الأصول في علم الأصول - ج ١

ميرزا علي الإيرواني النجفي

الأصول في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

ميرزا علي الإيرواني النجفي


المحقق: محمّد كاظم رحمان ستايش
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-424-879-1

الصفحات: ٢٠٠
الجزء ١ الجزء ٢

[واقعا]. وهذا بيان للكشف الحكمي.

نعم ، من التزم بالكشف الحقيقي لا مناص له من التزام أنّ الشرط صدق أنّ المالك سيجيز لا الإجازة الفعليّة على ما تقدّم نظيرة في شرط التكليف.

وما أجيب به عن الشبهة بأنّ الشرط هو العلم بلحوق الإجازة ، أو أنّ الشرط هو وصف التعقّب بالإجازة وهما حاصلان فعلا (١) ، فقد تقدّم دفعهما.

[المبحث] الثاني :

في البحث عن معقوليّة الواجب المشروط والمعلّق وعدمها ، بل مطلق الطلب المشروط والمعلّق. ونحن نسوق الكلام في الواجب ومنه يظهر الحال في غيره.

فاعلم أنّ الواجب المشروط والمعلّق يشتركان في أمر ويمتازان في آخر. يشتركان في أنّ كلّا منهما مشتمل على التعليق ، ويمتازان في أنّ التعليق يرجع إلى متعلّق الحكم. ولنتكلّم في كلّ منهما مستقلّا.

أمّا الكلام في الواجب المشروط فتارة يقع في مقام ثبوته وأخرى في مقام إثباته. والمختار عدم معقوليّته بكلا مقاميه.

أمّا مقامه الأوّل فلوجهين :

الأوّل : أنّ حقيقة التكليف على ما عرفت سابقا هي إرادة خاصّة متوجّهة من المولى إلى جانب العبد ـ بأن يأتي بالفعل من طريق البعث وبداعي البعث ـ وهذا لا يعقل فيه التعليق بعدم معقوليّته في قيده ، وهو البعث على ما يظهر لك في المقام الآتي.

الثاني : أنّ الواقعة إذا كانت على صفة تؤثّر في انقداح الإرادة في نفس المولى ـ باشتمالها على مناط الطلب عند حصول أمر كذا ، أو ارتفاع مانع كذا ـ أثّرت فيه فعلا إذا التفت إليها المولى بلا ترقّب حصول ذلك الأمر ؛ وذلك لأنّ الإرادة إمّا هو العلم بالصلاح ، أو ما هو متولّد من هذا العلم ، وكلّ منهما لا يتوقّف على حصول أمر وراء تصوّر الفعل بما هو عليه من الخصوصيّات.

__________________

(١) كتاب المكاسب : ١٣٣ في تحقيق وجوه الكشف من مباحث بيع الفضولي.

٨١

نعم ، المعلوم صلاحه معلّق دون العلم أو ما يتولّد منه ؛ فإنّهما فعليّان سابقان حاصلان حين الالتفات إلى الواقعة بما هي عليه ، بل تحريك العلم نحو المعلوم صلاحه أيضا سابق إذا كان المعلوم صلاحه متوقّفا على مقدّمات سابقة. ومن جملة المقدّمات السابقة طلب المولى له ، فحينما علم المولى بصلاح الفعل في وقت كذا يبعث نحوه بلا ترقّب مجيء ذلك الوقت. وأثر طلبه هذا أنّه لو كان للفعل مقدّمات سابقة اشتغل بها العبد وإن لم تكن له مقدّمات سابقة جاز كلّ من تقديم البعث وتأخيره. نعم ، بناء على أنّ عنوان الوجوب يكون من إلزام العقل بالإطاعة والعقل لا يلزم الإطاعة قبل ظرف الامتثال ـ فلا يكون إيجاب قبل ظرف الامتثال ، وإنّما هو مجرّد الطلب من المولى.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ إلزام العقل وحكمه بالإطاعة ـ نظير طلب المولى ـ حاصل قبل ظرف الامتثال ، وإنّما الفعل الملزم به متأخّر ، أو يقال : إنّ تأخّر الحكم من الفعل إنّما يكون حيث لا تكون للفعل مقدّمات سابقة ، وأمّا حيث ما تكون [للفعل مقدّمات سابقة] فالحكم منه سابق بلا اشتراط ، إلزاما منه بمقدّماته. ومن المعلوم أنّ البحث في معقوليّة الواجب المشروط لأجل صورة وجود مقدّمات سابقة فيلغى حينئذ البحث.

فقد تحصّل أنّ الطلب بحقيقته غير قابل للتعليق ، وكذلك إلزام العقل بالإطاعة غير قابل للتعليق ، والبعث والتحريك الفعلي من العقل وإن أمكن أن يكون منوطا بمجيء وقت كذا إلّا أنّ ذلك فيما لم تكن هناك مقدّمات سابقة كما هو المنظور في المقام.

وأمّا مقامه الثاني :

أعني عدم معقوليّة التعليق في إنشاء الطلب ـ كان ذلك بالصيغة أو بالجملة الخبريّة ـ فبيانه يكون بشرح حقيقة التعليق.

فاعلم أنّ التعليق عنوان جملتين مختلفي الحكم في موضوع واحد بتقديرين متناقضين ، ومن تظاهر هاتين الجملتين ينتزع عنوان التعليق. فإذا أخبرنا عن العالم بأنّه مضيء ، وأخبرنا أيضا بأنّه مظلم في تقديرين مختلفين : طلوع الشمس ولا طلوعها فقد علّقنا المخبر به على طلوع الشمس. وكذا الحال في الجملة الإنشائيّة.

ثمّ لا فرق بين أن نعبّر عن الجملتين بمتن عبارتيهما ، وبين أن نعبّر عن إحداهما بمتن عبارتها وعن الاخرى بنصب أداة تدلّ عليها كلفظ «إن» و «إذا» الشرطيّتين ، أو لفظ «منوط»

٨٢

و «مشروط» و «موقوف» ، أو لفظ «يشترط» و «يتوقّف».

ومعلوم أنّ هذا الذي فسّرنا به التعليق لا يتمشّى إلّا في موضوع يحتمل تقديرين ؛ ليحكم في كلّ تقدير خلاف ما حكم به في الآخر. أمّا ما تقديره واحد لا تقدير له غيره ، كما في «كلّ ما ثبت وتحقّق» فلا يعقل فيه التعليق ؛ فإنّه بتحقّقه قد تنجّز ، والتنجيز ضد التعليق. فإذا قلنا : «إذا جاءك زيد فأكرمه» أو «إذا طلعت الشمس أضاء العالم» كان كلّ من الإنشاء في الأوّل والإخبار في الثاني قد تحصّل بنفس هذه الجملة ، وما تحصّل كيف يعقل أن يعلّق؟! فلا جرم ينبغي أن يعود التعليق في الجملتين إلى غير عنوان الإنشاء والإخبار الحاصلان فعلا بهذا القول ، وكذا يعود إلى غير عنوان المنشأ والمخبر به بما هو منشأ ومخبر به ؛ فإنّهما لا ينفكّان عن نفس الإنشاء والإخبار بل هما هما ، والاختلاف بالإضافة إلى الفاعل والقابل.

وما قيل : من أنّ إنشاء أمر معلّق لا بأس به ، فكان الإنشاء فعليّا والمنشأ أمرا تعليقيّا (١) ، إن أراد أنّ ذات ما أنشأ أمر تعليقي كذات ما أخبر به في الجملة الخبريّة فذاك حقّ ، وإن أراد أنّ وصف المنشئيّة تعليقيّة فذاك غلط ؛ فإنّ الأمر التعليقي يكون منشأ فعلا بإنشاء فعلي ولا يكون الإنشاء فعليّا والمنشأ غير فعلي.

