الأصول في علم الأصول - ج ١

ميرزا علي الإيرواني النجفي

الأصول في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

ميرزا علي الإيرواني النجفي


المحقق: محمّد كاظم رحمان ستايش
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-424-879-1

الصفحات: ٢٠٠
الجزء ١ الجزء ٢

ولا يعقل تألّف القضيّة من موضوع خارجي ومحمول نفساني ، فزيد الخارجي لا يكون محكوما عليه في النفس ، وإنّما المحكوم عليه في النفس زيد النفساني ، وإنّما «زيد» في الخارج معروض للقيام في الخارج بنسبة خارجيّة ، و «زيد» في النفس معروض للقيام في النفس بنسبة بينهما في النفس. و «زيد» في قولنا : «زيد قائم» ـ وهو زيد اللفظي ـ موضوع لفظي في هذه القضيّة اللفظيّة لقولنا : «قائم» ، ونسبتهما أيضا لفظيّة.

والسرّ في ذلك أنّ قوام القضيّة إنّما هو بالنسبة ، ولا نسبة بين أجزاء عالم وأجزاء عالم آخر. وكيف تتألّف قضيّة من أجزاء عالمين؟!

ومن ذلك يظهر بطلان ما قيل من أنّ الحكم في قولنا زيد لفظ أو كلمة أو اسم أو نحو ذلك ، على شخص هذا اللفظ الملقى في الخارج ، وقد ذكر ليحكم على شخص نفسه لا ليحكم على محكيّه. فزيد المتلفّظ به هو الموضوع ، لا حاكيا عن الموضوع مستعملا في الموضوع (١) ؛ وذلك لأنّ كلمة «زيد» بما هي هذه الكلمة موجود من الموجودات الخارجيّة ، فلا يجوز أن يكون بما هو من الخارجيّات موضوعا في القضيّة المعقولة. وكيف يحكم في العقل على ما هو خارج عنه ومنعزل منه؟!

نعم ، ذكر كلمة «زيد» لإعادة الضمير إليها ، وتوطئة لذكر ما يحكي عنها لا بأس ، لكنّ الموضوع في الحقيقة هو الضمير العائد إليه.

وإنّ أبطل من هذا التوهّم ، توهّم إمكان جعل ذلك من قيل استعمال اللفظ في شخص نفسه ، فزيد في مثل هذه القضايا مستعمل في شخص «زيد» المتلفّظ به ، فهو دالّ وهو مدلول بالاعتبارين (٢) ؛ وذلك لوضوح أنّ الدلالة هي حصول العلم بالمدلول من العلم بالدالّ ، وهذا لا يكون إلّا بعلمين سابق ولا حق ولا يتعدّد العلم إلّا بتعدّد العالم ، أو بتعدّد المعلوم ، فإذا فرض وحدة العالم ووحدة المعلوم. فكيف تفرض هناك دلالة؟

وهل وراء العلم باللفظ علم آخر به حتّى يدلّ اللفظ على شخص نفسه؟ وهل يجدي

__________________

(١) انظر الفصول الغرويّة : ٢٢ ؛ كفاية الأصول : ١٤.

(٢) انظر كفاية الأصول : ١٤.

٢١

تعدّد الاعتبار في تعدّد العلم بذات هي واحد؟ أفهل إسماع المخاطب باللفظ يعقل أن يكون لأجل أن ينتقل إلى نفس هذا اللفظ ، مع أنّ الانتقال إليه كان حاصلا في أوّل إسماعه؟ أفهل بعد الانتقال إليه انتقال آخر حاصل من الانتقال الأوّل؟

الأصول اللفظيّة الوضعيّة

إذا تحقّق الوضع من الواضع ـ سواء كان وضعا ابتدائيّا ، أو كان تبعيّا وجريا على لغة آخرين ـ ثمّ شكّ في انتقاله وعدوله عنه بني على عدم الانتقال وحمل لفظه على مصطلحه القديم ، وهو المعبّر عنه بأصالة عدم النقل. وهذه أصالة مستفادة من عمل العقلاء وبناء أرباب المحاورات.

وأيضا لو شكّ في حدوث الاشتراك ، وضمّ معنى جديد إلى معنى قديم بني على عدمه.

لكنّ المتيقّن من ذلك ما إذا ثبت الاصطلاح من الشخص ولو تبعيّة منه لقومه ، أمّا إذا لم يثبت ذلك واحتمل أنّ للشخص اصطلاحا جديدا يخصّه ـ لم يتّبع في ذلك قومه ـ ولو في خصوص لفظ معيّن ، فالظاهر عدم البناء على التبعيّة ، وأنّه لم يخترع معنى جديدا ؛ فإنّ مجرّد النشوء في قوم لا يوجب تبعيّة ذلك القوم.

نعم ، هو كذلك غالبا ، بل قلّ ما يتّفق الاستبداد والاستقلال بالاصطلاح.

وكذلك إذا احتمل حدوث الوضع لمعان متعدّدة دفعة ـ بدون أن يكون الوضع لبعضها سابقا ، وقد شكّ في لحوق الوضع لبعض آخر ـ فالظاهر عدم أصل يقضي بنفي الاشتراك.

هذا إذا شكّ في الوضع نقلا واشتراكا ، ويعبّر عن أصليهما بأصالة عدم النقل ، وأصالة عدم الاشتراك ، ويوصفان بالأصول الوضعيّة.

وأمّا إذا علم بالوضع كمّا وكيفا وشكّ في المراد ، فتارة يتردّد الأمر بين إرادة معنى حقيقي وأخر مجازي فلا إشكال في أنّه يحمل اللفظ على المعنى الحقيقي ، ويرفض احتمال المجاز من أيّ أقسام المجاز كان ـ حتّى المجاز العقلي الذي لا يشتمل على التصرّف في الكلمة ، بل التصرّف فيه في أمر عقلي ـ وهذا هو معنى أصالة الحقيقة.

وأخرى يتردّد الأمر بين معنيين حقيقيّين ، وثالثة يتردّد بين معنيين مجازيّين. وفي هذين

٢٢

يصير اللفظ مجملا لا يحمل على شيء من أطراف الترديد ما لم يكن اللفظ في بعضها أظهر ، والأظهريّة تكون بكثرة الاستعمال كما تكون في الصورة الثالثة بقوّة العلاقة.

وليعلم أنّ أصالة الحقيقة لا تختصّ بالشكّ في المجاز بل تجري مع العلم بإرادة الحقيقة ، لكن شكّ في أنّ المراد الجدي هل هو هذا الذي استعمل اللفظ فيه ، أو هو غيره؟ فيحكم بحكم هذه الأصالة أنّه هو هو.

ولذا يأخذ بهذه الأصالة في الحكم بالعموم من لا يرى التخصيص بالمنفصل تجوّزا في العموم ، وتصرّفا في اللفظ باستعمال في الخاصّ ، بل اللفظ مستعمل عنده في العموم ، والقصر وارد على المراد الجدّي بقرينة أقيمت عليه وهو المخصّص.

