الأصول في علم الأصول - ج ١

ميرزا علي الإيرواني النجفي

الأصول في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

ميرزا علي الإيرواني النجفي


المحقق: محمّد كاظم رحمان ستايش
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-424-879-1

الصفحات: ٢٠٠
الجزء ١ الجزء ٢

خرج ذلك العنوان عن الجميع.

ولمّا كان الظاهر من الاستثناء هو قصر الحكم لزم التفصيل في المسألة بين صورة تكرّر الحكم مع كلّ جملة وبين صورة عدم تكرّره. ووجه هذا الظهور هو أنّ ظاهر القيد في الكلام عوده إلى تمام ما التحق به. وتمام ما لحقه القيد هو الحكم الذي في الكلام وما عداه من متعلّقاته وروابطه. وهذا من جزئيّات ما تقدّم من أنّ ظاهر القيد في الكلام هو رجوعه إلى مدلول الهيئة دون المادّة.

ثمّ لو سلّمنا الإجمال وعدم ظهور الاستثناء في شيء من الأمرين كان الرجوع إلى الأخيرة هو المتيقّن وفيما عداها يؤخذ بأصالة العموم ؛ لعدم ثبوت قرينة أقوى توجب التصرّف فيه.

ودعوى إجمال الجميع باتّصالها بأمر مجمل ، يدفعها أنّ المجمل يحمل على المبيّن دون العكس. فالعمومات السابقة مبيّنات وبها يرفع الإجمال عن الاستثناء ويحكم باختصاصه بالأخيرة. ولذا لو قامت قرينة على خلاف حكم العامّ في فرد مردّد بين أفراد العام وغيره ، حكم بأصالة العموم في العامّ بأنّه من غير أفراد العامّ.

وأمّا سراية الإجمال في المخصّص المتّصل بالعامّ إلى العامّ فذلك من جهة حصول انثلام العامّ بالقطع وكان الإجمال في مقدار الخارج. وأين ذلك من المقام الذي كان أصل التخصيص فيه مشتبه.

إن قلت : إنّ أصالة العموم فيما عدا الأخير معارضة بأصالة العموم في العامّ الواقع تلو الأداة ، وبعد التساقط يحصل الإجمال في الجمع.

قلنا : لا تعارض بين الأصلين ؛ فإنّ عموم المستثنى وخصوصه يتبع عموم أداة الاستثناء واختصاصها بالأخيرة.

وبعد أن خصّصناها بالأخيرة بحكم أصالة العموم في العمومات السابقة لم تبق لأصالة العموم في المستثنى سبيل ؛ فإنّها محكومة بالنسبة إلى الأصول الجارية في العمومات.

تخصيص الكتاب بخبر الواحد

الحقّ عدم جواز تخصيص الكتاب ولا سائر التصرّفات فيه بخبر الواحد. والدليل

١٨١

على ذلك أمران :

الأوّل : أنّ التعارض في الحقيقة واقع بين دليل اعتبار الخبر وبين عموم الكتاب ، والنسبة عموم من وجه ، والمتعارضان بالعموم من وجه يتركان ويرجع إلى دليل ـ من أصل أو عموم ـ فوق. والشاهد على أنّ التعارض بين دليل اعتبار الخبر وظاهر الكتاب لا بين نفس الخبر وظاهر الكتاب أنّه لو لا دليل الاعتبار لم يكن بظاهر الخبر اعتداد ولا بنصّه. فكلّ ما صنعه ، صنعه دليل الاعتبار. فروح المعارضة قائمة بدليل الاعتبار.

وقد يتوهّم أنّ الخبر بدلالته وسنده صالح للقرينيّة على الكتاب بخلاف العكس (١).

ويدفعه : أنّه إن أريد من الصلاحيّة للقرينيّة أنّ دليل الاعتبار بنصبه للخبر الخاصّ مقابل عموم الكتاب يكون شارحا مفسّرا له بأنّ المراد منه ما عدا ما تضمّنه الخبر ، فهو ضعيف بأنّ الخبر الخاصّ إذا لم يكن في نفسه شارحا مفسّرا ، بل كان معارضا بالعموم والخصوص ، كيف يكون دليل اعتباره شارحا مفسّرا؟! بل يكون بنصبه للمعارض معارضا ؛ وذلك أنّ دليل الاعتبار لا يزيد شيئا سوى أن ينصب الخبر حجّة ، فإن كان الخبر بنفسه شارحا كان هذا بنصبه للشارح شارحا ، وإن كان معارضا كان هذا معارضا ، فلا شأن له مستقلّ.

