الأصول في علم الأصول - ج ١

ميرزا علي الإيرواني النجفي

الأصول في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

ميرزا علي الإيرواني النجفي


المحقق: محمّد كاظم رحمان ستايش
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-424-879-1

الصفحات: ٢٠٠
الجزء ١ الجزء ٢

على المولى حفظ المكلّف عن ذلك بنهيه عنه وإن توقّف ذلك على رفعه لليد عن ترتيب آثار النهي على التصرّف الخروجي من العقاب عليه. وعليه يرتفع المانع عن النهي الفعلي عن البقاء حتّى بمقدار التصرّف الخروجي ، فيكون التصرّف البقائي محرّما بجميع أجزائه والتصرّف الخروجي غير محرّم ولا مبغوض من أوّل يومه ـ حينما تصوّره المولى وعلم توقّف ترك البقاء عليه ـ فلا يكون الدخول حينئذ من سوء الاختيار بالنسبة إلى الخروج.

إن قلت : إنّ النهي عن البقاء ـ مع وقوع الخروج معصية ومعاقبا عليه ـ إنّما يكون قبيحا إذا لم يرخّص فيه العقل ، والمفروض أنّ العقل يرخّص فيه ، بل يلزم المكلّف باختياره من باب اختيار أقلّ القبيحين.

قلت : مدار قبح التكليف على عدم السبيل للمكلّف إلى الامتثال إمّا واقعا أو بمنع من المولى أو لأجل عقاب منه على فرض الامتثال كما في المقام لو قلنا بترتّب العقاب على الخروج ، فلا بدّ للشارع إمّا ألا ينهي عن البقاء ، أو لا يعاقب على الخروج.

نعم ، بعد فرض جواز ذلك ، العقل يحكم باختيار أقلّهما قبحا.

هذا ، مع أنّا نمنع حكم العقل باختيار المبغوض الشرعي ؛ فإنّ حكمه ناشئ عن درك الملاءمة الفعليّة ولو ملاءمة عرضيّة ناشئة عن توقّف واجب أو ترك حرام على الفعل ، فما لم يصر الفعل ملائما لم يحكم العقل باختياره ، ولا شيء من المبغوضات الشرعيّة ملائما للعقل ، فينتج ألا شيء ممّا يحكم به العقل مبغوضا فعليّا للشارع. فمهما كان حكم من العقل يعلم عدم المبغوضيّة الشرعيّة.

١٤١

النهي يقتضي الفساد أم لا؟

اعلم أنّ مسألة اقتضاء النهي للفساد بالنسبة إلى شطر العبادات لا أصل لها ولا أساس ؛ فإنّه ـ بعد الاتّفاق على عدم جواز اجتماع الأمر والنهي بعنوان واحد ، وبعد الاتّفاق على توقّف الصحّة في العبادات على ثبوت الأمر ، أو لا أقلّ من المحبوبيّة ، وبعد الاتّفاق على أنّ النهي يقتضي المبغوضيّة وهي لا تجتمع مع المحبوبيّة ـ يكون اقتضاء النهي للفساد في العبادات اتّفاقيا. ولا يعقل أن ينكره أحد بعد فرض أنّ النهي متوجّه إلى عنوان العبادة ؛ فإنّه بمجرّد أن توجّه النهي ذهب الأمر بسبيله وصار الفعل متّصفا بالمبغوضيّة ، ومع ذلك كيف يعقل أن يبقى على صحّته؟!

نعم ، يمكن البحث في المقام بعنوان آخر غير هذا العنوان ، وهو أنّه إذا تعلّق النهي بصحّة من الطبيعة المأمور بها ـ كالصلاة في الحمّام أو في مواضع التهمة ـ فهل ذلك نهي عن حصّة من الطبيعة المأمور بها فيكون معروض الأمر والنهي واحدا ولأجله يذهب الأمر بمجيء النهي ، أو أنّ النهي متوجّه في الحقيقة إلى تقيّد الطبيعة بقيد خاصّ كقيد كونها في الحمّام مع بقاء أصل الطبيعة ومتنها على محبوبيّتها؟