الجاهل بلغة قوم إمّا أن يكون جاهلا محضا بتلك اللغة ، وإمّا أن يكون جاهلا به تفصيلا مع العلم به ارتكازا.

أمّا الجاهل الأوّل ، فطريق استعلامه منحصر بالرجوع إلى أرباب اللغة. وقد عرفت أنّ ربّ اللغة ليس منحصرا بالواضع الأوّل ، بل كلّ متابعيه هم أرباب اللغة ، وكلّهم واضع تلك اللغة ـ هذا ابتداء والبقيّة بالتبعيّة ـ فلو اعتبر قول الواضع الأوّل لزم اعتبار قول آحاد أرباب اللغة. ولو لم تعتبر أقوال المتابعين لاحتمال اشتباه أو تعمّد كذب لزم ألا يعتبر قول الواضع الأوّل أيضا لعين هذا الاحتمال.

والظاهر أنّ بناء العقلاء جار في استعلام اللغات على الرجوع إلى كلّ فرد فرد من أرباب تلك اللغة حتّى لو كان صبيّا أو مجنونا ، لكنّ الظاهر أنّ ذلك ليس بمناط التعبّد ، بل بمناط حصول الاطمئنان ، فبعين هذا المناط يرجع إلى كلّ مطّلع على اللغة وإن لم يكن من أربابها كصاحب القاموس وأضرابه.

ثمّ إنّ إخبار أهل اللغة تارة يكون بالقول الصريح ، وأخرى يستنبط ذلك منهم بالتبادر لديهم وصحّة الحمل عندهم بلا رعاية علاقة ، وثالثة بالاطّراد في الاستعمال.

وقد يتخيّل عدم دلالة الاطّراد على الحقيقة بتوهّم اطّراد المجازات أيضا في أنواع علائقها (١).

__________________

(١) راجع كفاية الأصول : ٢٠ ؛ زبدة الأصول : عند قوله في علائم المجاز.

٢٣

ويدفعه : منع الاطّراد المذكور ؛ فإنّ لفظ الرقبة يطلق على الإنسان في تركيب ولا يطلق عليه في تركيب آخر ، مثلا يقال : «أعتق رقبة» ولا يقال : «أكرم رقبة» ، وأيضا يقال : «جاء الأسد» ولا يقال : «نام الأسد» و «صلّى الأسد» و «صام الأسد» مع وجود العلاقة.

والسرّ في ذلك هو أنّ اللفظ لمّا لم يكن موضوعا بإزاء ذات المعنى ـ ولأجل ذلك اعتبرت العلاقة في الاستعمال ، واعتبرت مع وجود العلاقة المناسبة للمقام ، ولم تكن العلاقة بمجرّدها مصحّحة للاستعمال ـ فلمّا كان العتق مناسبا للرقبة تشبيها للقيد المعنوي بالحبل الحسّي الموضوع على الرقبة ناسب إطلاق الرقبة في «أعتق رقبة» بخلاف «أكرم رقبة» و «صاحب رقبة» وهكذا.

وأمّا الجاهل الثاني ـ وهو الذي ليس المعنى حاصلا في حسّه المشترك مع ارتكازه في ذهنه ـ فطريق استحضاره له في حسّه المشترك هو أن يتبادر المعنى من اللفظ عنده ، وأيضا يصحّ حمل اللفظ عليه عنده ، بمعنى أن يذعن بصحّة الحمل بلا رعاية علاقة. وكفى في تحقّق هذين ذلك العلم الارتكازي ، فهذان معلولان للعلم الارتكازي وعلّتان للعلم التفصيلي ، أعني حصول الالتفات وحضور المعنى في الحسّ المشترك. فلا شائبة دور.

نعم ، هذان دليلان على العلم الارتكازي ، وأمّا أنّ ذلك الارتكاز من أين أتى وأيّ شيء صار منشأ له ، هل منشؤه الاستعمالات الحقيقيّة أو المجازيّة أو إخبار أهل اللغة؟ فلا ؛ ومن أجل ذلك كانت دلالتهما على الحقيقة ممنوعة.

٢٤

الحقيقة الشرعيّة

لا سبيل إلى إثبات الحقيقة الشرعيّة في ألفاظ أطلقها الشارع وأراد بها معاني خاصّة كألفاظ العبادات وكلفظ الوجوب والحرمة. ودعوى التبادر في إطلاقاته رجم بالغيب.

والتمسّك بأصالة عدم حصول النقل من المتشرّعة بعد ثبوت الحقيقة في إطلاقاتهم معارض بأصالة عدم نقل الشارع لها من معانيها اللغويّة. مضافا إلى عدم الدليل على اعتبار هذا الأصل ، لعدم ثبوت بناء من العقلاء ، وعدم أثر الشرعي مترتّب عليه إن أريد به الاستصحاب المأخوذ من الأدلّة الشرعيّة.

بل لا يبعد أن يقال : إنّ أصالة عدم نقل الشارع لهذه الألفاظ من معانيها اللغويّة منضمّة إلى أصالة الحقيقة في استعمالاته لها تثبت مذهب الباقلاني (١) ؛ وأنّ استعمالات الشارع لها لم تكن إلّا في معانيها اللغويّة ، وقد أطلقها على ما اخترعه من المصاديق.

ولا يعارض هذا أصالة عدم النقل من المتشرّعة ـ بعد ثبوت الحقيقة في لسانهم ـ فإنّه

__________________

(١) أنكر القاضي أبو بكر الباقلاني القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة مطلقا ، واشتهر أنّه لم يقل به غيره ، إلّا أنّ الظاهر اختيار غير واحد لهذا القول ، ولكن قد نسب القول إلى الباقلاني لكونه أشهرهم ، كما هو المعمول في انتساب الأقوال والمذاهب.

وهو القاضي أبو بكر ، محمّد بن الطيّب الباقلاني (م ٤٠٣ ه‍) متكلّم أشعري. ولد في البصرة وتوفّي ببغداد. أوفده عضد الدولة سفيرا إلى امبراطور القسطنطنية. من مؤلّفاته : إعجاز القرآن ، التمهيد ، الملل والنحل. (الكنى والألقاب ٢ : ٦٣).

٢٥

بعد ثبوت الحقيقة في لسانهم يحمل استعمالاتهم على المعاني الجديدة ، كانوا هم الناقلين أو الناقل غيرهم وقد تبعوه. ولا بناء من أهل المحاورات على نفي النقل منهم استبدادا وإثبات التبعيّة لهم في النقل ليكون الشارع هو الناقل في المقام.

وقد يتخيّل (١) ألا محيص من الالتزام بالنقل الشرعي ؛ إذ لا مناسبة بين المعاني الشرعيّة واللغويّة ـ فضلا عن أن تكون أحد مصاديقها ولو في بعض الألفاظ كلفظ الصلاة ـ فلا مصحّح للحمل ، ولا للتجوّز ، فيتعيّن أن تكون استعمالات الشارع على سبيل النقل الارتجالي.

