بالطهارة في الساعة الأولى من النهار ثمّ شككنا في ثبوت الطهارة في تلك الساعة فكما يحكم بمقتضى قاعدة اليقين بثبوت الطهارة في تلك الساعة كذلك يحكم باستصحاب الحدث ممّا قبل تلك الساعة بثبوت الحدث فى تلك الساعة ، فتسقط القاعدة عن الاعتبار بالمعارضة مع الاستصحاب ، كما لا يسقط ما بإزائها من الاستصحاب أيضا بالمعارضة على تقدير شمول العبارة لهما. بخلاف ما إذا قلنا بعدم شمول العبارة ذاتا للقاعدة ، فإنّ الاستصحاب المذكور يكون جاريا بلا مزاحم.

ودعوى عدم المعارضة بين القاعدة والاستصحاب بل حكومة القاعدة على الاستصحاب ؛ لأنّ التعبّد في القاعدة تعبّد بغاية الاستصحاب ، وهو اليقين بخلاف الحالة السابقة ، فإنّ اليقين بالحدث في المثال قد انتقض باليقين بالطهارة ، وقد حصل التعبّد باليقين بالطهارة في القاعدة بعد زواله وتبدّله بالشكّ ، مدفوعة بأنّ غاية القاعدة أيضا هو اليقين بالخلاف ، وقد حصل التعبّد في الاستصحاب بغايته ، وهو اليقين بالحدث كما لو تبدّل اليقين بالطهارة باليقين بالحدث.

٢١٥

وأمّا الكلام في المقام الثالث فقد اتّضح من بعض ما تقدّم ؛ فإنّ العبارة بعد عدم إرادة خصوص القاعدة منها ـ ولو بقرينة موارد الأخبار التي هي الاستصحاب ـ مطلقة شاملة لكلّ من القاعدة والاستصحاب ؛ فإنّ إرادة الاستصحاب تتوقّف على عدم لحاظ الزمان وقيد الحدوث دخيلا في متعلّق اليقين ، فإذا ألغي الزمان عن الدخالة شملت العبارة كلّا من القاعدة والاستصحاب ، واحتاج تخصيصها بخصوص الاستصحاب إلى قرينة.

فليس إرادة خصوص الاستصحاب في عرض إرادتهما جميعا حتّى يقال بعدم القرينة على تعيين الثاني بعد قيام الصارف على عدم إرادة خصوص القاعدة التي هي ظاهر العبارة لمكان كلمة «النقض» بل يتردّد الأمر بين إرادتهما جميعا وبين إرادة خصوص الاستصحاب ، وليس الأوّل أقرب المجازات بالنسبة إلى الثاني حتّى يتعيّن ، فلذلك يحصل الإجمال ، ولا تكون العبارة حجّة على أزيد من الاستصحاب.

لكنّ هذا على تقدير ظهور العبارة لأجل كلمة «النقض» في القاعدة ، والحقّ أنّها ظاهرة في الاستصحاب ؛ فإنّ الموضوع في حكم «لا تنقض» هو اليقين ، وهو ظاهر في اليقين الفعلي ، ولا يقين فعلي إلّا في مورد الاستصحاب ، وظهور اليقين في اليقين الفعلي أقوى من ظهور لفظ «النقض» في النقض بالدقّة المقصور بمورد القاعدة فيرفع اليد به عنه.

ومن هنا ظهر الكلام في المقام الرابع.

فتحصّل ممّا ذكرنا كلّه عدم دلالة الأخبار إلّا على حجّيّة الاستصحاب ، والجمع بينه وبين القاعدة بحسب الإمكان وإن كان ممكنا ، لكن مجرّد ذلك لا يجدي بالنسبة إلى مقام الفعليّة والإثبات. مضافا إلى حصول المعارضة على تقدير الشمول لهما فتسقط القاعدة بالنتيجة عن حيّز الانتفاع.

ومنه يظهر الجواب عن الاستدلال على القاعدة ببعض ما تقدّم من الأخبار التي وقع الاستدلال به للاستصحاب ، وهو ظاهر في القاعدة ، وهو رواية الخصال عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه ؛ فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين» (١).

__________________

(١) الخصال : ٦١٩ ؛ وسائل الشيعة ١ : ٢٤٦ أبواب نواقض الوضوء ، ب ١ ، ح ٦.