فكان البحث صغرويّا ، بل راجعا أيضا إلى دلالة اللفظ وأنّ ظاهر مثل خطاب «لا تصلّ في الحمّام» (١) هو حرمة هذه الحصّة من طبيعة الصلاة الواقعة في الحمّام ، أو أنّ ظاهره حرمة

__________________

(١) ورد النهي عن الصلاة في عشرة مواضع وقد عدّ منها الحمّام ، راجع وسائل الشيعة ٥ : ١١٧ ـ ١١٨ أبواب مكان المصلّي ، ب ٣٤ ، ح ٣ وب ١ ، ح ٤ وعبّر فقهاؤنا في أمثلتهم عن هذا النهي بقولهم : «لا تصلّ في الحمّام».

١٤٢

تخصيص الصلاة المحبوبة في ذاتها أينما وقعت بخصوصيّة الكينونة في الحمّام ، فلا يكون النهي متعلّقا بما تعلّق به الأمر ليقتضي فساده ، بل تعلّق بشيء خارج؟

والحقّ هو هذا ، فلذا لا نقول باقتضاء النهي للفساد.

وتوضيح المقام هو أنّ كلّ حصّة مندرجة تحت طبيعة فهي منحلّة إلى ثلاثة أمور : نفس الطبيعة ، والخصوصيّة الموجودة في تلك الحصّة ، وتخصّص الطبيعة بتلك الخصوصيّة. والذي كان يبحث عنه في المسألة السابقة هو جواز اجتماع الأمر والنهي بعنوانين متصادقين في بعض الجزئيّات. وهنا يبحث بحثا صغرويّا خاصّا بالمجوّزين هناك عن أنّ النهي المتعلّق بحصّة من عبادة مأمور بها هل ظاهره التعلّق بنفس تلك الحصّة أو بتخصّصها؟ مع وضوح الحكم على كلّ منهما وأنّه على الأوّل يقتضي الفساد دونه على الأخير؟

والحقّ أنّ مثل «لا تصلّ في الحمّام» و «لا تأكل بكلتا يديك» و «لا تشرب في كوز مكسور» ظاهر في رجوع النهي والمبغوضيّة إلى القيد مع بقاء ذات المقيّد على ما كان عليه من المحبوبيّة من غير أن يعتريه من أجل توجّه النهي حزازة ومنقصة ، فكما جاز توجّه الأمر إلى طبيعة الصلاة والنهي إلى خصوصيّة الكون في الحمّام أو في الأرض الغصبيّة كذلك جاز توجّه الأمر إلى طبيعة الصلاة والنهي إلى تخصيص هذه الطبيعة بخصوصيّة الكينونة في الحمّام أو في الأرض الغصبيّة.

نعم ، من لا يجوّز الاجتماع هناك لا يجوّز هنا على أصله.

لكنّ المجوّز هناك ليس له المنع هنا إلّا أن يستظهر رجوع النهي إلى نفس الطبيعة لا إلى تخصّصها بخصوصيّة كذا. وهذا هو الذي قلناه : إنّ النزاع راجع إلى مقام الاستظهار من اللفظ لا إلى مقام الواقع. ويمكن تحرير البحث في المقام بما يخرج عن البحث في الدلالة بأن يقال : إنّ النزاع واقع ـ بعد التواطؤ والاتّفاق على توجّه النهي إلى تخصيص الطبيعة بخصوصيّة كذا لا إلى الطبيعة المتخصّصة ـ فإنه هل يجوز اجتماع الأمر بطبيعة مع النهي عن تخصيصها بخصوصيّة كذا أم لا؟ بعد الفراغ عن جواز اجتماع الأمر بالطبيعة مع النهي عن الخصوصيّة ، وهي المسألة السابقة.

فلعلّه لشدّة اتّحاد الذات مع التخصّص الذي هو معنى حرفي أفرد هذا بالبحث وظنّ فيه

١٤٣

المنع مع الجواز هناك ، والحقّ عدم الفرق منعا وجوازا بين أن يكون المنهي عنه عنوان الخصوصيّة أو عنوان التخصّص ، وأنّا لو قلنا بجواز الاجتماع في المسألة السابقة لزمنا القول به هنا.