ويدفعه : أنّ هذا ناشئ من قصر الدعاء في الصلاة على القنوت ، وأنّ ما عداه خارج عن الدعاء ، فكيف تطلق الصلاة بمعنى الدعاء على الكلّ ، مع أنّ القنوت ليس جزءها المقوّم كي يكون الاستعمال بعلاقة الكلّ والجزء؟!

ولكنّ الحقّ أنّ كلّ الصلاة دعاء ، وطلب من الله الإقبال وقبول العمل ؛ فإنّ الدعاء هو طلب التوجّه من الغير ، وبهذا المعنى كلّ متكلّم هو داع يدعو مخاطبه بالتوجّه والإقبال على كلامه.

ثمّ لا ثمرة مهمّة لهذا البحث ؛ فإنّ الحقيقة الشرعيّة إن ثبتت أو لم تثبت كان اللازم حمل ألفاظ الشارع على المعاني القديمة ، لمكان الجهل بتأريخ النقل وبتأخّر الاستعمال عنه. وأصالة عدم الاستعمال إلى زمان النقل معارضة بأصالة عدم النقل إلى زمان الاستعمال ، مع أنّه لا يثبت تأخّر الاستعمال عن النقل ولو أثبت لم يجد ؛ لأنّ الحمل على المعنى الجديد ليس أثرا شرعيّا مترتّبا عليه ، ولا بناء من العقلاء على هذا الأصل كي لا يحوج إلى الأثر الشرعي بلا واسطة.

ويمكن أن يقال : إنّ الألفاظ تكون مجملة على القول بالحقيقة الشرعيّة ؛ للجهل بالتأريخ المذكور وعدم بناء على تأخّر النقل بعد العلم بأصله ، فلا يحمل اللفظ على المعاني القديمة ولا على المعاني الحديثة. وهذا بخلاف ما لو نفينا الحقيقة الشرعيّة ، فإنّه تحمل الألفاظ على معانيها القديمة. وكفى بهذا ثمرة للبحث.

__________________

(١) انظر بدائع الأفكار : ١٢٤.

٢٦

وقد يقال : إنّ قضيّة جملة من الآيات قدم المعاني الشرعيّة (١) ومعرفة أهل اللغة لها. فدعوى كون الألفاظ حقائق لغويّة فيها تكون قريبة جدّا. فمن الآيات قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(٢) ومنها قوله تعالى : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا)(٣) ومنها قوله تعالى : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ)(٤).

ويردّه أوّلا : أنّ ذلك مبنيّ على كون الألفاظ في هذه الآيات مستعملة في المعاني الشرعيّة ، وهو غير ثابت ، وظهور الآية الأولى في اتّحاد المكتوب في حقّ الأمّتين لا يجدي ؛ إذ لعلّ اتحاد المكتوبين يكون اتّحادا جنسيّا وفي مجرّد الإمساك ـ وإن كان هذا عن الأكل وذاك عن الكلام ـ كما يقال : «في الحمّام اليوم إنسان ، كما كان في الأمس إنسان».

وثانيا : أنّ غاية ما تقتضيه الآيات ثبوت المعاني في بعض الشرائع السابقة ، فلعلّ الشريعة التي كانت فيها هذه المعاني كانت متأخّرة عن عصر واضع اللغة ، فلم يكن واضع اللغة يعرف هذه المعاني ليضع لها لفظا.

وثالثا : سلّمنا قدم المعاني ، لكن ذلك لا يلازم معرفة واضع لغة العرب لها.

ورابعا : سلّمنا معرفته لها ، لكن ذلك لا يستلزم وضع هذه الألفاظ لها.

نعم ، لا يبقى الوثوق حينئذ بثبوت الحقيقة الشرعيّة ، لكن يمكن تحرير هذا البحث حينئذ بنحو آخر ؛ فيقال : هل هذه الألفاظ المبحوث عنها انحصرت في شريعتنا في هذه المعاني وهجرت معانيها اللغويّة ، أم لا؟ وأثر الانحصار حينئذ أثر ثبوت الحقيقة الشرعيّة على التقدير الأوّل.

نعم ، أثر عدم الانحصار يكون هو الإجمال ، دون الحمل على المعاني اللغويّة الأوّليّة.

__________________

(١) كالصلاة والصوم والزكاة من المعاني الشرعيّة.

(٢) البقرة (٢) : ١٨٣.

(٣) مريم (١٩) : ٣١.

(٤) الحجّ (٢٢) : ٢٧.

٢٧

الصحيح والأعمّ

اختلفوا في أنّ ألفاظ العبادات هل هي أسام للصحيحة أم للأعمّ؟

ولنقدّم أمام البحث أمورا :

الأوّل : أنّ عنوان البحث ـ بما ذكرنا ـ وإن كان يعطي اختصاص البحث على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة ، لكنّ الظاهر أنّ البحث بنفسه أو بمناطه عامّ يجري حتّى على القول بالمجاز الشرعي ، بل وعلى اختيار مذهب الباقلاني (١) على أن يكون النزاع في مراد الشارع عند إطلاقه هذه الألفاظ ، وأنّ بناءه جار على إرادة الصحيح حتّى تقوم قرينة على الخلاف ـ إمّا بوضع اللفظ له ، أو باستعماله فيه مجازا ، أو من باب إطلاق الكلّي على الفرد من باب أنّ أحد مصاديق معناه اللغوي ـ أم ليس بناؤه على ذلك ، بل إطلاقه للألفاظ على قسمي الصحيح والفاسد على حدّ سواء.

الثاني : كلمة الصحّة ومشتقّاتها تطلق على ما يقابل كلّا من العيب والفساد والبطلان. والظاهر أنّها بمعنى واحد تقابل كلّ تلك المعاني. وأيضا معناها ذاتي لا إضافي نسبي ، وهو كون الشيء واردا على مقتضى طبيعته غير منحرف عن مقتضاها يمينا وشمالا.

ومعلوم أنّ ما هذا شأنه تبرز منه آثار الطبيعة وتظهر منه خواصّها لا أنّ معنى الصحّة هو ذلك ـ فضلا عن أن يكون بلحاظ أثر دون أثر ، فيكون الشيء صحيحا بلحاظ أثر ، فاسدا

__________________

(١) حيث ذهب إلى أنّ الألفاظ المستعملة في لسان الشارع قد استعملت في معانيها اللغويّة.

٢٨

بلحاظ آخر ـ بل الصحيح هو ما كان مرتّبا عليه كلّ آثار الطبيعة. وأمّا الفساد والعيب والبطلان فالكلّ يشترك في أنّها تطلق على ما خرج من مقتضى طبيعته الأصليّة بنقص فيه مع انحفاظ صدق الطبيعة ، وإلّا لم يكن الفاسد فاسد تلك الطبيعة أو معيوبها أو باطلها ، بل كانت طبيعة أخرى.