وإن شئت قلت : إنّ مؤدّى دليل «صدّق» هو بعينه مؤدّى الأخبار الخاصّة واجد على وجه الإجمال لتفاصيل الأخبار الخاصّة ، مع ذلك نسبته مع عموم الكتاب عموم من وجه وإن كانت نسبة الأخبار الخاصّة عموما مطلقا ؛ وذلك لعدم اختصاص دليل «صدّق» بالأخبار المخالفة للكتاب ، فكما أمكن تخصيص الكتاب بالخبر أمكن تخصيص «صدّق» بالأخبار الموافقة.

وان اريد من من الصلاحيّة للقرينيّة أنّ تخصيص «صدّق» بالأخبار الموافقة للكتاب تخصيص للأكثر ؛ لندرة خبر لا يكون مخالفا لعموم الكتاب ـ ولو عموم (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ)(٢) و (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ)(٣) وأشباهها ـ بخلاف تخصيص عموم الكتاب بالأخبار المخالفة ، فهو مدفوع بأنّ الأخبار المخالفة لعموم الكتاب أقلّ قليل في جنب بقيّة الأخبار.

__________________

(١) انظر كفاية الأصول : ٢٣٦.

(٢) البقرة (٢) : ٢٩.

(٣) المائدة (٥) : ٤ و ٥.

١٨٢

فإنّك إذا نظرت إلى أبواب العبادات لا تكاد تعثر بخبر يكون مخالفا للكتاب ؛ لأنّ العمومات الواردة في الكتاب بالنسبة إلى العبادات كثير منها في مقام الإهمال والإجمال ، وكذلك في عمدة أبواب الفقه ، فأين تخصيص الأكثر؟

الثاني : الأخبار المتواترة معنى الدالّة على طرح الخبر المخالف للكتاب أو غير الموافق له أو أنّه زخرف أو باطل أو أنّهم لم يقولوه (١) ، فيخصّص بهذه الأخبار عموم ما دلّ على حجّيّة خبر العدل.

وتوهّم العكس بتخصيص هذه الأخبار بخبر غير العدل يدفعه :

أوّلا : تصريح بعض هذه الأخبار بخبر العدل مثل رواية محمّد بن مسلم : «ما جاءك من رواية ـ من برّ أو فاجر ـ يخالف كتاب الله ، فلا تأخذ به» (٢).

وثانيا : بطلان تخصيص هذه الأخبار بخبر غير العدل ؛ فإنّ تخصيص الطرح حينئذ بما كان مخالفا أو غير موافق للقرآن لغو ؛ فإنّ خبر الفاسق غير متّبع مطلقا.

وثالثا : سياق هذه الأخبار آب عن التخصيص ، وكيف يخصّص قوله عليه‌السلام : «وكلّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف» (٣).

ورابعا : أثر التعارض بالعموم من وجه سقوط المتعارضين من الجانبين ، فيبقى الخبر المخالف بلا دليل يدلّ على حجّيّته.

وإنكار «صدّق» المخالف على المخالف بالعموم والخصوص المطلق ضعيف ؛ فإنّ المخالفة تكون بتوجّه دليلين مختلفين في الحكم على موضوع واحد ، وهذا حاصل في العموم والخصوص المطلق.

نعم ، نحن لا ننكر الجمع العرفي بينهما ، لكن ذلك لا ينفي عنوان المخالفة بينهما ، بل الجمع العرفي وارد في موضوع المخالفة بينهما.

ويتلو هذا الإنكار في الضعف دعوى لزوم تخصيص الأكثر من إخراج الخاصّ المخالف من أدلّة الاعتبار ؛ لابتناء هذه الدعوى على توهّم أنّ أغلب ما بأيدينا من الأخبار مخالف

__________________

(١) انظر وسائل الشيعة ٢٧ : ١٠٦ ـ ١١١ أبواب صفات القاضي ، ب ٩ : ح ١ ، ١٠ ، ١٣ ، ١٤ ، ١٥ ، ١٦.

(٢) مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٤ أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ٥. وفي المصدر قوله : «يخالف القرآن».

(٣) وسائل الشيعة ٢٧ : ١١١ أبواب صفات القاضي ، ب ٩ ، ح ١٤.

١٨٣

لعمومات الكتاب. وقد أشرنا إلى بطلان هذا التوهّم (١).