وأمّا الإرادة الواقعيّة على طبق المنشأ فتلك هي علّة الإنشاء ، فاللازم أن تكون أسبق حصولا من الإنشاء وأبعد ساحة من التعليق إلّا أن يكون الإنشاء صوريّا لا إرادة على طبقه حتّى يجيء المعلّق عليه. فحينئذ يحتاج الإخبار عن وجودها في وقت كذا إلى عقد جملة أخرى حاكية عن وجودها التعليقي ولم تكن تلك الجملة وافية بذلك.

هذا على تقدير قبول الإرادة الواقعيّة للتعليق ، لكنّك عرفت أنّها غير قابلة له وأنّ الواقعة إذا كانت على صفة تؤثّر في الإرادة عند كذا فهي تؤثّر فيها فعلا مع الالتفات إليها بلا ترقّب ذلك الأمر.

وأمّا قياس المقام على الوقف على البطون والوصيّة والتدبير ـ ممّا إنشاؤه حالي والمنشأ أمر معلّق ـ فقياس مع الفارق ؛ فإنّ التعليق في الموارد المذكورة ليس للإنشاء بل الإنشاء

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٨٠ ؛ كفاية الأصول : ١٠٢ ـ ١٠٣.

٨٣

حالي ، ولا للمنشإ فإنّه أيضا حالي بحاليّة الإنشاء ، ولا لإرادة الإنشاء أو إرادة مضامين تلك العقود ؛ فإنّها أسبق تحصّلا وأحرى بالحاليّة ، وإنّما [هي] حقيقة لوحظت مقيّدة فأنشئت ، فالإرادة حاليّة والمنشأ وقف معلّق. فالتعليق راجع إلى حقيقة الوقف المنشأ لا إلى إنشائه ، فلذا كان إنشاء هذا المعلّق حاليّا وكانت منشئيّته أيضا حاليّة.

وأمّا في المقام فمادّة الوجوب هي تلك الإرادة القائمة بنفس المولى ـ السابقة على إنشاء الطلب الباعثة إلى إنشائه ـ وقد عرفت أنّ الإنشاء ـ وبالأحرى علّة الإنشاء ـ لا يتطرّق إليها التعليق ليكون الطلب معلّقا.

فقد تحصّل أنّه لا سبيل إلى إرجاع التعليق إلى الطلب ـ وإن كان ظاهر لفظه ذلك ـ إذ كلّ قيد يلي الجملة فظاهره العود إلى مضمون هيئة الجملة دون مفرداتها ، ومن القيود التعليق فيلزم أن يرجع إلى هيئة الجملة الطلبيّة ، ومضمون هيئة الجملة الطلبيّة هو الطلب وما بقي قيوده ومتعلّقاته ، فينبغي أن يعود التعليق إليه. لكنّك عرفت استحالته في مقام ثبوته وإثباته ، فلا بدّ صرفه عن ذلك إلى ما هو المعقول.

إلى هنا تمّ لك لا معقوليّة عود التعليق إلى الطلب بمقامي ثبوته وإثباته. ولا ثمرة بعد ذلك لتعيين عوده إلى شيء من مادّة الصيغة ، والنسبة بين المادّة والهيئة ، ونسبة مجموع المادّة بهيئتها إلى المفعول به فيما إذا كان الفعل متعدّيا ، أو إلى نفس المفعول به مقطّعا له بقطعات ، أو إلى نسبة الطلب إلى ضمير المخاطب. مع أنّ النسب الثلاث تشارك الهيئة في لا معقوليّة عود التعليق إليها لتحقّقها بهذه العبارة ، فكيف تعلّق بعد أن ثبتت وتحقّقت؟! فلم تبق سوى مادّة الصيغة وسوى المفعول به ، ولا يبعد تعيّن عوده إلى الأوّل ؛ لأنّه معنى حدثي ، بل تقطيع الذات بعيد عن الأفهام العاميّة.

ثمّ إنّ في المقام وجهين آخرين لبطلان عود التعليق إلى الطلب ، إلّا أنّهما مختصّان بما إذا كان إنشاء الطلب بالهيئة فنتيجتهما أخصّ من المدّعي.

[الوجه] الأوّل : أنّ التعليق ـ وكذا التقييد ـ ضرب من الحكم ، والحكم لا يعقل لموضوع لم يلتفت إليه إلّا تبع تصوّر الغير كما في معاني الحروف والهيئات.

[الوجه] الثاني : أنّ معاني الهيئات والحروف معان جزئيّة ، والجزئي غير قابل للتقييد الذي منه التعليق.

٨٤

وفيه : منع عدم قبول الجزئي للتقييد ؛ فإنّه يقيّد بحسب الأحوال كما يقيّد الكلّي بحسب الأفراد.

وأمّا الكلام في الواجب المعلّق فقد ظهر لك في المقام السابق أنّ الواجبات المشروطة كلّا معلّقة ، ولا يعقل عود التعليق في الواجبات المشروطة إلّا إلى متعلّق الطلب لا هو نفسه.

ومع ذلك فقد أحاله بعض السادة المحقّقين ممّن عاصرناهم (١) ، زعما منه بأنّ كلّ قيد هو للمادّة فلا بدّ من أن يدخل تحت الطلب ، فإذا دخل تحت الطلب صار معروضا للحكم ، وإذا صار معروضا للحكم وجب تحصيله كسائر الشرائط الواجب. فلا ينقسم شرط الواجب إلى ما يجب تحصيله وإلى ما لا يجب ليخصّ أحدهما باسم المنجّز والآخر باسم المعلّق ، بل الكلّ منجّز وشرط الكلّ يجب تحصيله. ومن التناقض أن يدخل القيد تحت الطلب ، ثمّ لا يجب تحصيله.

فتقسيم الواجب إلى معلّق ومنجّز لا أصل له وإنّما التقسيم للوجوب إلى مطلق ومشروط ، فمهما كان من قيد لم يجب تحصيله كان ذلك قيدا وشرطا معلّقا عليه الحكم لا محالة ، ومهما كان من قيد هو للواجب كان ذلك قيدا واجب التحصيل ، وليس يجتمع أن يكون قيد هو للواجب ومع ذلك لا يجب تحصيله. وحيث إنّ الشرط في التكاليف المشروطة لا يجب تحصيله بالضرورة والفرض فالتكاليف بالنسبة إليه مشروطة لا محالة. هذا غاية تقريب اللامعقوليّة.

ويدفعه : أنّا ننقل الكلام إلى ما يراه معقولا ، وهو توجّه الطلب بعد تحقّق الشرط في القضيّة الشرطيّة ، ونقول :

لا إشكال في أنّ معروض الطلب حتّى عند تحقّق الشرط ليس هي الطبيعة المطلقة

__________________

(١) هو سيّد محمّد الفشاركي الأصفهاني. فقد نقل عنه تلميذه الشيخ محمّد رضا النجفي الأصفهاني في كتابه ـ انظر وقاية الأذهان : ٢١٨ و ٢١٩ ـ هذا المضمون عنه. واسمه سيّد محمّد حسين بن محمّد جعفر الفشاركي ، ولد في قرية «فشارك» من توابع أصفهان في سنة ١٢٥٣ ه‍ سافر إلى العراق وهو ابن إحدى عشرة سنة وجاور الحائر الشريف وكفّله أخوه سيد إبراهيم المعروف ب «الكبير» وفي سنة ١٢٨٦ ه‍ هاجر إلى النجف وحضر بحث ميرزا الشيرازي ثمّ هاجر معه إلى سامرّاء و.... وبعد وفاة أستاذه رجع إلى النجف سنة ١٣١٢ ه‍ واستقلّ بالتدريس وتوفّي سنة ١٣١٦ ه‍ ودفن في الصحن الشريف. (وقاية الأذهان : ١٤٣ ـ ١٤٦).