ويمتاز كلّ من الثلاثة عن أختيها بأنّ العيب عبارة عن انحراف الشيء وخروجه عن بعض مقتضيات الطبيعة ، والفساد عبارة عن الخروج عن كلّها. والبطلان يشارك الفساد في المعنى إلّا أنّه يختصّ إطلاقه بالأفعال ، فلا يقال : «بطّيخ باطل» ولكن يقال لزارع البطّيخ : «قد بطل عملك ، وقد ضلّ سعيك».

وأمّا توهّم أنّ الصحّة والفساد أمران إضافيّان (١) ـ فتكون صلاة واحدة صحيحة من شخص فاسدة من آخر ـ فباطل بظهور أنّ الصلاة بكافّة قيودها الدخيلة في الصحّة لا تفارقها الصحّة ، ومن تلك القيود خصوصيّة المصلّي كالمسافر والحاضر. نعم ، صلاة المسافر فاسدة من الحاضر وبالعكس ، لكنّ كلّا منهما إذا فرض صدوره من غيره لم يكن هو الذي صدر من الأوّل حتّى يكون اتصافه بالصحّة والفساد بالإضافة مع اتّحاد المضاف.

الثالث : لا حاجة لكلّ من القول بالصحيح والأعمّ إلى وجود قدر جامع بين أفراده إلّا مع القول بوحدة الوضع ، وعلى هذا التقدير أيضا القدر الجامع موجود على كلّ من القولين بسيطا ومركّبا ؛ لاشتراك أفراد الصحيح في التأثير في أثر كذا الكاشف عن وحدة المؤثّر ، واشتراك أفراد الأعمّ من الصحيح والفاسد في مجاورة ذلك الأثر.

نعم ، هذا الجامع لا يجري في كلّ فاسد ، بل يختصّ بفاسد اشتمل على ما يقرب الصحيح من الأجزاء ، وهو المقصود أيضا ، فيشار بهذا الأثر المشترك إلى ذلك الجامع الواحد المؤثّر ويوضع اللفظ له. أو يشار إلى الأجزاء الخارجيّة المختلفة ـ زيادة ونقيصة ـ المنطبق عليها ذلك الجامع الواحد ، فيوضع اللفظ له. والأوّل هو الجامع البسيط ، والثاني هو الجامع المركّب.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الاستدلال في المسألة بكلّ من القولين بالتبادر وصحّة السلب لا يخلو من مجازفة إن أريد بهما ذلك في لسان الشارع ، وإن أريد في لسان المتشرّعة

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٤.

٢٩

بضميمة أصالة عدم النقل من لسان الشارع ، فتلك لم يثبت اعتبار العقلاء لها.

وأبطل من ذلك الاستدلال لكلّ من القولين بالأخبار ، فللصحيح بمثل (الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ)(١) ، و «أنّها عمود الدين» (٢) ، و «الصوم جنّة من النار» (٣) ، و «لا صلاة إلّا بطهور» (٤) ، و «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» (٥) إلى غير ذلك. وللأعمّ بمثل «دعي الصلاة أيّام أقرائك» (٦) ، و «بني الإسلام على خمس» (٧).

فإنّ الأوّل مردود بأنّ مثل هذه التعبيرات تعبّر بها في مقامين ، فتارة في مقام بيان شرح معاني الألفاظ بالإشارة إليها بآثارها كما هو شأن أهل اللغة ، واللفظ في هذا المقام مستعمل في نوع اللفظ لا في معنى ؛ وأخرى في مقام بيان خواصّ المسمّى بعد الفراغ عن معرفة المسمّى ، واللفظ في هذا مستعمل في معناه ، والاستعمال في هذه الأخبار من هذا القبيل فلا يدلّ على المدّعى. نعم ، إثبات الآثار قرينة استعمال اللفظ في الصحيح ، لكنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة.

والثاني مردود بأنّ رواية «دعي الصلاة أيّام أقرائك» إن حمل نهيها على الحقيقة والطلب المولوي كان ذلك قرينة إرادة الفاسدة ؛ لعدم قدرة الحائض على الصحيحة حتّى تنهى عنها ، والاستعمال أعمّ من الحقيقة ، وإن حمل نهيها على الإرشاد على عدم قدرة الحائض من الصلاة حينئذ هي الصحيحة (٨) ؛ لأنّها التي لا تقدرها الحائض ، ولو بني على الاستدلال بأمثال هذه الأدلّة كانت أوامر العبادات أحرى بأن يستدلّ بها على الأعمّ ، بعد

__________________

(١) العنكبوت (٢٩) : ٤٥ ، وقد وردت الآية والاستشهاد بها في بعض الأخبار فراجع الكافي ٢ : ٥٩٨.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٣٧ / ٩٣٦ ؛ وسائل الشيعة ٤ : ٣٥ ، أبواب أعداد الفرائض ، ب ٩ ، ح ١٣ ، باختلاف يسير.

(٣) الكافي ٤ : ٦٢ / ١ ؛ الفقيه ٢ : ٤٤ / ١٩٦ ؛ وسائل الشيعة ١٠ : ٣٩٥ و ٣٩٨ ، أبواب الصوم المندوب ، ب ١ ، ح ١ و ٨.

(٤) التهذيب ٢ : ١٤٠ / ٥٤٦ ؛ وسائل الشيعة ١ : ٣٧٢ أبواب الوضوء ، ب ٤ ، ح ١.

(٥) عوالي اللئالي ١ : ١٩٦ / ٢ وبهذا المضمون وردت أخبار أخر ، فراجع وسائل الشيعة ٦ : ٣٧ ـ ٤١ ، أبواب القراءة في الصلاة ، ب ١ و ٢.

(٦) الكافي ٣ : ٨٣ / ١ ؛ التهذيب ١ : ٣٨١ / ١٨٣ ؛ وسائل الشيعة ٢ : ٢٨٧ أبواب الحيض ، ب ٧ ، ح ٢.

(٧) وسائل الشيعة ١ : ١٣ ـ ٢٧ أبواب مقدمة العبادات ، ب ١ ، ح ١ و ٢ و ٥ و ١٠ و ١١ و ١٥ و ١٨ و ٢٩ و ٣٣.

(٨) أي أنّه إن حمل النهي عن صلاة الحائض على الإرشاد إلى عدم قدرتها من الصلاة ، فالمراد من الصلاة المنهي عنها حينئذ هي الصلاة الصحيحة ؛ لأنّها هي التي لا تقدر عليها الحائض وأمّا الصلاة الفاسدة فمقدورة لها.

٣٠

عدم معقوليّة أخذ قصد التقرّب الذي به قوام الصحّة في متعلّقاتها.

وأمّا الاستدلال بحديث بناء الإسلام على الخمس فيردّه أنّ كلّا من بناء الإسلام على الصحيح وأخذ الناس بالفاسد ممّا لا إشكال فيه. وبعد ذلك كان الاستدلال بالحديث على إثبات المدّعى تمسّكا بالاستعمال.

