الأصول في علم الأصول - ج ١

ميرزا علي الإيرواني النجفي

الأصول في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

ميرزا علي الإيرواني النجفي


المحقق: محمّد كاظم رحمان ستايش
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-424-879-1

الصفحات: ٢٠٠
الجزء ١ الجزء ٢

السيّال ، وتلك القطعة هى القطعة الحاملة من الذات للمبدا على سبيل خروج القيد ودخول التقيّد. والمراد بالذات ما يعمّ المبدأ نفسه ؛ فإنّه ذات من الذوات. ولا إشكال أنّ الشيء واجد لنفسه ، فكان المبدأ أيضا ممّا ينطبق ويطلق عليه المشتقّ ؛ لأنّه واجد للمبدا الذي هو نفسه. فلذلك يطلق الأبيض على نفس البياض ، والموجود على نفس الوجود.

وأمّا عدم إطلاق كثير من المشتقّات على مبادئها ـ كضارب وقاتل واكل إلى غير ذلك ـ فذلك من جهة أنّ النسبة المأخوذة في تلك المشتقّات هي نسبة صدوريّة ؛ وإذ لا نسبة صدوريّة بين المبدأ ونفسه فلذلك لا يطلق على نفس المبدأ ؛ حيث إنّ الشيء لا يكون علّة لنفسه ، فيختصّ إطلاق المشتقّ على المبدأ بمشتقّ لم يؤخذ في مفهومه سوى الوجدان والتحمّل للمبدا.

وهذا الذي قلناه هو معنى ما ذكروه : أنّ الفرق بين المشتقّ ومبدئه هو أنّ المشتقّ لا بشرط ، والمبدأ بشرط لا. يريدون به أنّ المشتقّ يطلق على كلّ من الذات والمبدأ ، ومفهومه مفهوم صادق على كلّ من الأمرين بخلاف المبدأ ؛ فإنّه يختصّ إطلاقه بنفس المبدأ. ويريدون به أنّ الفرق بين الحدث الكائن في لفظ المصدر ، أو كلّ ما كان هو مبدأ المشتقّات ، وبين الحدث الكائن في سائر المشتقّات هو باللابشرطيّة والبشرطلائيّة ، يعني أنّ هذا حدث ساذج ؛ ولذلك يأبى أن يطلق إلّا على نفس الحدث ، وذاك الحدث لا يأبى أن يكون معه غيره ، فذلك يطلق على نفس الحدث وعلى الذات الواجد للحدث.

ثمّ إنّهم استدلّوا على بساطة معنى المشتقّ بأنّه لو كان مركّبا ، فإمّا أن يكون مركّبا من مفهوم الشيء ، أو يكون مركّبا من مصداق الشيء ، وكلّ منهما باطل ، فالمقدّم باطل.

أمّا بطلان الأوّل فبلزوم دخول العرضي في الفصل ، وأمّا بطلان الثاني فبلزوم انقلاب مادّة الإمكان في القضايا الممكنة إلى الضرورة ؛ لضروريّة ثبوت الذات لنفسه (١).

وهذا الاستدلال غريب ؛ لأنّه إثبات اللغة بما يصان به كلمات أهل المعقول من الخطأ ، مع أنّه يتّجه عليه :

__________________

(١) المستدلّ هو مير سيّد شريف جرجاني في حاشيته على شرح المطالع عند قول الشارح : «والمشتقّ وإن كان في اللفظ مفردا إلّا أنّ معناه شيء له المشتقّ منه». راجع شرح المطالع : ١١.

٤١

أوّلا : بأنّ دخول العرضي في الفصل لا يضرّ بالفصل ولا يخرجه عن الفصليّة. وليس معنى كون الناطق فصلا ذاتيّا للإنسان أنّه بتمام مدلوله فصل ذاتي ، بل معناه أنّ به يحصل الفصل وبه يمتاز الإنسان عن غيره ممّا يشاركه في الحيوانيّة ، ولو كان ذلك حاصلا بجزء من مدلوله.

وأمّا انقلاب مادّة الإمكان إلى الضرورة فتوهّم ناشئ من حسبان أنّ الذات على تقدير دخوله في المشتقّ يكون هو المحمول ، ويكون حمل المبدأ على هذا الذات بحمل آخر ، وهو باطل ؛ فإنّ الحمل حمل واحد متوجّه على الذات المقيّد بقيد «ممكن» ؛ وثبوت الذات المقيّد بقيد إمكاني لنفسه يكون على وجه الإمكان لا محالة. فالتقييد بقيد «ممكن» سابق على الحمل ومأخوذ في بطن المحمول لا أنّه لاحق على الحمل وطارئ على المحمول بعد الاتّصاف بالمحموليّة ليلزم الانقلاب المذكور.

وثانيا : أنّ هذا البرهان كما يبطل التركيب ، كذلك يبطل البساطة ـ بمعنى المفهوم المنتزع من الذات والمبدأ ـ ويثبت كون المشتقّ عبارة عن نفس المبدأ ؛ لأنّه الفصل ، ولأنّه الذي يكون ثبوته للذات على جهة الإمكان ، وهذا ممّا لا يرضي به المستدلّ.

٤٢

الأوامر

٤٣
٤٤

الأوامر

[مادّة الأمر]

كلّ ما ذكر لمادّة الأمر من المعاني ، فإنّها كثرات لمعنيين ، وجزئيّات لمفهومين هما معنى مادّة الأمر ، وباقي المعاني خصوصيّات خارجيّة مستفادة من القرائن الخارجيّة ؛ والمفهومان هما : الطلب من العالي ، ومفهوم الشيء ، وهو في إطلاقه الأوّل يجمع على أوامر ، وفي إطلاقه الثاني يجمع على أمور ، ويشبه أن يكون إطلاقه الثاني أيضا مأخوذا من الأوّل ، وبمناسبة أنّ الشيء يقع موردا للطلب اطلق عليه لفظ الأمر ، كما أنّه بمناسبة أنّه تتعلّق به المشيّة أطلق عليه لفظ الشيء. ثمّ توسّع وأطلق اللفظان على المحالات غير القابلة لتعلّق الطلب والمشيّة. ثمّ الظاهر اعتبار قيدي العلوّ والاستعلاء جميعا في الطلب ، ولا يكتفى بأحدهما المعيّن ، أو لا بعينه ، فضلا عن نفي اعتبارهما رأسا ؛ وذلك لعدم إطلاق الأمر على الطلب من غير العالي ، كعدم إطلاقه على الطلب من غير المستعلي ، وإن كان عاليا.

