الأصول في علم الأصول - ج ١

ميرزا علي الإيرواني النجفي

الأصول في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

ميرزا علي الإيرواني النجفي


المحقق: محمّد كاظم رحمان ستايش
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-424-879-1

الصفحات: ٢٠٠
الجزء ١ الجزء ٢

الأمر عقيب الحظر

الأمر عقيب الحظر أو النهي عقيب الأمر أو عقيب توهّمهما لا يفيدان سوى رفع ما كان ، لكن بشرط التفات المولى إلى ذلك وقصده رفعهما بطلبه ، وليس ذلك باستعمال الصيغة في ذلك بل من باب الكناية بذكر الملزوم وإرادة اللازم ؛ حيث إنّ لازم ثبوت كلّ من الأمر أو النهي ارتفاع صاحبه.

نعم ، لا وجه لما قيل من أنّا لو لم نسلّم قرينيّة الوقوع عقيب الحظر فلا أقلّ من الإجمال ؛ لاتّصال الكلام بما هو صالح للقرينيّة (١) ؛ وذلك لأنّ الصالح للقرينيّة هو الأظهر ، فعند اتّصال الكلام بما هو أظهر منه يتصرّف في ظهور الكلام بما يوافقه ؛ كما أنّه إذا اتّصل بما يساويه في الظهور حصل الإجمال. فأمّا لا مع هذا وذاك ينعقد للكلام ظهور ولا يرفع اليه عنه من غير سبب.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٧٧.

٦١

المرّة والتكرار

صيغة الأمر لا تقتضي سوى طلب الطبيعة بلا قيد المرّة والتكرار ؛ إذ مفاد المادّة المتوجّه إليها الطلب من الهيئة ليس إلّا الطبيعة بلا قيد ، والمفروض أنّ الهيئة لا تتجاوز موادّها عن أصل الطلب ، فيصير مفاد مجموع المادّة والهيئة طلب الطبيعة بلا قيد المرّة ولا قيد التكرار.

وربما يستدلّ على أنّ مفاد المادّة هو الطبيعة اللابشرط باتّفاق أهل العربيّة على أنّ المصادر الخالية عن اللام والتنوين وضعت للطبيعة اللابشرط (١).

وربما يدفع بأنّ الاتّفاق في المصادر لا يجدي ؛ إذ ليس المصدر أصلا في الكلام بل هو مشتقّ كسائر المشتقّات (٢).

ويردّه : ـ بعد عدم الحاجة إلى الاستدلال بالاتّفاق المذكور بعد معلوميّة معنى المادّة بالوجدان وحكم العرف ـ أنّ المصدر وإن لم يكن أصلا في الكلام وأنّه مشتقّ من المشتقّات ، إلّا أنّه من المعلوم انحفاظ معنى المبدأ في مشتقّاته بلا نقيصة منه وإن زاد عليه لمكان الهيئة. وحينئذ فإذا شاهدنا أنّ مشتقّا من المشتقّات خلا عن قيد علمنا أنّ ذلك القيد لم يكن مأخوذا في المبدأ ، وإلّا لما خلا عنه ذلك المشتقّ.

نعم ، إذا اشتمل مشتقّ من المشتقّات على قيد لم يكن ذلك دليلا على أخذ القيد في معنى المبدأ ، فلعلّ ذلك القيد جاء من قبل هيئته.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٧١ قوله : فصل : الحقّ أنّ هيئة ... الخ.

(٢) كفاية الأصول : ٧٨.

٦٢

واعلم أنّ هذا البحث من متمّمات مبحث تعلّق الأمر بالطبائع أو الأفراد ، ومتفرّع على القول بالتعلّق بالأفراد ـ سواء أريد من المرّة والتكرار ، الفرد أو الأفراد أو الدفعة والدفعات ـ فكان ينبغي أن يذيّل به ذلك المبحث لا أن يبحث عنه مستقلّا.

وقد يتوهّم عموم هذا البحث وجريانه على كلّ من القول بتعلّق الأوامر بالطبائع والقول بتعلّقه بالأفراد ؛ لأنّ القائل بتعلّقها بالطبائع لا يقول بتعلّقها بالطبائع من حيث هي ، بل يقول بتعلّقها بوجود الطبائع (١).

ويدفعه : أنّ مجرّد دخل الوجود في متعلّق الأمر لا يوجب افتتاح هذا البحث ؛ إذ الوجود مع قطع النظر عن كلّ خصوصيّة لا كثرة فيه ولا تعدّد وإنّما تأتي الكثرة في المتعلّق بدخل الخصوصيّات فيه ، فمع هذا الدخل يجيء نزاع المرّة والتكرار لا مع عدم هذا الدخل.

ثمّ النسبة بين المرّة والتكرار ، والفرد والأفراد ، عموم وخصوص مطلق ؛ إذ الأفراد عبارة عن مطلق الكثرات ، والتكرار عبارة عن خصوص الكثرات التدريجيّة الزمانيّة. ويرادف المرّة والتكرار ، الدفعة والدفعات.

وليعلم أنّ القائل بالمرّة لا يريد بها المرّة بشرط لا ـ بحيث لو أتى بالمتعدّد بطل الجميع ـ بل يريد المرّة لا بشرط عن الزيادة ، فإذا زاد اختصّت الزيادة بالبطلان ، وإذا كان الإتيان بالجميع دفعة واحدة صحّ واحد لا بعينه. وفي هذا يمتاز القول بالطبيعة عن القول بالأفراد ؛ فإنّه يصحّ الجميع على ذلك القول.

ثمّ إنّ اتّصاف الواحد لا بعينه بصفة المطلوبيّة ليس بعزيز ؛ فإنّ الحال في عامّة موارد تعلّق الطلب بمفاد النكرة كذلك.

ويمكن المناقشة في المقام بأنّه إن أريد من المرّة ذات ما هو مرّة لزم حصول الامتثال بالجميع ، لأنّ كلّ ما هو واحد مرّة في ذاته ، وإن أريد ما لم ينضمّ إليه غيره بطل الجميع مع الانضمام. وعلى كلّ تقدير كان القول بحصول الامتثال بواحد لا بعينه باطلا.

تذييلان

الأوّل : إذا تحقّق شيء من الاحتمالات الثلاث وتحقّق استظهاره فهو ، وإلّا فإن كان

__________________

(١) المتوهّم هو صاحب الفصول. انظر الفصول الغرويّة : ٧١.

٦٣

الدوران بين الثلاث ، أو بين الطبيعة والتكرار وجب الاحتياط ؛ لأنّه يكون من قبيل دوران الأمر بين إكرام طبيعة العالم وبين إكرام زيد العالم.

وإن كان الدوران بين المرّة والتكرار جرت البراءة عن الزائد على المرّة بلا إشكال على تقدير كون الزيادة على المرّة ـ على تقدير وجوبه ـ واجبا مستقلّا ، وبناء على القول بالبراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين إن كانت الزيادة جزء من الواجب.