مع أنّ ذلك ليس بأولى من التمسّك به لإثبات الصحيح ، وحمل أخذ الناس بالأربع على الأخذ به بحسب معتقدهم لا واقعا ـ إلّا أن يناقش في جواز إطلاق اللفظ على المعنى الاعتقادي ـ وإلّا لجاز أن يقال : «ركب زيد الحمار ، وذهب إلى الإسكندريّة» ، بمجرّد اعتقاده ذلك ، أو يقال : «زيد أعلم من في الأرض ، وأفقه فقهاء الإسلام» بمجرّد اعتقاده ذلك.

فلا يكون محيص حينئذ من جعل الأخذ بالأربع قرينة استعمال الألفاظ في الأعمّ ، وذلك لا ينافي الحكم ببناء الإسلام عليها ؛ فإنّ تكرار اسم الجنس في الكلام ، أو ما بحكم التكرار لا يقتضي اتّحاد مصداق المحكوم عليه في المقامين.

وربما يستدلّ للقول بالأعمّ بفتويين أفتي بهما في الفقه.

الأولى : صحّة نذر ألا يصلّي في المواضع المكروهة ، أعني ترك ما هو مدلول هذا اللفظ.

الثانية : حصول الحنث بإتيانه في تلك المواضع.

تقريب الاستدلال : أنّ الصلاة لو كانت اسما للصحيح لم تجتمع هاتان الفتويان بل إمّا بطل النذر ؛ لعدم القدرة على المنذور ـ ولو بسبب تعلّق النذر لأجل تعلّق النذر ـ والقدرة من شرائط صحّة النذر. وإمّا لم يحصل الحنث ـ كما في نذر النتيجة ، وإن كان المنذور هو ترك الفعل ـ وبطلان التالي بكلا شقّيه يكشف عن بطلان المقدّم.

ويردّه : أنّ متعلّق النذر لا يخلو إمّا هو صحيح لو لا النذر ، أو الصحيح حتّى مع النذر ، أو الفاسد ، أو الأعمّ ، والكلّ باطل.

أمّا الأوّل ؛ فلأنّه نذر لترك أمر راجح ؛ لرجحان الصلاة في ذاتها ، وإن كانت أقلّ رجحانا في تلك الأمكنة المكروهة ، وذلك لا يوجب انعقاد نذر تركها ، وإلّا لجاز نذر ترك كلّ عبادة هي أقلّ مصلحة من غيرها.

وأمّا الثاني ؛ فلعدم القدرة من المتعلّق لتوقّف الصحّة بعد النذر على عدم النذر ، فكان

٣١

النذر متعلّقا بما لم يتعلّق به النذر.

وأمّا الثالث ؛ فلاستلزامه عدم الحنث بإتيان الفرد الصحيح لعدم كونه خلاف النذر.

وأمّا الرابع ؛ فيظهر بطلانه من الوجوه السابقة.

فلم يكن بدّ إلّا من الالتزام بالتعبّد ، وأنّ صحّة النذر المذكور على خلاف القاعدة كصحّة نذر الصوم في السفر ، والإحرام قبل الوقت. ومورد التعبّد نذر ترك الصحيح لو لا النذر دون ما هو مدلول لفظ الصلاة.

اعلم أنّ نزاع الصحيح والأعمّ جار في ألفاظ المعاملات أيضا ، ويحتمل أن يكون البحث هناك في الصحيح والأعمّ العرفيّين دون الشرعيّين ، كما يحتمل أن يكون البحث فيها بحثا مبنائيّا ناشئا من النزاع في حصول التصرّف الشرعي في ألفاظ المعاملات ، فعلى التصرّف يقال بالصحيح وعلى عدمه الأعمّ ، وكون الشرائط الشرعيّة دخيلة في تأثير المعاملة لا في مداليل ألفاظها. والله العالم.

٣٢

المشتقّ

هل المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدإ ، أو في الأعمّ منه وممّن انقضى عنه المبدأ؟

ولنقدّم أمام الكلام ما لعلّه يكون نافعا في المقام ، وبه يتّضح موضوع البحث.

فاعلم أنّا قد ذكرنا سابقا أنّ موادّ المعاني لا تشذّ عن ثلاث ـ أعني الذوات والحركات والروابط ـ ولكلّ من هذه المعاني البسيطة لفظ موضوع بإزائه كما أنّ لمركّباتها ألفاظ موضوعة.

أمّا الألفاظ الموضوعة للبسائط فكلّها خارجة عن حريم النزاع هنا ؛ لأنّ البحث في المقام متوجّه إلى النسبة ، وأنّ هيئة المشتقّات موضوعة بإزاء أيّة نسبة ، هل بإزاء النسبة التلبّسيّة أو الأعمّ ولا نسبة في البسائط ؛ فإنّها الذات الساذج أو الحركة الساذجة فلا يعقل البحث فيهما.

وأمّا الألفاظ الموضوعة بإزاء النسب والروابط كما في الحروف ـ إن سلّمنا ذلك فيها ـ فللاتّفاق على أنّها موضوعة بإزاء فعليّات النسب ، بل لا يعقل فيها سوى الفعليّة. وإنّما الانقضاء يفرض في معنى أخذ فيه الذات ولا ذات هناك.

وأمّا الألفاظ الموضوعة للمركّب في تلك البسائط بالأعمّ من الموضوعة بإزاء نفس المركّبات ، أو بازاء الصور البسيطة المنتزعة منها ، فهي على طائفتين : اسم وفعل ؛ أمّا الفعل فبأنواعه الثلاثة خارج عن محلّ البحث ؛ لأنّ الماضي مأخوذة فيه النسبة الانقضائيّة فقط ،

٣٣

والمضارع مشترك بين الحال والاستقبال ، والأمر مختصّ بالاستقبال لعدم تعلّق الطلب بغيره ؛ فلا إشكال في معاني كلّ من هذه الثلاثة. والمراد من الماضي والحال والاستقبال ما ينطبق في الزمانيّات على الزمان لا خصوص الزمان. فمثل (عَلِمَ اللهُ)(١) و (جاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا)(٢) و «مضى الزمان» حقائق وإن لم يرد منها الزمان.

وأمّا الاسم فظاهر العنوان وإن كان قصر البحث على قسم المشتقّ منه ، بل ربما يختصّ ببعض أقسام المشتقّ ، لكنّ الظاهر عموم مناط البحث لكلّ اسم تضمّن معنى النسبة ؛ لقيام المناط بها ، فأينما كانت النسبة جاء البحث سواء كانت في المشتقّ أو في الجامد.

ولا بأس بالإشارة الإجماليّة إلى ما تمتاز به بعض المشتقّات عن بعض.