٨٥

بلا ارتباط للشرط ومن غير دخل للشرط ، بل هي الطبيعة المتخصّصة ذات التقيّد بالشرط ، ومع ذلك لا يجب تحصيل الشرط ولا يعقل أن يجب بعد أن كان هو حاصل.

انظر كيف اجتمع دخل القيد في المتعلّق مع عدم وجوب تحصيله؟! ونحن لم نزد سوى أن قدّمنا هذا الطلب الكذائي ـ الذي هو لا اقتضاء من جهة تحصيل القيد ـ وأنّ المولى حينما التفت إلى الواقعة وجّه إليها الطلب من غير أن يزيد اقتضاء على اقتضائه ، بل الطلب على لااقتضائيّته بالنسبة إلى القيد وإنّما اقتضاؤه مصروف تماما إلى ما عدا هذا القيد ممّا أخذ في المأمور به.

توضيح الحال هو : أنّ وقوع الطبيعة المتخصّصة بخصوصيّة كذا تحت الطلب يكون على ضربين :

فتارة : الطبيعة بخصوصيّتها تكون معروضة للطلب ، فكان اللازم في مقام الامتثال تحصيل الطبيعة بخصوصيّتها غير الحاصلة في الخارج ، كما في «صلّ متطهّرا».

وأخرى : ذات الطبيعة محذوفة عنها الخصوصيّة تكون معروضة للحكم. وهذا إنّما يكون فيما إذا كان منشأ التخصّص حاصلا في الخارج فأريد تتميم المطلوب بإيجاد أصل الطبيعة من غير بعث إلى خصوصيّتها ، بل كان حصول الخصوصيّة لها قهريّا فلا يكون المطلوب حينئذ سوى أصل الطبيعة بلا ما هو لازم لها من الخصوصيّة ، ومع ذلك لا تكون الطبيعة بإطلاقها تحت الطلب ، وكيف تكون بإطلاقها تحت الطلب مع قيام مناط الطلب بالطبيعة المتخصّصة. لكنّ هذا الطلب المتوجّه إلى الطبيعة المقيّدة هو لا اقتضاء بالنسبة إلى القيد ولا يحرّك نحو تحصيل القيد ؛ لما أنّ القيد حاصل بنفسه.

ويزيدك بصيرة في ذلك ملاحظة أوامر المركّبات ؛ فإنّ التكليف بالمركّب باق لا يسقط حتّى ينتهي المكلّف إلى آخره مع أنّه في الأثناء لا يقتضي إتيان ما أتى به من الأجزاء ، ولا ينقلب أيضا عن التعلّق بالكلّ إلى التعلّق بالباقي من الأجزاء. انظر كيف يتوجّه الطلب إلى مجموع الأجزاء ومع ذلك لا يقتضي إتيان ما أتى به منها؟! بل كان معنى التكليف بالكلّ حينئذ التكليف بتتميم الكلّ أو ما يعمّه والإعادة من رأس. هذا فيما إذا كان الطلب بعد حصول شيء من المطلوب.

ثمّ إنّا من وسعنا أن نقدّم الطلب هذا ـ على ما هو عليه من مقدار التعلّق وكمّيّة الاقتضاء

٨٦

والتأثير على حصول القيد أو الجزء ـ ويكون مع ذلك ما هو عليه من اللااقتضائيّة بالنسبة إليهما ؛ وذلك بأنّ توجّه الطلب نحو طبيعة تكون في وعاء وجود القيد وفي مفروض تحقّقه ، فكان وعاء المطلوب هو وعاء وجود القيد ، فيصير القيد المفروض الوجود كالقيد المحقّق الوجود في عدم اقتضاء الطلب بالنسبة إليه شيئا مع دخله في متعلّقه. فإذا كان التقدير تقدير وجود القيد ، أثّر الطلب في تحصيل ذات المقيّد وبه يتمّ المطلوب ، وإذا لم يكن التقدير تقدير وجود القيد لم يؤثّر شيئا ولم يجب السعي إلى تحصيل وعاء مطلوب المولى بتحصيل القيد.

وإن شئت أخذت القيد في موضوع الفعل المتعلّق للطلب. ومعلوم أنّ الطلب لا يقتضي تحصيل موضوع الفعل المتعلّق به ، فكما أنّ الأمر بتزكية النصاب وتخميس الأرباح والإنفاق على الزوجة لا يقتضي إيجاب موضوعاتها ـ وإنّما يجب الفعل في ظرف وجود موضوعاتها ـ كذلك الأمر بالحجّ على تقدير الاستطاعة ، والإكرام على تقدير المجيء ، والصلاة عند حصول الطواف لا يقتضي إيجاب شرائطها ؛ فإنّها في الحقيقة إيجاب للحجّ على المستطيع وإكرام الجائي وصلاة الطائف بالبيت.

خاتمة :

إذا تعيّن رجوع القيد إلى كلّ من المادّة والهيئة ـ بناء على معقوليّة رجوعه إلى كلّ منهما ـ فهو ، وإلّا ـ بأن أجمل الخطاب ولم يكن معيّن خارجي ـ فاللازم الرجوع إلى الأصول العمليّة أعني استصحاب عدم الوجوب إلى زمان تحقّق الشرط.

إلّا أن يقال : إنّ تقييد المادّة متيقّن ؛ فإنّ القيد إن رجع إلى المادّة أو رجع إلى الهيئة كانت المادّة مقيّدة لا محالة. فإمّا أوّلا وبالذات ، وذلك بورود القيد إليها ابتداء ؛ أو ثانيا وبالعرض ، ومن جهة السراية من الهيئة ؛ فإنّ الهيئة إذا تقيّدت لم يعقل بقاء المادّة على إطلاقها. فكان البيان الرافع للإطلاق حاصلا في جانب المادّة بالقطع التفصيلي ويشكّ في حصول البيان بالنسبة إلى الهيئة ، والمحكّم هو الإطلاق. ونتيجة ذلك ، نتيجة الواجب التعليقي.

ودعوى صلاحيّة الشرط للرجوع إلى الهيئة ، فإذا كان ما يصلح للبيانيّة موجودا لم ينعقد الإطلاق ، مدفوعة بأنّ المتشابه لا يصلح للبيانيّة ، بل إطلاق الهيئة يرفع التشابه عن المتشابه.

٨٧

نعم ، يمكن المناقشة فيما ذكرناه بابتنائه على انحلال العلم الإجمالي بالتقييد ، والانحلال مبني على عدم التمسّك بالإطلاق في جانب الهيئة ـ وإلّا لم يكن تقييد المادّة متيقّنا ـ فيلزم من الانحلال عدم الانحلال.

وربما يقدّم تقييد المادّة بوجه آخر ، وحاصله أنّ الأمر دائر بين تقييد مع ما بحكم التقييد ، وبين تقييد ساذج ، والتقييد الساذج مقدّم.

توضيحه : أنّ القيد إن رجع إلى الهيئة منع من انعقاد مقدّمات الحكمة في جانب المادّة ، وذلك في قوّة تقييد آخر ، لأنّه يشارك التقييد في كونه خلاف الأصل بخلاف ما إذا رجع إلى المادّة ، فكان الأمر دائرا بين مخالفة أصل واحد وبين مخالفة أصلين ، ومن المعلوم وجوب تقليل مخالفة الأصل مهما أمكن.

لكنّك عرفت عدم الدوران وانحلال الإطلاق في جانب المادّة بالقطع التفصيلي ، فتبقى أصالة الإطلاق في جانب الهيئة بلا مزاحم ، لو لا المناقشة التي ناقشناها.

وقد يجاب عنه بمنع كون ما بحكم التقييد خلاف الأصل ، وإنّما خلاف الأصل رفع اليد عن الظهور المنعقد لا دفع الظهور عن الانعقاد.