وإن كان الدوران بين الطبيعة والمرّة فلا أثر له لكفاية المرّة على كلّ حال.

وتظهر الثمرة في جواز الإتيان بأزيد من المرّة دفعة واحدة بعنوان الامتثال.

الثاني : إذا أتى المكلّف بفردين من أفراد الطبيعة دفعة واحدة فعلى القول بالتكرار يتّصف الجميع بالوجوب ، وكذا على القول بالطبيعة ـ لكن بشرط الإتيان دفعة وأما إذا أتى تدريجا كان المتّصف بالوجوب هو الفرد المأتي به أوّلا وبه يسقط الطلب ، فيبقى ما عداه لغوا إلّا إذا قلنا بأنّه يعقل التخيير بين الأقلّ والأكثر فحينئذ يقع الجميع امتثالا للتكليف ، وكان وقوع الامتثال بالفرد الأوّل مراعى بعدم لحوق غيره ومع اللحوق يكون الامتثال بالجميع.

لا يقال : إنّا لو قلنا بالمعقوليّة فذلك في التخيير الشرعي والمقام أجنبي عنه.

لأنّا نقول : لا فرق في المعقوليّة وعدمها بين التخيير الشرعي والعقلي ، فلو قلنا بالمعقوليّة اقتضى إطلاق الخطاب بالطبيعة اتّصافها بالوجوب ـ وقعت في ضمن فرد واحد أو أفراد ، كانت الأفراد دفعيّة أو تدريجيّة ـ ولازمه حصول الامتثال في جميع الفروض. وهذا على كلّ من القول بالطبيعة والتكرار.

وأمّا على القول بالمرّة فمع الإتيان بواحد لا إشكال ، ومع الإتيان بالمتعدّد فقد تقدّم الكلام فيه. ويشاركه في ذلك كلّ مورد تعلّق الأمر بمفاد النكرة ، أو التثنية والجمع ، أو شيء من مراتب الأعداد ، ثمّ زاد المكلّف زيادة دفعيّة في مقام الامتثال.

هذا في غير العبادات ، وفي العبادات يكون فرض المسألة فيما إذا تعدّد المقصود به التقرّب. ثمّ لم يضرّ ضمّ الأجنبي في حصول التعبّد بالمنضمّ إليه ، وأمّا إذا كان المقصود به التقرّب واحدا فلا إشكال وإن ضمّ إليه ألف بلا نيّة التقرّب ؛ فإنّه كلا ضمّ في عدم تأثيره في الضمّ إليه.

٦٤

الفور والتراخي

صيغة الأمر لا تقتضي سوى طلب الطبيعة من غير تقييد بالفور. ولازمه جواز كلّ من الفور والتراخي إذا كان الإطلاق في مقام البيان من هذه الجهة. وأمّا التقييد بالتراخي فالظاهر هو أنّه لم يحتمله أحد. والكلام في المقام هو الكلام في المسألة السابقة فلا نعيد.

وقد يستدلّ على الفور بآيتي المسارعة (١) والاستباق (٢) وذلك خطأ واضح ؛ فإنّ الآيتين إن دلّتا على الفور كانتا دليلين خارجيّين على وجوب الفور ، وذلك أجنبي عن محلّ البحث الذي هو دلالة الصيغة.

مع أنّ قضيّة الآيتين وجوب الفور مستقلا لا قيدا في المطلوبات الأوّليّة لتفيدا التقييد في إطلاق الخطابات الأوّلية ، بل مادّتي المسارعة والاستباق تقتضيان سعة الوجوب وشمولاه للمأتي به متراخيا ، وإلّا لم يكن الإتيان فورا مسارعة ولا استباقا.

ومن أعجب ما تمحّل في المقام حمل الآيتين [آية (فَاسْتَبِقُوا) ، وآية (وَسارِعُوا)] على الاستحباب أو الإرشاد ، زاعما بأنّهما لو كانتا للإيجاب لكان البعث بالتحذير على تركهما أنسب ، وبأنّ العقل مستقلّ بحسن المسارعة والاستباق (٣) ؛ لمنع الأنسبيّة أوّلا ، ومنع لزوم مراعاة الأنسب ثانيا ، وإلّا وجب حمل جلّ الخطابات الإلزاميّة

__________________

(١) آية المسارعة هي قوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) آل عمران (٣) : ١٣٣.

(٢) آية الاستباق هي قوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) البقرة (٢) : ١٤٨ والمائدة (٥) : ٤٨.

(٣) كفاية الأصول : ٨٠.

٦٥

على الاستحباب لعين الوجه المذكور.

وأمّا استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق فذلك لا يوجب صرف ما ظاهره الإلزام المولوي إلى الإرشاد ؛ مع استقلال العقل في موضوع ثبت فضيلة أوّل الوقت [فيه] ، أو احتمل المكلّف طروء بعض الأعذار [عليه] ، بل في هذا لا يبعد إلزام العقل بمسارعة وعدم الترخيص في التأخير ؛ لأنّ العقل إنّما يرخّص في التأخير ويمنع عن الترك رأسا ؛ وفي مثل هذا يحتمل أن يكون الترك في أوّل الوقت تركا رأسا لا تأخيرا مع الإتيان بالفعل في سائر الأوقات.

تذنيب

إذا قلنا بالفور ثمّ أخّر المكلّف فهل يكون الفعل باقيا على صفة الوجوب أم لا؟ ثمّ على تقدير البقاء فهل يجب أيضا فورا وهكذا ، أم لا؟ فلنا بحثان :

الأوّل : بقاء الفعل في الأزمنة المتتالية على صفة الوجوب وعدمه. والحقّ أنّ هذا مبني على أنّ الفور قد استفيد من دليل خارج كالآيتين ، أو من ظاهر نفس الخطاب.

فعلى الأوّل ، الأوّل (١) ؛ لأنّ ظاهر الدليل الخارج مطلوبيّة الفور مستقلّا لا قيدا للمطلوب الأوّل ، فكان إطلاق خطاب وجوب الفعل محفوظا في باقي الأزمنة ، وقضيّة هذا الإطلاق استمرار الوجوب. هذا إذا كان للخطاب إطلاق ، وإن كان في مقام الإهمال استصحب الوجوب.

وعلى الثاني ، الثاني (٢) ؛ لأنّ ظاهر الخطاب وحدة المطلوب والطلب ، وكون الفور قيدا من المطلوب الأوّل ؛ فإذا فات الفعل في الزمان الأوّل لم يبق ما يقتضي الوجوب في الزمان الثاني ، ولا يقتضي الاستصحاب ذلك بعد أن كان الزمان قيدا.