فاعلم أنّ معنى اسم المصدر الذي هو مبدأ المشتقّات هو الحدث الساذج ـ وهو الفعل اللغوي الذي قلنا : إنّه أحد البسائط ـ وهذا الحدث هو متن معاني المشتقّات ، والأصل المحفوظ الساري فيها الذي تعتور عليه المعاني الاشتقاقيّة بلا نقيصة منه ، وإن زيد عليه في كلّ بشيء.

وليس بإزاء هذا الأصل في الأغلب لفظ يخصّه ، بل باعتبار التوزيع والتقسيط يعطى لهذا المعنى الساري في معاني المشتقّات اللفظ الساري في ألفاظها. فيجعل الساري حصّة للساري ، ويقال : إنّ معنى الضاد والراء والباء في «ضرب» وقبيله من المشتقّات هو الحدث الضربي ، ومعنى القاف والتاء واللام في «قتل» وقبيله هو الحدث القتلي ، وهكذا.

وأوّل مشتقّ من هذا الأصل هو المصدر ؛ فإنّه يزيد عليه بأخذ نسبة صدوريّة أو مطاوعيّة في مدلوله كالكسب والاكتساب. وحيث إنّ المصدر مبدأ حلقة الاشتقاق بعد اسم المصدر ـ ولا لفظ غالبا بإزاء اسم المصدر ـ عدّ المصدر أصلا ومبدأ للمشتقّات ، فهو مبدأ إضافي لا حقيقي.

وإذا أضفنا أخذ الذات على معنى المصدر ـ إمّا الذات الفاعلة للحدث ، أو القابلة له ـ صار المعنى معنى فاعليّا أو مفعوليّا ومن أجله يعبّر عنه باسم الفاعل واسم المفعول ، فاسم

__________________

(١) البقرة (٢) : ١٨٧ و ٢٣٥ ؛ الأنفال (٨) : ٢٣.

(٢) الفجر (٨٩) : ٢٢.

٣٤

الفاعل واسم المفعول في ثاني مرتبة الاشتقاق ، وهكذا كلّما زدنا معنى على سابقه زاد الاشتقاق بعدا عن المبدأ بمرتبة ؛ فلذا كانت صيغ المبالغة في ثالث المراتب فإنّها تزيد على معنى الفاعل والمفعول بإفادة المبالغة فيهما ، فهي إمّا مبالغة في الفاعل أو مبالغة في المفعول.

أمّا الأفعال فأصولها ثلاث. والكلّ يشارك اسم الفاعل والمفعول في الاشتمال على الذات والحدث والنسبة ، ويفارقهما من وجهين :

الأوّل : أنّ الذات في الاسمين متن المعنى والحدث قيده ، وفي الفعل بعكس ذلك الحدث متن المعنى والذات قيده ، فالماضي المعلوم معناه الحدث الصادر عن فاعل ما فيما مضى ، والماضي المجهول معناه الحدث الواقع على مفعول ما كذلك ، والمضارع معناه هو هذا مع تبديل السبق باللحوق أو الحال ، والأمر معناه البعث إلى الفعل.

وأمّا اسما الفاعل والمفعول فمعناهما الذات الفاعل للحدث أو القابل للحدث. فكان الحدث هنا قيدا للمعنى كما كان الذات هناك قيدا له.

الثاني : أنّ النسبة المأخوذة في مداليل الأفعال نسبة تامّة خبريّة أو إنشائيّة يصحّ السكوت عليها بخلاف النسبة في مدلول الاسمين فإنّها نسبة ناقصة.

إذا عرفت هذا وظهر لك عموم مناط البحث وعدم اختصاصه بالمشتقّات ، فلنعد إلى عنوان البحث.

فاعلم أنّ الحال في العنوان يراد بها حالة التلبّس وهيئة التطوّر بالمبدإ والتفحّص به لا زمان النطق ولا زمان التلبّس ؛ فإنّ المعنى الملحوظ متكيّفا بكيفيّة خاصّة كزيد بوصف العلم وعلى صفة العلم ـ أعني الذات القائم بها العلم فعلا ـ غير زيد المنقضي عنه صفة العلم ، وهما معا غير زيد بما سيتلبّس بالعلم. فزيد إذا قيس إلى صفة العلم كان له حالات ثلاث : حالة التلبس به ، وهو حالة حلول المبدأ فيه ، وجلوسه على صدره. وحالة الانقضاء ، وهي حالة ارتحال المبدأ وتحوّله عنه. وحالة ترقّب حلول المبدأ وانتظار نزوله.

والمراد من الحال في العنوان هو القسم الأوّل من الحالات الثلاث ، وهي حالة فعليّة المبدأ ؛ لا أقول : الفعليّة الخارجيّة ، بل هذه الفعليّة هي حالة الفعليّة إن وجد المبدأ في الخارج ، أو لم يوجد ولن يوجد أبدا ، فكانت الفعليّة فعليّة تقرّريّة لا فعليّة خارجيّة.

٣٥

والنزاع واقع في أنّ المشتقّ حقيقة في خصوص هذه الحالة ، أو فيما يعمّها وتلك الحالة الاخرى الانقضائيّة بعد الاتّفاق على كونه مجازا في تلك الحالة الثالثة.

والحاصل : لا امتياز للمشتقّ من سائر الألفاظ ، وقد عرفت أنّ فعليّة المعاني غير دخيل في شيء من الألفاظ ، يعني أنّ الألفاظ حتّى الأعلام موضوعة بإزاء ذوات المعاني لا بإزاء المعاني بقيد الوجود.

وبذلك يبطل توهّم كون المراد من الحال في العنوان هو زمان الحال ، سواء أريد منه زمان النطق ، أو زمان التلبّس. نعم ، لو كان النزاع في المقام راجعا إلى مقام حمل المشتقّ وتطبيقه لا إلى مقام تعيين مدلوله كان لذلك التوهّم مجال ، لكنّ ذلك بمعزل عن الصواب ، وإن سبق بعض الأوهام ، قائلا بأنّ :

«الاتّفاق واقع على أنّ معنى المشتقّ هو خصوص الذات على وصف التلبّس وهيئة التلبّس ـ مقابل الهيئتين الاخريين ، أعني الذات على هيئة ارتحال المبدأ ، والذات على هيئة انتظار المبدأ وترقّبه ، كما أنّ الألفاظ الموضوعة لكلّ عنوان ـ ذاتيّا كان أو عرضيّا ـ موضوع للذات مع فعليّة ذلك العنوان ؛ ولم يحتمل أحد أن تكون موضوعا للأعمّ من فعليّته وانقضائه. ولم يتخصّص المشتقّ بخصيصة ولا امتاز بميز ؛ ليختصّ بالبحث في مفهومه من دون سائر إخوانه من الألفاظ.