توضيحه : أنّ الأمر بالصلاة ليس له اقتضاء بالنسبة إلى التخصّصات المتصوّرة فيها الزائدة على أصل الطبيعة الصلاتيّة ، وأمّا اقتضاؤه فمقصور بمتعلّقه ـ وهي نفس الطبيعة دون الخارج عن متعلّقه كان ذلك تخصّصا أو خصوصيّة ـ بحيث لو أمكن للمكلّف الإتيان بهذه الطبيعة بلا كلّ زائد عن نفسها لصحّت ووقع بها الامتثال.

فكلّ ما يفرض من تخصّص ـ ككلّ ما يفرض من خصوصيّة ـ خارجة عن اقتضاء الأمر بالصلاة. ولأجل ذلك كان المكلّف مخيّرا بين كلّها. فإذا كانت خارجة فأيّ مانع عن اقتضاء الأمر بالصلاة من إدخالها تحت اقتضاء آخر من أمر أو نهي ، فالعبادات المكروهة كالعبادات المباحة ، فكما أنّ تلك الواجبات بالذات ومباحات بالتخصّص كذلك هذه واجبات بالذات ومكروهات بالتخصّص. ومثلهما العبادات الواجبة بالذات ، المستحبّة بالتخصّص ، والكلّ من واد واحد ، والكلّ لا مانع منه ؛ فإنّ محلّ توجّه أحد الطلبين غير محلّ توجّه الآخر.

فلذلك تقع نفس الطبيعة في الكلّ صحيحة مطابقة لأمرها وإن كانت بتخصيصها معصية معاقبا عليها.

ومطابق تعبيرنا السابق في المقام هو أن نقول : إنّ تحديد عالم الكون بالحدّ الصلاتي مطلوب لا مأمور به ، وتحديده بحدّ الصلاة في الحمّام مبغوض منهي عنه ، وتحديده بحدّ الصلاة المسجدي مطلوب آخر ، وبحدّ الصلاة في الدار مباح. هذا فيما له بدل من العبادات.

وأمّا ما لا بدل له كصوم يوم عاشوراء والنوافل المبتدئة في الأوقات المكروهة فلا مجال لتصحيحها بما ذكرناه. بل لا بدّ من التصرّف في ظاهر أحد الخطابين ليخرج التكليف عن كونه تكليفا بالمحال مثل : أن يكون النهي إرشادا إلى أنّ في الترك أيضا عنوان راجح لو ترك بقصده كان عبادة ، كأن يقصد بترك صوم يوم عاشوراء مخالفة بني أميّة والتبرّؤ من أفعال أعداء الله ـ فيتخيّر المكلّف بين العبادتين كسائر العبادات المتزاحمة ـ فإن صام نال أجر الصائمين ، وإن ترك بقصد مخالفة أعداء الله وصله أجر ذلك ، ولعلّ مداومة الأئمة عليهم‌السلام على الترك لأجل عدم الداعي حينئذ إلى الفعل وتحمّل مشقّته بعد أن أمكن

١٤٤

درك ثواب الفعل بالترك. هذا على مبنى المشهور.

وأما على المختار من خلوّ ما عدا الواجب والحرام عن الإرادة بل هو من مجرّد الوعد على الثواب فالأمر أوضح. هذا في العبادات.

وأمّا المعاملات فحالها أوضح ؛ فإنّ الصحّة فيها لمّا لم تكن دائرة مدار الأمر لم يكن النهي عنها موجبا للفساد ـ حتّى على مذهب من يرى اقتضاء النهي للفساد في العبادات ـ بل في بعض فروضه يقتضي الصحّة ، وهو ما إذا كان متعلّق النهي عن المسبّب كتحريم تمليك الكافر للمصحف أو للعبد المسلم ، أو ما إذا كان متعلّق النهي عنوانا انتزاعيّا من فعليّة المسبّب كعنوان البيع والنكاح ؛ فإنّ النهي كاشف عن تحقّق هذه العناوين.

