الأصول في علم الأصول - ج ١

ميرزا علي الإيرواني النجفي

الأصول في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

ميرزا علي الإيرواني النجفي


المحقق: محمّد كاظم رحمان ستايش
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-424-879-1

الصفحات: ٢٠٠
الجزء ١ الجزء ٢

معارضة هذه الدلالة مع دلالة أخرى. لكن ذلك بمعزل من الصواب ، فقد يكون المفهوم أقوى من المنطوق.

فالأحرى صرف الكلام إلى الجهة الأولى ، فنقول : لا إشكال أنّ أداة الاستثناء تسدّ بابا فتحها المستثنى منه ، وتثلم عموما قضى به. وإنّما الإشكال في أنّها هل تثلم عمومه في مقام الإثبات بدلالتها على عدم كون العموم مرادا من اللفظ في مقام الإفادة ـ فكأنّه لم يتلفّظ بذلك العموم بلا تعرّض للحكم الواقعي وأنّه مقصور على غير المستثنى ، فكان احتمال عموم الحكم قائما ، فإذا قام دليل على عموم الحكم أخذ به ولم يعارضه الدليل المشتمل على الاستثناء ـ أو أنّها تثلم عموم الحكم واقعا الثابت بجملة المستثنى منه ، وبقوّة دلالتها على دلالة تلك الجملة تقدّم على تلك الجملة ـ ويحكم بأنّ الحكم الواقعي مقصور ، فلو دلّ دليل عموم الحكم الواقعي عارضه هذا الدليل ـ؟ وهذا هو الظاهر ؛ فإنّ الأداة ليس شأنها إخماد (١) دلالة المستثنى منه ؛ فإنّ الدلالة إذا تحقّقت لا تنخمد ، وإنّما شأنها قصر واقع الحكم ، فيكون مخالفا للمستثنى منه في الدلالة على عموم الحكم.

نعم ، كلمة «بل» قد تأتي للإضراب عن القول وأنّه كان من سبق اللسان بلا تعرّض للواقع. كما قد تأتي لطرد واقع الحكم وهذا بخلاف الاستثناء ؛ فإنّه ظاهر في طرد واقع الحكم وقصره.

ثمّ إنّ هذا على تقدير كون الاستثناء إخراجا عن الموضوع بعد الحكم ، أمّا إذا كان إخراجا عنه قبله ـ وقصرا للموضوع سابقا على الحكم ، ثمّ توجّه الحكم في المستثنى منه على الموضوع المقصور ـ فحال الاستثناء تكون كحال سائر أقسام تقييد الموضوع في عدم اقتضائه للمفهوم. وقد عرفت أنّ التعليق على الشرط والتحديد بالغاية أيضا داخلان في تقييد الموضوع ، وعليه فمفهوم الاستثناء ومفهوم الشرط ومفهوم الغاية كلّها تدخل في مفهوم الوصف ، ولا ينبغي إفراد البحث لكلّ واحد منها.

ثمّ إنّه قد يستدلّ لكلّ من القول بدلالة الاستثناء على الحصر والقول بعدمه بما لا بأس بذكره.

__________________

(١) أي إسكات ، التسكين.

١٦١

أمّا ما استدلّ به للأوّل فهو قبوله صلّ الله عليه وآله وسلّم إسلام من شهد بكلمة التوحيد. ولا يتمّ ذلك إلّا بدلالة هذه الكلمة على الحصر ، فلولاه لكانت نافية لألوهيّة غير الله تعالى غير مثبتة لألوهيّته تعالى ، فلعلّه كان منكرا للجميع.

ويردّه : أنّ الظاهر أنّ كلمة التوحيد مسوقة لنفي إلهيّة غير الله تعالى بعد الفراغ عن ألوهيّة الله تعالى ، فهي في مقام نفي الشريك. والحصر إنّما يستفاد من ضمّ هذا النفي إلى الإثبات المفروغ عنه ، لا أنّ بهذه الكلمة أريد النفي والإثبات جميعا.

وقد يشكل على استفادة التوحيد من هذه الكلمة بأنّ الخبر المقدّر فيها إمّا هو «موجود» أو «ممكن» ، وأيّا منهما كان لا تفيد الجملة توحيد الوجود والإمكان [معا] ، بل إمّا هي لتوحيد الوجود ، أو لتوحيد الإمكان.

ويردّه : أنّ المقدّر هو «موجود» ، ويكفي في تحقّق الإسلام قصر الإله الموجود فيه تعالى ، مع أنّ شريك البارئ لا يفرض فيه الإمكان ، بل بين واجب وممتنع ، وإلّا لم يكن شريكا بل كان ممكنا مخلوقا ، فالشريك إن كان فهو واجب وإن لم يكن فهو ممتنع. وعليه فيكفي نفيه في ثبوت امتناعه ، فكان نفي وجود الشريك مدلولا مطابقيّا للكلمة ونفي إمكانه مدلولا التزاميّا لها.

١٦٢

العموم

و

الخصوص

١٦٣
١٦٤

العموم والخصوص

العامّ المنطقي هو ما كان مفهومه صادقا على كثيرين كأسماء الأجناس. والعامّ الأصولي هو ما أخذت الكثرة والشيوع في مدلول لفظه. وليس من العموم من مثل لفظ «العشرة» ونحوه من الألفاظ الموضوعة لمراتب الأعداد ، بل هو لفظ خاصّ موضوع لمعنى مركّب ، ونسبة الآحاد إليه نسبة الأجزاء إلى المركّب لا نسبة الأفراد إلى الكلّي.

ثمّ العامّ ينقسم إلى بدلي وشمولي ، والشمولي إلى استغراقي ومجموعي.

فالبدلي هو ما شمل كلّ فرد من أفراده على سبيل الانفراد والانعزال عن صاحبه كما في النكرات ، والمجموعي بعكس ذلك وكان شمولاه للجميع على وجه الاجتماع والانضمام.

والاستغراقي شمولاه للأفراد لا بشرط من صفتي الاجتماع والانفراد ، فيشمل كلّ واحد وكلّ اثنين وكلّ ثلاثة وهكذا.

وهذا الاختلاف حاصل في الموضوع قبل توجّه الحكم من جهة اختلاف لحاظ الطبيعة مع الأفراد لا أنّه ناشئ من اختلاف تعلّق الحكم ؛ فإنّه لا اختلاف يتصوّر في تعلّق الحكم ، فلولا الاختلاف في جانب الموضوع وفي كيفية لحاظه لم يكن في الحكم اختلاف.