ودعوى أنّ عدم جريان الاستصحاب مختصّ بالمؤقّت إذا فات وقته ـ دون المقيّد بالزمان ـ مدفوعة بعدم الفرق بينهما ؛ فإنّ مناط عدم الجريان هو عدم اتّحاد القضيّة المشكوكة والمتيقّنة ، وذلك فيهما حاصل ، مع أنّا لا نعقل الفرق بين الموقّت والمقيّد إلّا في مجرّد العبارة.

__________________

(١) أي بناء على استفادة الفور من دليل خارج كالآيتين يبقى الفعل على صفة الوجوب في الأزمنة المتتالية.

(٢) أي بناء على استفادة الفور من ظاهر نفس الخطاب فالفعل لا يبقى على صفة الوجوب في الأزمنة المتتالية.

٦٦

الإجزاء

هل الإتيان بالمأمور به يقتضي الإجزاء ، أو لا؟ إشكال. وقبل الشروع في البحث نذكر أمورا ممّا لا بدّ منها :

الأوّل : أنّ عنوان البحث في كلماتهم مشتمل على قيد «على وجهه» ، وقد تركناه إذ لم نجد له فائدة سوى التوضيح ؛ إذ كلّ قيد داخل في المأمور به فهو مشمول للفظ المأمور به ، وكلّ ما هو خارج لا يجب إتيانه شرعا ولا عقلا.

نعم ، من اعتبر قصد القربة في العبادات من باب حكم العقل ـ لأجل تحصيل الغرض لا لأجل دخله في المأمور به ـ لزمه تقييد العنوان بهذا القيد قاصدا به الوجه العقلي أعني قصد القربة. لكنّا لا نسلك هذا المسلك ولا غيرنا ، فاللازم علينا جميعا ترك هذا القيد.

الثاني : مادّة الاقتضاء تطلق بمعنى واحد على القاضي ، وقضاء الله ، والأحكام الاقتضائيّة ، والأمر يقتضي الفور ، والنار تقتضي الحرارة ، والقياس يقتضي نتيجة كذا ، فليس التأثير ولا الدلالة إلّا جزئيّا من جزئيّات ذاك المعنى العامّ ، لا أنّ كلّا منهما من معاني اللفظ مستقلّا في عرض الآخر.

والمعنى الجامع بين موارد إطلاقه الساري في جميعها هو تعيين شيء لآخر في أمر من الأمور. فاقتضاء اللفظ للمعنى هو تعيينه له في مقام الدلالة. واقتضاء العلّة للمعلول هو تعيينه له في التأثير في التحقّق ، ومن ذلك الاقتضاء في العنوان ؛ فإنّه بمعنى تعيين الامتثال جانب سقوط الأمر.

٦٧

وهذا المصداق من التعيين غير المصداق الذي ذكرناه في العلّة ؛ فإنّه هناك بمعنى التأثير ، ولا مناسبة للتأثير مع المقام ؛ إذ ليس سقوط الأمر بتأثير من الإتيان بالمأمور به بل الإرادة تنفد بحصول متعلّقها (١).

الثالث : لا جهة مشتركة بين مسألتنا ومسألة تبعيّة الأداء للقضاء ـ كي نطالب بذكر المائز ؛ فإنّ هذه المسألة تبحث عن اقتضاء إتيان المأمور به سقوط الأمر ، وتلك تبحث عن اقتضاء خروج الوقت سقوطه ، ولا رابطة بينهما. وإن شئت قلت : إنّ هذه باحثة عن اقتضاء الإطاعة سقوط الأمر وتلك باحثة عن اقتضاء المعصية سقوطه.

وأمّا الفرق بين مسألتنا وبين مسألة اقتضاء الأمر للمرّة والتكرار : أمّا بالنسبة إلى الأمر الاضطراري والظاهري ، واقتضاء امتثالهما للإجزاء عن الأمر الواقعي فواضح (٢).

وأمّا بالنسبة إلى إجزاء امتثال أمر سقوط شخص ذلك الأمر فذلك أنّ البحث في مسألة المرّة والتكرار في أخذ كلّ من الأمرين في متعلّق الأمر ، وبحث المقام بعد الفراغ عن عدم أخذ شيء منهما ـ بل تعلّق الأمر بصرف الطبيعة ـ في أنّ الإتيان بها كاف في سقوط الأمر أم لا؟

نعم ، كلّ من القائل بالتكرار وعدم الإجزاء يكرّران العمل كما أنّ كلّا من القائل بالمرّة والإجزاء لا يكرّران ، لكن بمناطين.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الكلام يقع في مقامات ثلاث :

[المقام] الأوّل : الإجزاء بالنسبة إلى الأمر الواقعي يعني اقتضاء الإتيان بالمأمور به سقوط ذلك الأمر الذي أتى بمتعلّقه وعدمه ، ولو كان ذلك الأمر اضطراريّا أو ظاهريّا.

والظاهر أنّ مال هذا البحث ـ إن كان في هذا المقام بحث ـ إلى أنّ توجّه الأمر إلى طبيعة هل يقتضي مطلوبيّة تلك الطبيعة بسيلانها وانبساطها ـ ففي أيّ فرد حصلت اتّصفت

__________________

(١) أي إرادة متعلّق الأمر ـ وهو المأمور به من المكلّف ـ فهو بإتيانه له ينفد ما تعلّقت به إرادة المولى ، وهذا هو مراده من قوله : بل الإرادة تنفد ـ بالبناء للمجهول ـ بحصول متعلّقها.

(٢) لبداهة كون الأمر الاضطراري أو الظاهري يجزي عن الأمر الواقعي أو لا يجزي ، لا ربط له بكون لفظ الأمر على المرّة أو التكرار.

٦٨

بالمطلوبيّة ، ولو مرّة بعد أخرى ، وكرّة بعد أولى ـ أو أنّ المتّصف بالمطلوبيّة وجودها في الجملة وفي فرد ما ، فإذا حصلت في فرد سقط الأمر ولم يبق ما يقتضي اتّصاف الباقي بالمطلوبيّة؟

الحقّ هو الثاني. وتوضيحه بما يظهر به الفرق بين الأمر والنهي في اقتضائهما ـ حيث إنّ النهي يقتضي مبغوضيّة الطبيعة في أيّ فرد تحقّقت ، فكيف لا يقتضي الأمر محبوبيّتها كذلك ، مع أنّهما جميعا متعلّقان بالطبيعة ، هذا بوجودها وذاك بعدمها ـ هو : أنّ الطبيعة في ذاتها مع قطع النظر من لحاظ كلّ خصوصيّة لا يعقل فيها إطلاق ولا تقييد ولا إهمال. وإنّما الأقسام الثلاثة تنشأ من ملاحظتها مع شىء من الخصوصيّات ، فتارة تلحظ سارية في كلّ الأفراد فتوصف حينئذ بالإطلاق ، وأخرى مقيّدة راكدة في فرد واحد أو أفراد معيّنة فتوصف بالتقييد ، وثالثة مقيّدة في فرد او أفراد غير معيّنة فتوصف حينئذ بالإهمال.