وأضعف منها دعوى العلم الإجمالي بصدور مخالفات كثيرة لا على وجه التباين من الأئمّة الأطهار ، فيكون ذلك قرينة على إرادة المخالفة على وجه التباين من قولهم : زخرف ، باطل ، لم أقله ؛ فإنّ العلم الإجمالي المذكور لا ينافي إلغاءهم لكلّ الأخبار المخالفة بالأعمّ ممّا قالوه وما لم يقولوه عن درجة الاعتبار كي يطرح ضمنا ما لم يقولوه ممّا دسّه الكذّابة.

وأضعف من الكلّ حمل هذه الأخبار على إرادة ما يخالف واقع القرآن ـ أعني حكم الله الواقعي ، لا ما يخالف ظواهره ـ فإنّ هذه الأخبار كلّا أو بعضا في مقام إعطاء ضابط ما يعمل به من الأخبار وما لا يعمل به منها. وكيف يجعل الضابط ما لا سبيل إلى معرفته من غير طريق الظهور؟! مع أنّ المخالف لواقع القرآن واضح البطلان لا حاجة إلى المنع عنه ثمّ الإصرار عليه.

وأمّا ما يقال : من أنّ هذه الأخبار بأنفسها مخالفة للكتاب ـ أعني ظواهر آيات (٢) حجّيّة أخبار الآحاد ـ فيلزم من العمل بها طرحها ، فمردود أوّلا : بمنع دلالة تلك الآيات على حجّيّة خبر الواحد تعبّدا كما يأتي بيانه مفصّلا إن شاء الله.

وثانيا : بتواتر هذه الأخبار معنى فلا يلزم ما ذكر.

الدوران بين النسخ والتخصيص

العامّ والخاصّ المتعارضان تارة يعلم تاريخهما وأنّ أيّهما مقدّم وايّهما مؤخّر أو هما متقارنان ، وأخرى يجهل ، وصور الجهل ـ ثنائيّا أو ثلاثيّا ـ أربع. فيبلغ المجموع سبع صور.

وأيضا تارة يعلم بورود أحدهما بعد وقت الحاجة بالآخر ، وأخرى يعلم بوروده قبله ، وثالثة يجهل. ولكن لا أثر للاختلاف بالنسبة إلينا المتأخّر زماننا عن الخطابين جميعا ، بل يجب أن نعمل في جميع الصور على طبق الخاصّ ، إلّا في صورة واحدة هي صورة تأخّر

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ١٨٣.

(٢) في آية النبإ [الحجرات (٤٩) : ٦] وآية الكتمان [البقرة (٢) : ١٥٩] وآية السؤال [النحل (١٦) : ٤٣] والأنبياء (٢١) : ٧ وآية الأذن [التوبة (٩) : ٦١].

١٨٤

العامّ عن الخاصّ مع وروده بعد زمان الحاجة بناء على أنّ العامّ حينئذ يكون ناسخا للخاصّ ؛ إذ كان ظهوره وضعيّا مع كون ظهور الخاصّ في الاستمرار إطلاقيّا. وبطلان القول مع ذلك بتقدّم الخاصّ مستندا إلى غلبة التخصيص وندرة النسخ ؛ فإنّ هذا بعد ظهور الخاصّ في الاستمرار. وأنّى هذا الظهور بعد أن كان العامّ بظهوره الوضعي في العموم بيانا له؟!

وبالجملة : كلّ الصور عدا هذه تحت حكم واحد ، فكان حكم صورة الجهل بين هذه وما عداها هو الرجوع إلى الأصل. ومقتضاه التخيير إن كان الحكم في الدليلين إلزاميّين ، والبراءة إن كان الحكم في أحدهما إلزاميّا.

١٨٥
١٨٦

المطلق

و

المقيّد

١٨٧
١٨٨

المطلق والمقيّد

كلّ لفظ معناه منبسط مرسل سار من مصداق إلى مصداق غير واقف على مصداق مكبّ عليه فذلك يوصف بالإطلاق ، سواء كان كليّا وكان إطلاقه أفراديّا ، أو جزئيّا وكان إطلاقه بحسب الأحوال.

والمطلق إمّا مطلق بقول مطلق كلفظ شيء ، أو مطلق بالإضافة إلى قيد يفرض ، ويقابلهما في ذلك المقيّد (١).

ومن هذا يعلم أنّ لفظي الإطلاق والتقييد جاريان على معناهما اللغوي بلا اصطلاح من الأصوليّين يخصّهما.