ولا تبعد دعوى ظهور الصيغة في أخذ صفة الاجتماع في جانب الموضوع ، فيكون الموضوع موضوعا واحدا مركّبا ، ولازمه أن يكون الحكم حكما واحدا فيحتاج إلغاء وصف الاجتماع إلى قيام قرينة ليتعدّد الموضوع بتعدّد الأفراد ويتبعه تعدّد الحكم بتعدّدها ، فيكون العامّ نظير لفظ «العشرة» الظاهر في مجموع العشرة حتّى تقوم قرينة على إرادة آحادها ،

١٦٥

فتكون أحكاما متعدّدة لموضوعات متعدّدة ـ هي آحاد العشرة ـ كلّ لا بشرط عن صاحبه ، فيكون أخذ عنوان «العشرة» في الخطاب لمحض الإشارة إلى ذوات الآحاد بلا دخل عنوان «العشرة» في الحكم ، فإذا أتى ببعض منها حصل امتثال التكليف بالنسبة إلى ذلك البعض.

ألفاظ العموم

الحقّ أنّ العموم ـ حيثما يستفاد ـ لا يستفاد عن وضع اللفظ بإزاء العموم وضعا اختصاصيّا ، بل إمّا هو معنى مجازي للّفظ ، أو هو أحد المعاني الحقيقيّة كصيغ الجمع إذا أريد منها العموم. فليس لنا لفظ مختصّ بإفادة العموم.

والتزام وضع مستقل لمجموع الأداة ومدخولها بإزاء العامّ بيّن البطلان.

والقول بأنّ الأداة موضوعة لإفادة العموم في مدخولها أيضا باطل ؛ فإنّ الوقوع في حيّز النفي والنهي يقتضي العموم بحكم من العقل لا بدلالة لفظيّة.

والجمع المحلّى وغير المحلّى متّحدان في المدلول ، ولا أعرف للتحلية أثرا في تغيير المعنى.

ولفظ ال «كلّ» شأنه تأكيد العموم المراد من المدخول ، فلولا أنّ المدخول أريد منه العموم لم يكن للفظ «كلّ» محلّ ؛ إذ الطبيعة في ذاتها ليس فيها كلّ ولا بعض.

حجّيّة العامّ بعد التخصيص

هل العامّ بعد التخصيص حجّة فيما عدا الخارج ، أو يسقط بالتخصيص عن الحجّيّة حتّى يقوم دليل آخر يدلّ على إرادة حدّ معيّن من الباقي إمّا مجموعا أو بعضا؟ فيه إشكال ؛ وذلك لأنّ العامّ له ظهور وكشف واحد يكشف بذلك آحاد متعدّدة ، وهذا الظهور قد أخذ منه بالتخصيص ، ولم يعط له ظهور ثانوي في مجموع ما عدا الخارج ليتمسّك به في مجموع ما عدا الخارج ، بل كان مجموع ما عدا الخارج أحد معاني المجازيّة. فكان تعيينه ممّا عداه من المراتب الباقية حتّى ينتهي إلى ما لا يجوز انتهاء التخصيص إليه بلا معيّن.

وليس مجموع ما عدا الخارج أشدّ علاقة وأقوى ارتباطا مع المعنى الحقيقي كي يتعيّن حمل اللفظ عليه بعد الصرف عن المعنى الحقيقي. وكونه أشبه بالكلّ لكونه أشمل للأفراد

١٦٦

من سائر المراتب النازلة ممنوع ؛ فإنّ مجموع الباقي وما ينقص عنه بواحد في نظر العرف على حدّ سواء من الشباهة ، مع أنّ العلاقة الملحوظة في المقام ليست هي المشابهة. وكون مجموع الباقي أقرب إلى الكلّ عددا مسلّم ، لكن لا عبرة بالقرب من حيث الكمّ ما لم يوجب قوّة العلاقة.

وربما يقال في سند تعيّن حمل اللفظ على مجموع ما عدا الخارج وجهان :

الأوّل : أنّ للعامّ دلالات متعدّدة حسب كثرات الأفراد لا ترتبط بعضها ببعض ؛ فإذا انهدم بعض تلك الدلالات بدليل التخصيص ـ وهو دلالته على الفرد الخارج ـ لم يوجب ذلك انهدام البعض الآخر ممّا لم تقم قرينة على تخصيصه ، فكان حمل اللفظ على مجمع الباقي هو مقتضى أصالة الحقيقة وأصالة الظهور ؛ فإنّ الظهور لم ينثلم إلّا بمقدار ما خرج ، وما عدا ذلك [باق] على ظهوره الوضعي الحقيقي ، وإنّما يوصف مع ذلك بالمجازيّة باعتبار عدم إرادة البعض الخارج لا باعتبار إرادة البعض الداخل (١).

الثاني : أنّ العامّ لم تنثلم دلالته بوجه ، فهو على ظهوره في تمام الأفراد. وإنّما المنثلم حجّيّته لقيام حجّة أقوى على الخلاف ، فيرفع اليد عن الحجّيّة بمقدار ما قامت الحجّة فيه على الخلاف ، وفيما عدا ذلك يحكم بحجّيّته قضاء لحقّ ظهوره بعد فرض عدم انهدامه بوجه (٢).

توضيح ذلك : أنّ للّفظ ظهوران طوليّان وارد أحدهما في موضوع الآخر :

الأوّل : ظهوره في أنّ المعنى مراد من اللفظ مرادا استعماليّا ، وهذا هو الظهور الذي أوجبه وضع اللفظ ، وهو الذي تقضي به أصالة الحقيقة عند الشكّ في المجاز. وفي هذا تستوي دواعي الاستعمال فإن كان عن جدّ أو هزل كان الظهور محفوظا والاستعمال على وجه الحقيقة.

الثاني : ظهوره في أنّ ما استعمل فيه مراد جدّا وقد أطلق بداعي الجدّ لا بسائر الدواعي. وهذا الظهور هو نتيجة بناء آخر من العقلاء على حمل كلام كلّ متكلّم على الجدّ ، فإذا ورد

__________________

(١) انظر مطارح الأنظار : ١٩٢.

(٢) كفاية الأصول : ٢١٨.

١٦٧

دليل مخصّص منفصل زاحم هذا الظهور مع بقاء الظهور الأوّل. وقضيّة انحفاظ الظهور الأوّل هو الحكم بأنّ ما عدا ما زوحم مراد جدّا.