وإنّما البحث فيه في مقام الحمل ، وأنّ الموضوع للمتلبّس بالمبدإ هل يحمل على الذات المنقضى عنه المبدأ في الخارج حملا حقيقيّا ـ كما يحمل على الذات المتلبّس بالمبدإ ـ أو أنّ ذلك الحمل على ضرب من التوسّع وباب من المجاز؟

ومنشأ هذا الخلاف بروز معنى الذات في معنى المشتقّ بروزا بيّنا ، حتّى توهّم أنّ معناه معنى تركيبي ، مع أنّ معناه معنى بسيط منتزع من المركّب. فإذا كان معنى الذات فيه بارزا وأخذه في مفهومه ظاهرا كان معنى «زيد ضارب» ، زيد ثابت له الضرب.

وحيث إنّ المقصود من مثل هذه القضيّة قد يكون هو الحكم باتّحاد الذات مع الذات الثابت له المبدأ من غير توجّه العناية إلى إثبات المبدأ ، وقد يكون هو الحكم بثبوت القيد في جانب المحمول ، وهو المبدأ من غير نظر إلى الذات إلّا مقدّمة لإثبات قيده ، كما هو الظاهر القضيّة. والتلبّس بالمبدإ إنّما يعتبر في القسم الثاني من الحمل دون القسم الأوّل ؛ لأنّ الذات

٣٦

في مورد الانقضاء عينا هي تلك الذات التي كانت متلبّسة بالمبدإ وحملها عليه حمل على وجه الحقيقة ، وإن كان التلبّس منقضيا ، فمن قال : إنّ المشتقّ حقيقة في الأعمّ نظر إلى هذا القسم من الحمل ، ومن قال : إنّه حقيقة في خصوص المتلبّس نظر إلى القسم الآخر من الحمل الذي هو ظاهر القضيّة» (١). انتهى.

وليت شعري ، كيف يعقل النزاع في مقام الحمل مع الاتّفاق على المفهوم؟! فإنّ الحمل ليس إلّا الحكم باتّحاد هذا المفهوم المبيّن مع الموضوع. بل كلّ نزاع فرض في الحمل فلا بدّ أن يكون ذلك ناشئا من النزاع في المفهوم ، ومن جهة عدم تميّز المفهوم ، وإلّا فبعد تميّز المفهوم لا يبقى للنزاع في تطبيقه على الجزئيّات سبيل.

وظنّي أنّ المتوهّم خلط بين عبارة الحملين اللذين أشار إليهما ، وحسب أنّ التعبير عنهما يقع بعبارة واحدة ، مع أنّه إن أريد إفادة اتّحاد الذات مع الذات عبّر بعبارة «زيد الضارب» معرّفا ، ومشيرا باللام إلى الذات ، تنبيها على أنّ المحمول هو الذات والمبدأ قيده ؛ وإن أريد إفادة اتّحاد المبدأ مع الذات عبّر بعبارة «زيد ضارب» منكّرا ؛ وفي هذه العبارة الذات مندكّة في جانب المحمول بعد وقوع التصريح به في جانب الموضوع ؛ مع أنّه لو صحّ ما ذكره لزم عموم البحث لمن لم يتلبّس أيضا ؛ لعدم الفرق بين من انقضى عنه المبدأ ، وبين من لم يتلبّس فيما ذكره ؛ لأنّ الذات التي ستتلبّس أيضا هي عين الذات الفعلي.

وخلاصة الكلام وفذلكة المقام هو : أنّ المشتقّ لا يزيد على مبدئه إلّا بذات ونسبة بلا اعتبار التحصّل الخارجي ، فما المشتقّ إلّا كسائر الألفاظ ، وقد عرفت أنّ الألفاظ لم توضع إلّا بإزاء ذوات المعاني ، لا بإزاء المعاني بقيد الوجود الخارجي أو بقيد الوجود الذهني فالنسبة الكائنة في مفهوم المشتقّ نسبة تقرّريّة لا نسبة خارجيّة لكي تستدعي مبدأ خارجيّا.

__________________

(١) القائل هو الشيخ هادي الطهراني في المجلّد الأوّل من كتابه محجّة العلماء. ولكنّنا لم نظفر به.

وهو الشيخ هادي بن محمّد أمين الطهراني ، فقيه إمامي. ولد في طهران وهاجر إلى أصفهان في طلب العلم ثمّ إلى النجف الأشرف وتلمّذ على فاضل الإيرواني والميرزا الشيرازي والشيخ الأنصاري ثمّ استقلّ بالتدريس والإفتاء توفّي في سنة ١٣٢١ ه‍ في النجف الأشرف ودفن هناك. له مؤلّفات منها : محجّة العلماء ، الإتقان ، تفسير آية النور (أعيان الشيعة ١٠ : ٢٣٣).

٣٧

فلا يتوهّمن من عقد هذا البحث أنّ اعتبار تحقّق المبدأ في المشتقّ من المتسالم عليه ، وإنّما البحث في اعتبار فعليّته مقابل انقضائه ، فإنّ تحقّق الذات غير معتبر فضلا عن تحقّق المبدأ ، فمثل : «شاعر» و «عالم» حقيقة في الذات صاحبة المبدأ وإن لم يكن في الخارج ذات ولا مبدأ ، فلو استعملنا اللفظ في الذات الكذائيّة فقد استعملناه في حقيقته ، وكذلك «السمّ القاتل» و «السيف القاطع» حقيقتان في معناهما وإن لم يكن قتل ولا قطع ، بل ولا سمّ ولا سيف.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المعتبر في مفهوم المشتقّ هو الذات متخصّصا بالمبدإ بضرب من التخصّص ، ولا بدّ أن يكون هذا التخصّص فعليّا مقابل عدمه ، يعني أنّ معنى المشتقّ ليس هو الذات اللابشرط عن هذا التخصّص ، وإن حصل فيه التخصّص ومضى كما يقوله القائل بالأعم ؛ نعم ، هذا التخصّص قد يكون في الخارج بلا دخل كونه الخارجي في مفهوم اللفظ ، وقد يكون في مرتبة الذات بلا تنزّل إلى الخارج من غير دخل هذا أيضا في المفهوم ، بل المفهوم خلو عن الخصوصيّتين ، وينطبق على المتخصّص بكلّ من نحوي الخصوصيّتين ، ومنشأ طلوع التخصّص الخارجي في أفق المشتقّ هو جعل المادّة والمبدأ المأخوذة تحت الهيئة الاشتقاقيّة حاكية عن مبدأ خارجي ومطلقا لها على مبدأ خارجي ، فيأتي من ذلك التلبّس الخارجي ؛ حيث إنّ التخصّص بأمر خارجي لا يكون إلّا في الخارج.

فلولا ذلك وكان المبدأ على صرافة معناه ـ بلا إطلاقه على الخارجيّات ـ لم يكن يفهم من المشتقّ التلبّس الخارجي ، ولم يزد مؤدّاه على التلبّس في جوهر الذات كما في «السمّ القاتل» و «السيف القاطع» وكذلك الكاتب والضاحك إن أريد من مبدئهما طبيعة الكتابة والضحك ؛ وإن أريد من مبدئهما الكتابة والضحك الخارجيّين كان معناهما لا محالة المتلبّس بالكتابة والضحك في الخارج.