وأمّا هي في ذاتها فلا مهملة ولا مطلقة ولا مقيّدة ، وإنّما الإهمال والإطلاق والتقييد بالنظر إلى الطوارئ. فلا إهمال في متن ذات الطبيعة كما لا أخويه ، إنّما الإهمال أوّلا وبالذات للقيد ـ حيث لم يعيّن ـ والطبيعة موصوفة به ثانيا وبالعرض ومن باب الصفة بحال المتعلّق.

فالطبيعة مهملة القيد ، وبهذا المعنى يوصف بعض الخطابات القرآنيّة بالإهمال يعني أنّها مقيّدة بقيود لم تذكر ، وإلّا فالطبيعة في ذاتها أيّ إهمال فيها؟! بل هي شيء ذو تعيّن قبال سائر الأشياء وسائر الطبائع.

ثمّ إنّه لا مانع من وقوع الطبيعة كذلك تحت الطلب ؛ فيلحظ محض الطبيعة فيطلب وجودها أو يطلب عدمها. وحيث إنّ الطبيعة في ذاتها سيّالة صادقة على كثيرين حصلت بوجود فرد واحد من أفرادها ، ولازم ذلك سقوط الطلب المتوجّه إلى الفعل ، ومقتضى ذلك أن يكون ارتفاعها بارتفاع جميع الأفراد ، ولازمه عدم سقوط الطلب المتوجّه إلى الترك إلّا بترك جميع الأفراد مع اتّحاد الطبيعة الواقعة تحت الطلبين ، فلا ينبغي أن يقاس الأمر على النهي ، ثمّ يحكم بعدم الإجزاء فيه حذو النهي.

نعم ، إذا وجّه الطلب إلى الطبيعة بقيد العموم والسريان اقتضى ذلك الإتيان بما تيسّر من

٦٩

أفرادها ـ وكان مجموع ما أتى به امتثالا واحدا للطلب كما في النهي بعينه ـ وهذا غير السريان الذاتي الثابت للطبيعة.

وممّا ذكرنا ظهر لك أنّ البحث في الإجزاء بالنسبة إلى الأوامر الواقعيّة صغروي ـ كصغرويّة البحث في إجزاء الأمر الظاهري أو الاضطراري عن الأمر الواقعي ـ لا كما توهّم من كبرويّة هذا البحث على خلاف ذينك البحثين ، ومال هذا البحث إلى أنّ متعلّق هذا الطلب هل هي الطبيعة بشرط العموم ، أو ذات الطبيعة اللابشرط؟

المقام الثاني : في إجزاء امتثال الأمر الاضطراري.

فاعلم أنّ الأمر الاضطراري يتصوّر على وجوه :

الأوّل : أمر حدث بالاضطرار ، بدلا وعوضا عن الواقع.

الثاني : ما كان من بقايا الأمر الاختياري على أن يكون في حال الاختيار مطلوبان : أحدهما أصل الفعل ، وثانيهما خصوصيّته المتعذّر فعلا ، وقد أوجب التعذّر سقوط المطلوب الثاني مع بقاء المطلوب الأوّل. وفي عدّ هذا أمرا اضطراريّا تسامح ؛ إذ ليس هذا شيئا قد حدث بالاضطرار ، وإنّما الاضطرار أسقط ما تعذّر وبقي الفعل على مطلوبيّته الأصليّة.

الثالث : أمر أوجبه الاضطرار ـ كسائر العناوين الموجبة للأحكام ـ بلا مساس له بالواقع الذي اضطرّ إليه ، بل تحدث مصلحة مستقلّة في عرض الواقع في ظرف الاضطرار كما تحدث مصلحة وجوب الاتفاق في موضوع حدوث الازدواج.

أمّا ما كان من قبيل الأوّل [وهو] الواجب بعنوان البدليّة عن الواقع ـ المستكشف ذلك من كون دليله ناظرا إلى دليل الواقع شارحا لدليله بما يشمل الفعل الاضطراري حال الاضطرار ـ فالحقّ أنّه يجزي عن الواقع ويسقطه عن الذمّة بالمرّة ، وهذا كدليل التيمّم الدالّ على أنّه أحد الطهورين ؛ فإنّه بدلالته هذا يدلّ على إسقاطه للواقع كإسقاط الفرد الاختياري ، فكما يفسّر دليل الواقع بالتوسعة للفرد الاضطراري كذلك يفسّر دليل «اقض ما فات» (١)

__________________

(١) لم يرد في المصادر حديث بهذا اللفظ إلّا أنّه يصطاد هذا المعنى من بعض الأحاديث فراجع نموذجا : الكافي ٣ : ٤٣٥ / ٧ ؛ التهذيب ٣ : ١٦٢ / ٣٥٠ باختلاف يسير ؛ وسائل الشيعة ٨ : ٢٨٦ أبواب قضاء الصلوات ، ب ٦ ، ح ١ ؛ وفي عوالي اللئالي ٢ : ٥٤ / ١٤٣ نقل قوله : «ما فاتتك من فريضة فاقضها كما فاتتك».

٧٠

بالتضييق ـ وإخراج المورد منه ، وأنّه لا فوت في المقام ـ فيثبت الإجزاء بالنسبة إلى القضاء أيضا. ومن مقام إثبات هذا الأمر الاضطراري يستكشف مقام ثبوته وأنّ متعلّقه واجد لما يجده متعلّق الأمر الاختياري ، أو لا ينقص إلّا بيسير لا يجب محافظته ، أو وإن نقص بكثير فالفائت لا يتدارك بالإعادة.

نعم ، في هذا يجب أن يكون الأمر بالفعل الاضطراري لمصلحة أخرى يوازي ما تفوت من مصلحة الواقع ، ولا يكاد يكون إحراز مصلحة أوّل الوقت مسوّغا له ؛ فإنّها مصلحة غير ملزمة لا تسوّغ تفويت مصلحة ملزمة.

وأمّا ما كان من قبيل الثاني ـ كالأوامر الاضطراريّة الثابتة بقاعدة الميسور ـ فلا يجزي عن الواقع ؛ لأنّ غاية ما تقتضيه قاعدة الميسور عدم دخل القيد المتعسّر في أصل المطلوب ـ وإن كان دخيلا في تأكّده ، فوجب لأجله الإتيان بما تيسّر ـ لكنّ هذا لا يقتضي سقوط الأمر بالواقع لأجل تحصيل ما فات ، والفرض أنّ الإطلاق يقتضيه ؛ لما عرفت أنّ البحث مختصّ بما إذا كان لدليل الواقع إطلاق يشمل ما بعد رفع الاضطرار ، وإلّا لم يكن كلام في الإجزاء لقصور المقتضى.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ دليل الأمر الاضطراري يهدم هذا الإطلاق بكشفه عن تعدّد مراتب المطلوب ؛ إذ بعد حصول امتثال مرتبة من الطلب لا يبقى التكليف بالواقع بما كان له من الحدّ ـ أعني بوصف تعلّقه بالمجموع ـ وبقاؤه متعلّقا بالبعض خارجا عن وسع دليله.