وفي كلا الوجهين عندي نظر.

أمّا الأوّل فبمنع ثبوت دلالات متعدّدة عرضيّة للعامّ كي لا يبطل بعضها ببطلان البعض الآخر ، وكيف يؤثّر وضع واحد في حدوث دلالات متعدّدة؟!

ولو صحّ كان اللازم أن يكون كلّ فرد من أفراد العامّ هو تمام مدلول اللفظ كما أنّ المجموع تمام مدلوله ، فيكون العامّ مشتركا بين الكلّ والأبعاض. وهذا باطل بالقطع ، فإنّ العامّ من هذه الجهة ليس إلّا كلفظ «عشرة» ليس معناه إلّا مجموع الآحاد وغيره أبعاض معنى ودلالته عليه ضمنيّة فلفظ العامّ يكشف كشفا واحدا عن المعنى العمومي. فإذا انهدم هذا الكشف بقيام القرينة على التخصيص انهدم الكشف الضمني على الأبعاض ، واحتاجت إرادة الأبعاض كلّا أو بعضا إلى دلالة دليل آخر.

هذا ، مع أنّ لفظا واحدا كيف يوصف بالحقيقة والمجاز جميعا؟!

وأيضا المجاز هو استعمال اللفظ في خلاف ما وضع له لا عدم استعماله فيما وضع له وإلّا كان عدم استعمال اللفظ في شيء أو السكوت وعدم التكلّم تجوّزا!

وأمّا الثاني فبأنّ أصالة الظهور أصل يسلك به إلى تعيين المراد الواقعي وسلّم يعرج به إلى المراد الجدّي ، فإذا نهض ما يصدّ من حمل اللفظ على المراد الجدّي في تمام مدلوله لم يبق ما يقتضي حمله على المراد الجدّي في بعض مدلوله. فليس حال اللفظ في الكشف عن المراد الجدّي إلّا كحاله في الكشف عن المراد الاستعمالي في أنّه إذا بطل كشفه فيما كان كاشفا عنه بطل رأسا ولم يقض بشيء.

والحقّ في المقام هو التفصيل بين العموم المجموعي والاستغراقي ، ففي الأوّل يسقط العامّ عن الاعتبار بعد قيام الدليل على التخصيص دونه في الثاني ؛ وذلك لأنّ الدليل خاصّ العامّ عن الاعتبار بعد قيام الدليل على التخصيص دونه في الثاني ؛ وذلك لأنّ الدليل خاصّ في الأوّل يعارض العامّ على وجه التباين دون العموم والخصوص المطلق ، فلا وجه لارتكاب التخصيص فيه إلّا أن يكون الجمع العرفي قاضيا بارتكاب التجوّز فيه بحمله على الاستغراقي ثمّ تخصيصه.

توضيحه : أنّ العامّ المجموعي حاله كحال الألفاظ الموضوعة للمركّبات وكحال الألفاظ

١٦٨

الموضوعة لمراتب الأعداد في أنّ الموضوع له ليس ذوات الأجزاء والآحاد اللابشرط. بل الآحاد بشرط الاجتماع. ومعلوم أنّ وصف الاجتماع ينهدم بخروج جزء ، فكان قيام الدليل على خروج جزء معارضا للعموم على وجه المباينة ، فإن كان جمع بينهما كان ذلك غير التخصيص.

فما دلّ على إكرام عشرة أو صوم شهر يباينه ما دلّ على عدم وجوب إكرام واحد من تلك العشرة أو صوم يوم من ذلك الشهر ، فيصرف ابتداء عن ظهوره في المجموع من حيث المجموع بجعله قرينة على أخذ العنوان معرّفا إلى ذوات الآحاد ، فيلزم تعدّد الأحكام بتعدّد الآحاد ثمّ من بعد ذلك يرتكب التخصيص.

وأمّا في العامّ الاستغراقي فكشف اللفظ وإن كان واحدا ، لكن لمّا كان المنكشف بهذا الكشف أمورا متعدّدة وأحكاما مستقلّة غير مرتبطة بعضها ببعض عومل معه عرفا معاملة الكشف المتعدّد في عدم رفع اليد عن البعض بقيام القرينة على عدم إرادة البعض الآخر. وهذا بخلاف ما إذا كان المنكشف واحدا ذا أجزاء وقامت القرينة الصارفة عن بعض الأجزاء ؛ فإنّه لا يحمل على إرادة الباقي إلّا بالعناية التي ذكرناها إن ساعدها العرف.

وإن شئت قلت : إنّ العامّ بقيام القرينة على التخصيص لا ينهدم شيء من ظهوريّة ظهوره في أنّ العامّ هو المستعمل فيه وظهوره في أنّ ذلك مراد جدّا. نعم ، لا يؤخذ بهذين الظهورين في مورد مزاحمة دليل الخاصّ. وأمّا فيما عدا ذلك فحيث لا مزاحم يؤخذ بمقتضاهما.

إجمال المخصّص يسري إلى العامّ

إذا أجمل الخاصّ مفهوما أو أجمل مصداقا [سواء] كان الإجمال للتردّد بين المتباينين أو كان الإجمال للتردّد بين الأقلّ والأكثر ، [وسواء] كان دليل الخاصّ متّصلا بالعامّ أو كان منفصلا ، [وسواء] كان عقليّا أو كان نقليّا ، فالإجمال يسري في الجميع إلى العامّ. فلا العامّ يكون حجّة بالنسبة إلى مورد الإجمال ولا الخاصّ ، فيرجع إلى عامّ فوق ـ إن كان ـ وإلّا فإلى الأصول العمليّة ؛ وذلك لأنّ الحكم قد بيّن موضوعه بدليلين : دليل العامّ ودليل الخاصّ ، فذلك بيّن حدّا منه وهذا بيّن حدّا آخر منه ، فكما لو كانا متّصلين لم يؤخذ إلّا بالمتيقّن من مدلول المجموع كذلك على تقدير الانفصال.

١٦٩

ولازم ذلك أنّ الحكم في كلّ من العامّ والخاصّ إذا كان إلزاميّا كان مورد الاشتباه من جزئيّات دوران الأمر بين المحذورين ويجري عليه حكمه.