والخلاف واقع في أنّ أسماء الأجناس هل هي متعيّنة بالوضع بإزاء الماهيّات اللابشرط في ذاتها المرسلة بهويّتها بلا لحاظ شيء معها كما عن السلطان (٢) ، وتبعه على ذلك المحقّقون من المتأخّرين ، أم هي موضوعة بإزاء الماهيّات بشرط الإطلاق كما نسب إلى المشهور؟

__________________

(١) والظاهر أنّ المراد بالمقيّد المقابل للمطلق بقول مطلق هو الجزئي الحقيقي.

(٢) اسمه «حسين بن محمّد ميرزا رفيع الدين بن أمير شجاع الدين محمود الحسيني المرعشي ، الآملي ، الأصفهاني». اشتهر بسلطان العلماء وخليفة سلطان. (١٠٠١ ه‍ ـ ١٠٦٤ ه‍) عالم إمامي ، فقيه ، أصولي ، مفسّر ، متكلّم. كان وزيرا للشاه عباس الأوّل والشاه صفي والشاه عباس الثاني. توفّي بعد الرجوع من فتح قندهار في أيام وزارته للشاه عباس الثاني في مدينة أشرف من بلاد طبرستان (محافظة مازندران) ونقل جثمانه إلى النجف الأشرف ودفن بها. (الأعلام ٢ : ٢٨١ ؛ أعيان الشيعة ٦ : ١٦٤ ؛ روضات الجنات ٢ : ٣٤٦ ـ ٣٤٧).

١٨٩

واحتاج الأوّلون في الحكم بالإطلاق إلى اجتماع مقدّمات سمّوها بمقدّمات الحكمة. ونحن نختار مذهب السلطان (١).

لا نحتاج مع اختيار مذهب السلطان إلى التماس مقدّمات الحكمة.

توضيحه : أنّ مدلول اللفظ إذا كان صرف الماهيّة وكان الإطلاق وعدم الركود على مصداق ذاتيّا لها ، ثمّ ركب هذا اللفظ حكم من الأحكام لا جرم سرى الحكم بسرايته بلا حاجة إلى لحاظ كون مدلول به ماهيّة مطلقة ، بل لو لوحظت كونها مطلقة خرجت عن الإطلاق بالحمل الشائع ؛ إذ لا يصدق بهذا القيد على كلّ فرد ، وإنّما الصادق ذات ما هو مطلق لا الذات بوصف الإطلاق. والمانع عن الصدق حينئذ قيد المطلق ، وإلّا فذات المطلق لا يخرج عن الإطلاق بسبب القيد ؛ لما عرفت أنّ الإطلاق ذاتي له والذاتي لا يتغيّر.

ففي مثل : «أعتق رقبة مؤمنة» الرقبة على إطلاقها الذاتي وإن قيّدت بألف قيد ، وإنّما لا تصدق على غير المؤمنة لعدم صدق قيدها. فحكم الجزء يسري إلى الكلّ وإلى المركّب.

ومنه يظهر أنّ توصيف الماهيّة بأنّها مقيّدة أيضا توصيف لها باعتبار القيد ، ومن باب الصفة بحال المتعلّق ، ومن جهة أنّ قيدها مقيّدة. فصفة التقييد ذاتي للقيد وعرض للمقيّد.

كما أنّه من هذا يعلم أنّ تقسيم الماهيّة إلى الماهيّة بشرط شيء وإلى الماهيّة بشرط لا والماهيّة لا بشرط تقسيم لها باعتبار الطوارئ والعوارض الخارجة ، وأمّا هي في ذاتها فغير خارجة عن اللابشرطيّة والإطلاق الذاتي وإن لوحظت مع ألف قيد.

وأيضا يظهر ممّا قلناه أنّ توصيف الماهيّة بالإهمال توصيف لها باعتبار قيدها ، وإلّا فمتن الماهيّة لا إهمال فيها ، إذا قيّدت بقيد ثمّ أهمل ذكر القيد ولم يعيّن قيل : إنّ الماهيّة مهملة يراد أنّها مهملة القيد لا مهملة الذات ، فالماهيّة المهملة من أقسام الماهيّة المقيّدة وامتازت بأنّها لم يذكر قيدها.

وبالجملة : الإطلاق ذاتي للماهيّة ، فلذا بمحض توجّه الحكم إليها يسري حكمها إلى الأفراد بتبع سراية موضوع الحكم بلا حاجة إلى التماس مقدّمات الحكمة.