وأمّا ما كان من قبيل الثالث ـ أعني ما كان من الأمر الاضطراري بمناط جديد حادث بطروء الاضطراري غير مرتبط بالواقع ـ فهو أوضح في عدم اقتضاء الإجزاء من سابقه. واحتمال سقوط الأمر الواقعي صدفة من باب الاتّفاق مقارنا لإتيانه هذا وإن كان قائما ، إلّا أنّه محجوج بوجود حجّة معتبرة على الخلاف ، وهو إطلاق دليل الأمر بالواقع إذا كان رفع الاضطرار في الوقت ، وإذا كان في خارجه. كفى هذا الخطاب التعليقي في توجّه أمر «اقض» ؛ لأنّه يصدق حينئذ فوت الواقع.

ولا يتوقّف صدق الفوت على فعليّة الخطاب في الوقت ، وإلّا اختصّ القضاء بغير ذوي الأعذار ؛ ولا مجال لأصالة البراءة مع هذا الإطلاق الذي هو المفروض في المقام. بل لو لا هذا الإطلاق أيضا ، الأصل هو الاحتياط دون البراءة ؛ وذلك لأنّ الأمر بفعل في زمان يفضل

٧١

عنه أمر بكلّي ذلك الفعل ـ أعني عنوان الفعل الواقع بين مبدأ ذلك الزمان ومنتهاه ـ فيكون ذا أفراد تدريجيّة حسب أجزاء الزمان.

ومركز الأمر هو الواحد المنطبق على تلك الكثرات دون نفس الكثرات ـ أمّا دفعة بدخول الوقت تتوجّه أوامر بعدد ما يتصوّر من [أفراد] الفعل في سعة الوقت ، غاية الأمر [أنّ الأمر فيها يكون] تخييرا أو تدريجا ـ ليزول أمر ويحدث آخر بمعنى أنّه إذا انقضى أوّل جزء من الزمان سقط أمره وتوجّه الأمر بالفعل في ثاني جزئه ، وهكذا. بل الأمر واحد متوجّه إلى متعلّق واحد ، وهو الكلّي المنطبق على ما بين المبدأ والمنتهى ، وهذا الأمر باق حتّى يمتثل أو يخرج الوقت. وعلى ما ذكرنا فالتكليف في فرض اختصاص الاضطرار بجزء من الوقت إن قلنا بالإجزاء متوجّه إلى الجامع بين الفعل الاختياري والاضطراري ، وإن قلنا بعدمه إلى الفعل الاضطراري ، ثمّ الاختياري بعد دفع الاضطرار ، أو الانتظار والإتيان بالفعل الاختياري بعد رفع الاضطرار مخيّرا بينهما.

فإذا شككنا في الإجزاء وعدمه كان مال هذا الشكّ إلى الشكّ في توجّه التكليف بأيّ من النحوين المتقدّمين ـ أعني بالكلّي الجامع ، أو بالأفراد على سبيل التخيير بين فردين ، وبين فرد واحد منه ـ ومقتضى العلم الإجمالي المذكور هو الاحتياط بالإتيان بالفرد الاختياري بعد رفع الاضطرار ، وإن كان آتيا بالفرد الاضطراري عنده (١).

وإن شئت قلت : إنّ محصّل الطبيعة المأمور بها ـ على القول بعدم الإجزاء ـ ليس هو الفرد الاضطراري فقط ، بل هو منضمّا إلى الفرد الاختياري بعد رفع الاضطرار. فإذا شكّ في الإجزاء وعدمه فقد شكّ في حصول الطبيعة المأمور بها بالفرد الاضطراري فقط ، ومقتضى القاعدة هو الاحتياط بالإتيان بما يحصل معه اليقين بحصول الطبيعة المأمور بها في الخارج ، وذلك يكون بالإتيان بالفرد الاختياري بعد رفع الاضطرار.

نعم ، لو كان التكليف ـ على القول بعدم الإجزاء ـ تكليفين موجّهين إلى الفردين ـ مرتّبا هذا في حال الاضطرار وذاك بعد رفع الاضطرار ـ أمكن أن يقال : إنّ المتيقّن من التكليف ما كان في حال الاضطرار وغيره مشكوك يرجع فيه إلى البراءة.

__________________

(١) أي عند الاضطرار.

٧٢

إزاحة وهم

لمّا لم يكن البحث في المقام مقصورا على القول بتبعيّة الأحكام لمصالح في المتعلّق لم يكن محلّ لتشقيق الأمر الاضطراري بحسب مقام ثبوته إلى ما يشتمل على مصلحة الواقع ، أو يقصر منه بمقدار لا يقتضي الإلزام ، أو بمقدار يقتضيه ، ثمّ الفائت كان ممكن التدارك أو لم يكن. هذا مع ما عرفت أنّ الأمر الاضطراري على أقسام ، فقد يشتمل على ما يساوي مصلحة الواقع ومع ذلك لا يجزي.

المقام الثالث : في إجزاء امتثال الأوامر الظاهريّة عن الواقع.

فاعلم أنّ المعقول من جعل الأحكام الظاهريّة ـ أصليّة كانت أو أماريّة ـ (١) وجهان:

الأوّل : رجوع الجعل فيها إلى إيجاب الاحتياط بالأخذ بكلّ من الأمارات والأصول المثبتة للتكليف صونا ومحافظة على الواقعيّات التي هي فيها ـ على أن تكون الواقعيّات التي هي فيها مطلوبات فعليّة ، والتي ليست هي فيها ليست مطلوبات فعليّة ـ فلذا وجب العمل بكلّ أصل أو أمارة مثبتة للتكليف ، وجاز العمل بكلّ أصل أو أمارة نافية للتكليف.

ف «صدّق الأمارة أو الأصل» ليس إلّا لسان جعل الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي بالتكليف ـ أعني الأصول والأمارات المثبتة للتكليف ـ وترخيصا بالعمل بالنافي للتكليف ، لا أنّه تكليف مستقلّ في عرض الواقع كي يبحث في أنّه يجزي امتثاله عن الواقع أو لا يجزي.

والحاصل : أنّ «صدّق الأمارة والأصل» تنبيه على قصور اقتضاء مناطات التكاليف الواقعيّة وأنّها مقتضية للتكليف في تقدير دون آخر ـ يعني أنّها مقتضية للتكليف إن صادف تلك المناطات أصلا أو أمارة مثبتة للتكليف ، وغير مقتضية إن لم تصادف ـ فتكون إرشادا إلى ما يحكم به العقل على تقدير درك المناط ودرك مقدار تأثيره في فعليّة التكليف. وهذا هو مسلك التقييد في جعل الأمارات.