نعم ، إذا كان الإجمال والتردّد بين متباينين ـ فلم يعلم بخروج هذا الفرد أو ذاك ـ لم يكن بدّ من فعل أحدهما وترك الآخر ؛ لحصول المخالفة القطعيّة لأحد خطابين بتركهما أو فعلهما.

وإن كان الحكم في أحدهما إلزاميّا كان مورد الاشتباه من الشكّ في المكلّف به إن كان إجمال الخاصّ لأجل التردّد بين متباينين فيحتاط في أطراف الاشتباه. وإن كان إجماله لأجل التردّد بين الأقلّ والأكثر دخل في الشكّ في التكليف. ففي ما إذا وجب إكرام العلماء وقام الدليل على حرمة إكرام زيد وتردّد زيد بين شخصين كان الاشتباه في كلّ من الشخصين ، وبين الوجوب والتحريم ، ولكن لا يجوز له إلّا اختيار إكرام أحدهما وترك إكرام الآخر. وفي هذا المثال بعينه إذا كان حكم الخاصّ ترخيصيّا وجب الاحتياط بإكرام الشخصين ، وبالعكس إذا كان حكم العامّ ترخيصيّا فإنّه يجب الاحتياط بترك إكرام كليهما. هذا في المردّد بين المتباينين.

وكذا الحال في المردّد بين الأقلّ والأكثر فإذا دلّ دليل في المثال على حرمة إكرام فسّاق العلماء ، ثمّ تردّد الفاسق بين مطلق مرتكب الذنب وبين مرتكب خصوص الكبائر ، تردّد الأمر في مرتكب الصغائر بين الوجوب والحرمة وحكمه حكمه. وإذا كان أحد الدليلين ترخيصيّا كان المرجع في مورد الاشتباه أصالة البراءة. هذا في الاشتباه في الشبهة المفهوميّة.

وكذا الحال في الاشتباه في الشبهة المصداقيّة بلا وجه للتفرقة بين الشبهتين ؛ فإنّه إن بني على التمسّك بالعام في الاشتباه المفهومي وجب التمسّك به في الاشتباه المصداقي وإن لم يتمسّك به هنا لم يتمسّك به هناك ؛ فإنّ المقامين من حيث مناط المنع والجواز متشاركان ؛ فإنّه إن كان بناء العقلاء وأهل المحاورات على الأخذ بالعموم حتّى تقوم حجّة على الخلاف كان العامّ حجّة في المقامين ؛ لأنّ البيان وإن تمّ من المولى بالنسبة إلى الخاصّ لكن ما لم يحرز صغراه لم تكن الحجّة تامّة. وإن كان بناؤهم على الأخذ بالعموم حتّى يأتي بيان على الخلاف وإن لم تكن حجّة لزم طرح العامّ في المقامين ؛ لأنّ البيان المذكور قد أتى في

١٧٠

المقامين فأوجب حسب المبنى انفصام العام. وإن لم يكن البيان المذكور بنفسه أيضا حجّة لعدم العلم بصغراه ، فيكون ما ليس بحجّة قاطعا لحجّيّة الحجّة.

هذا على مبنى القوم ، وإلّا فنحن نرى تماميّة الحجّة ببيان الكبريات الكلّيّة وإن لم تنضمّ إليها معرفة الصغريات الخارجيّة.

وبالجملة : الصورتان حكمهما واحد ، ثمّ هما وباقي الصور حكمها واحد ، ولا فرق بين صورتي اتصال المخصّص وانفصاله وبين كون دليل الخاصّ عقليّا أو نقليّا.

ويوضّح ما قلناه أنّ تخصيصا واحدا يشتمل على مخالفة واحدة للظاهر ، إن خرج به واحد أو خرج به ألف. فإذا قام دليل على التخصيص أوجب ذلك ثلمة في العامّ ، فإذا شكّ في مقدار الثلمة وأنّ العامّ قد وقف على أيّ حدّ وحوى أيّ مقدار من الأفراد لم يكن أصل يعيّن ذاك ويحكم بقلّة الخارج بعد أن كانت مخالفة الظاهر على كلّ حال واحدة. وإنّما تجري أصالة عدم تخصيص زائد فيما إذا كان إخراج الزيادة بتخصيص آخر غير التخصيص المتيقّن.

نعم هنا شيء وهو أنّه إذا ورد عامّ وورد ما يخالفه بالعموم من وجه أو دلّ العقل عليه ، ثمّ لم يعلم حصول التداخل بين الدليلين في شيء من مصاديقهما الخارجيّة مثل ما إذا ورد «أكرم العلماء» وورد «لا تكرم أعدائي» واحتمل أنّ المولى علم بعدم وجود العدوّ في شيء من أفراد العلماء ـ فلذا أتى بالخطابين على وجه العموم ـ حكم بأنّ الأمر كذلك عملا بأصالة العموم في الخطابين ، بل يرتّب سائر آثار غير العدوّ أيضا على العلماء ، وسائر آثار عدم العلم على الأعداء. هذا إذا احتمل عدم وجود العدوّ في العلماء.

أمّا إذا علم بوجود العدوّ وشكّ في عددهم بين الزائد والناقص لم يجز التمسّك بالعموم في شيء من موارد الاشتباه ؛ للعلم بانثلام العامّ بمقدار العدوّ الواقعي وقد شكّ في عددهم. ولا وجه للفرق بين ما إذا كان الدليل على التخصيص عقليّا ، وبين ما إذا كان الدليل عليه لفظيّا قصرا للخارج في الأوّل بالمعلوم عداوته من الأفراد ؛ إذ العقل بقوّته النظريّة يحكم على العنوان كالدليل النقلي ، وإن كان بقوّته المحرّكة لا يحرّك إلّا نحو الأفراد المعلوم عداوتهم ، لكنّ المعيار في التخصيص على الأوّل دون الثاني.

وممّا يلزم القائلين بحجّيّة العامّ في الشبهات المصداقيّة هو أن يحكموا برجحان كلّ ما

١٧١

لم يعلموا رجحانه في الشريعة تمسّكا بخطاب «أوفوا بالنذور» (١) حينما يتعلّق به ؛ فإنّ العموم المذكور وإن خصّص بدليل منفصل بإخراج النذر غير الراجح ، إلّا أنّ ذلك لا يمنع من التمسّك بالعامّ في الأفراد المشتبهة الرجحان على المبنى. ونتيجة هذا التمسّك بعد ضمّ الملازمة المستفادة من دليل التخصيص بين وجوب الوفاء ورجحان متعلّق النذر هو رجحان مشكوك الرجحان.