ويدفعه : أنّه لو لم يكن دفع الظهور خلاف الأصل فما معنى أصالة عدم التقييد لدى الشكّ في القيد المتّصل؟! بل كان اللازم الحكم بالإجمال حينئذ ، مع أنّ أحدا لم يفرّق بين الشكّ في القيد المتّصل والمنفصل في جريان أصالة العدم.

وهاهنا وجه ثالث ذكروه لتقديم تقييد المادّة ، وحاصله أنّ عموم الهيئة شمولي وعموم المادّة بدلي ، وكلّما دار الأمر بين عمومين كذلك قدّم تقييد العموم البدلي ، ولذا يقدّم خطاب النهي على خطاب الأمر في مسألة اجتماع الأمر والنهي على القول بالامتناع. ولعلّ النكتة في ذلك هو أنّ الأفراد في العموم الشمولي بتمام أحوالها وكلّ أطوارها داخل تحت الحكم ، فإخراج فرد واحد منه يتضمّن قطع روابط متعدّدة من العامّ بالنسبة إلى ذلك الفرد ، وهذا بخلاف العموم البدلي فإنّ الأفراد ببعض أحوالها ـ وهو حالها الانفرادي دون الاجتماعي ـ مشمول للعامّ فتخصيصه قطع لربط واحد منه. فأشبهت بذلك دوران الأمر بين تخصيص واحد وتخصيصات متعدّدة في أنّه يقدّم الأوّل.

وهذا الوجه منظور فيه ، فإنّه لا تتعدّد شمولات العامّ الواحد في آحاده ، فتخصيصه

٨٨

بإخراج فرد واحد منه كتخصيص العامّ البدلي بإخراج فرد واحد منه في كونه قصرا لمقدار واحد من الظهور ، مع أنّ هذا لا يزيد على دوران الأمر بين تخصيصين يزيد عدد المخرج من الأفراد في أحدهما على عدده في الآخر ؛ فإنّه لا يقدّم أحدهما على الآخر بعد وحدة التخصيص على كلّ حال.

[المبحث] الثالث :

في تميّز الواجب النفسي عن الغيري. فنقول :

قد مرّ أنّ التكليف هو الإرادة المتعلّقة من المولى بفعل العبد من طريق البعث لا من أيّ طريق كان ، وبذلك يسهل عليك تمييز الواجب النفسي من الغيري ، فكلّ واجب وجب لأجل أن يتوصّل به المكلّف إلى واجب آخر فذاك غيري ، وكلّ واجب وجب لا لأجل التوصّل المذكور فذاك نفسي.

وإن شئت قلت : البعث في الواجب الغيري بعثان : بعث للواجب الغيري وأخر للواجب النفسي ، وفي الواجب النفسي البعث واحد وإن كانت حكمة هذا البعث التوصّل إلى مصلحة ملزمة لكن لم تكن تلك المصلحة الملزمة مبعوثا إليها ، فليس مطلق التوصّل إلى المصلحة الملزمة يجعل الواجب غيريّا ، بل خصوص التوصّل إلى المصلحة الملزمة المبعوث إليها يصيّره غيريّا ؛ لتكون الغاية واجبة بالبعث إليها ويكون هذا واجبا لأجل التوصّل إلى تلك الغاية الواجبة ؛ فلولا البعث إليها لم تكن هي واجبة لكي يكون هذا واجبا للتوصّل به إلى الواجب.

نعم ، هو واجب للتوصّل إلى المصلحة الملزمة. وبهذا يندفع ما أشكل في المقام من أنّ جلّ الواجبات النفسيّة لو لا كلّها تدخل في تعريف الواجب الغيري بناء على تبعيّة الأحكام للمصالح في المتعلّق ؛ فإنّ تلك المصالح واجبة التحصيل البتّة وإلّا لما دعت إلى إيجاب ذيها ، فإذا كانت واجبة التحصيل كان إيجاب ذوات المصالح لأجلها إيجابا غيريّا.

وذلك لما عرفت أن ليس مطلق ما أمر به لأجل التوصّل إلى أمر آخر لازم الحصول واجبا غيريّا ، بل بشرط حصول البعث إلى ذلك الأمر الآخر كي يدخل بالبعث في عداد

٨٩

الواجب الشرعي ويخرج عن الوجوب العقلي ، فيكون إيجاب هذا لغاية الوصول إلى واجب شرعي آخر.

ثم إذا شكّ في واجب أنّه نفسي أو غيري فأصالة الإطلاق فيما إذا كان الدليل عليه لفظا واردا في مقام البيان تقضي بالنفسيّة ؛ لأنّ الغيري مشتمل على التقييد وقصر الوجوب بما إذا وجب الغير ، ولا كذلك النفسي ؛ فإنّ فيه سعة الوجوب ورخاءه ـ إن وجب شيء آخر أو لم يجب ـ وهذا إطلاق أحوالي جار في متن طلب واحد موسّع له بأطواره وأحواله ، وقد تقدّم أنّ التمسّك بالإطلاق لا يختصّ بالمفاهيم الكليّة بل جار في الأمور الجزئيّة أيضا. فلا سبيل للمناقشة في المقام بأنّ معاني الهيئات جزئيّة لا يتصوّر فيها إطلاق وتقييد ، فإنّ الذي لا يتصوّر فيها هو الإطلاق والتقييد الأفرادي دون الإطلاق والتقييد الأحوالي.

مع أنّ هذه المناقشة تختصّ بما إذا استفيد الوجوب من الهيئة دون مثل لفظ «واجب» أو «يجب». هذا فيما إذا كان هناك أصل لفظي وفيما لم يكن ، كما لو كان الدليل لبّيّا ، أو كان لفظا غير وارد في مقام البيان فالمرجع الأصل العملي ، ومقتضى الأصل العملي تارة يوافق الغيريّة وأخرى يوافق النفسيّة ، يعني إذا كان الشكّ في ابتداء التكليف استصحب عدم الوجوب حتّى يجب ذلك الذي يحتمل إناطة وجوبه به ، وإذا كان في انتهائه ـ بمعنى أنّه شكّ في بقاء الوجوب بعد خروج وقت ما يحتمل إناطته به ـ فالأصل هو بقاء وجوب هذا وإن سقط وجوب ذاك.

[المبحث] الرابع :

في استحقاق الثواب والعقاب على الواجبات الغيريّة والحقّ هو ذلك ؛ فإنّ مدار الاستحقاق إمّا على ثبوت الوعد والوعيد ، أو على حكم العقل ، وأيّ منهما كان فهو موجود في الواجبات الغيريّة نحو ما هو موجود في الواجبات النفسيّة.

أمّا العقل فموضوع حكمه بالاستحقاق هو إنفاذ طلب المولى وإنجاح مقصده ، هذا في جانب الثواب ، وفي جانب العقاب بعكس ذلك. ولا نظر للعقل إلى طلب المولى دون طلب ومقصد دون مقصد ، بل تمام الموضوع في حكمه الإطاعة والمعصية لأيّ أمر أو نهي كان.

٩٠

وأمّا الوعد والوعيد فإطلاق آيات الوعد والوعيد ـ مثل قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها)(١) وقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها)(٢) ـ يشمل كلا قسمي الواجب.

وقد تأكّد هذا الإطلاق بأخبار صرّحت على الثواب على بعض المقدّمات ، كثواب تحصيل العلم (٣) ، وثواب طيّ المسافة لزيارة الأئمّة المعصومين (٤) ، وما دلّ على أنّ أفضل الأعمال أحمزها (٥) ، فإنّ الأحمزيّة في العملين المتساويين في ذاتهما تحصل باحتياج أحدهما إلى ما لا يحتاج الآخر من المقدّمات ، وما دلّ على ترتّب الثواب على الطهارات الثلاث (٦) ، مع أنّ أوامرها غيريّة ، ولذا وقع المنكرون لترتّب الثواب على الواجبات الغيريّة في الإشكال في الطهارات الثلاث. وأمّا على المختار فلا إشكال.