ومن نفى اعتبار الاستعلاء اشتبه عليه معنى الاستعلاء ، وحسب أنّه عبارة عن إظهار العلوّ والتكبّر مقابل خفض الجناح ، مع أنّه ليس كذلك ، بل الاستعلاء هو الطلب من المولى بما هو مولى وهذا عبد ، لا بما أنّه طبيب وهذا مريض ، أو ناصح مشفق ، وهذا مستشير ، أو معلّم وهذا متعلّم ، وهكذا (١).

__________________

(١) أي لا بما أنّ الطالب طبيب والمطلوب منه مريض ، أو أنّ الطالب ناصح ومشفق ، والمطلوب منه مستشير لذلك الناصح ، أو أنّ الطالب معلّم والمطلوب منه متعلّم.

٤٥

توضيحه : أنّ للمولى بما أنّه مولى ، وبما أنّه طبيب ، وبما أنّه عاقل بصير ، وبما أنّه كذا وكذا ألسنة شتّى ، وهو يتكلّم بكلّ لسان ، فتارة يتكلّم بلسان مولويّته وتارة يتكلّم بلسان طبابته ، ويقول لعبده : اشرب الدواء الفلاني ، كما يقول لسائر الناس ذلك ، وثالثة يتكلّم بما أنّه عاقل بصير.

وحكم طلبه في كلّ لسان لا يختلف عن حكم طلب أرباب ذلك اللسان من سائر الناس. فإذا أمر بما أنّه طبيب كان حكم طلبه هذا كحكم طلب سائر الأطبّاء ، أو طلب بما هو عاقل كان حكم طلبه هذا حكم طلب سائر العقلاء في أنّه لا يجب امتثاله. ولا يطلق الأمر على طلبه إلّا بعناية ومصحوبا بالقرينة كما يقال : الأمر الإرشادي على طلبه بما هو أحد العقلاء ، ولذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في جواب من قال : أتأمرني يا رسول الله! ـ : «لا ، بل إنّما أنا شافع» (١). (٢).

ثمّ إنّ في معنى العالي غموضا ، والمتيقّن من معناه هو البارئ جلّ وعلا والأنبياء والأولياء والآباء والأمّهات. وأمّا مطلق من له نعمة على الشخص ، أو يتّقى سوطه وسيفه ، فهو وإن شارك المولى في وجوب إطاعته جزاء لأياديه ، أو اتّقاء من شرّه وأذاه ، إلّا أنّه ليس عاليا ولا يطلق أمر على طلبه.

واعلم أنّ الطلب الاستحبابي ليس بأمر ـ بل ولا طلب ـ وإنّما هو إرشاد إلى تحصيل مصالح الفعل وجلب عوائده ومنافعه ـ سواء كانت منافع ذاتيّة ، أو كانت منافع جعليّة ، أعني الثواب والأجر الذي التزم به المولى جزاء على العمل ترغيبا للمكلّف على العمل ، وتحبيبا للفعل في نظر المكلّف ـ فالمولى ابتداء يجعل الأجر على العمل ، ثمّ يظهر ذلك للمكلّف بعبارته المطابقي كما هو الغالب في أخبار المستحبّات ، أو ينشئ طلب الفعل تنبيها على أنّه جعل الثواب على العمل فإنّ العقل حاكم بحسن الفعل تحصيلا لذلك الثواب ، وأيضا تحصيلا لمنافع الفعل الموجودة فيه.

وهذا الذي ذكرناه يناسب مادّة الاستحباب ؛ فإنّه تحبيب للفعل في نظر المكلّف حتّى يختاره بطبعه لا كرها وعنفا. وهذا الجعل للأجر وإن كان موجودا في الواجبات أيضا ، لكنّ

__________________

(١) سنن أبى داود ٢ : ٢٧٠ / ٢٢٣١.

(٢) فإنّ لازم قوله : «لا» في جواب من قال له : أتأمرني ، أنّ الأمر مأخوذ فيه المولويّة من المولى والعبوديّة من العبد ، وهذا المعنى ليس بمأخوذ في الشفاعة.

٤٦

العنف والإكراه أيضا موجود هناك بنفس التكليف وبالوعيد بالعقاب ، فالواجبات مشتملة على مقدّمات ثلاث : بعثيّة من قبل المولى ، أصل الطلب الذي هو محكوم عقلا بامتثاله ، والوعد بالثواب [على فعله] والوعيد بالعقاب [على تركه] ، وليس في المستحبّات سوى الوعد بالثواب.

وحسب ما ذكرنا كلّ أمر فهو إيجابي ، ولا أمر استحبابي يرخّص العقل في مخالفته وترك امتثاله. وإنّما الاستحباب وعد ساذج بالثواب بلا طلب من المولى وإلّا وجب امتثاله ؛ فإنّ العقل لا يرخّص في مخالفة طلب المولى ، فكلّ ما هو طلب المولى واجب الامتثال ، وكلّ ما لا يجب امتثاله ليس طلبا للمولى. فتقسيم الطلب إلى إيجابي واستحبابي باطل ، بل الطلب من المولى ليس له إلّا قسم واحد وهو إيجابي لا محالة.