بل أقول : لا يلزم النذر الفعلي في ذلك ، بل كفى فرض تعلّق النذر بأن يقال : لو تعلّق به نذر لوجب الوفاء به بحكم عموم «أوفوا بالنذور» ، ولا شيء من نذر غير الراجح يجب الوفاء به ، فيستنتج أنّ نذره نذر للراجح. وفتح هذا الباب من الاستدلال يسدّ باب التمسّك بأصالة البراءة. فكان ذلك من أعظم الشواهد على بطلان التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

نعم ، لو كان اعتبار رجحان متعلّق النذر مستفادا من قيد متّصل بخطاب «أوفوا بالنذور» لم يتّجه ما ذكرناه ؛ لأنّ المتمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة لا يتمسّك به هناك.

إزاحة وهم

لا مناسبة بوجه بين التمسّك بعموم «أوفوا بالنذور» لإثبات رجحان المتعلّق وبين الحكم بصحّة الإحرام قبل الوقت والصوم في السفر بالنذر ليؤيّد بهما المقام ؛ فإنّ البحث في المقام في جواز التمسّك بعموم «أوفوا بالنذور» لإثبات رجحان المتعلّق في ذاته ، وهناك يحكم بطروء الرجحان بتعلّق النذر بعد القطع بعدمه في ذاته. فالفرعان شاهدان على ثبوت التأثير للنذر في رجحان المتعلّق. لكن ذلك ممّا لا يلتزم به أحد.

ومن جانب آخر التزام خروج الفرعين من عموم اعتبار الرجحان في متعلّق النذر يوجب محذور أخذ قصد القربة في متعلّق الأمر ؛ فإنّ معنى «أوفوا» حينئذ : ائت بالعملين بداعي أمر أوفوا ؛ إذ الفرض ألا أمر سابق ، مع أنّ خطاب أوفوا توصّلي

__________________

(١) هذا الخطاب مستفاد من قوله تعالى : (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) الحج (٢٢) : ٢٩ وقوله تعالى : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) الإنسان (٧٦) : ٧.

١٧٢

لا يعتبر في سقوطه قصد الأمر.

وبذلك بطل ما قيل من أنّ اعتبار قصد التقرّب إنّما هو من جهة اقتضاء مادّة الوفاء ذلك ؛ لتعلّق النذر بإتيان الفعل متقرّبا (١).

فإنّه يقال : إن تعلّق النذر بإتيان الفعل متقرّبا بأمر سابق فالنذر بالطلب لعدم أمر سابق ، وإن تعلّق النذر بإتيان الفعل متقرّبا بأمر لاحق متعلّق بسبب تعلّق النذر ـ وهو أمر أوفوا ـ رجع إلى أخذ قصد امتثال أمر أوفوا في متعلّق نفس أمر أوفوا.

ودعوى أنّ من عموم أوفوا وشمولاه للفعلين ـ ولو بقرينة الأخبار الخاصّة ـ يستكشف رجحان الفعلين ذاتا ، وإنّما لم يؤمر بهما لمانع يرتفع ذلك بالنذر ، مدفوعة باستلزام ذلك جواز التعبّد بالفعلين بقصد رجحانهما الذاتي ، وإن لم يتعلّق بهما نذر. ولا يلتزم به أحد من اكتفى في العبادات بقصد الرجحان الذاتي.

أصل العدم الأزلي

حيث إنّ الخارج من العامّ بسبب التخصيص في الأغلب عنوان وجودي مسبوق بالعدم فبوسيلة استصحاب عدم عنوان المخصّص يمكن إجراء حكم العامّ ، فلا يختلف في النتيجة من يتمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة ومن لا يتمسّك ، فإذا وجب إكرام العلماء وخرج من العموم فسّاقهم يصير موضوع الحكم بعد الجمع بين الخطابين العالم غير الفاسق.

والمفروض أنّ الجزء الأوّل محرز بالوجدان ، فإذا أحرز الجزء الثاني فيمن شكّ في فسقه بالاستصحاب رتّب الحكم. بل قد ينكر اقتضاء خروج عنوان ضمّ نقيض ذلك العنوان إلى العام. وإنّما العامّ على ما كان عليه من الموضوع وقد خرج منه عنوان ، وما عدا ذلك العنوان باق تحت العامّ بلا تحديده بحدّ وجودي هو ضدّ عنوان الخارج ، أو عدمي هو نقيض عنوان الخارج.

وعليه فإذا دلّ الدليل على أنّ كلّ امرأة ترى الحمرة إلى خمسين ودلّ دليل آخر على أنّ

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٢٥.

١٧٣

القرشيّة تراه إلى ستّين ، وشكّ في امرأة أنّها قرشيّة أو لا؟ أمكن إجراء حكم العامّ عليها باستصحاب عدم النسبة بينها وبين قريش على نحو السلب التام ؛ فإنّ الأصل المذكور وإن كان لا يثبت اتّصاف المرأة المشكوكة بعدم كونها قرشيّة ، لكن لا حاجة في إجراء حكم العامّ إلى إثبات الاتّصاف المذكور ؛ إذ ليس موضوع الحكم في العامّ المرأة المتّصفة بكونها غير قرشيّة ، بل كلّ امرأة محكومة بحكم العامّ حتّى من ليس بينها وبين قريش نسبة ، نعم ، خرج من الحكم المرأة القرشيّة.

ويردّه : أنّه ما لم ينف احتمال القرشيّة عن المرأة ولو بتعبّد شرعي وكان احتمال قرشيّتها باقيا لم يسع إجراء حكم العامّ عليها ؛ إذ لعلّها مندرجة تحت دليل المخصّص فلا بدّ من نفي عنوان الخاصّ حتّى يحكم بحكم العامّ. والمفروض ألا أصل في المقام ينفي عنوان الخاصّ عن المرأة المشتبهة.

ومثله الكلام في التمسّك بعموم «المؤمنون عند شروطهم» (١) ، بعد خروج شرط خالف الكتاب والسنّة ؛ فإنّه إذا شكّ في مخالفة شرط للكتاب والسنّة لم يجد في الحكم بوجوب الوفاء استصحاب عدم تحقّق المخالفة بين الشرط المذكور وبين الكتاب على سبيل السلب التام ؛ فإنّه لا يثبت السلب الناقص وأنّ هذا الشرط غير مخالف. وما لم يثبت كان احتمال المخالفة قائما ، ومع ذلك كيف يحكم عليه بحكم العامّ؟!