فمعنى المشتقّ هو خصوص المتلبّس ، لكن لا تلبّسا ثابتا في الخارج فإذا دلّ الدليل على عدم جواز السجود على كلّ مأكول وملبوس قلنا بعدم جواز السجود على كلّ ما كان مسلّما للأكل واللبس في المتعارف غير شارد عنهما بل قابل حامل لهما ، بلا اعتبار أكل خارجي فعلي أو لبس كذلك.

فصحّ أن يقال : إنّ المشتقّ حقيقة في ما يعمّ المتلبّس وغير المتلبّس رأسا حتّى في

٣٨

المستقبل ، مريدا بذلك التلبّس الخارجي ؛ ومعناه عدم اعتبار هذا التلبّس رأسا. وصحّ أن يقال : إنّه حقيقة في خصوص المتلبّس فعلا مريدا بذلك التلبّس في مرتبة الذات.

وهذا الأخير هو الذي ينبغي أن يكون محلّا للبحث.

وقد عرفت أنّ التلبّس النقدي معتبر في مفهوم المشتقّ ، ولا يكفي تلبّس ما والتلبّس الجامع بين الماضي والحال ؛ وقد اشتبه هذا التلبّس بالتلبّس الخارجي ـ واشتبه نزاعه بالنزاع في ذاك ـ مع أنّه لا ينبغي النزاع في ذلك.

وكان منشأ الاشتباه إطلاق المشتقّ غالبا على الخارجيّات ، فيظنّ الناظر أنّ التلبّس الخارجي المستفاد منه مستفاد من حاقّ اللفظ ومأخوذ في مفهومه ، مع أنّه لا يعتبر في مفهومه سوى ما هو في مثال : «السيف القاطع» و «السمّ قاتل». بل لو لم يطلق المبدأ على المبدأ الخارجي ـ وإنّما أطلق الذات على الذات الخارجي كما في مثال : «هذا السيف قاطع» ، و «ذلك السمّ قاتل» أيضا ـ لا يستفاد التلبّس الخارجي ، بل كان هذا الحمل صحيحا ، وإن لم يقتل هذا ولم يقطع ذاك. وكثيرا ما يغلب هذا التوهّم في مشتقّ حلّ مبدؤه في الذات كعادل وعالم وقائم ، لا ما كان مبدؤه معلولا للذات صادرا منه كقاتل وقاطع.

والسرّ هو عدم العناية في بيان مجرّد استعداد الذات لقبول المبدأ ؛ لمشاركة كثير من الذوات في هذا الاستعداد ، فيكون ذلك قرينة على إرادة التلبّس الفعلي الخارجي من المبدأ. وقد عرفت أنّ إطلاق المبدأ على الخارجيّات يستلزم كون التلبّس به خارجيّا.

وهل يعتبر عند هذه القرينة التلبّس الحالي ، أو يكفي التلبّس ولو في المضي؟ الحقّ هو الأخير ، بل البحث باطل ؛ وأنّ التلبّس لا محالة يكون في الحال ، وإنّما الماضي وعاء المبدأ ، والمبدأ يكون قد انقضى.

توضيحه : أنّ المبدأ إذا أطلق على المبدأ الخارجي ، فتارة يطلق على مبدأ فعلي ، وأخرى يطلق على مبدأ انقضائي ؛ وفي كلا التقديرين كان التلبّس به حاليّا وإنّما المبدأ قد انقضى ، بل حاليّته ينوط بانقضاء المبدأ كما في الفعل الماضى ، وإلّا لم يكن التلبّس تلبّسا بمبدإ قد انقضى فإذا أريد من القيام في «زيد قائم» القيام الأمسي المنصرم فعلا كان زيد فعلا متلبّسا بأنّه انقضى عنه القيام ، فالمضي واقع في ناحية المبدأ لا في جانب التلبّس ، بل تلبّسه الفعلي يكون بعين انقضاء المبدأ.

٣٩

وهذا هو المراد من قولهم : إنّ الجري بلحاظ حال التلبّس وإنّه حقيقة ، وإن كان المبدأ قد انقضى أو بعد لم يتحقّق. وحقيقته ما ذكرنا من إطلاق المبدأ على مبدأ قد انقضى ، أو بعد لم يتحقّق ؛ وإلّا فلا معنى محصّل لكون الجري بلحاظ حال التلبّس.

ومختصر المقام هو أنّ المشتقّ لا يحتاج إلى مبدأ خارجي وتلبّس خارجي ، وإنّما معناه التلبّس بالمبدإ تقرّرا الحاصل في كلّ من الخارج ومقام الذات ، وفي كلّ ممّا كان المبدأ فعليّا أو انقضائيّا أو استقباليّا ، وفي الكلّ التلبّس فعلي والمعنى الحقيقي حاصل.

فلا تنافي بين القول بأنّ المشتقّ حقيقة في المتلبّس بالمبدإ في الحال وبين عدم اعتبار وجود المبدأ في الخارج ، فضلا عن كونه في الحال.

ومعنى المشتقّ في جميع ذلك واحد ، والاختلاف خارج عن معناه ثابت بالقرينة. فهيئة «قائم» في «زيد قائم» ، وهيئة «قاطع» في «سيف قاطع» معناهما واحد ، والتلبّس في أوعية مختلفة. وكذا التلبّس في «زيد قائم الآن» و «زيد قائم بالأمس» و «زيد سيقوم غدا» على نحو واحد ، وفي الكلّ فعلي وما تلبّس به مختلف ؛ فالتلبّس والحمل والجري كلّها ثابت فعلا.

وبما ذكرناه يظهر حال صيغ المبالغة ، وما دلّ منها على الحرفة والصنعة والملكة ؛ فإنّ النسبة فيها لا تختلف ولا تتخلّف عن النسبة في غيرها ، ولا المبدأ يختلف عن المبدأ في غيرها.

فتوهّم أنّ النسبة المدلول عليها فيها نسبة خاصّة كائنة بالملكة أو الحرفة ، أو توهّم أنّ المبدأ هي الملكة ، باطل عاطل ؛ وأين الملكة في العبارة حتّى تكون مبدأ؟! وإنّما نسب إلى الذات تكرّر صدور المبدأ ـ وهو التجارة ـ ومن ذلك يستفاد الملكة بالالتزام ؛ فإنّ الذات إذا كانت ذاتا مستعدّة لإصدار تجارات كثيرة كان ذلك ملكة لها لا محالة ، وهكذا في باقي الصيغ.

خاتمة

مفهوم المشتقّ مفهوم بسيط غير مركّب من ذات ونسبة ومبدأ ، وإنّما مفهومه الذات ليس إلّا ، كما في «زيد» و «عمرو» و «بكر». نعم ، هذا موضوع بإزاء قطعة من الذات لا بإزاء الذات

٤٠