وإن شئت توضيح ذلك ، فانظر إلى الأمارات والأصول المعمولة عند العقلاء ، تجدها كلّا

__________________

(١) الأحكام الأصليّة هي الأحكام التي دلّت عليها الأصول المجعولة في مقام الشكّ ، كالاستصحاب أو البراءة الشرعيّة ، بناء على أنّ المستفاد منه هو جعل الترخيص في مورد الشكّ ، في قبال الأحكام المستفادة من الأمارات كخبر الواحد.

٧٣

من هذا الباب ؛ فإنّ الواقعيّات التي هي بين الموالي والعبيد غير مطلوبة مطلقا ، بل إن ساعدها شيء ممّا عليه مدار عملهم من الأمارات والأصول اللفظيّة وغير اللفظيّة ، فهي مطلوبة وإلّا فليست بمطلوبة.

وإمضاء الشارع لبعض تلك الأمارات أو الأصول أيضا تنبيه على أنّ التكاليف الشرعيّة أيضا جارية مجرى التكاليف العرفيّة وحدّ اقتضائها ، حدّ اقتضائها (١) لا تتخطّى سعة فعليّتها عن سعة فعليّة التكاليف العرفيّة.

فكانت الأصول والإمارات ـ شرعيّة وغير شرعيّة ـ تقادير لفعليّات الأحكام الواقعيّة ـ من غير أن تزيد جعلا على جعلها ولا تشريعا على تشريعها ـ وإنّما الجعل مقصور على الواقع. والجعل الذي هو للواقع أيضا جعل تقديري ، يعني أنّ الواقع فعلي على تقدير قيام أمارة أو أصل مثبت للتكليف احتياطا وصونا للواقعيّات التي هي فيها.

وهذا الوجه نتيجة يوافق القول بجعل الحجّيّة في الأمارات لكنّه ليس قولا به ، بل لا نعقل يجعل الحجّيّة معنى سوى لقلقة لسان ، أو ما يؤول إلى جعل المؤدّى ؛ فإنّ الحجّيّة لا يعقل أن تكون جعليّة بل هي عقليّة محضة ، وهي لدى العقل منصب مختصّ بالعلم الوجداني ولا يتخطّاه مقدار قيد شعرة.

نعم ، علما يعمّ العلم بالواقع والعلم بالظاهر والعلم بالبعث الطريقي الاحتياطي لتحصيل الواقعيّات.

وعلى هذا فلو أراد المولى نصب الحجّة لم يكن له بدّ إلّا من إعلامه بأحد الأمور المذكورة ومن دونه لا حجّة له عليه وإن قال ألف مرّة : «جعلت الشيء الكذائي حجّة» ؛ ولا يعقل انقلاب ما ليس بحجّة بالقول المذكور إلى الحجّيّة.

اللهمّ إلّا أن يكون القول المذكور كناية عن جعل المؤدّى فيكون ذلك منه إعلاما بالحكم الظاهري ، أو يكون القول المذكور تنبيها على إرادة الواقعيّات عند قيام ذلك الشيء عليها وصدفته لها ، فيكون بذلك قد أشبه الحجّة واستحقّ التوسّع بإطلاق لفظها عليه.

ولا يتوهّمن أنّ قضيّة هذا الوجه في جعل الأصول والأمارات هو عدم الإجزاء ـ لأنّ الواقع لم يؤت به ، والفرض ألا أمر ظاهري يجزي امتثاله عن الواقع ـ وذلك لأنّ دليل

__________________

(١) أي حدّ اقتضاء التكاليف الشرعيّة كحدّ اقتضاء التكاليف العرفيّة.

٧٤

اعتبار الأصل أو الأمارة اقتضى معاملة الواقع معهما وفرضهما هو هو ؛ فكما أنّ الواقع لو أتي به لأجزأ ، كذلك هما.

فدليل «صدّق» يقطع لسان إطلاقين ـ إطلاق دليل الواقع فيما إذا انكشف الخلاف في الوقت ، وإطلاق دليل القضاء فيما إذا انكشف الخلاف في خارج الوقت ـ مع كون المكلّف عاملا بالأمارة أو الأصل دون ما إذا لم يكن عاملا ؛ فإنّه لا إشكال في وجوب الإعادة والقضاء حينئذ أخذا بالإطلاقين.

هذا في الأصول والأمارات المثبتة للحكم ، وأمّا النافية له ـ وقد ترك المكلّف من أجله الفعل ـ فمع انكشاف الخلاف في الوقت يجب العمل بالواقع ، ومع انكشافه في خارج الوقت لا يجب. والسرّ في ذلك هو أنّ معاملة عدم التكليف الذي هو مفاد «صدّق» الموجّه إلى الدليل النافي في تمام الوقت هو عدم القضاء ، كما إذا لم يكن تكليف واقعا في تمام الوقت. وهذا بخلاف معاملة عدم التكليف في بعض الوقت ؛ فإنّه ليس لازمه عدم الإتيان بالفعل في البعض الآخر.

الثاني : جعل الأحكام الظاهريّة على طبق مؤدّيات الأصول أو الأمارات ـ إمّا مطلقا أو في خصوص صورة الخطأ مع تنجّز الواقع بنفسه في صورة الإصابة ـ وهذا إمّا لحدوث المصلحة في المؤدّى بقيامها وهو مسلك السببيّة ، أو لاقتضاء مصلحة التحفّظ على الواقعيّات ؛ ذلك لما في ترك نصبها من فوات الواقعيّات كثيرا. وأيّا منهما كان ، لا يختلف بذلك الحكم في المقام وإنّما الإجزاء وعدمه يدور مدار لسان دليل جعل الأمارة والأصل نحو ما تقدّم في الأمر الاضطراري. فإن كان بلسان توسعة الواقع وأنّه هو مؤدّى الأصل والأمارة أجزأ امتثاله عن الواقع في الوقت وخارجه ، وإن كان بلسان الجعل الابتدائي في عرض الواقع لم يجزئ.

ولا وجه لتوهّم حكومة دليل الأصل في الموضوعات على الواقع دون دليله في الأحكام ودون دليل الأمارات مطلقا (١) ؛ فإنّ الكلّ من واد واحد في الحكومة وعدمها فكيف يفرّق في دليل واحد بين مصداقيه؟!

كما لا وجه لتوهّم الفرق في الإجزاء وعدمه بين الأصول والأمارات في الموضوعات

__________________

(١) كفاية الأصول : ٨٦.