ولعلّ المشهور أيضا لا يعنون من دخل الإطلاق في مدلول اللفظ إلّا هذا الإطلاق الذاتي دون لحاظ الإطلاق ، فيرتفع الخلاف بينهم وبين السلطان في مدلول اللفظ. وإنّما يكون

__________________

(١) أي نختار مذهب سلطان العلماء في أنّ أسماء الأجناس موضوعة بإزاء الماهيّات لا بشرط.

١٩٠

الخلاف بينهما في الحاجة إلى مقدّمات الحكمة في الحكم بالإطلاق وسرايته الحكم وعدمها ؛ زعما بأنّ الماهية في ذاتها مهملة لا إطلاق فيها ولا تقييد وقابلة لكلّ من الإطلاق والتقييد.

وقد عرفت أنّ الحقّ في ذلك مع المشهور وأنّ الإطلاق والسريان ذاتي للماهيّة ، فإذا توجّه حكم إلى ما هو مطلق في ذاته سرى الحكم بسرايته بلا حاجة إلى التماس شيء خارجا.

ثمّ لمّا رأوا متابعو السلطان أنّ أرباب المحاورات لا يدورون في الحكم بالإطلاق مدار إحراز المقدّمات فادّعوا أنّ الأصل في ما إذا شكّ في أنّ المتكلّم في مقام البيان أنّه في مقام البيان ، وفي ما إذا شكّ في حصول البيان أنّه لم يحصل. ولعمري إنّ هذا تعسّف في تعسّف.

وليس في أذهان أهل المحاورات والعقلاء من مقدّمات الحكمة عين ولا أثر ، فهم يحكمون بالإطلاق بذلك الإطلاق الذاتي الثابت للماهيّة.

ولا ينقضي تعجّبي كيف رضوا بوضع اللفظ بإزاء معنى مهمل ، مع أنّ المهمل غير قابل للحكم عليه ، والوضع للفظ ضرب من الحكم؟! ولو فرض جواز الحكم عليه لم يسر حكمه إلى جميع أفراد ؛ لأنّ المهمل في قوّة الجزئي ، فلزم ألا يعمّ الوضع جميع الأفراد ، فلا يجوز حمل اسم الجنس على أيّ فرد من أفراد الجنس ، وهو باطل بالوجدان.

هذا كلّه مع أنّه لا جدوى لمقدّمات الحكمة ولا أثر لها في الحكم بالإطلاق ؛ إذ اللفظ إن لم يكن في ذاته إطلاق ، وكان وصفا الإطلاق والتقييد خارجين عنه ملحقين به ونسبته إليهما على حد سواء فكان لا محالة لا اقتضاء بالنسبة إليهما ، ولم يكن الحكم بالإطلاق عند عدم بيان القيد أولى من الحكم بالتقييد عند عدم بيان الإطلاق.

فكما لو كان القيد مرادا قبح ترك التعرّض له ، كذلك لو كان الإطلاق مرادا قبح ترك التنبيه عليه ، وباللازم كان اللفظ عند عدم التنبيه على شيء من الأمرين مهملا وكان ذلك مناقضا لكون المتكلّم في مقام البيان ، وإنّما يكون عدم ذكر القيد دليلا على إرادة الإطلاق حيثما يكون الإطلاق مقتضى طبع اللفظ وضعا أو انصرافا وفي الحقيقة كان الإطلاق قضيّة نفس اللفظ ، والمقدّمات دافعة للمزاحم لا حملة للاقتضاء.

فتحصّل أنّ مقتضى وضع اللفظ هو الإطلاق بلا حاجة إلى المقدّمات ، وعلى تقدير الحاجة لم تجد المقدّمات في الحكم بالإطلاق.

١٩١

وأمّا الإهمال فذلك إنّما يكون بقيام قرينة خارجيّة على التقييد ثمّ لم يذكر القيد ، لا أنّ اللفظ في ذاته مهمل حتّى تقوم قرينة على كلّ من الإطلاق أو التقييد. ولو كانت القرينة هي مقدّمات الحكمة.

ذكر أمور أربعة في المقام

ثمّ إنّه يلزم السلطان ومن تبعه أمور :

الأوّل : أنّ الإطلاق لمّا كان نتيجة مقدّمات الحكمة كان حكما عقليّا فلا يكون ظهورا لفظيّا حتّى يقيّد. وحينئذ فلو ورد دليل على التقييد كشف ذلك عن عدم تماميّة مقدّمات الحكمة ، مثل عدم كون المتكلّم في مقام البيان ، أو بيّن ولم يصل إلينا ، أو أنّ عدم البيان ينقلب فعلا إلى البيان ، فتنهدم المقدّمات من حين صدور هذا البيان. فكان الإطلاق حكما ظاهريّا أو واقعيّا إلى زمان صدور هذا البيان. ومن بعد هذا البيان ينفد أمد الحكم الإطلاقي وتأتي نوبة الحكم التقييدي.