هذا في غير ما كان النهي إرشادا إلى الفساد ، وإلّا فلا إشكال وخرج عن مفروض البحث ؛ إذ البحث في مقتضيات النواهي المولويّة.

١٤٥
١٤٦

المفهوم

و

المنطوق

١٤٧
١٤٨

المفهوم والمنطوق

المفهوم والمنطوق في الاصطلاح هما من مقولة المعنى ، وإن كان المنطوق لغة هو نفس اللفظ ؛ لأنّه الذي وقع به النطق ، فالذي دلّ عليه اللفظ بلا واسطة هو المنطوق. سمّى منطوقا إمّا باعتبار أنّ دالّه منطوق أو باعتبار شدّة اتّصاله به فكأنّه هو الذي وقع النطق به ، والذي دلّ عليه اللفظ مع الواسطة ومن جهة دلالته على المعنى المنطوق هو المفهوم.

والمنطوق والمفهوم هما من صفات الدالّ ، وتوصيف المدلول بهما من باب الصفة بحال غيره ، وليسا من صفات المدلول ولا من صفات الدلالة. وليست للدلالة وكشف اللفظ أقسام وأنحاء كي يسمّى قسم منها مفهوما وقسم منها منطوقا.

ثمّ الظاهر أنّ المفهوم في الاصطلاح له قيد آخر ، وهو أن يكون جملة تامّة فهمت من خصوصيّة أخذت في المنطوق ، فلا تكون منه المداليل الالتزاميّة المفهومة من متن ملزوماتها وبالعكس بلا أخذ خصوصيّة زائدة على متن الملزوم ، ولا منه الجمل المستفادة من التعليق بغير الأداة من مثل : يتوقّف كذا على كذا ، أو يشترط به ، أو معلّق عليه ، مع مشاركتها في المؤدّى للقضايا التعليقيّة بواسطة «إن» و «إذا». فليس إطلاق المنطوق على إحداهما والمفهوم على الاخرى أولى من العكس.

ثمّ إنّ بيان هذه الخصوصيّة في مفهوم المخالفة يأتي ، وأمّا بيانها في مفهوم الموافقة فهو : أنّه إذا وجّه التحريم على مثل عنوان «افّ» ـ لكن لا بما هو بل بما هو مصداق من مصاديق الإيذاء ـ اقتضى ذلك لا محالة ثبوت الحرمة لما هو أشدّ منه إيذاء بالأولى. هذا لو لم يكن

١٤٩

«افّ» كناية عن مطلق الإيذاء ، وإلّا خرج عن المفهوم ودخل في الكنايات.

مفهوم الشرط

هل للتعليق على الشرط مفهوم وضعا ، أو انصرافا ، أو من جهة الإطلاق بمقدّمات الحكمة ، أو لا وإنّما المفهوم فيما يستفاد لقرائن مقاميّة؟ ومال هذا البحث إلى أنّ التعليق هل يفيد حصر التالي في المقدّم كي لا يكون إلّا حيث كان أو لا؟

وهذه هي الخصوصيّة المأخوذة في المنطوق المستتبعة للمفهوم بحيث لولاها لم يكن مفهوم لا ما توهّم من دلالة الجملة الشرطيّة على علّيّة المقدّم للتالي علّيّة تامّة منحصرة ، فأنكر في أثر هذا التوهّم الدلالة على أصل العلّيّة فضلا عن كونها تامّة وفضلا عن كونها منحصرة ؛ فإنّ إنكار كلّ ذلك لا ينافي ثبوت المفهوم ؛ فإنّ المفهوم ناشئ من دلالة الجملة على حصر التالي في المقدّم ، ولو من باب الاتّفاق بلا علقة لزوميّة. فلا غرض للقائل بالمفهوم مع العلقة اللزوميّة ـ فضلا عن العلقة اللزوميّة الكذائيّة ـ ليعترض عليه بهذا الكلام ، وإنّما الاعتراض عليه منحصر بإنكار الدلالة على الحصر.