التمسّك بالعامّ قبل الفحص

لا ينبغي البحث عن جواز التمسّك بالعامّ ومطلق الظهور قبل الفحص عن المخصّص أو قرينة المجاز ؛ وذلك لأنّ المخصّص أو قرينة المجاز إن كان على تقدير وجوده الواقعي حجّة علينا ـ بأن كان في موقع لو تفحّصنا لظفرنا به ـ كان هذا الظهور غير حجّة ، ومعه كيف يسوغ الأخذ بهذا الظهور مع قيام احتمال وجود القرينة عليه؟!

نعم ، إذا كان التخصيص المحتمل تخصيصا واقعيّا ـ لا حجّة عليه على تقدير وجوده ؛

__________________

(١) التهذيب ٧ : ٣٧١ / ١٥٠٣ ؛ عوالي الآلي ٣ : ٢١٧ / ٧٧ ؛ وسائل الشيعة ٢١ : ٢٧٦ أبواب المهور ، ب ٢٠ ، ح ٤.

١٧٤

لعدم كونه في موقع لو تفحّصنا لظفرنا به ـ كان الظهور الذي بأيدينا حجّة بلا حاجة إلى الفحص. بل ولا معنى للفحص ، إلّا أن يكون الفحص لأجل تعيين هذا المعنى ، وأنّه غير حجّة على تقدير وجوده لعدم كونه في محلّ الظفر ، أو حجّة لأجل الظفر به. وذلك يحصل بالفحص إلى أن يحصل اليأس.

فمناط الفحص عمّا يزاحم الظهور هو بعينه مناط الفحص عمّا يعارض السند ، وهما جميعا مناط الفحص عن الحجّة على خلاف الأصل. ومقدار الفحص في الجميع واحد ، وهو أن يبلغ الفحص مبلغا كان احتمال المعارض أو لبيان احتمالا لما ليس بحجّة لتعسّر الظفر به. هذا في الشكّ في القرائن المنفصلة.

وأمّا إذا شكّ في القرينة المتّصلة فالأمر فيه أوضح وعدم الأخذ بالظهور فيه أجلى ؛ وذلك لعدم إحراز ما هو ظاهر [الكلام] ، إذ الكلام على تقدير اتّصاله بالقرينة له ظهور ، وعلى تقدير عدم اتّصاله بها له ظهور آخر. فكان الشكّ في الاتّصال وعدمه شكّا في ظاهر ما صدر من المولى ، ومعه فبما ذا يؤخذ؟! بل من هذا البيان يظهر عدم الأخذ بظاهر ما وصل حتّى بعد الفحص وعدم الظفر إلّا أن يقطع بعدم الوجود أو ما بحكم القطع.

وأمّا ما يرى من عمل أهل المحاورات بظواهر ما يجري بينهم من المخاطبات بلا فحص عن المزاحمات فوجهه قطعهم بعدم الصارف المتّصل وعدم حجّيّة الصارف المنفصل ؛ لأنّ طريق بيانهم لمقاصدهم هو المشافهة ولم يشافه بغير ما ألقاه من الخطاب. ولذا لو احتملوا ـ احتمالا معتدّا به ـ وجود صارف متّصل أو منفصل توقّفوا عن العمل ، كما إذا سمعوا عقيب الكلام همهمة واحتملوا أنّ الصارف فيها ، أو اقتطع من المكتوب ما احتملوا اشتماله على الصارف ، أو احتملوا أنّ الصارف مثبت في دفتره ، أو مودع عند صاحبه وكان عادته جارية على ذلك ، ففي كلّ هذا لا يعملون بظاهر ما بأيديهم حتّى يقفوا من الصارف على يقين أو اطمئنان.

فتحصّل أنّ ظواهر ما بأيدينا من الكتاب والسنّة لا يعمل بها حتّى يحرز عدم صارف متّصل ولا منفصل [يكون] حجّة على تقدير وجوده.

نعم ، إذ كان كلام الناقل للرواية ظاهرا في نقل جميع ما سمعه كانت قضيّة «صدّق العادل» التعبّد بعدم الصارف المتّصل. لكنّ هذا الظهور ممنوع في كلام أصحاب الجوامع

١٧٥

ممّن شأنهم تقطيع الأخبار كالحرّ العاملي (١) قدس‌سره ، إلّا أن يثبت من عاداتهم التنبيه على موضع القطع.

الخطابات الشفاهيّة

اختلفوا في عموم الخطابات الشفاهيّة القرآنيّة للمعدومين وعدمه ، ويمكن أن يكون نظر المباحثين إلى أحد أمور ثلاث :

الأوّل : أنّه هل يجوز تكليف المعدوم حتّى تشمل تلك الخطابات للمعدومين ، أو لا يجوز حتّى لا يشمل لما في تلو تلك الخطابات من التكليف؟

الثاني : أنّه هل يجوز خطاب المعدوم عقلا كي تعمّ تلك الخطابات المعدومين ، أو لا يجوز كي لا تعمّ؟

الثالث : أنّ الظهورين المشتملين عليهما تلك الخطابات أعني ظهور ألفاظ العموم في يا أيّها المؤمنون ، و (يا أَيُّهَا النَّاسُ) في العموم والشمول للمعدومين ، أو ظهور أداة الخطاب في الخطاب الحقيقي (٢)؟ فإن كان الأوّل كانت الخطابات عامّة ، وحملت الأداة على مجرّد إنشاء الخطاب الأعمّ من الحقيقي والصوري. وإن كان الثاني كانت الخطابات خاصّة ، وخصّصت العمومات الواقعة تلو الأداة بقرينة الأداة.

والحقّ في المقامين الأوّلين هو الجواز وعدم المانع من عموم الخطاب من جهتهما ؛ فإنّ تكليف المعدوم وكذا مخاطبة المعدوم جائز.