الفرق بين الطلب والأمر

الطلب أعمّ من الأمر من وجهين :

الأوّل : أنّ الطلب الشامل لحركة الشخص إلى جانب إتيان مقاصده بترتيب مقدّماته ، فإنّ ذلك طلب لمقاصده وهو طالب لها (١).

الثاني : أنّ الطلب يشمل كلّ طلب من كلّ طالب ، والأمر يختصّ بالطلب من العالي مع الاستعلاء.

واعلم أنّ دلالة مادّة الأمر وصيغة الأمر والجملة الخبريّة المستعملة في مقام إنشاء الطلب على تحقّق الإرادة النفسانيّة ليست بوضعها لها كلفظ «أريد» أو «أطلب» ؛ وإنّما هي دلالة عقليّة كما يدلّ الإتيان بمقدّمات فعل على إرادة ذيها ، بل هذا منه حقيقة ؛ فإنّ البعث نحو الشيء مقدّمة من مقدّمات حصول ذلك الشيء ، فاختياره دليل إرادة بذلك الشيء.

نعم ، يكون هذا بعثا وضعيّا فلذلك توصف الدلالة المذكورة بالوضعيّة أيضا ، وليس ممّا لا سبيل للوضع إليه لتكون عقليّة ساذجة ، كسحب زيد نحو الدار الكاشف عن إرادة دخوله الدار ، أو دفعه عن الدار الكاشف عن إرادة خروجه.

__________________

(١) أي أنّ من يتحرّك إلى فعل شيء ، فحركته طلب منه ، ويصدق عليه أنّه طالب له.

٤٧

الوجوب بحكم العقل

واعظك وقائدك نفسك وباطن نفسك ؛ ولا سبيل لغيرك في التوصّل إلى فعلك الاختياري إلّا بوسيلة نفسك وتهيئة مقدّمات وترتيب أمور توجب بعث نفسك للعضلات وتحريكها لها نحو المراد ، ومن تلك المقدّمات بعث المولى نحو فعل من الأفعال ؛ فإنّ في هذا الموضوع يحكم عقلك بالامتثال ويحرّكك ويبعثك نحو الإطاعة وإنفاذ مراد المولى.

فصحّ أن نقول : إنّ كلّ إيجاب وإلزام فهو من العقل وبحكم من العقل ، فكلّ إلزام عقلي ، وليس شيء من الإلزام يكون منم المولى ؛ وإن أسند إلى المولى وقسّم الإيجاب إلى عقلي وشرعي فذلك باعتبار المقدّمة البعيدة التي رتّبها الشارع ، فأوجب إلزام العقل وحكمه بالحركة نحو الفعل ، وبهذا الاعتبار صحّ نسبة الإيجاب إلى كلّ من أوجب إلزام العقل نحو الفعل كمن أوعد بالجزاء على الفعل.

نعم ، الخارج عن النفس شأنه الجبر والاضطرار مثل أن يسحبك [شخص] ويدخلك الدار ، أمّا لو أراد الشخص دخولك الدار اختيارا فلا سبيل له إليه إلّا بترتيب مقدّمات يلزمك عقلك بالدخول ، أو يرجح لك الدخول في موضوع تلك المقدّمات ، والمقدّمات المنتهية إلى ذلك إلى ما شاء الله ، ومن ذلك طلب المولى للفعل.

والظاهر أنّ كلّ أوامر المولى ملزمة ، يعنى موجبة لإلزام العقل بالإطاعة ، ولا شيء في أوامره استحبابيّة يرخّص العقل في ترك الإطاعة وإلقاء طلب المولى وراء الظهر وسحقه (١). فتقسيم أوامر الشرع إلى إيجابيّة واستحبابيّة باطل ، بل كلّ أوامر الشرع إيجابيّة.

وأمّا الاستحباب فذلك ليس من مقولة الطلب ، بل هو تحبيب للفعل بالنسبة إلى الطرف القابل بجعل الأجر والثواب لكي يختاره شوقا إليه ورغبة منه ؛ فإنّه وإن كان كارها للفعل لمشقّته ، لكن يكون راغبا له بما يرى أنّ في إتيانه الأجر والثواب ، كالحمّال يحمل الحمل الثقيل شوقا إليه لما يرى في فعله من الأجر.

__________________

(١) السّحق : البعد.

٤٨

والمولى إنّما يسلك هذا المسلك في طريق البعث إلى المستحبّات ولا يأمر ؛ لما يرى أنّ في الأمر العقل يكره المكلّف نحو العمل ، وإكراه غيره قبيح ما لم ترفع مفسدة قبحه مصلحة راجحة في الفعل ، وليس في المستحبّات تلك المصلحة الرافعة لقبح الإكراه نحو الفعل ، فلا جرم يسلك النمط الأوسط بالبعث نحو الفعل بجعل الثواب ، فإن أوجب ذلك حركة المكلّف نحو العمل فذاك ، وإلّا فلا مصلحة قاضية بإكراهه وإجباره بأمره بالفعل أو وعيده بالعقاب.

ثمّ الوعد بالأجر والثواب في موضوع المستحبّات تارة يكون بعبارة الجملة الخبريّة وهو الغالب ، وأخرى بعبارة الجملة الطلبيّة إرشادا وتنبيها على تحقّق مناط حكم العقل بإتيان الفعل وحسنه ، وهو جلب النفع ؛ وفي ذلك دلالة بالالتزام على تحقّق الالتزام بإعطاء الأجر والثواب. وهذا شائع في أمر العمّال والأجراء ؛ فإنّ في أمرهم إشارة إلى الالتزام بدفع الأجر.