واعلم أنّ الذي تحقّق عندي في هذه المسألة أنّ الخلاف ليس متوجّها إلى مفاد التعليق وأنّ التعليق بالشرط هل يقتضي المفهوم أم لا؟ بل دلالته على المفهوم ينبغي أن يعدّ مسلّما ، وإنّما هو متوجّه إلى مقام آخر ، وإن اشتبه الأمر على نفس المباحثين فحسبوا أنّ الخلاف في اقتضاء التعليق.

ونحن اجتهادا في مقابل النصّ نقول : إنّ خلافكم ليس في دلالة التعليق ، وأنّ التعليق يفيد لا محالة للمفهوم في متن ما ورد عليه التعليق وفي ذاك الموضوع الذي حكم عليه بحكم تعليقي في المنطوق. مثل : «إن جاءك زيد فأكرمه» يقتضي انتفاء وجوب الإكرام عن زيد حينما انتفى المجيء منه ، لكنّ هذا المقدار لا يقتضي انتفاء وجوب الإكرام عنه ـ حتّى إذا أكرم أو أضاف أو سلّم كما يدّعيه القائل بالمفهوم ـ ليعارض ما دلّ على ثبوت وجوب الإكرام له عند بعض هذه الأحوال. وإنّما يقتضي انتفاء الحكم عن ذات زيد المهملة بحيث لو دلّ دليل على ثبوت الحكم لذات زيد المهملة إذا لم يجئ عارض ذلك الدليل الدالّ على التعليق.

١٥٠

فهذا المقدار من الدلالة على المفهوم ـ الذي هو مقتضى التعليق ، لا يزيد مقتضاه على ذلك شعرة ـ ينبغي أن يعدّ من المسلّمات التي لا يتطرّقها إشكال.

وإنّما الخلاف في ثبوت المفهوم وانتفاء وجوب الإكرام عن زيد إذا لم يجئ بقول مطلق وعدمه ، وهذا الخلاف ليس خلاف ما هو قضيّة التعليق ؛ فإنّ قضيّة التعليق لا تزيد على ما ذكرناه ، وإنّما هو خلاف في متن ما ورد عليه التعليق ، وأنّه هو زيد المطلق وزيد هذا في كلّ الأحوال وجلّ الطوارئ والعوارض ، أو هو زيد المهمل وزيد اللابشرط عن الطوارئ والعوارض؟ فمن قال بالأوّل قال بالمفهوم ومن قال بالثاني أنكر المفهوم ، مع اتّفاق الفريقين على ثبوت المفهوم في الجملة وبالمعنى الذي قلناه.

والسرّ في ذلك أنّ التعليق يقتضي انتفاء الحكم عند انتفاء المعلّق عليه عن الموضوع الذي ثبت عند ثبوته ، فإن كان ذاك هو زيد في جميع الطوارئ وكلّ الحالات اقتضى ذلك ارتفاع وجوب الإكرام عن زيد في جميع الطوارئ وكلّ الحالات ـ إن سلّم أو أكرم أو فعل ما فعل ما لم يصدر منه المجيء ـ وإن كان هو زيد في الجملة اقتضى ذلك ارتفاعه عن زيد في الجملة وزيد المهمل ، فيكون صور تخصّص زيد بخصوصيّات أخر عدا المجيء مسكوتا عنها.

فكان أصل المفهوم مسلّما والنزاع في سعته وضيقه. وقد عرفت ما هو منشأ السعة والضيق وأنّ ذلك غير مماسّ بالتعليق ، وإنّما التعليق أثره المفهوم في الجملة وهذا ثابت لا إشكال فيه.

وممّا قرّرناه ظهر لك ما ينبغي أن يقال ويختار في مفهوم الشرط وأنّ التعليق لا يقتضي ذاك المفهوم الذي أرادوه حتّى يثبت لحاظ الموضوع في جانب المنطوق مطلقا ، فإن ثبت ، ثبت المفهوم ، وإلّا لم يثبت سوى المقدار الذي قلنا وبيّنا أنّه لا ينبغي النزاع فيه.