٢١٦

فإنّ ظهوره في القاعدة ممّا لا ينكر ، وحمله على الاستصحاب ليوافق الأخبار الواردة في الاستصحاب ممّا لا داعي إليه ، والقاعدة تقتضي جعل كلّ منهما حجّة في مدلوله ، والحكم اعتبار الاستصحاب والقاعدة جميعا لو لا حصول المعارضة التي سمعت ، مضافا إلى الخدشة في سند الرواية ، ومعهما كيف يصحّ الاستناد إليها سيّما في إثبات قاعدة كلّيّة؟!

وأمّا الكلام في المقام الخامس ـ أعني الاستناد في اعتبار القاعدة على مدرك آخر غير أخبار الاستصحاب ـ فنقول : ما يتوهّم جواز الاستناد إليه من الأخبار هي أخبار قاعدة التجاوز ، وهي لو سلّم شمولها للأعمال المستقلّة دون أجزاء عمل واحد ـ ولازمه إذا عمّمنا المحلّ للمحلّ العادي أن يحكم بوقوع الصلاة ممّن اعتاد الصلاة في أوّل وقتها إذا شكّ في أنّه صلّى أو لا ـ ليس الحكم فيها إلّا بملاك التجاوز عن محلّ الفعل المشكوك ـ سواء كان متيقّنا به في زمان أو لم يكن ـ كمن غفل عن حاله وصلّى ، فإنّه يحكم بأنّه كان متطهّرا.

هذا مضافا إلى أنّه لا يعمّ مفاد الأخبار لليقين بالعدالة والاجتهاد ، وهكذا باقي الموضوعات إذا شكّ فيها ؛ إذ ليس لها محلّ يحصل التجاوز. وكذا الشكّ في الحكم بعد اليقين به ، فمفاد أخبار قاعدة التجاوز يكون أعمّ من وجه من قاعدة اليقين ، وأخصّ من وجه آخر.

[التنبيه] الثاني عشر :

لا إشكال في تقديم الأمارات على الأصول ، ومنه الاستصحاب.

والبحث في كيفيّة التقديم فقط علمي ، وهو أنّ تقديم دليل اعتبار الأمارة على دليل اعتبار الأصل هل هو على سبيل الورود أو على وجه الحكومة أو من باب التخصيص؟

أمّا بيان الورود فهو أنّ دليل الاستصحاب إنّما ينهى عن نقض اليقين بالشكّ ، وليس الأخذ بالأمارة في مورد الاستصحاب نقضا لليقين بالشكّ ، بل باليقين بالحجّة ، فالأخذ بدليل الأمارة يخرج المورد عن موضوع الاستصحاب بخلاف الأخذ بالاستصحاب ؛ فإنّه وظيفة للشاكّ لا أنّه يرتفع به الشكّ ، فموضوع الأمارة باق مع إجراء الاستصحاب بخلاف موضوع الاستصحاب ، فإنّه غير باق مع الأخذ بالأمارة.

وكلّما دار الأمر بين دليلين لا يبقى مع أحدهما موضوع الآخر دون العكس وجب الأخذ بالذي لا يبقى معه موضوع الآخر. وفي الحقيقة لا يكون بينهما معارضة ؛ إذ بشمول عمومه

٢١٧

للمورد يقصر لسان الآخر عن الشمول ، والمعارضة فرع شمول كلّ من الدليلين في عرض شمول الآخر. ولا وجه لترك الأخذ بعموم دليله ، فإنّ عمومه حجّة ولا مخصّص له ؛ إذ الفرض أنّ دليل الآخر يقصر مع عموم هذا ، والتخصيص فرع بقاء لسان المخصّص في عرض لسان العامّ.

ثمّ إنّ قصر المذكور إن كان حقيقيّا يسمّى بالورود ، وإن كان حكميّا وتنزيليّا بإخراج موضوعه عن كونه موضوعا له حكما وتعبّدا وتنزيلا سمّي بالحكومة. ولذا صحّ التشبّث بهذا الوجه لكلّ من القائلين بالورود والحكومة.

مضافا إلى أنّه يمكن تقريب الحكومة بأنّ لسان دليل الأمارة إمّا تنزيل الظنّ منزلة اليقين وإمّا تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، وأيّ منهما كان كان مفاده نفي الشكّ وجلاء الواقع عند قيام الأمارة ، وهذا عينا نفي موضوع الأصل الذي هو الشكّ.