وأمّا في المقام الثالث فالمختار أنّ ظهور أداة الخطاب في الخطاب الحقيقي أقوى من ظهور ألفاظ العموم الواقعة تلو تلك الأداة في العموم والشمول للمعدومين ، فلا ينعقد لها

__________________

(١) اسمه «محمّد بن حسن بن علي المشغري ، العاملي» اشتهر ب «الشيخ الحرّ العاملي» إمامي ، فقيه ، محدّث ، متكلّم ، شاعر. ولد في «مشغرة» من قرى لبنان وتوفّي في المشهد الرضوي ودفن في صحن الرضا عليه‌السلام تلمّذ على أبيه وغيره ، سافر إلى أصفهان وكان ذا وجاهة وجلالة عند ملا محمّد باقر مجلسي وشاه سليمان الصفوي. قد ألّف كتبا كثيرة منها : وسائل الشيعة إلى تفصيل احكام الشريعة ، الأربعون حديثا ، أمل الامل ، هداية الأمة. (الأعلام ٦ : ٣٢١ ؛ أعيان الشيعة ٩ : ١٦٧ ؛ أمل الامل ١ : ١٤١ ـ ١٤٢ ؛ روضات الجنات ٧ : ٩٦).

(٢) أراد قدس‌سره السؤال عن تقديم أيّ الظهورين وأورد نتيجة تقديم كلّ من الظهورين في الجملة الآتية.

١٧٦

ظهور في العموم بوجود تلك الأداة.

أمّا أنّ تكليف المعدوم جائز فبيانه : أنّ للتكليف لبّا وقشرا ، لبّه الإرادات القائمة بنفس المولى وقشره بعثه ، وكلاهما ممّا لا مانع من تعلّقهما بالمعدوم. أمّا الإرادة فإنّها تتعلّق بفعل متأخّر ممّن هو موجود فعلا ويستمرّ موجودا إلى زمان الفعل. ولازمه أن تتعلّق بفعل متأخّر من موجود متأخّر ؛ إذ الوجود فعلا ممّا لا مدخليّة له ، وإنّما المعيار الوجود في وعاء الفعل المراد ليكون الفعل مقدورا.

بل قد عرفت في بعض المباحث السابقة أنّ الإرادة تتعلّق بالمستحيل. نعم ، يقبح البعث إليه ، وهذا القبح يرتفع بالقدرة منه في ظرف العمل. والفرض القدرة منه في ظرف الامتثال لوجوده هنالك وقدرته من العمل. ويشبه أن يكون قد اختلط المقام بالتكليف بالفعل حال كون المكلّف غير موجود في ظرف الفعل ؛ فإنّ هذا باطل.

أمّا التكليف بالفعل حال كون المكلّف غير موجود في ظرف الإرادة مع وجوده في ظرف الفعل المراد فممّا لا مانع منه. فالإرادة وكذا البعث غير منوطين بوجود المكلّف حالهما ، بل يكفي فيهما وجود المكلّف حال الفعل المراد. فكما جاز تعلّقهما بفعل استقبالي من مكلّف حالي سيّما إذا كان فاقدا فعلا لشرائط التكليف فليجز تعلّقهما بفعل استقبالي من مكلّف موجود في المستقبل.

وأمّا أنّ مخاطبة المعدوم جائز فبيانه : أنّ الخطاب ـ سواء كان بأداة الخطاب أو بنفس توجيه الكلام ـ ليس إلّا إلقاء الكلام لغيره لغرض التفهيم ، وهذا معنى يحصل بالنسبة إلى المعدوم حال الخطاب كما يحصل بالنسبة إلى الموجود حاله إذا كان ممّن سيوجد ويلتفت إلى الخطاب. واعتبار وجود مخاطب فعلي ناشئ من توهّم اعتبار الالتفات الفعلي إلى الخطاب ، وهو توهّم باطل ؛ فإنّه يخاطب البعداء بالمكاتبات وبالآلات المستحدثة في أعصارنا مع تأخّر التفاتهم إلى الخطاب. فليكن البعداء في الوجود كالبعداء في المكان يخاطبون بمثل الوصايا والأوقاف والأقارير والكتب المصنّفة وغير ذلك.

واعلم أنّ لهذا البحث ثمرتين :

الأولى : أنّه متى ما انضمّ إلى اختصاص الخطاب اختصاص القصد بالإفهام كانت الخطابات مقصورة حجّيّتها بمن قصد إفهامهم. فنخرج نحن غير المقصودين بالإفهام ـ بناء

١٧٧

على اختصاص حجّيّة الظواهر بالمقصود إفهامهم ـ وهذا المقدار من الثمرة الموقوفة على انضمام مقدّمات أخر كاف في خروج البحث عن اللغويّة.

الثانية : أنّا لو اختلفنا مع الموجودين في قيود ـ بأن كانت تلك القيود ثابتة في حقّنا تارة ومنفية أخرى ، وأمّا في حقّ الموجودين فكانت ثابتة لا تزول ، أو منفيّة لا تثبت ـ فعلى تقدير عموم الخطابات وشمولها لنا تمسّكنا بإطلاقها لكلتا الحالتين. وأمّا إن اختصّت بالموجودين لم يكن لنا سبيل التمسّك بالإطلاق في حقّنا ، ولا سبيل للتمسّك بالإطلاق في حقّ الموجودين ثمّ تعميم مقتضاه في حقّنا بدليل الاشتراك.

أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلعدم قبح ترك بيان دخل قيد كان أبديّ الثبوت ، أو ترك بيان مانعيّة قيد كان أبديّ الانتفاء ، فلا تكون مقدّمات الحكم بالإطلاق تامّة. وهذا لا إشكال فيه ، إنّما الإشكال في الأولى ؛ فإنّ خصوص الخطاب لا يمنع من التمسّك بظاهر الخطاب إذا عمّ القصد بالإفهام لغير الموجودين.

الدوران بين التخصيص والاستخدام

إذا تعقّب العامّ بضمير يرجع إلى بعض أفراده فهل يوجب ذلك تخصيص العامّ فيما اختصّ به من الحكم ، أو يتجوّز بالضمير بعدم المطابقة للمرجع؟

مثاله من الكتاب العزيز : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)(١) ... (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ)(٢) فإنّ حقّ الرجوع مختصّ بقسم الرجعيّات. فإن خصّصنا العامّ بالرجعيّات يكون حكم التربّص ثلاثة قروء أيضا مختصّا بهنّ ، وإن أخذنا بعموم المطلّقات للبائنات حصل التجوّز في الضمير بعدم المطابقة للمرجع.

والتخصيص وإن كان مقدّما عندهم على سائر أقسام التجوّز إلّا أنّه قد يقال في المقام : إنّ أصالة العموم في العامّ سليمة عن أصالة الظهور في جانب الضمير ؛ لأنّ المراد من الضمير معلوم ، وبعد العلم بالمراد لا يبقى للرجوع إلى أصل الظهور مجال ؛ فإنّ الأصل المذكور أصل يؤخذ به في العروج إلى تعيين المراد وإذا علم بالمراد لم يبق للأصل مصرف.