واعلم أنّ الوعد بالأجر كما هو موجود في المستحبّات ساذجا كذلك هو موجود في الواجبات منضمّا إلى الأمر بالفعل وإلى الوعيد بالعقاب ، فهناك يتوصّل المولى إلى مقصده بمقدّمات ثلاث ، ورتّب مقدّمات ثلاث : نفس الطلب ، والوعد بالثواب ، والوعيد بالعقاب. فبعض يكفيه المقدّمة الأولى في الانبعاث والحركة نحو الفعل ، وبعض لا ينبعث إلّا بالأجر وطلب الثواب ، وثالث لا يحرّكه سوى الخوف من العقاب.

وقد أشير إلى الأقسام الثلاثة في الأحاديث (١) وعبّر عن الأوّل بعبادة الأحرار وعن الثاني بعبادة الأجراء وعن الثالث بعبادة العبيد ، وهي متدرّجة في الفضل على الترتيب الذي ذكرناه. والكلّ عندنا صحيحة بلا احتياج القسمين الأخيرين إلى توسيط داعي الأمر ، ويكون طلب الأجر أو الفرار من العقاب داعيا على الداعي ، بل العبادة المأتي بها بداعي الفرار من العقاب ـ فضلا عن المأتي بها طلبا للثواب ـ صحيحة في عرض العبادة المأتي بها بداعي الأمر ، وإن كانتا أقلّ منها فضلا.

ولا فرق في الثواب بين الدنيوي منه والاخروي ، فالعبادة المأتي بها لأجل أداء الدين ،

__________________

(١) راجع وسائل الشيعة ١ : ٦٢ ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب ٩ ، ح ١ و ٢.

٤٩

أو التوسعة في المعاش ، أو غير ذلك من المطلوبات الدنيويّة صحيحة ، وإن لم يتوسّط فيها داعي الأمر ، بل أتى بها ابتداء لداعي تلك المطلوبات.

والسرّ في ذلك أنّ الإتيان بالعمل طلبا للأجر من المولى ـ أجرا مجعولا منه بإزاء العمل ترغيبا على إتيانه ـ لا يخرج العبادة عن كونها عبادة ؛ وذلك لأنّ العبادة ليست مقصورة على امتثال أوامر المولى ، بل هي عبارة عن مطلق الخضوع والمطاوعة والانفعال عن مقدّمات رتّبها المولى في الوصول إلى مقصده ؛ ومن ذلك وعده بالثواب ووعيده على العقاب ؛ فإنّ من أصغى إلى ناعق فقد عبده ، فإن كان عن الله فقد عبد الله ، وإن كان عن الشيطان فقد عبد الشيان.

٥٠

صيغة الأمر

صيغة افعل بعث خارجي (١) نحو الفعل المدلول عليه بمادّتها (٢) ، فهي بالوضع نازلة منزلة البعث والعضلات بالجوارح. ويمكن أن يراد من البعث بالجوارح هو المحرّك للعضلات نحو الفعل ، ويمكن أن يراد منه هو أنّ مدلول الصيغة هو من جملة معاليل الإتيان بالفعل والعضلات. وكشفها عن الطلب الحاصل في نفس المولى كشف التزامي ككشف البعث بالعضلات عنه ، وككشف الإتيان بكلّ مقدّمة عن إرادة ذيها ، فصحّ أن يقال : إنّ كشف الصيغة عن الطلب كشف عقلي (٣) ؛ كما صحّ أن يقال : إنّه كشف وضعي باعتبار أنّ إحدى مقدّمتيه وضعيّة تنزيليّة ، وهي كون الصيغة بعثا.

وربما يذكر للصيغة معان أخر من التمنّي والترجّي والامتحان والتعجيز ، إلى غير ذلك. كما ربما يجعل هذه من قبيل دواعي الإنشاء مع كون المستعمل في الجميع هو إنشاء الطلب ، وهما جميعا باطلان مردودان ، فلا تلك المعاني ممّا استعملت فيها الصيغة ، ولا هي دواعي الإنشاء. وأيّ ارتباط بين معنى الصيغة وتلك المعاني كي تكون هي دواعي إنشاء الطلب

__________________

(١) البعث الخارجي في قبال البعث الداخلي ، وهو المحرّك للعضلات نحو الفعل.

(٢) أي أنّ صيغة افعل بعث نحو الفعل ، وهو المتعلّق به البعث ، مثلا «اضرب» بعث نحو الضرب ، فالمراد من المادّة هي متعلّق البعث المدلول عليه بالصيغة.

(٣) لأنّ مدلول الصيغة هو الطلب من المولى ، وهو يستلزم عقلا إرادة المولى للإتيان به من المكلّف.

٥١

وهل هي بوجودها الخارجي معاليل لإنشاء الطلب كي تكون بوجودها العلمي دواع وعلل له؟ كلّا.

نعم ، غرض الامتحان يكون داعيا إلى التعمية وتلبيس الأمر على غيره ليظنّ أنّ المنشئ طالب وهو ليس بطالب حتّى يحصل بذلك غرض الامتحان. وهذا بخلاف بقيّة المعاني.

وعليه فالوجه في استفادة تلك المعاني منها ، أمّا فيما عدا التمنّي والترجّي فلذكر الصيغة جزاء لشرط مصرّح أو مقدّر ، فمن الأوّل قوله تعالى : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(١) ، ومن الثاني قوله تعالى : (فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ)(٢) و (وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)(٣) و (وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)(٤) و (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً)(٥).

والغرض من التعليق ، التنبيه على فساد المقدّم بفساد التالي.

وأمّا في التمنّي والترجّي فلتوجّه الطلب فيها إلى المحال ، أو إلى أمر غير مرجوّ الحصول ، ومن هذا الباب دلالة الجملة الخبريّة على الطلب ؛ فإنّ الجملة الخبريّة لم تستعمل إلّا في معناها ، إلّا أنّ المخبر به وقوع الجملة على تقدير خاصّ لا على جميع المقادير ، أو وقوعه من أشخاص مخصوصين ، ومن ذلك يستفاد الطلب التزاما. فمعنى «يعيد» و «يغتسل» في جواب من سأل عن صحّة صلاته وغسله ، هو أنّه إن أراد العمل بقانون الشرع يعيد ويغتسل ، أو أنّ العامل بقانون الشرع يعيد ويغتسل ، ومن ذلك يعلم أنّ قانون الشرع هو وجوب الإعادة. ومن هذا القبيل دلالة «المؤمنون عند شروطهم» (٦) على وجوب الوفاء بالشرط.