والحكومة لا تنحصر بأن يكون أحد الدليلين شارحا مفسّرا للدليل الآخر بحيث كان متضمّنا لمعنى «أعني» و «أي» أو مشتملا للفظه حتّى يصير دليل الحاكم لغوا لو لا دليل المحكوم ، بل نفي أحد الدليلين موضوع دليل الآخر تنزيلا وتعبّدا ـ ولو لم يكن ناظرا بالخصوص إلى دليل الآخر ، بل وملتفتا إلى أنّ على الآخر دليلا ، بل كان التنزيل بلحاظ نفي الأحكام المترتّبة على ذلك الموضوع واقعا ـ حكومة ، وإن لم تسمّه بالحكومة فلا مشاحة في الاصطلاح ؛ فإنّه كالحكومة في أنّ العرف لا يرى بين هذا النحو من الدليلين معارضة.

وأمّا تقريب المعارضة وتخصيص دليل الأصل بدليل الأمارة فهو أنّ النسبة بين الدليلين وإن كانت هي العموم من وجه ـ فإنّ الأمارة القائمة في مورد العلم الإجمالي ومورد دوران الأمر بين المحذورين هي مادّة افتراق شمول دليل اعتبار الأمارة عن دليل اعتبار الأصل ، ومادّة الاجتماع وأيضا مادّة افتراق دليل الأصل عن دليل الأمارة واضح ـ لكنّ تخصيص دليل الأمارة بدليل الأصل يوجب تخصيص الأكثر ؛ إذ لا يبقى تحت دليلها إلّا ما هو نادر جدّا بخلاف العكس ، فيتعيّن العكس مضافا إلى الإجماع على عدم الفرق في اعتبار الأمارة بين مورد الاستصحاب وغيره.

لكنّ البحث في المقام بعد الإغماض عن الإجماع ، وإلّا فالإجماع من أوّل الأمر منعقد على تقديم الأمارات على الأصول بلا حاجة إلى ملاحظة النسبة بين دليلي اعتبارهما.

٢١٨

والحقّ بطلان الورود ، أمّا أوّلا ؛ فلأنّ دليل الاستصحاب وإن كان مغيّا باليقين بالخلاف لكنّ الظاهر أنّ متعلّق اليقين فيه هو اليقين بالحكم الواقعي كما أنّ متعلّق الشكّ فيه هو الشكّ في الحكم الواقعي ، فاليقين بالحجّة لا يكون غاية له حتّى يكون دليل الأمارة محصّلا لغايته رافعا لموضوعه حقيقة.

وأمّا ثانيا ؛ فلأنّ دليل الأمارة أيضا موضوعها الشكّ وعدم قيام حجّة على الواقع وإن لم يقع التصريح بذلك فيه ؛ للقطع بأنّه لا تعتبر الأمارة مع اليقين بالواقع أو مع اليقين بالحجّة ، فكلّ من الدليلين لو أخذ كانت غاية الاخرى حاصلة به ، وهذا معنى المعارضة ؛ إذ لا وجه لتقديم ملاحظة أحد الدليلين ، والحكم بارتفاع موضوع الآخر.

وأمّا الحكومة فإن كان دليل اعتبار الأمارة بلسان تنزيل الظنّ منزلة اليقين ـ وبعبارة أخرى تتميم الكشف ـ أو كان بلسان تنزيل المؤدّى منزلة الواقع كما في «ما يقوله عنّي فعنّي يقول» (١) فهي صحيحة ، وأمّا إذا كان بلسان جعل الأمارة تعبّدا وإن كان بمناط أنّها كاشفة عن الواقع كما في مفاد آية النبأ (٢) والنفر (٣) فهي باطلة ، ولم تكن المعارضة.

فالعمدة ملاحظة لسان أدلّة اعتبار الأمارات في كلّ مورد مورد ، ولا وجه للحكم بتقديم الأمارات على الأصول بقول مطلق. فالعبرة في رفع المعارضة بكيفيّة التعبير ، فربما يكون في دليل الأصل كما في دليل الاستصحاب حيث إنّه بلسان ثبوت اليقين ، وربما يكون في دليل الأمارة ، وربما لا يكون في شيء منهما ، ففي الأخير يحصل التعارض ، وفي البقيّة يقدّم ما لسانه تنزيل الشكّ أو الظنّ منزلة القطع ، أو تنزيل المؤدّى منزلة الواقع.