ولا يشكل على المختار بأنّ لازمه ثبوت مثوبات شتّى وعقوبات لا تحصى في واجب واحد إذا كثرت مقدّماته مع الواسطة وبلا واسطة ، سيّما وكلّ مقدّمة تتجزّأ إلى ما لا نهاية له من الأجزاء ؛ ذلك لأنّ فساد اللازم كاشف عن عدم وجوب المقدّمات وجوبا شرعيّا لا عن عدم استحقاق الثواب والعقاب عليها على تقدير الوجوب ؛ فإنّ ثبوت استحقاقها على تقدير الوجوب أوضح من ثبوت أصل الوجوب ، مع أنّه لا مانع من التزام عقوبات ومثوبات متعدّدة بمعنى امتداد العقاب والثواب بكثرة المقدّمات.

[المبحث] الخامس :

كلّ واجب غيري فهو توصّلي ؛ لأنّ رتبة الواجب إن كانت مقدّمة ، وجب إتيانها ـ بأيّ داع كان سقوط الأمر بالمقدّمة ـ وإن لم تكن مقدّمة لم تتّصف بالوجوب.

__________________

(١) الأنعام (٦) : ١٦٠.

(٢) الشورى (٤٢) : ٤٠.

(٣) بحار الأنوار ٢ : ١ ـ ٢٥.

(٤) راجع وسائل الشيعة ١٤ : ٤٣٩ أبواب المزار ، ب ٤١ ، ح ١ ؛ بحار الأنوار ٩٧ : ١١٦ ـ ١٢٤.

(٥) النهاية في غريب الحديث والأثر ١ : ٤٤٠ ؛ مجمع البحرين ٤ : ١٦ ، «ح م ز».

(٦) وسائل الشيعة ١ : ٣٧٥ ـ ٣٨٠ أبواب الوضوء ، ب ٨ و ٩ ، و ١ : ٣٠٣ ـ ٣٤٠ أبواب الأغسال المسنونة ، والتيمّم بدل عنهما.

٩١

وإن شئت قلت : إنّ تعبّديّة الأوامر الغيريّة لا تكون إلّا على وجه دائر ؛ فإنّ الوجوب الغيري موقوف على المقدّميّة ، فلو توقّفت المقدّميّة على قصد الامتثال المتوقّف على الوجوب الغيري لزم الدور.

ومن هنا جاء الإشكال في الطهارات الثلاث وأنّها كيف صارت عباديّة مع أنّ أوامرها غيريّة.

ويدفعه : أنّ عباديّة الطهارات الثلاث إنّما هي باقتضاء الأوامر النفسيّة المتعلّقة بغايتها باقتضاء أوامرها الغيريّة ليتّجه بها الإشكال في المسألة.

ولتوضيح ذلك نذكر أمورا :

الأوّل : أنّ أمرا واحدا له دعوة واحدة ـ بمعنى أنّه يحدث إرادة واحدة في نفس المكلّف ـ متعلّقة بتمام ما تعلّق به بلا زيادة ونقيصة ، فكان إتيان أبعاض المركّب المأمور به بذلك الداعي الواحد لا بإحداث دواع مستقلّة إلى الأبعاض.

والسرّ في ذلك أنّ إرادة العبد في مقام الامتثال هي مطاوعة إرادة المولى في مقام الطلب ومتأثّرة منفعلة منها ، فلا تضع قدمها إلّا موضع قدم إرادة المولى. فلو كانت الإرادة من المولى متعلّقة بمركّب كانت الإرادة من العبد أيضا متعلّقة بذلك المركّب بلا زيادة ونقيصة.

الثاني : لازم ما ذكرناه في الأمر الأوّل أنّ أمرا واحدا لا يتبعّض في التعبّديّة والتوصّليّة ـ فيكون في جزء من متعلّقه تعبّديّا وفي جزء توصّليّا ـ إذ لو لم يعقل اختصاص دعوة الأمر بشطر من المتعلّق فكيف يعتبر في العمل ويشترط فيه هذا الأمر غير المعقول؟! بل الدليل على التعبّديّة في البعض يكون دليلا على التعبّديّة في الكلّ.

وأمّا استمرار وقت النيّة في الصوم إلى الزوال بل في صوم التطوّع إلى الغروب ، فذاك كاشف عن أنّ المطلوب في الصوم ما يعمّ إمساك النهار وتتميم إمساكه. فكان تتميم الإمساك تمام الواجب لا جزؤه كي لا يتصوّر إتيانه بداع الأمر.

الثالث : كما لا يتبعّض أمر واحد بالتعبّديّة والتوصّليّة في الأجزاء ، كذلك لا يتبعّض بالتعبّديّة والتوصّليّة في الأجزاء والشرائط ، فيكون تعبّديّا في الأجزاء وتوصّليّا في الشرائط ؛ فإنّ تقيّد الأجزاء بالشرط داخل في المأمور به ومن حدوده المأخوذة فيه. وقد عرفت أنّه لا يعقل تبعّض دعوة الأمر فيدعو الأمر إلى إتيان بعض متعلّقه دون بعض.

٩٢

وعلى هذا يجب أن ينوي المصلّي التقرّب بكلّ الشرائط المعتبرة ، كما يجب أن ينوي التقرّب بكلّ الأجزاء. فلو صلّى وكان حفظه للطهارة أو للساتر أو للاستقبال لا لداعي الأمر ، بل بداع آخر ـ بحيث لولاه لأحدث في أثناء الصلاة ـ أو ألقى الساتر عن نفسه ، أو حوّل وجهه عن القبلة لم تكن صلاته تلك بصلاة وكان كما إذا لم ينو التقرّب ببعض الأجزاء.

الرابع : إنّما يكون الربط بين شيئين مأتيّا به بداعي الأمر إذا كان طرفاه مأتيّا بهما بداعيه. فإذا كان قد أتى بالطرفين أو بأحدهما لا بداعي الأمر ، لا محالة كان الربط لا بداعي الأمر. وعليه فالمركّب العبادي لا بدّ من إتيانه بأجزائه وشرائطه بداعي الأمر. فلو أتى بشيء منه لا بداعيه ـ ولو كان ذلك الشيء شرطا ـ كان المركّب مأتيّا به لا بداعيه.

وهذا الأمر الذي يدعو إلى الأجزاء والشرائط ـ ويكون الإتيان بالشرائط بداعيه كما يكون الإتيان بالأجزاء بداعيه ـ هو الأمر النفسي المتعلّق بالمركّب دون غير المترشّح إلى الشرط إن قلنا بالترشّح ؛ فلا يشكل علينا بأنّ الأمر الغيري لا يكون عباديّا.

ثمّ إنّ هذه الدعوة ـ يعني الأمر إلى الشرط ـ لا تنافي خروج رقبة الشرط عن حيّز الأمر ؛ فإنّه كفى في دعوة الأمر دخوله بتقيّده تحت الأمر ، فإنّ الأمر يدعو إلى مقدّمات متعلّقه كما يدعو إلى نفس متعلّقه ، فالربط والتقييد بين شيئين إذا أدخل تحت الأمر دعا الأمر إليه بدعوته إلى طرفي الربط ودعا إلى طرفي الربط بدعوته إلى الربط.