٧٥

وبينهما في الأحكام ؛ زعما بأنّهما في الأحكام لا يستدعيان إلّا مصلحة في مجاريها ـ بناء على السببيّة ـ وهذه مصلحة مستقلّة لا دخل لها بمصلحة الواقع ، فمصلحة الواقع باقية غير مستوفاة يجب الإعادة بعد كشف الخلاف لاستيفائها (١) ؛ وذلك لأنّ دليل اعتبار الأمارة كدليل اعتبار الأصل ناظر إلى الواقع موسّع له بالنسبة إلى ما قامت عليه الأمارة. وأيّ فرق بين عبارة «لا تنقض» (٢) وبين عبارة «صدّق البيّنة» (٣) في توسعة دليل «لا صلاة إلّا بطهور» (٤) هذا [بالنسبة] إلى الطهارة القائمة عليها بالبيّنة ، وذاك [بالنسبة] إلى الطهارة المستصحبة.

ثم أيّ فرق في الدليلين بين مندرجاتهما ليعامل معهما في الأحكام خلاف معاملتهما في الموضوعات ؛ فإنّ دليلا واحدا لا تختلف نسبته إلى مصاديقه وجزئيّاته.

فالحقّ أنّ الدليلين كلاهما ناظران إلى الواقع شارحان له مع عموم هذا النظر بالنسبة إلى جميع ما هو مندرج تحتهما ـ فينشئان مؤدّى ما اعتبراه بعنوان أنّه الواقع توسعة للموضوع في الموضوعات وتوسعة للحكم في الأحكام. فإذا كان الواقع هو وجوب صلاة الظهر ونهض أصل أو أمارة على وجوب صلاة الجمعة ، كان معنى «صدّق الأصل أو الأمارة» هو وجوب صلاة الجمعة ، ومع ذلك لا يصادم دليلهما دليل صلاة الظهر ، بل وجبت الصلاتان تخييرا بعد الإجماع على عدم وجوبهما جميعا.

وإن شئت قلت : إنّ الواجب هو الجامع بينهما بعد بطلان التخيير أيضا في المقام ، بل مطلقا كما يجيء في محلّه. فإذا صلّى الجمعة فقد أتى بمصداق من الواجب وبرئت ذمّته ، وهكذا إذا صلّى الظهر مع فرض التمكّن من نيّة التقرّب.

وبمثل هذا يقال في الأمارة أو الأصل القائمين على الموضوعات. ومن هنا يظهر بطلان توجيه الإشكال بالتصويب على القائلين بالإجزاء ؛ فإنّ التصويب يكون برفع اليد عن الواقع لا بضمّ غير الواقع إلى الواقع.

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) أشار بعبارة «لا تنقض» إلى مدلول أدلّة حجّيّة الاستصحاب ، فقد ورد في أدلّتها قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» راجع التهذيب ١ : ٨ / ١١ ووسائل الشيعة ١ : ٢٤٥ أبواب نواقض الوضوء ، ب ١ ، ح ١.

(٣) أشار بهذه العبارة إلى ما يستفاد من أدلّة حجّيّة البيّنة ولم ترد هذا اللفظ في حديث.

(٤) التهذيب ٢ : ١٤٠ / ٥٤٦ ؛ وسائل الشيعة ١ : ٣٦٥ أبواب الوضوء ، ب ١ ، ح ١.

٧٦

مقدّمة الواجب

بحث مقدّمة الواجب ساقط عندنا بما أنكرنا الوجوب الشرعي للواجبات رأسا ، وقلنا : إنّ الحاكم بالوجوب في كلّ واجب ليس إلّا العقل ، وإنّما ينسب إلى الشرع في الواجبات الشرعيّة ؛ لأنّ موضوع حكم العقل هو الطلب من الشارع.

ومعلوم أنّ الوجوب العقلي للمقدّمات ليس محلّا للبحث ، بل هو مسلّم بين الفريقين وبالمعنى الذي ينسب سائر أفراد الوجوب إلى الشارع ينسب هذا الوجوب ؛ فإنّ الشارع بما أنّه طلب ذي المقدّمة أوجب حكم العقل بوجوب المقدّمة وذيها ، فكان الواجبان واجبين شرعيّين بالواسطة.

ويمكن أن يحرّر البحث على مبنانا في إرادة المولى وطلبه للمقدّمة وأنّه هل يترشّح من طلب ذي المقدّمة طلب آخر متعلّق بالمقدّمة ، أم هو طلب واحد بحكم العقل في موضوع هذا الطلب بإتيان المقدّمة كما يحكم بإتيان ذيها؟

لكن لا ثمر لهذا البحث بعد أن كان الحاكم على كلّ حال هو العقل ، [سواء] كان ذلك بمناط أنّ المقدّمة بنفسها مطلوبة ، أم بمناط أنّها مقدّمة للمطلوب.

ولنقتفي أثر القوم في التعرّض لجملة من مباحث مهمّة تعرّضوها في خلال هذا المبحث.

[المبحث] الأوّل :

لا ينبغي الريب في عدم معقوليّة تأخّر الشرط وكذا سائر أجزاء العلّة عن المعلول ، بل

٧٧

وكذا تقدّمها عليه. وإنّما الواجب المقارنة بين العلّة بتمام أجزائها وبين المعلول ؛ فإنّ ذلك قضيّة إمكان الشيء وفقره المحوّج إلى المؤثّر. فلا بدّ في موارد يتوهّم فيها تأخّر الشرط في الشرعيّات من التصرّف والتأويل.

فمنها : ما كان المتأخّر من قبيل شرط الوجوب كطلوع الفجر بالنسبة إلى توجّه الخطاب بالصوم من الليل.

ومنها : ما كان المتأخّر من قبيل شرط الواجب كالأغسال الليليّة لصوم المستحاضة.

ومنها : ما كان المتأخّر من قبيل شرط الوضع كالإجازة لعقد الفضولي على القول بالكشف.

وحلّ الإشكال من المورد الأوّل هو أنّ شرط التكليف ـ شرعيّا كان كما في المثال المتقدّم ، أو عقليّا كالقدرة في زمان الامتثال بالنسبة إلى تكليف سابق ـ هو أنّ الشرط ليس ذلك الأمر المتأخّر ؛ فإنّه ليس شرطا لحقيقة التكليف ولا شرطا لإنشائه.

أمّا عدم كونه شرطا لإنشائه فذلك واضح ؛ فإنّ الإنشاء لا يحتاج إلى شرط ، بل مهما أراد الشخص أن ينشئ ، أنشأ بلا ترقّب حالة.

وأمّا عدم كونه شرطا لحقيقة التكليف فلأنّ حقيقة الطلب ـ الذي هو عين الإرادة القائمة بنفس المولى التي هي عين العلم بالصلاح ، أو صفة أخرى متولّدة من العلم ـ لا يتوقّف وجودها على قدرة المكلّف من الفعل المعلوم صلاحه ، فضلا عن أن تكون قدرته في الحال قبل ظرف الامتثال.