ثمّ إنّ بيان دلالة التعليق بالشرط على انتفاء سنخ الحكم في جانب المفهوم هو : أنّ التعليق عنوان جملتين متخالفتين بالإيجاب والسلب الواردين على موضوع واحد في تقديري ثبوت شيء آخر وعدم ثبوته. وذلك الشيء هو المقدّم فإن ثبت ثبت التالي وإن ارتفع ، ارتفع.

ومنه يظهر أنّه لا يمكن التعليق في كلّ ما ثبت وتحقّق ؛ فإنّ ما تحقّق فقد تنجّز. ومثله كلّ

١٥١

ما فرض ثبوته وتنجّزه ؛ إذ ما (١) وراء عبادان قرية ، وما وراء التنجّز تعليق. فالتعليق لا يتطرّق إلّا في ذي وجهين والمتحمّل لتقديرين.

وعلى ذلك فالتعليق في الجمل الخبريّة ليس للإخبار ولا في الجمل الإنشائيّة للإنشاء ، وإنّما الإخبار والإنشاء يتحقّقان بنفس جملتيهما وما بعد التحقّق تعليق ؛ لما عرفت أنّ التعليق يتضمّن تحقّقا ، ولا تحقّق كلّ على تقدير.

فكان المتعيّن رجوع التعليق في الجمل الخبريّة إلى المخبر به ، فكأنّ المخبر به عند قولنا : «إذا طلعت الشمس أضاء العالم» ، أمران : ضوء العالم عند طلوع الشمس ، وعدم ضوئه عند عدم طلوعها ، وفي الجمل الإنشائيّة رجوعه إلى المادّة الواقعة في حيّز الطلب ـ أعني الحجّ في مثل : «حجّ إن استطعت» ـ دون الهيئة المنشأة بها الطلب ودون الطلب الحقيقي القائم بالنفس الكاشف عنه الإنشاء ؛ لتحقّق إنشاء الطلب بهذه العبارة ، وقد عرفت أنّ التعليق لا يكون في أمر محقّق. والطلب الحقيقي أسبق تحقّقا منه لأنّه الباعث على الإنشاء ، فيكون أبعد ساحة من تطرّق التعليق.

وعلى هذا كان الشرط قيدا للموضوع ، وكان معنى «حجّ إن استطعت» أنّه أريد منك الحجّ الخاصّ الحاصل في ظرف الاستطاعة. ومع ذلك فالقول بالمفهوم في الشرط دون سائر أقسام القيد لعلّه لاستفادة تقييد خاصّ من هذا التقييد ، وتقييد معناه الحصر.

ومن هذا ظهر لك أن ليس المانع من رجوع التعليق إلى الإنشاء هو ما توهّم من جزئيّة مداليل الحروف والهيئات ، والجزئي لا يقبل التقييد الذي منه التعليق ، فإنّا نمنع من عدم قبول الجزئي للتقييد ، فإنّ الجزئي يقيّد بحسب الأحوال ، ولا المانع كون مداليل الحروف والهيئات غير ملحوظة إلّا بالتبع وفي جوف المتعلّقات ، وما هذا شأنه لا يقيّد ولا يعلّق ؛ لأنّ التقييد والتعليق ضرب من الحكم ، والحكم لا يعقل أن يوجّه إلى ما لم يلحظ إلّا تبعا ؛ لأنّ (٢) هذا المانع وكذا سابقه مختصّ بما إذا كان الإنشاء بالصيغة ، والمدّعى عامّ يشمل ما إذا كان الإنشاء بمثل : «واجب» و «يجب».

__________________

(١) «ما» في هذه الجمل نافية.

(٢) ردّ بهذا التعليل توهّم مانعيّة السابقين.

١٥٢

فالوجه المطابق للمدّعى هو ما ذكرناه من كون الإنشاء بذاته آبيا عن التعليق بأيّ لفظ كان كما أنّ الإخبار بذاته آب عنه.

مبحث تعدّد الشرط

إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء ، فإن لم نقل بالمفهوم فلا إشكال ، وإن قلنا به حصل التعارض بين مفهوم كلّ منهما ومنطوق الآخر.