ولمّا كان بعض الشرائط إذا حصل ـ ولو بداعي الأمر ـ سقط طلبه كما في الطهارة الخبثيّة في الصلاة ، توهّم من ذلك أنّ أمرا واحدا يمكن أن يكون عباديّا في بعض متعلّقه وتوصّليّا في بعض آخر وبالنسبة إلى الشرائط. وهو توهّم فاسد ؛ لما تقدّم من عدم معقوليّة التبعّض ، وإنّما يسقط الأمر بالصلاة في تلك الموارد مع عدم الإتيان بشرطها بداعي الأمر لارتفاع موضوع الخطاب وانقلاب خطاب إلى خطاب آخر ؛ فإنّ البدن واللباس قيد في خطاب من لم يكن ذلك منه طاهرا ، أمّا من كان ذلك منه طاهرا ـ ولو بغسل غير منوي به التقرّب ـ فخطابه بالصلاة مطلق غير مقيّد ، فبالغسل للثوب والبدن ـ بأيّ داع كان ـ انقلب خطاب «صلّ متطهّرا» إلى خطاب «صلّ» بلا قيد ، وإنّما يكون ممتثلا لخطاب «صلّ متطهّرا» من أتى بصلاته وطهارته بداعي الأمر.

فقد اتّضح لك في طيّ ما ذكرناه من الأمور أنّ عباديّة الطهارات الثلاث إنّما هي باقتضاء

٩٣

أوامر غايتها ـ وهي أوامر نفسيّة ـ لا بأوامرها الغيريّة المترشّحة من تلك الغايات حتّى يشكل علينا بأنّ الأوامر الغيريّة لا تكون عباديّة ، فكيف صارت هذه عباديّة؟! وهذه العباديّة عامّة لكلّ شرائط العبادات. وانقلاب الأمر بالمقيّد بالأمر بلا قيد ـ عند حصول القيد بأيّ داع كان في بعض الشرائط ـ لا يوجب النقض علينا.

ثمّ إنّه قد يذبّ عن إشكال عباديّة الطهارات الثلاث بوجوه لا بأس بالتعرّض لها.

منها : أنّ الطهارات مستحبّات نفسيّة ، وعباديّتها بجهة استحبابها النفسي لا باقتضاء من أوامرها الغيريّة ، بل أوامرها الغيريّة توصّليّة متعلّقة بما هو مستحبّ في ذاته وبأمره النفسي لمّا كانت غايته مقدّمة لواجب (١). ويردّه ـ بعد تسليم الاستحباب النفسي في التيمّم ـ : أنّه لا إشكال في صحّة الإتيان بها بداعي أمرها الغيري بلا التفات إلى استحبابها النفسي ، فلو كان هذا الأمر متعلّقا بمأمور به عباديّ كانت الدعوة بهذا الأمر منوطة بالدعوة بالأمر الأوّل لأخذها في موضوعه.

ودعوى أنّ الاكتفاء بقصد أمرها الغيري فإنّما هو لأجل أنّه يدعو إلى ما هو كذلك في نفسه ؛ حيث إنّه لا يدعو إلّا إلى ما هو المقدّمة (٢) ، مدفوعة بأنّه إن كان المراد أنّ قصد الأمر الغيري متضمّن لقصد الأمر النفسي ـ فلذا يكتفى به عنه ولا يحتاج إلى الالتفات إليه وقصده تفصيلا ؛ حيث إنّه لا يدعو إلّا إلى ما هو مستحبّ في ذاته ـ فهو خلاف المعقول ؛ إذ الأمر الغيري إذا فرض تعلّقه بالمأمور به العبادي لم يعقل قصده بدون قصد سابق للأمر النفسي العبادي لفرض أخذه في موضوعه ، فما لم يقصد التعبّد بالأمر العبادي لم يدخل في عنوان المقدّمة حتّى يقصد به التقرّب بالأمر الغيري ، فإذا لزم قصد أمره النفسي من قصد أمره الغيري كان ذلك دورا.

وإن كان المراد أنّ المعتبر في العبادة جنس النيّة وقصد أمره النفسي من قصد أمره الغيري كان ذلك دورا.

وإن كان المراد أنّ المعتبر في العبادة جنس النيّة وقصد التقرّب لأيّ أمر كان لا خصوص الأمر العبادي ، وجنس النيّة هاهنا حاصل ولو للأمر الغيري فكفى ذلك وأغنى عن نيّة الأمر النفسي العبادي ـ وهذا كما إذا استؤجر الشخص على الإتيان بالعمل العبادي فقصد الأجير بعمله امتثال أمر «ف بالإجارة» ، فإنّه كفى عن امتثال أمر نفس العبادة واستحقّ بذلك الأجرة

__________________

(١) اختاره في كفاية الأصول : ١١١ ونقله في مطارح الأنظار : ٧١ بقوله : ويمكن التفصّي.

(٢) كفاية الأصول : ١١١.

٩٤

ـ بل لو قصد امتثال أمر زعمي فظهر أنّ أمر العمل أمر آخر على خلاف ما زعمه كفى ذلك ـ كما إذا أكرم زيدا بتوهّم أنّه هاشمي فظهر أنّه عالم.

فيردّه : أنّه إن كان مأخوذا في موضوع الأمر الغيري التعبّد بالأمر النفسي لم يعقل قصد الأمر الغيري بلا قصد سابق للأمر النفسي كما ذكرناه أوّلا ، وإن لم يكن مأخوذا لم يكن ملزم للمكلّف يلزمه بالنيّة وقصد الأمر ، فلا يتمّ الجواب عن أصل الإشكال. مع أنّ كفاية قصد أمر عن قصد أمر آخر غير مسلّم. فهل تصحّ الصلاة وتقع بقصد أمر «اقض حاجة أخيك المؤمن» حيث يطلبها المؤمن ، أو يصحّ الصوم طلبا لتصحيح المزاح؟!

ومنها : أنّ اعتبار النيّة في الطهارات ليس لعباديّة أوامرها وباقتضاء من أوامرها ـ كي تنتقض بها قاعدة عدم عباديّة الأوامر الغيريّة ـ بل لضرورة خارجيّة دعت إلى ذلك ، مع كون أوامرها توصّليّة. وتلك الضرورة هي أنّ الطهارات ليست في ذاتها مقدّمات ، وإنّما تعرض لها المقدّميّة بعنوان قصدي يعرضها. وهذا العنوان القصدي غير معلوم لنا من أيّ عنوان هو حتّى نقصده فيحصل ذلك العنوان بقصدنا وبذلك يتمّ عنوان المقدّميّة ، فلا جرم احتجنا إلى الإشارة إليه من طريق سبيل قصد الأمر ؛ إذ كان الأمر متوجّها إلى ذلك العنوان ، وكان قصده قصدا إجماليّا لذلك العنوان ، فكان قصد الأمر طريقيّا لأجل الوصول إلى قصد عنوان المأمور به ، لا ذاتيّا كي يلزم انخرام قاعدة أنّ الأمر الغيري لا يكون عباديّا. ويكفي في دفع انخرام القاعدة احتمال هذا بلا حاجة إلى إقامة الدليل عليه ؛ فإنّ القاعدة حينئذ تكون دليلا عليه (١).

ويدفعه أوّلا : أنّ الإشارة إلى العنوان لا تنحصر في إتيان الفعل بداعي الأمر ، بل الإشارة تحصل بقصد ما هو المقدّمة فإنّه قصد إجمالي للعنوان.

وثانيا : أنّ قصد الأمر الذي تكون به الإشارة يتوقّف على قصد عنوان المأمور به في مرتبة سابقة ، فكيف يناط بقصده ، قصد؟!

ومنها : أنّ السرّ في اعتبار قصد القربة في الطهارات الثلاث هو أنّ أغراض العبادات المتوقّفة عليها لا تحصل إلّا بإتيانها من بين سائر المقدّمات على وجه التقرّب لا باقتضاء من أوامرها الغيريّة ليحصل الإشكال بذلك (٢).

__________________

(١) مطارح الأنظار : ٧١.

(٢) نفس المصدر.

٩٥

ويردّه : أنّ التقرّب المعتبر إن كان بقصد أمرها الغيري لم يرتفع بذلك الإشكال ، مع أنّ الغرض من الأمر النفسي كيف يعقل أن يتوقّف على حصول مقدّمته بداعي الأمر المتولّد من نفس هذا التوقّف؟!