نعم ، جواز البعث عقلا نحو المعلوم صلاحه موقوف على قدرة المكلّف منه في ظرف الامتثال ، بمعنى صدق أنّ المكلّف قادر في زمان كذا ، والصدق المذكور حاصل فعلا. وكفى ذلك في خروج البعث من القبح ، فلو لا هذا الصدق لم يسغ البعث وإن كان المكلّف قادرا فعلا (١).

وقد يجاب عن الإشكال بما حاصله : أنّ الشرط في باب التكاليف بل وكلّيّة المجعولات هو علم الجاعل بالمتأخّر لا نفس المتأخّر ، والعلم حاصل فعلا فكان الشرط فعليّا. وكذا

__________________

(١) لوضوح أنّه بقدرته فعلا ، مع عدم قدرته في ظرف الامتثال ، لا يخرج بذلك عن القبح.

٧٨

الحال في شرائط الأمور الاختياريّة ؛ فإنّ الإرادة تتولّد من الصور العلميّة دون المعلومات الخارجيّة ، والصور العلميّة سابقة على الإرادة ذاتا ومقارنة معها زمانا (١).

ويدفعه أوّلا : أنّه إمّا أن يراد بالعلم مطلق الاعتقاد الجازم ـ وهو الذي فسّروا به القطع ـ أو بشرط مطابقته مع الخارج.

فإن كان الأوّل ، لزم جواز التكليف بغير المقدور مع اعتقاد المولى القدرة.

وإن كان الثاني ، لزم الكرّ على ما فرّ منه ؛ إذ يكون الخارج المعلوم دخيلا فيعود المحذور.

وثانيا : أنّ التكليف من المولى إن صادف موضع القدرة في ظرف الامتثال صحّ ذلك التكليف وألزم العقل بامتثاله ـ سواء علم المولى بذلك أو لم يعلم ـ وذلك آية عدم دخل علمه وأنّ الدخيل هي القدرة بوجودها الواقعي. وهكذا الحال في الأوضاع ؛ فإنّ الإجازة بوجودها الخارجي مصحّحة للعقد لا بوجودها العلمي ، فلذا المنافع تكون لمن انتقل إليهما في ظرف تعقّب الإجازة واقعا.

وحلّ الإشكال من المورد الثاني أنّ الشرط المتأخّر فيه غير الشرط بالمعنى الممتنع تأخّره عقلا ، فإنّ الشرط يطلق تارة في مقابل الجزء ويراد منه ما كان دخيلا في المركّب بتقيّده ، ويطلق أخرى مقابل السبب والمانع ، والمعد ـ أعني سائر أجزاء العلّة المركّبة ـ والممتنع تأخّره هو هذا. وشرائط الواجب المتأخّرة عن نفس الواجب من قبيل الأوّل. ولا مانع من تأخّر شرط الواجب بذلك المعنى ؛ فإنّ لحاظ الواجب مقيّدا بأمر سابق أو لا حق كلحاظه مقيّدا بأمر مقارن في المعقوليّة.

ودعوى أنّ الشرط هنا أيضا بمعنى الدخيل في تأثير السبب ؛ فإنّ الواجب هو المؤثّر في حصول المصلحة المؤثّرة في إيجابه وشرط تأثيره هو الشرط ـ ولذا أطلق عليه الشرط ـ فليس للشرط إطلاقان ، يدفعها أوّلا : أنّ إطلاق لفظ الشرط مقابل الجزء لا ينحصر بالإماميّة القائلين بالمصالح والمفاسد الكامنة في متعلّق التكاليف. وبذلك المعنى الذي يطلقونه الأشاعرة يطلقونه الإماميّة.

وثانيا : أنّ المناط للتكليف لا يلزم أن يكون صادرا من المتعلّق معلولا منه بل كثيرا

__________________

(١) كفاية الأصول : ٩٣.

٧٩

ما يكون حالّا فيه ، إلّا أن يكون إطلاق الشرط في مثل ذلك باعتبار أنّه شرط لتأثّر المحلّ ، أو باعتبار أنّه شرط لتأثير علّة المصلحة في حصول المصلحة وإن لم يكن ذلك هو المتعلّق للتكليف.

وقد يجاب عن الإشكال بأنّ كون شيء شرطا للمأمور به ليس هو إلّا بأن يحصل للمأمور به بالإضافة إليه وجه وعنوان يكون بذلك الوجه والعنوان حسنا ومتعلّقا للغرض بحيث لولاها لم يكن كذلك. والإضافة كما تكون إلى المقارن كذلك تكون إلى المتأخّر والمتقدّم (١).

ويدفعه : أنّه لا تتصوّر إضافة بين طرف موجود وأخر غير موجود ، فعند وجود الواجب لا شرط كما أنّ عند وجود الشرط لا واجب. فكيف تكون إضافة ولا طرفين تقوم بهما الإضافة؟! ومعنى كون اليوم قبل غد ، هو أنّ اليوم موجود والغد سيوجد بلا إضافة مقوليّة بين اليوم والغد.

حلّ الإشكال من المورد الثالث هو أنّ شرائط الوضع وأسبابه غير المقارنة له ، إمّا متقدّمة عليه كعقد الوصيّة والصرف والسّلم والوقف بالنسبة إلى البطون اللاحقة ، بل كلّ عقد مركّب من أجزاء بالنسبة إلى ما عدا الجزء الأخير المقارن للأثر ، وإمّا متأخّرة عنه كالإجازة في الفضولي على القول بالكشف.

أمّا المتقدّمة فتأثيرها أيضا متقدّم ، وأثرها مقارن لوجودها وهو إعداد المحلّ وتهيئته لقبول الأثر من الجزء الأخير. فكان فعليّة الأثر للجزء الأخير وما عداه من الأجزاء أثره إعداد المحلّ وهو حاصل معه. ولا بأس بالقول بأنّ الموت هو الناقل للملك ، والوصيّة توجب استعداد المال لأنّ ينتقل بالموت. وكذا الحرف الأخير من «قبلت» هو الناقل للمال وسائر أجزاء العقد معدّات.

وأمّا المتأخّرة فأثرها أيضا متأخّر. يعني أنّ الإجازة في الفضولي منشأ لاعتبار الملكيّة والاعتبار يلحقها لا أنّه يسبقها. وإنّما المعتبر ملكيّة سابقة حاصلة عقيب العقد ـ لا بمعنى أنّ الملكيّة تكون هناك ، بل بمعنى أنّ الاعتبار فعلا يكون لملكيّة سابقة ـ على أن يكون السبق قيدا للملكيّة المعتبرة لا ظرفا لوجودها ، فيرتّب فعلا أثر سبق الملك من غير سبق الملك

__________________

(١) كفاية الأصول : ٩٤.

٨٠