__________________

(١) البقرة (٢) : ٩٤ والجمعة (٦٢) : ٦.

(٢) فصّلت (٤١) : ٥.

(٣) هود (١١) : ١٢٢.

(٤) المؤمنون (٢٣) : ٥١.

(٥) الإسراء (١٧) : ٥٠.

(٦) التهذيب ٧ : ٣٧١ / ١٥٠٣ ؛ الاستبصار ٣ : ٢٣٢ / ٨٣٥ ؛ عوالي اللئالي ٣ : ٢١٧ / ٧٧ ؛ وسائل الشيعة ٢١ : ٢٧٦ أبواب المهور ، ب ٢٠ ، ح ٤.

٥٢

التعبّدي والتوصّلي

هل قضيّة الأصل اللفظي في الأوامر من عموم أو إطلاق هو التوصّليّة ، أم هو التعبّديّة ، أولا ظهور يقتضي شيئا منها ، فكان ينبغي في مورد الشكّ الرجوع إلى الأصول العمليّة من براءة أو قاعدة اشتغال؟ وليعلم مقدّمة أنّ كيفيّة دخل قصد القربة في العبادات المعلومة العباديّة يتصوّر على وجوه :

الأوّل : أن يكون دخيلا بنحو جزء المأمور [به] وشرطه ، يعني أن يكون متعلّقا للطلب العبادي ومأخوذا تحت أمره.

الثاني : أن يكون مأمورا به بأمر مستقلّ.

الثالث : عدم الأمر به بوجه من الوجوه ، وإنّما العقل كان ملزما به لأجل ما علم من دخله في حصول غرض المولى ، والمفروض وجوب تحصيل غرض المولى ، بل أمره لا يسقط ما دام الغرض الداعي إلى الأمر باقيا لم يحصل.

أمّا الوجه الأوّل فباطل بما أنّه تكليف بالمحال ، وإن كانت الاستحالة ناشئة من أخذ قصد الأمر تلو الأمر ؛ إذ بمجرّد الأخذ المذكور يخرج الأمر عن قابليّة كونه داعيا ـ وإن كان لو لا الأخذ لكان الفعل بمكان من الإمكان ـ وذلك أنّ الأمر إن دعا فإنّما يدعو إلى تمام ما تعلّق به ، وبه تحدث الإرادة في نفس المكلّف بإتيان تمام ما دعا إليه المولى ؛ فإنّ إرادة العبد في مقام المطاوعة والتأثّر عن إرادة المولى هي طبق إرادة المولى لا تخالفها بشعرة ، بل تضع قدمها موضع قدم تلك ـ بلا زيادة ونقيصة ـ وهذه الإرادة الواحدة تبعث إلى إتيان الأجزاء

٥٣

والقيود شيئا فشيئا حتّى ينتهي إلى آخرها. وحينئذ فإذا فرضنا أنّ من جملة الأجزاء أو القيود هو دعوة شخص هذا الأمر المتوجّه إلى المركّب ، فلا يخلو إمّا أن يدعو هذا الأمر إلى مجموع متعلّقه ـ ومن ذلك داعي الأمر ـ أو يدعو إلى ما عدا داعي الأمر ، وكلّ منهما باطل.

أمّا الأوّل فلأنّ الداعي لا يكون له داع آخر وإلّا لتسلسل ؛ فإنّ الداعي إنّما يتصوّر في الأفعال الاختياريّة والداعي ليس فعلا اختياريّا ، مضافا إلى أنّه لا يكون حينئذ للمكلّف إتيان المجموع بداعي الأمر ؛ لأنّ هذا الداعي غير ذاك الداعي الذي أمر به المولى ، وهو إتيان سائر الأجزاء عدا نفس داعي الأمر بداعي الأمر. ومنه يظهر أنّه لا يحصل بالفعل بهذا الداعي امتثال ذلك الأمر.

وأمّا الثاني فلما عرفت أنّ الأمر لا يدعو إلّا إلى تمام ما تعلّق به دون بعضه كي يحصل بذلك في المقام مجموع ما تعلّق به.

وربما يتوهّم أنّ محذور أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر هو لزوم الدور ، بتقريب أنّ دعوة الأمر يتوقّف على الأمر ، فلو أخذ في متعلّق الأمر دعوته توقّف الأمر أيضا على دعوة الأمر توقّف الحكم على موضوع سابق عليه (١).

ويدفعه : أنّ الموقوف والموقوف عليه مختلفان ، فالذي يتوقّف على الأمر هو دعوة الأمر في الخارج ، والذي يتوقّف عليه الأمر هو تصوّر المولى هذه الدعوة وأمره بها.

وأما الوجه الثاني فباطل بأنّ الأمر الأوّل المتوجّه إلى ذات العمل إن كان صوريّا لم يحدث داعي الأمر في نفس المكلّف ، فيبقى الأمر الثاني من غير موضوع وتكليفا بالمحال ، وإن كان جدّيّا سقط بحصول متعلّقه في الخارج ولو كان لا بداعي الأمر ، فلا يبقى موضوع للأمر الثاني ، فخرج عن كونه عباديّا وهو خلف.

وأمّا الوجه الثالث فباطل بأنّ الأمر بذات العمل إن كان لا عن غرض فذاك لغو باطل ، وإن كان عن غرض قائم بالأمر أو بمتعلّقه سقط الأمر بحصول الغرض بالإتيان بمتعلّقه ، فلا يبقى لحكم العقل موضوع إن كان هناك غرض أتمّ قائم بمجموع العمل بداعي الأمر ، كما لم يبق للأمر الثاني موضوع في الوجه الثاني ، وإن كان عن غرض قائم بالفعل بداعي الأمر

__________________

(١) انظر كفاية الأصول : ٧٢.