وإن كان بقصد الأمر النفسي المتوجّه إلى الغايات كان ذلك جوابنا المتقدّم.

[المبحث] السادس :

الوجوب والواجب في باب المقدّمات ينقسمان إلى مطلق ومشروط من الجهات الثلاث : من جهة إرادة ذيها ، ومن جهة قصد التوصّل بها إلى ذيها ، ومن جهة الوصول الفعلي إلى ذيها.

فعن صاحب المعالم اشتراط الوجوب بإرادة ذي المقدّمة (١) ، ونسب إلى شيخنا المرتضى قدس‌سره القول باشتراط الواجب بقصد التوصّل به إلى ذيه (٢) ، وعن صاحب الفصول

__________________

(١) معالم الدين وملاذ المجتهدين : ٦٢.

هو الشيخ جمال الدين أبو منصور الحسن بن الشيخ زين الدين ، ولد سنة ٩٥٩ ه‍ ، كان عالما فاضلا عاملا جامعا للفنون ، أعرف أهل زمانه بالفقه والحديث والرجال ، يروي عن جماعة من تلامذة أبيه ، منهم الشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي توفّي سنة ١٠١١ ه‍ ، وله كتب ورسائل منها : منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان ، معالم الدين وملاذ المجتهدين. (أمل الامل ١ : ٥٨ ، رقم ٤٥).

(٢) نسب هذا القول إليه في كفاية الأصول : ١١٤.

هو الشيخ مرتضى بن محمّد أمين الدزفولي الأنصاري النجفي ، ولد في دزفول سنة ١٢١٤ ه‍. قرأ أوائل أمره على عمّه الشيخ حسين ثمّ خرج مع والده إلى زيارة مشاهد العراق وهو في العشرين من عمره ، بقي في كربلاء اخذا عن الأستاذين السيد محمّد مجاهد وشريف العلماء أربع سنوات. ثمّ عاد إلى وطنه ، ثمّ رجع إلى العراق وأخذ من الشيخ موسى الجعفري سنتين. عزم زيارة مشهد خراسان مارّا في طريقه على كاشان ، ففاز بلقاء أستاذه النراقي ممّا دعاه إلى الإقامة فيها نحو ثلاث سنين. ورد دزفول سنة ١٢٤١ ه‍ ثمّ عاد إلى النجف الأشرف سنة ١٢٤٩ ه‍ فاختلف إلى مدرسة الشيخ عليّ بن الشيخ جعفر. ثمّ انتقل بالتدريس والتأليف ، ووضع أساس علم الأصول الحديث. تخرّج عليه الميرزا الشيرازي والميرزا حبيب الله الرشتي وغيرهما. انتهت إليه رئاسة الإماميّة. توفّي في ١٨ جمادى الآخرة سنة ١٢٨١ ه‍ ودفن في النجف الأشرف. له مؤلّفات منها : الرسائل في الأصول ، المكاسب في الفقه. (أعيان الشيعة ١٠ : ١١٧ ـ ١١٨).

٩٦

اشتراطه بالوصول الفعلي (١) ، والأستاذ العلّامة إلى القول بالإطلاق من جميع الجهات مع إناطة التعبّد بالمقدّمة بقصد التوصّل بها إلى ذيها (٢) وهذا هو ظاهر التقريرات المنسوبة إلى شيخنا المرتضى (٣) دون ما نسب إليه الأستاذ.

وكلّ هذه الأقوال عندي خارجة عن جادّة الصواب. والحقّ ما يوافق في النتيجة للقول بالمقدّمة الموصلة. أمّا حديث توقّف التعبّد بالمقدّمات على قصد التوصّل بها فحديث شعري بعد اختيار الإطلاق في الوجوب والواجب ؛ فإنّ الواجب إذا كان هو نفس المقدّمة لا بشرط لم يعقل اشتراط التعبّد بها بشرط ؛ فإنّ التعبّد ليس إلّا الإتيان بالواجب بداعي وجوبه بلا دخل أمر آخر في حقيقته.

__________________

(١) الفصول الغرويّة في الأصول الفقهيّة : ٨٦.

هو الشيخ محمّد حسين بن محمّد رحيم الطهراني الحائري ، ولد في ايوان كيف. أخذ مقدّمات العلوم في طهران ثمّ اكتسب من شقيقه الشيخ محمّد تقي الأصفهاني صاحب هداية المسترشدين ، في أصفهان. ثمّ هاجر إلى العراق فسكن كربلاء. كان مرجعا عامّا في التدريس والتقليد. وقد تخرّج من معهده جمع من كبار العلماء ، أجاب داعي ربّه سنة ١٢٥٤ ه‍ وله آثار أشهرها : الفصول الغرويّة في الأصول الفقهيّة (طبقات أعلام الشيعة ـ الكرام البررة ـ ١٠ : ٣٩٠ رقم ٧٩٥).

(٢) كفاية الأصول : ١١٤ و ١١٨.

هو الشيخ محمّد كاظم بن حسين الخراساني المعروف بالآخوند الخراساني (١٢٥٥ ـ ١٣٢٩ ه‍) ولد في طوس بدأ بدراسة المقدّمات في موطنه ثمّ هاجر إلى الطهران وفي طريقه مرّ بسبزوار واستفاد من المحقّق السبزواري عدّة شهور وبقي في طهران نحو ١٣ شهرا واستفاد من أساتذته ثمّ دخل النجف الأشرف واستفاد من درس الشيخ الأعظم مدّة عامين حتّى توفّي الشيخ في سنة ١٢٨١ ه‍ فاستفاد من سائر أساتذة حوزة النجف إلى أن صار أحد اعلامه فاستقلّ بالتدريس إلى أن توفّي عام ١٣٢٩ ه‍. وله مؤلّفات أشهرها : كفاية الأصول ودرر الفوائد.

(٣) قد تعرّض الشيخ على ما حكى عنه في مطارح الأنظار : ٧٤ ـ ٧٨ للبحث عن المقدّمة الموصلة واختار في خلال كلامه ما يوافق الآخوند فراجع مطارح الأنظار : ٧٧.

مقرّر درس الشيخ الأنصاري في مباحث الألفاظ وهو مؤلّف مطارح الأنظار ، الميرزا أبو القاسم النوري الطهراني الشهير بكلانتر.

ولد في سنة ١٢٢٦ ه‍ له أسفار عديدة لطلب العلم من أصفهان إلى طهران وإلى العراق. كان يحضر مجلس درس الشيخ مرتضى الأنصاري لمدّة عشرين سنة وكان يقرّر درس الشيخ لبعض طلبته فصرّح الشيخ مرارا باجتهاده وفي سنة ١٢٧٧ ه‍ هاجر إلى طهران فكان مرجع العامّ والخاصّ وتوفّي سنة ١٢٩٢ ه‍ ودفن بمشهد عبد العظيم قدس‌سره (أعيان الشيعة ٢ : ٤١٣ ـ ٤١٤).

٩٧

وأيضا لو لم تكن الأوامر الغيريّة باعثة نحو متعلّقاتها بأن تكون داعية تدعو إليها كان صدورها من المولى لغوا ؛ إذ الغرض من الأمر البعث نحو المتعلّق فلو لم يكن هذا الغرض حاصلا في الأوامر الغيريّة ـ والمفروض عدم غرض آخر ـ فما الوجه في صدورها من المولى؟!

والحاصل : إنكار وجوب المقدّمات وأنّ التعبّد بها يكون بقصد أوامر ذيها أولى من الالتزام بالوجوب ثمّ التمحّل بما ذكر.

نعم ، لو قلنا بأنّ الواجب هو المقدّمة الموصلة أو المقصود بها الإيصال صحّ ذلك الاشتراط ، لكن المفروض خلافه.