وهكذا الحال بالنسبة إلى البيانات المتتالية ، فبكلّ بيان لا حق ينفد أمد الإطلاق السابق ، ولازم هذا أنّ الإطلاق كما ينعقد بسبب المقدّمات كذلك يستمرّ باستمرارها ، فإذا انقطع الاستمرار بمجيء البيان ينقطع الإطلاق ، ويحتمل كشف البيان اللاحق عن عدم انعقاد الإطلاق من أوّل الأمر ـ بناء على أنّ عدم البيان الذي هو من المقدّمات هو عدم البيان الأعمّ من المقارن واللاحق ـ فإذا التحق البيان كشف عن أنّ الحكم بالإطلاق كان وهميّا بزعم عدم البيان.

الثاني : أنّه لمّا كان الإطلاق بحكم من العقل لم يعقل حصول التعارض بين فردين منه ؛ لأنّ العقل لا يحكم بحكمين متخالفين. ولازم هذا عدم اجتماع مقدّمات الحكمة في الجهتين المتخالفتين ، فمع الدوران يحكم بعدم تماميّة المقدّمات في شيء من الجانبين ؛ لعدم المرجّح لأحدهما على صاحبه.

وكما لا يعقل التعارض بين ظهورين إطلاقيّين كذلك لا يعقل تحقّق معنى الأظهريّة هناك ؛ فإنّ مناط الظهور في جميع أفراده واحد. ومناطه في الظهور الوضعي وإن كان أيضا واحدا إلّا أنّ الأظهريّة فيه بملاك وجود معنى مجازي في أحدهما أقرب من الآخر ، إلّا أن

١٩٢

تكون الأظهريّة في الإطلاقين بكون مقدّمات أحد الإطلاقين وجدانيّة ومقدّمات الآخر محرزة بالأصل. وفي الحقيقة صاحب المقدّمات الوجدانيّة يكون رافعا للإطلاق عن صاحب المقدّمات الأصليّة.

الثالث : التعارض يكون باختلاف الدليلين في الحكم أو بحصول العلم الإجمالي بكذب أحدهما.

وعليه فلا تعارض بين المطلق والمقيّد المتوافقين ما لم يعلم وحدة التكليف ؛ حيث إنّ تكليفا واحدا لا يكون مطلقا ومقيّدا جميعا ـ فيجمع بالتقييد ؛ لأنّه أقرب من حمل القيد على التوضيح أو كونه غالبيّا ـ فإنّ ظهور دليل المقيّد في دخل القيد يكون هادما للإطلاق في دليل المطلق.

نعم ، إذا كان ظهور الخطاب مقيّدا بمقدّمات الحكمة جاء الكلام المتقدّم من انحلال الإطلاق من الطرفين فيرجع إلى الأصول. مثاله ما إذا ورد الأمر بالمقيّد مع الأمر بالمطلق ، وكان ظهور الأمر في كونه تعيينا بمقدّمات الحكمة ، فإنّه لا أولويّة لتقييد المطلق على حمل الأمر بالمقيّد على كونه تخييريّا ، فيحصل الإجمال من الطرفين.

والأصل في المسألة هو الاحتياط ؛ لأنّها من جزئيّات دوران الأمر بين وجوب الطبيعة ووجوب الفرد وحكمه هو الاحتياط ، وإن قلنا بالبراءة في مسألة الأقلّ والأكثر.

إلّا أن يقال : إنّ التخيير بين الأفراد عند الأمر بالطبيعة عقلي فكان القيد خارج عن حيّز الحكم ، مع أنّ ظاهر خطاب القيد دخله سواء كان الحكم تعيينيّا أو تخييريّا. فبذلك ينهدم الإطلاق في خطاب الطبيعة. وبعد هذا الانهدام يرتفع المانع من حمل خطاب القيد على التعيينيّة.

ومحصّل ما ذكرناه : أنّ خطاب القيد بظهوره الوضعي في دخل القيد ـ مع عدم دخله في التخيير العقلي ـ يكون هادما للإطلاق لا بظهوره الإطلاقي في كون الحكم تعيينيّا ليدخل في تزاحم الإطلاقين.