٥٤

لم يوجب ذلك الغرض أن يأمر المولى بذات العمل الخالي عن قيد داعي الأمر ، كما تقدّم أنّه لا يوجب أن يأمر مع هذا القيد أيضا.

وبالجملة : إن كان الأمر بذات العمل صوريّا لم يحدث داعيا في نفس المكلّف فلا يحصل الغرض ، وإن كان جدّيّا لم يتوقّف حصول الغرض على قصد الأمر ، وعلى كلّ تقدير لا يتوصّل إلى مقصده بذلك.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه لا موضوع لهذا البحث بناء على المختار في التكاليف الشرعيّة ؛ فإنّ الحقّ عندنا أنّ التكاليف الشرعيّة كلّها تعبّديّة ولا يعقل التوصّليّة فيها ؛ قال الله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(١).

نعم ، يتصوّر ذلك في الأوامر العرفيّة.

وعليه فلا يتصوّر الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة حتّى يبحث فيما هو قضيّة الأدلّة الاجتهاديّة وظاهر الخطاب ، وفيما هو مقتضى الأصول العمليّة.

توضيح ذلك : أنّ الإرادة لا تخلو إمّا أن تتعلّق بفعل نفس الشخص أو بفعل غيره ؛ والتي كانت متعلّقة بفعل غيره إمّا أن تتعلّق بفعله المطلق أو بفعله الخاصّ أعني فعله الاختياري ، والتي كانت متعلّقة بفعله الاختياري إمّا أن تكون متعلّقة بمطلق فعله الاختياري أو بفعل اختياري خاصّ خصوصيّته هو كونه حاصلا من طريق خاصّ وسبب مخصوص.

وفي كلّ هذه الصور لا بدّ للمريد ـ في الوصول إلى مقصده وفي مقام تنفيذ إرادته ـ من ترتيب ما نتيجته هو حصول مراده على سعة إرادته ، لا تزيد نتيجة ما رتّبه على إرادته سعة وضيقا إلّا أن يصدّه العجز ، فيرتّب حينئذ من المقدّمات ما يتمكّن منها ويترك ما لا يتمكّن. وكان هذا الشرط في مقام العمل كمن إرادته إرادة خاصّة لا تقتضي أزيد ممّا رتّبه من المقدّمات. نعم ، هذا لعجزه عن ترتيب غيره وذاك لقصور في مقتضيه.

ثمّ إنّ من جزئيّات إرادة فعل غيره هو باب التكاليف ؛ فإنّ التكليف إرادة خاصّة متعلّقة بفعل غيره خصوصيّتها كون ذلك الفعل اختياريّا لا ما يعمّ الاختيار والاضطرار ، وأيضا يكون منشأ اختياره طلب المولى لا أيّ شيء كان ـ ومن أيّ منشأ تولّدت الإرادة

__________________

(١) البيّنة (٩٨) : ٥.

٥٥

والاختيار ـ وإلّا لرتّب من المقدّمات ما نتيجته أوسع ، يعني لو كان متعلّق إرادته هو ما يعمّ الاختيار والاضطرار لرتّب ما يوجب اضطراره ، أو كان متعلّق إرادته هو كلّ فعل اختياري كائنا ما كان منشأ اختياره لم يقتصر على التكليف ، ولرتّب سائر المقدّمات الباعثة المحرّكة نحو الفعل.

إن قلت : لعلّ منشأ اقتصاره على ما اقتصر عليه هو العجز وعدم التمكّن من غير سبيل التكليف.

قلت : نعم ، قد يكون العجز مانعا عن ترتيب المقدّمات على مقدار سعة المراد ـ كما أشرنا إليه ـ لكنّ هذا لا يكون بالنسبة إلى الشارع ، وإنّما يتصوّر في أوامر أهل العرف.

إن قلت : لعلّ مفسدة في سائر المقدّمات صدّ المولى عن ترتيبها.

قلت : مفسدة المقدّمات تزاحم مصلحة ذيها ، فبالنتيجة يكون الباقي تحت الإرادة من الفعل هو ما خلا عن المفسدة المزاحمة ؛ فتكون الإرادة خاصّة بالحاصل من الفعل بتأثير غير ذي المفسدة من المقدّمات ، وتخرج نتيجة المقدّمات ذوات المفسدة عن تحت الإرادة.

وتوضيح الحال في المقام هو : أنّ المولى إذا أمر بفعل فله إرادتان طوليّتان إحداهما متعلّقة بفعل المكلّف ، ومنها تتولّد إرادة أخرى متعلّقة بفعل نفسه ، وهو أن يبعث نحو ذلك الفعل تحصيلا لمراده الأصلي وتنفيذا لمقصده الحقيقي ، وهذه الإرادة البعثيّة نتيجتها لا تزيد على فعل العبد الحاصل عقيب البعث بتحريك البعث بداعيه.

فإذا كانت النتيجة خاصّة ـ لا تتجاوز الفعل بداعي البعث ـ لا جرم كانت الإرادة البعثيّة خاصّة متعلّقة بهذه النتيجة ليس إلّا ، وإذا كانت الإرادة البعثيّة خاصّة كانت الإرادة الحقيقيّة خاصّة ، وإلّا لرتّب من المقدّمات ما نتيجتها أوسع. فكلّ ما يقع في ذيل المقدّمات ويكون أثرا ونتيجة لها هو الذي يكون بوجوده العلمي في صدر المقدّمات وعلّة وداعيا إلى ترتيب المقدّمات ؛ فإنّ الغايات بوجودها العلمي هي المبادئ ، والمبادئ بخارجها هي الغايات لا تزيد ولا تنقص إحداهما عن صاحبتها بشعرة.