وأمّا اشتراط الوجوب بإرادة ذي المقدّمة فمردود بأنّ قضيّة الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته تبعيّة وجوب المقدّمة في الإطلاق والاشتراط وجوب ذيها ، فكيف يقيّد في هذا ويطلق في ذاك؟! وأمّا دخل التوصّل إلى ذي المقدّمة ، أو قصد التوصّل إليه في الوجوب أو في الواجب فتوضيح فساده يحتاج إلى بسط في الكلام.

فاعلم أنّ القول بوجوب المقدّمة الموصلة يحتمل أمورا :

الأوّل : أن يكون الإيصال شرطا للوجوب على سبيل الشرط المقارن.

الثاني : أن يكون شرطا له على سبيل الشرط المتأخّر.

الثالث : أن يكون شرطا للواجب على وجه يجب تحصيله.

الرابع : أن يكون شرطا له على نحو لا يجب تحصيله ، كالشرط في الواجب المطلق.

والكلّ باطل.

أمّا الأوّل ، فباستلزامه طلب الحاصل ؛ إذ قبل الشرط لا طلب وبعده المطلوب حاصل.

وأمّا الثاني ، فبلزوم الاختلاف بين الوجوبين في الإطلاق والاشتراط. واعتبار توافقهما أوضح من أصل الملازمة.

وأمّا الثالث ، فباستلزامه التسلسل في الواجبات المترشّحة ، فمن الواجب إلى المقدّمة ومنها إلى الواجب وهكذا ؛ وذلك لأنّ الواجب يصبح بعد الاشتراط المذكور مقدّمة لمقدّمته ؛ لإناطة وصف الإيصال المعتبر في المقدّمة بوجود نفس الواجب ، فيجب نفس الواجب مقدّمة لمقدّمته ، فلا يزال هكذا يتداول الوجوب بين الواجب ومقدّمته إلى ما لا يقف لحدّ.

٩٨

وأمّا الرابع ، فبالمحذور الذي ذكرناه في الثاني.

إلّا أن يقال : إنّ الشرط هاهنا للواجب لا للوجوب فالتوافق بين الحكمين في الإطلاق والاشتراط يكون على حاله.

وربما يورد (١) على القول بالمقدّمة الموصلة بأنّ الإيصال ليس أثرا لمجموع المقدّمات ـ فضلا عن بعضها ـ عدا الأفعال التوليديّة ، فكيف يكون غرضا من الأمر بالمقدّمة؟!

وهذا إنّما يرد على من أوجب مطلق المقدّمة لغرض الإيصال لا من أوجب خصوص المقدّمة الموصلة لغرض من الإيصال ؛ فإنّ الغرض على هذا يطابق الواجب لا يزيد عليه ولا ينقص. مع أنّ إنكار كون الغرض هو الإيصال ودعوى أنّه التمكّن من الواجب برفع ما في عدم تلك المقدّمة من التعذّر ؛ لأنّه المترتّب على المقدّمة دون الوصول الفعلي ، مساوق للقول بالوجوب النفسي للمقدّمات ، أو هو كرّ على ما فرّ منه ؛ فإنّ التمكّن إن كان هو الغرض الأقصى بلا نظر إلى الوصول الفعلي ، كان هو الأوّل ، وإن كان الغرض من التمكّن هو الوصول الفعلي ، كان هو الثاني وكان قولا بالمقدّمة الموصلة.

والتحقيق في أصل وجوب المقدّمة ـ وبه يتّضح حال المقام ـ هو : أنّ مناط وجوب المقدّمة هو بعينه مناط وجوب ذيها ، فالملاكات التي أوجبت إيجاب الواجبات النفسيّة هي التي أوجبت إيجاب الواجبات الغيريّة ، فكما أنّ الصلاة وجبت بمناط النهي عن الفحشاء كذلك مقدّماتها وجبت بمناط النهي عن الفحشاء. بل في مرتبة واحدة يتولّد الأمر من تلك المناطات إلى كلّ محصّلات تلك المناطات ـ طوليّة وعرضيّة ـ بلا سبق ولحوق بأن يتولّد الأمر ابتداء إلى المحصّل بلا واسطة ، ثم يتولّد الأمر من المحصّل بلا واسطة إلى المحصّل مع الواسطة أعني المقدّمات.

بل أقول : إنّ الأمر أمر واحد متوجّه إلى مجموع ما هو المحصّل للغرض وكلّ ما هو دخيل في حصول الغرض بحيث لو لم يوجد لم يحصل الغرض. فحال المقدّمات وكيفيّة دخولها تحت الأمر هو حال الأجزاء العرضيّة للمركّب المأمور به ، يعني كما أنّ أمر الأجزاء نفسي ، كذلك أمر المقدّمات نفسي ، فكان مجموع الأجزاء للواجب بمقدّماتها بعيدة وقريبة ،

__________________

(١) انظر كفاية الأصول : ١١٩.

٩٩

أجزاء لهذا الواجب المتولّد من ذلك المناط النفسي.

نعم ، وجوب المقدّمة في الأغلب يستفاد بالدلالة التبعيّة ، فكان اللفظ الدالّ على وجوب ذي المقدّمة دالّا على وجوب مقدّمتها تبعا وبالدلالة الالتزاميّة ، لكنّ هذا غير كون الوجوب تبعيّا ، بل مجموع الوجوبين في عرض واحد وبنسبة واحدة إلى الغرض الداعي إلى الإيجاب بلا أصالة وتبعيّة ، ومن غير سبق ولحوق على أن تكون الغاية للوجوب النفسي. ثمّ الواجب النفسي غاية للواجب الغيري ، فكما أنّ الأجزاء في الواجب النفسي مجتمعة تتّصف بالمطلوبيّة كذلك المقدّمات منضمّة بذويها تتّصف بالمطلوبيّة لا على انفرادها.

وما ذكرنا بالمال قول بالمقدّمة الموصلة لكن بتوحيد الوجوب وإدخال المقدّمة تحت طلب ذيها ، وكون الوجوب النفسي بنفسه بنفسه حاويا للواجب بمقدّمته.

لا يقال : المقدّمات غير دخيلة في أغراض ذويها كي تجب بوجوبها ، ولذا لو فرض الإتيان بذويها من دونها لصحّت واتّصفت بالمطلوبيّة وترتّب عليها الغرض ، وهذا بخلاف الأجزاء في الواجبات ، فإنّ كلّا منها إذا انتفى ، انتفى المطلوب.

فإنّه يقال : بأنّ فرض الإتيان بذي المقدّمة بلا مقدّمته خلف وخروج عن فرض المقدّميّة ، ونحن نتكلّم على فرض المقدّميّة ، وتوقّف التوصّل إلى الواجب على المقدّمة ، وفي هذا الفرض نقول : إنّ مجموع المقدّمة وذيها واقعة تحت الطلب النفسي وقوعا واحدا فلا يبقى طلب وراء الطلب النفسي حتّى يبحث عن أنّ الغرض من هذا الطلب هو الوصول إلى الواجب النفسي ، أو التمكّن من الوصول؟

فقد اتّضح لك ما هو الحقّ في المسألة وما هو المختار في المقام ، وأنّ الوجوب في الواجب واحد متعلّق بمجموع المقدّمة وذي المقدّمة إن شئت سمّه نفسيّا أو شئت سمّه غيريّا.

وإن ضممت هذا إلى ما هو المختار في الوجوب وأنّ الحاكم بالوجوب كلّيّة هو العقل في موضوع تحقّق الطلب من المولى ، كانت النتيجة أنّ الإيجاب إيجاب واحد من العقل متعلّق بمجموع المقدّمة وذيها لطلب صادر من المولى متعلّق بهما ، أو بخصوص ذي المقدّمة.

١٠٠