ومنه يظهر أنّ دليل الأصل ربما يكون حاكما على دليل الأمارة ، وذلك كما إذا كان لسانه تنزيل الشكّ منزلة القطع ، وكان لسان دليل الأمارة مجرّد التعبّد بها بلا تتميم للكشف أو تنزيل للمؤدّى ، وإن كانت حكمة التعبّد هو كشفها عن الواقع كي تكون أمارة لا أصلا.

هذا كلّه حكم تقديم الأمارات على الأصول ، وأمّا تقديم الأصول بعضها على بعض

__________________

(١) الكافي ١ : ٢٦٥ / ١ ؛ الغيبة للطوسي : ١٤٦ ؛ وسائل الشيعة ٢٧ : ١٣٨ أبواب صفات القاضي ، ب ١١ ، ح ٤. وفي المصادر : «ما قال لك عنّي فعنّي يقول».

(٢) الحجرات (٤٩) : ٦.

(٣) التوبة (٩) : ١٢٢.

٢١٩

فقد قيل : إنّ الاستصحاب مقدّم على باقي الأصول عقليّة كانت أو نقليّة. أمّا العقليّة فواضح ؛ إذ لا مسرح للعقل بعد ورود الدليل الشرعي ولو كان أصلا ، فالاستصحاب وارد وبيان رافع لموضوع الأصول العقليّة. وأمّا النقليّة كدليل «كلّ شيء حلال» (١) مع دليل الاستصحاب المغيّا كلّ منهما بالعلم بالخلاف ، فيشكل تقديم أحدهما على الآخر بأنّ الغاية في كلّ منهما إمّا اليقين بالخلاف الواقعي أو اليقين بالخلاف ولو كان حكما ظاهريّا ، وعلى كلّ حال يحصل التعارض فيما إذا اقتضى الاستصحاب حرمة شيء وأصالة البراءة حلّيّته.

أمّا على الأوّل ؛ فلعدم حصول غاية كلّ منهما في مورد الشكّ ـ لعدم العلم بالواقع ـ فكلّ منهما يشمل ، فيحصل التعارض.

وأمّا على الثاني ؛ فلأنّ كلّا منهما لو قدّم صلح أن يكون غاية للآخر ، وحصل اليقين بالحكم الظاهري بالخلاف ، لكنّ تقديم أحدهما ترجيح بلا مرجّح ، فيتساقطان.

وأمّا جعل الغاية في الاستصحاب خصوص اليقين بالحكم الواقعي ، وفي أصالة البراءة اليقين بالحرمة ـ واقعيّة كانت أو ظاهريّة ـ حتّى يكون دليل الاستصحاب واردا على دليل البراءة موجبا لحصول غايته من غير عكس ، فذلك ممّا لا وجه له.

ولعلّ من يقدّم دليل الاستصحاب ينظر إلى أنّ دليل الاستصحاب لسانه لسان عدم نقض اليقين وطرد الشكّ ، ولسان دليل البراءة جعل الوظيفة للشكّ ، ومن المعلوم أنّه لا مزاحمة بين اللسانين ، وأنّ الأوّل حاكم على الثاني ناف لموضوعه ، وهو حسن لو صحّ هذا اللسان في دليل الاستصحاب ، لكنّ التعبير بعدم نقض اليقين بالشكّ ليس معناه بقاء اليقين وجعل الحكم بلسان أنّك متيقّن غير شاكّ فعلا ، بل معناه الجري فعلا على وفق اليقين السابق ، والأخذ بالاحتمال المطابق لليقين السابق ، وحينئذ يعارضه دليل «كلّ شيء حلال» الدالّ على الأخذ بالاحتمال الآخر المخالف لليقين السابق.

وأمّا نسبة بعض أفراد الاستصحاب إلى بعض إذا لم يمكن الجمع بينهما في العمل ـ لليقين بالحالة السابقة في أحدهما لا على سبيل التعيين ـ فإمّا أن يكون الشكّ في أحدهما مسبّبا عن الشكّ في الآخر تسبّبا شرعيّا وإمّا ألا يكون كذلك.

__________________

(١) وقد تقدّم تخريجها في ص ٣٠٠.

٢٢٠