وأمّا ما قيل : من حمل الطلب في خطاب القيد على الاستحباب أو أفضل أفراد الواجب (١) ، فيردّه : أنّ حمل الطلب على الاستحباب تصرّف في ظهور وضعي وهو ممّا

__________________

(١) انظر كفاية الأصول : ٢٥٠.

١٩٣

لا يرتكب لحفظ الإطلاق. ومثله حمل القيد على التوضيح أو الغالب.

وأمّا الحمل على أفضل أفراد الواجب ، فإن أريد منه الحمل على الواجب التخييري فقد تقدّم ما فيه. نعم ، إذا كان ظهور الإطلاق أيضا بالوضع دار الأمر بين رفع اليد عن الإطلاق وحمله على أنّه جزء الدخيل في موضوع الحكم وبين حمل القيد على الغالب ، والأوّل أولى ؛ فإنّ ترك ما له الدخل أولى من ذكر ما لا دخل له.

الرابع : لعلّ السرّ في حمل القيد في باب المستحبّات على تعدّد المطلوب ـ على خلاف الواجبات التي يرتكب التقييد فيها ـ هو عدم العلم بوحدة التكليف هناك. وقد عرفت أنّ العلم بوحدة التكليف في صورة توافق الحكمين شرط تحقّق المعارضة وإلّا أخذ بظاهر الدليلين حتّى في الواجبات ، ويحكم بأنّ المطلوب متعدّد. ولازم ذلك إعادة العمل في ضمن المقيّد إذا اتّفق امتثال الأمر بالطبيعة في ضمن غيره.

وإن اتّفق الامتثال في ضمن المقيّد سقط الطلبان جميعا بذلك. وربما يقال في وجه ذلك من أنّه حيث كان الغالب في المستحبّات اختلاف مراتب الفضل بزيادة القيود اقتضى دليل التسامح في أدلّة السنن ألا يترك المطلق بورود المقيّد ، بل يؤخذ بهما جميعا ويحمل المقيّد على زيادة الفضل.

وهو محجوج بأنّ الغلبة المذكورة لا تسلب الظهور عن المقيّدات في اقتضائها للتقييد ، مع أنّ هذه الغلبة نشأت من تلك المعاملة في الأدلّة ، فكيف تكون هي الموجبة لها؟! ودليل التسامح لا يقتضي رفع اليد عن الجمع العرفي بين المتعارضين ، بل نتيجة الجمع العرفي تكون هي البالغ عليها الثواب ، نحو ما إذا كان القيد متّصلا بالكلام. فهل يجترئ أحد أن يقول هناك أيضا بتعدّد المطلوب؟!

فالوجه هو ما ذكرناه ، ويزداد ذلك وضوحا بناء على مشربنا من عدم الأمر في باب المستحبّات ، وإنّما هي من مجرّد الوعد على الثواب.

نتيجة مقدّمات الحكمة

نتيجة مقدّمات الحكمة واحدة لا تختلف ، وهي نفي القيد وإثبات الإطلاق.

نعم ، الإطلاق المذكور قد يرد على متن الطبيعة وقد يرد على الفرد ، وأينما حلّت

١٩٤

المقدّمات قضت بإرسال ما حلّت فيه. والإرسال في الطبيعة هو الشيوع بحسب الأفراد وفي الفرد هو الشيوع بحسب الأحوال.

ومن جزئيّات الإطلاق الأحوالي هو الحكم بالوجوب النفسي العيني التعييني عند ما دار الأمر بين كلّ واحد وبين ما يقابله ، فإنّ الوجوب المنشأ بالصيغة أو بغيرها شخص من الوجوب ، وقد تردّد بين أن يكون نفسيّا أو غيريّا ، أو بين أن يكون عينيّا أو كفائيّا ، أو بين أن يكون تعيينيّا أو تخييريّا. فمقدّمات الحكمة فيه تقتضي إرسال هذا الشخص من الوجوب بأن يكون ثابتا ـ وجب شيء آخر أو لم يجب ، [سواء] أتى الواجب شخص آخر أو لم يأت ، أتى المكلّف بشيء آخر أو لم يأت ـ وليس هذا إلّا لازم الوجوب النفسي العيني التعييني.

وخفاء هذا المعنى على بعض الناظرين (١) أوجب أن يلتزم بأنّ قضيّة المقدّمات قد يكون هو التقييد ممثّلا بهذه الموارد ؛ زعما بأنّ الحكم بكلّ واحد من الثلاثة عند دوران الأمر بينها وبين ما يقابلها تقييد للوجوب المطلق الشامل لها ولما يقابلها ، وغفلة عن أنّ الوجوب قد خرج عن ذلك الإطلاق وتشخّص بالإنشاء والشكّ الآن في هذا المتشخّص وأنّه من أيّ القسمين. وقد عرفت أنّ مقدّمات الحكمة فيه تقتضي إرساله وسعته الوجوديّة ، وهو ينطبق على العناوين الثلاثة المشار إليها.