وكيف يعقل أن يكون المطلوب ومتعلّق الإرادة مطلق الفعل ، ثمّ يرتّب ما نتيجته فعل خاصّ؟! اللهمّ مع العجز المختصّ بغير الشارع ، فالمقصود من طريق خاصّ هو فعل خاصّ ، أعني ما كان نتيجة ذلك الطريق المؤدّي إليه ذلك الطريق بلا زيادة ونقيصة.

٥٦

وأنت إذا تأمّلت الأفعال الاختياريّة وجدت فيها ما ذكرناه بأشدّ وضوح ، فمن لبس جبّة أو فراء توقّيا من البرد كان مقصوده ومتعلّق إرادته التوقّي بتلك الجبّة والفراء دون سائر الموقّيات التي لم يصطنعها ، أو [من] علّق شمعة كان مقصوده ومتعلّق إرادته الاستضاءة بضوء تلك الشمعة لا كلّ ما هو مضيء ، وهلمّ جرّا.

نعم ، قد يكون المقصود الأصلي عامّا ومع ذلك لا يرتّب المقدّمات على حسب سعة مقصوده وبمقدار واف بمقصوده لعجز منه عن ذلك ؛ ومثل هذا في الواجبات يسمّى واجبا توصّليّا ، كما أنّ الأوّل يختصّ باسم التعبّدي.

لكنّ هذا لا يتصوّر في أوامر الشارع الذي لا يتصوّر عجز في مقامه ، فلذا صحّ القول منّا بأنّ كلّ أوامر الشارع أوامر تعبّديّة ، والانقسام إلى القسمين يكون في أوامر غيره. فالأمر التوصّلي هو ما كان المقصود الأصلي ومتعلّق الإرادة فيه أوسع مما تعلّقت به الإرادة البعثيّة ، أعني الفعل الحاصل بداعي البعث وتحريكه (١). فالمراد عامّ ومتعلّق البعث خاصّ ، فلذلك يسقط التكليف بكلّ فعل ولو لم يكن بداعي البعث ، بل [لو] لم يكن فعلا اختياريّا للمكلّف ، بل [ولو] لم يكن فعلا له أصلا ، كغسل الثوب الحاصل بإطارة الريح وإلقائه في البحر.

ولازم ما ذكرناه هو أن تكون التعبّديّة بدخل داعي الإرادة في متعلّق الإرادة ، لكنّ إحدى الإرادتين غير الاخرى فلا يلزم منه المحذور المتقدّم ؛ فإنّ الإرادة الداعية هي الإرادة البعثيّة الطلبيّة المقدّميّة ، والإرادة التي أخذ هذه في متعلّقها هي الإرادة الأصليّة ، يعني أنّ المولى في يومه الأوّل يريد ما يبعث إليه طلبه ـ وما هو أثر مقدّماته ونتيجة أعماله ـ لا يريد أوسع من ذلك ، وما هو أثر البعث هو الفعل الحاصل بداعي البعث ، وأمّا الحاصل بدواع أخر فليس هو أثر البعث ، فليس هو داخلا تحت إرادة المولى.

نعم ، هذا يتوقّف على كون بعث المولى بنفسه باعثا مع قطع النظر عن تلك الإرادة الواقعيّة ـ بل وإن خلت عن تلك الإرادة الواقعيّة ، وعلم أنّه بعث صوري لا إرادة دونه ـ وإلّا كان المحذور باقيا ، والظاهر أنّه كذلك وأنّ الإطاعة التي يلزم بها العقل موضوعها مطلق بعث

__________________

(١) لأنّه لو لا أمر الشارع به لما فعله المكلّف ؛ لعدم معرفته به. وحيث إنّ متعلّق الغرض أوسع من إتيانه بقصد أمر الشارع كان الغرض يسقط بمجرّد إتيانه. ولو من دون قصد الامتثال به.

٥٧

المولى بلا إناطة بأن تكون على طبقه إرادة منه.

والسرّ أنّ تنفيذ أمر المولى وكلمته وإنجاز بعثه وخطابه بنفسه مقصود من المقاصد الأصليّة له ـ سواء كانت هناك إرادة بذات الفعل أو لم تكن ـ ومثل هذه من الإرادات بالعناوين الثانويّة غير عزيز.

ومن هنا ظهر أنّ عدم سقوط الأمر في العبادات بالإتيان بجرم العمل إنّما هو لنقص في العمل وعدم اشتماله على المطلوب بتمامه ، وهذا بخلاف الأوامر التوصّليّة حيث إنّ المطلوب الأصلي فيها مطلق الفعل والفعل بأيّ داع كان وإن كان المبعوث إليه أيضا خاصّا.

فإذا حصل المطلوب الأصلي بالإتيان بجرم العمل لم يبق محلّ للبعث ؛ إذ البعث كان منبعثا منه ، فإذا لم يبق مراد أصلي لم يبق مراد بعثي تبعي ، وقد عرفت أنّ هذا لا يكون إلّا فيما كان عجز يمنع المولى من ترتيب مقدّمات الوصول إلى مقصده على سعته ، فيرتّب ما وسعه من المقدّمات ويترك ما لم يسعه.

أمّا إذا كان المولى قادرا على كلّ المقدّمات ومع ذلك لم يرتّب كشف ذلك لا محالة عن عدم سعة إرادته وكون اقتضاء إرادته لا يزيد على ما رتّبه من المقدّمات ؛ ولذلك قلنا : إنّ كلّ أوامر الشارع عباديّة مطابق الآية الكريمة المباركة [وهي قوله تعالى :](وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(١).

إن قيل : نحن نرى بالعيان ونشاهد بالوجدان وجود أوامر توصّليّة في الشريعة تسقط أوامرها بحصول متعلّقاتها بأيّ وجه كان.