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٢٨.

(٢) البقرة (٢) : ٢٢٨.

١٧٨

ويدفعه : أنّ المراد المطابقي وإن كان معلوما لكنّ المراد الالتزامي غير معلوم ، فكان الرجوع إلى أصالة الظهور لتعيين المراد الالتزامي ؛ فإنّ مقتضى أصالة الظهور في الضمير هو أنّ المراد من المرجع الخاصّ على خلاف أصالة الظهور في المرجع ، فلذلك تتدافع الأصالتان.

نعم ، يمكن أن يقال : لا تدافع بين الظهورين ، بل يؤخذ بظهور العامّ في العموم ويؤخذ بظهور الضمير في المطابقة مع المرجع ، ولازمه عود الضمير عامّا كمرجعه ، فكان الحكم المتعلّق بالمرجع والحكم المتعلّق بالضمير كلاهما عامّين.

ثمّ ، إذا قام الدليل على اختصاص حكم الضمير بطائفة الرجعيّات أوجب ذلك التخصيص في عموم الضمير فقط. وأمّا عموم المرجع فهو على حاله ، وذلك لا يوجب المخالفة بين الضمير ومرجعه ؛ فإنّ المطابقة بين المدلولين محفوظة. نعم ، لا يعمل على طبق المطابقة لحجّة قامت على قصر الضمير. والحجّة على قصر الضمير لا تكون حجّة على قصر المرجع.

ثمّ ، لو سلّمنا دوران الأمر بين أحد تصرّفين يتعيّن تخصيص المرجع ؛ لأنّ التخصيص مقدّم على سائر التصرّفات ، بل التصرّف في الضمير بإرادة بعض ما أريد من المرجع ، أو إرجاعه إلى الكلّ متجوّزا في النسبة ، لم أعرف له وجه صحّة ليدور الأمر بين التصرّفين.

تخصيص العامّ بمفهوم المخالفة

يجوز تخصيص العامّ بمفهوم الموافقة ؛ إذ التعارض هناك بين منطوقين : منطوق ذي المفهوم ، ومنطوق العامّ ؛ لأنّ ثبوت الفحوى قطعي على تقدير عدم التصرّف في المنطوق ، فالتصرّف يكون في أحد المنطوقين. وذلك هو معنى المعارضة بين المنطوقين. ولمّا كان التخصيص هو أهون التصرّفات قدّم على التصرّف في المنطوق الآخر بما يرتفع معه الفحوى.

وأمّا تخصيصه بمفهوم المخالفة فقد يتوهّم المنع ؛ لضعف دلالة المفهوم فلا يقوي على التصرّف في المنطوق ، وهو ممنوع إلّا أن تكون الدلالة على المفهوم بالإطلاق بمقدّمات الحكمة ؛ فإنّ العامّ حينئذ يكون بيانا هادما لمقدّمات الحكمة فيذهب ما يقتضي الظهور في جانب المفهوم كما أنّه لو انعكس ، انعكس الأمر بأن كانت الدلالة على العموم بمقدّمات

١٧٩

الحكمة وكان المفهوم بالوضع ؛ فإنّ المفهوم يكون بيانا هادما لمقتضى الظهور في جانب العامّ ، وأمّا كونهما جميعا بمقدّمات الحكمة فذلك فرض غير معقول ؛ إذ الحاكم بالإطلاق هو العقل في موضوع اجتماع المقدّمات ، والعقل لا يحكم بحكمين متخالفين فلا يعقل اجتماع مقدّمات حكمين مختلفين من العقل.

ولو فرضنا جواز اجتماع حكمين عقليّين متخالفين لم يعقل جمع دلالي بينهما ؛ فإنّ مناط الجمع هو الأخذ بالأظهر والتصرّف في الظاهر ، ولا أظهريّة بين ظهورين نشئا من مناطين واحد ، وهي مقدّمات الحكمة. ولا حقيقة ومجاز هنا كي يكون مناط الأظهريّة قرب التجوّز في أحدهما من التجوّز في الآخر ، إلّا أن يكون المراد من الأظهر في المقام ما كانت مقدّمات حكمته وجدانيّة ـ مقابل ما كانت مقدّمات حكمته محرزة بالأصل وبأصالة كون المتكلّم في مقام البيان أو أصالة عدم البيان عند الشكّ في البيان ـ فيؤخذ بما مقدّماته وجدانيّة ويترك الآخر الذي مقدّماته أصليّة. وفي الحقيقة القطع بمقدّمات ذي المقدّمات الوجدانيّة موجب للقطع بعدم المقدّمات في الجانب الآخر.

الاستثناء الواقع عقيب الجمل المتعدّدة

الحقّ أنّ الاستثناء المتعقّب للجمل المتعدّدة يختصّ بالأخيرة إن كان الاستثناء إخراجا من الموضوع قبل الحكم ، فإنّ مكانته حينئذ مكانة الصفة المتعقّبة لها ، وكذا إن كان الاستثناء قصرا للحكم ولكن كان الحكم مذكورا مع كلّ جملة ، سواء اتّفقت الأحكام أم اختلفت ؛ فإنّ ظاهر القيد العود إلى ما اتّصل به فكانت الجملة الأخيرة بقيدها مدخولة للواو العاطفة معطوفة على الجمل السابقة.

وأمّا إن كان الاستثناء قصرا للحكم ثمّ لم يذكر الحكم في الجمل المتعاطفة إلّا مرة فالظاهر بل المتيقّن هو الرجوع إلى الجميع ؛ لأنّ المستثنى منه هو الحكم وهو واحد لم يتعدّد ، وتعدّد متعلّقه وانحلال هذا الحكم الواحد إلى أحكام متعدّدة حسب تعدّد المتعلّق لا يوجب قصر رجوعه إلى حكم الجملة الأخيرة ؛ فإنّ العبرة في رجوع الاستثناء بالمذكور في الكلام لا ما انحلّ إليه المذكور. فلا فرق بين أن يجمع مؤدّى جميع تلك الجمل في عبارة واحدة ثمّ يحكم على الجميع ، وبين أن يفصّل في الذكر في أنّه إذا أخرج عنوانا بالاستثناء

١٨٠