وأمّا اختلاف اقتضاء المقدّمات عند ما ترد على متن الطبيعة بالبدليّة والشموليّة فذاك أيضا ليس من الاختلاف في اقتضائها ، بل اقتضاؤها دائما نفي القيد وكون الطبيعة هي تمام موضوع الحكم. ولازم هذا سراية الحكم بسراية الطبيعة في أيّ أقسام الحكم كان.

نعم ، أثر هذه السراية عند ما كان الطلب متعلّقا بالفعل هو حصول الامتثال بفرد واحد لتحصل الطبيعة بذاك الفرد الواحد ، وعند ما كان متعلّقا بالترك حصول الامتثال بترك جميع الأفراد ؛ لأنّ ترك الطبيعة لا يكون إلّا بترك الجميع ، وكذلك في مورد الإباحة أو جعل شيء من الأحكام الوضعيّة ، مثل : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٢) فمن اختلاف الأحكام نشأ هذا الاختلاف ، ولذا لم يزل هذا الاختلاف ثابتا حتّى عند كون الحكم مدلولا عليه بدلالة وضعيّة أو ظهور انصرافي أو مجازي.

__________________

(١) انظر كفاية الأصول : ٢٥٢.

(٢) البقرة (٢) : ٢٧٥.

١٩٥
١٩٦

المجمل

و

المبيّن

١٩٧
١٩٨

المجمل والمبيّن

الإجمال تارة يكون في الوضع ، وأخرى يكون في المراد ، وثالثة يكون في الدلالة.

فأمّا الإجمال الوضعي فذلك يكون بالجهل بالوضع ، وبهذا المعنى من الإجمال فإنّ كلّ اللغات مجملة في حقّ الأجانب من تلك اللغات ويرتفع إجمالها بالمعرفة بها.

وأمّا الإجمال المرادي فهو أن يجهل ما قصده المتكلّم من الخطاب مع معرفة وضعه ؛ لقيام قرينة صارفة عنه مع عدم تعيين شيء من المجازات ، أو لاتّصال الكلام بمجمل يسري إلى الكلّ كالعامّ المخصّص بمجمل.

والإجمال والبيان بهذين المعنيين إضافيّان ، فكان اللفظ لفظا مجملا بالنسبة إلى شخص ومبيّنا بالنسبة إلى [شخص] آخر وأيضا الإجمال بهذين المعنيين قابلان للزوال. وأيضا يرتفع القسمان حيث يكون من يعلم ويجهل.

وأمّا الإجمال في الدلالة فذاك ليس بهذه المثابة ، وهو يكون بقصور من اللفظ في دلالته إمّا لإبهام معناه كما في النكرات ـ بناء على وضعها للفرد المردّد ـ أو لتعدّد أوضاعه. وهذا الإجمال ذاتي للفظ لا يرتفع ببيان المراد ومعرفته من الخارج ، كما أنّ ما يقابله من المبيّن لا يكون مجملا بالعلم بعدم إرادة ظاهره وتردّد معانيه المجازيّة بين أمور ؛ وذلك لأنّ عدم الدلالة في الأوّل كالدلالة في الثاني لا يرتفع وينقلب إلى نقيضه بالعلم المذكور.

واعلم أنّ الأقسام الثلاثة من الإجمال مشتركة في أنّ الحكم في الجميع هو ترك هذا

١٩٩

المجمل والرجوع إلى دليل آخر من دليل اجتهادي أو أصل. نعم ، ذلك بعد اليأس عن زوال الجهل بالفحص ، فلا ثمرة حينئذ في اختلاف الأقسام ، وبالله الاعتصام.

ونشكره على توفيق الإتمام في المشهد المقدّس الغري على يد مصنّفه العبد عليّ ابن المرحوم الشيخ عبد الحسين الإيرواني الغروي في يوم الاثنين السابع والعشرون مضين من شهر جمادى الأولى من السنة التاسعة بعد الأربعين عقيب ثلاثمائة وألف (١٣٤٩ ه‍). وكان الفراغ من النقل إلى البياض في الحادي عشر في شهر رمضان المبارك سنة (١٣٥٣ ه‍) على يد مصنّفه.

٢٠٠