قلنا : كلّ تلك الأوامر تعبّديّة والمطلوب فيها خاصّ بالحاصل منها بداعي الطلب ، وما عداه لا يتّصف بالمطلوبيّة سواء كان فعلا اختياريّا للمكلّف أو لم يكن ، بل كان فعلا لغير ذي شعور ، ومع ذلك يسقط به الطلب من جهة رفعه لموضوع الطلب. مثلا حصول غسل الثوب بإطارة الريح وإلقائه في البحر ـ فضلا عن غسل المكلّف له اضطرارا أو اختيارا ولكن لا بداعي الأمر ـ يكون موجبا لارتفاع النجاسة الموجب لسقوط الخطاب بغسل النجس ، وهكذا.

__________________

(١) البيّنة (٩٨) : ٥.

٥٨

فإن أريد من التوصّليّة ما يعمّ هذا لم تكن مضايقة من تسليمه واعترفنا بوجودها في الشرعيّات لكن لا يوجب هذا صحّة تقسيم الواجب إلى قسمين ، بل الواجب ليس إلّا القسم التعبّدي وما عداه غير واجب ومسقط للواجب.

والذي أنكرناه هو كون التوصّلي من أقسام الواجب بحيث يقع الفعل الخالي عن قصد التقرّب بصفة الوجوب ، وفي هذا ليس كذلك ، كيف وإلّا لزم أن يقع الفعل الخارج عن الاختيار ـ بل فعل غير ذي الشعور ـ بصفة الوجوب بمجرّد أنّه كان مسقطا للواجب!

ثمّ إنّا علمنا ممّا ذكرناه ـ من قصر المطلوب ومتعلّق الإرادة ما هو نتيجة ما اصطنعه المولى من المقدّمات في الوصول إلى مقصده ـ أنّ مطلوب الشارع في تكاليفه نتيجة إحدى مقدّمات ثلاث دون خصوص نتيجة الطلب ؛ لما رأينا أنّه لم يقتصر على مجرّد التكليف ، بل ملأ كتابه العزيز من الوعد بالأجر على العمل والوعيد بالجزاء على المخالفة.

فعلمنا أنّ الفعل الحاصل بداعي كلّ من التكليف والأجر والأمن من العقاب مطلوب الشارع ، وكان كلّ منها في عرض الآخر عبادة له ـ وإن تدرّج في الفضل ـ إذ ليست العبادة هي خصوص ما كان بداعي الطلب ليحكم بفساد ما كان بأحد الداعيين الآخرين ما لم يكن من قبيل الداعي على الداعي ؛ فإنّ الإطاعة من الطوع وهو انفعال من غيره ، فلو قلت : أعطيك كذا إن فعلت [كذا] ففعل طلبا للجزاء فقد أطاعك ، مقابل من لم يتأثّر من هذا القول. وكذا إذا قلت : أضربك إن فعلت ، فترك خوفا من العقاب. وكذا العبادة هي الخضوع لناموس المولى والاتّباع لقانونه ولو كان داعيه تحصيل أجره الموعود أو الأمن من عقابه.

وكفاك شاهدا على هذا وعد المولى ووعيده ، فلولا صحّة العمل بداعيهما كان جعلهما إغراء قبيحا بعد كما تقدّم وسيجيء من بطلان الداعي على الداعي.

وإلى العبادات الثلاث أشار عليه‌السلام بقوله : «العبادة ثلاثة : قوم عبدوا الله عزوجل خوفا فتلك عبادة العبيد ، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الأجراء ، وقوم عبدوا الله عزوجل حبّا له فتلك عبادة الأحرار ، وهي أفضل العبادة» (١).

ومن هنا تتوسّع عليك الحال في العبادات المترتّبة عليها بعض الخواصّ الدنيويّة من

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٦٢ أبواب مقدّمة العبادات ، ب ٩ ، ح ١.

٥٩

أداء الدين وسعة المعاش ؛ فإنّ إتيانها طلبا لتلك الأمور من الله تعالى كاف في صحّتها بلا حاجة إلى تمحّل جعل الداعي هو امتثال الأمر وطلب تلك الأمور من قبيل الداعي على الداعي ؛ فإنّ كلّ ذلك من قبيل العبادة طلبا للأجر والثواب الموعود أجرا وثوابا دنيويّا.

[إطلاق الصيغة يقتضي كون الوجوب نفسيّا عينيّا تعيينيّا]

إطلاق الصيغة أو مادّة الأمر أو مادّة الوجوب أو الجملة الخبريّة المنشأ بها الطلب يقتضي كون الوجوب نفسيّا عينيّا تعيينيّا. وهذا إطلاق أحوالي يوسّع شخص ما أنشئ من الطلب ويعمّمه إلى حالاته من وجوب شيء آخر وعدمه (١) ، وتحقّق الواجب بفعل شخص آخر وعدمه (٢). وما هذا إلّا خاصّة الوجوب النفسي العيني التعييني ؛ فيثبت أنّ الوجوب وجوب نفسي عيني تعييني.

وأمّا لفظ الوجوب في مثل إيجاب الشيء يقتضي النهي عن ضدّه فإطلاقه أفرادي يعمّ الأقسام الثلاثة. ومع إهمال الخطاب يرجع إلى أصالة البراءة إذا كان الالتفات إلى التكليف بعد تحقّق ما احتملت رافعيّته ، وإذا كان قبله رجعنا إلى استصحاب التكليف.

وتوهّم أنّ مصحّح العقوبة القاطع لحكم العقل بالبراءة لم يثبت بالنسبة إلى مورد الشكّ فكان المرجع أيضا أصالة البراءة ، يدفعه : أنّه كفى نفس الاستصحاب مصحّحا وموسّعا لما تقتضيه الأدلّة الاجتهاديّة فلا تبقى معه للبراءة مجال.

__________________

(١) وهو الوجوب التخييري.

(٢) وهو الوجوب الكفائي.

٦٠