وهل يجمع حينئذ بتقييد كلّ من المفهومين بكلّ من المنطوقين ـ فإنّ ذلك هو قانون الجمع في تعارض المطلق والمقيّد في غير مقام ـ فتكون النتيجة انتفاء الحكم فى الجزاء بانتفاء كلا المنطوقين وثبوته بثبوت أحدهما ، أو يرفع اليد عن كلا المفهومين فلا يحكم بالمفهوم رأسا ، فيصير كما لو لم نقل بالمفهوم من أوّل الأمر ، أو يقيّد كلّ من المنطوقين بصاحبه فيحكم بثبوت الجزاء عند ثبوتهما أو انتفائه بانتفاء واحد منهما ، أو يحكم بأنّ الشرط هو الواحد الجامع بين الأمرين ، وهذا في الأثر يشارك الجمع الأوّل؟ وجوه : أقواها الثاني ؛ إذ التعارض في الحقيقة بين دلالة الجملتين على الحصر ـ فإنّه الذي عرفت أنّه مستتبع للمفهوم ـ والحصر غير قابل للتجزئة والتبعيض فإن كان ثبت المفهوم ، وإلّا ارتفع المفهوم رأسا. فإذا فرض تعارض الدليلين في دلالتهما على الحصر فإن كان أحدهما أظهر في دلالته على الحصر أخذ به ، وتعيّن رفع اليد عن الحصر في الآخر ، وإلّا حصل الإجمال ومن أجله سقطت كلّ من الدلالتين على الحصر عن الاعتبار.

ويحتمل أن يحمل كلا الحصرين على كونه إضافيّا بالنسبة إلى ما عدا صورة وجود شرط الآخر ، فيكون المفهوم ثابتا في الجملة. وهذا يشارك في الأثر مع الجمع الثاني أعني تقييد المفهومين بالمنطوقين.

ومنه يظهر أنّ الوجه في الجمع الثاني أمران : التقييد كما هو قانون معارضة المطلق والمقيّد ، وحمل الحصر في كلّ من الشرطيّتين على الإضافيّة ، ولا يبعد تعيّن حمل الحصر على الإضافي مع إمكانه ، وإن لم يمكن فرفع اليد عن الحصر رأسا ، وأمّا التقييد فذلك لا وجه له ؛ فإنّ المعارضة أوّلا وبالذات ليست بين المفهوم والمنطوق كي تجري عليه أحكام المطلق والمقيّد وإنّما هي بين دلالة المنطوقين على الحصر ، والمعارضة في هذا على وجه

١٥٣

التباين لا على وجه الإطلاق والتقييد.

وأمّا الجمع الثالث ـ أعني تقييد كلّ من المنطوقين بصاحبه ـ فممّا لا وجه له ؛ لأنّه جمع وتصرّف في غير مادّة المعارضة وإن ارتفعت بها المعارضة ، ولعلّ من جمع ذلك أراد الرمي بسهم واحد مرميّين : رفع التعارض عن المقام ، وإصلاح عدم معقوليّة المقام الآتي أعني اجتماع علّتين تامّتين على معلول واحد.

بقي الجمع الرابع وهو ممّا لا ينبغي عدّه جمعا مستقلّا في عداد سائر الجموع ، وإنّما هو تصرّف اقتضاه العقل في موضوع الجمعين الأوّلين.

معقوليّة تعدّد الشرط ووحدة الجزاء

في موضوع المسألة السابقة بحث آخر عقلي ـ إن قلنا بالمفهوم في الشرطيّة أو لم نقل ـ وإنّما منشؤه قاعدة عقليّة وهي : «أنّ الواحد لا يصدر إلّا عن الواحد». وعليه فلا يعقل تعدّد الشرط والعلّة على معلول واحد ، فلا بدّ من التصرّف فيما دلّ بظاهره على ذلك.

إمّا بتقييد كلّ من المنطوقين بالآخر ـ ليكون الشرط مجموع الأمرين دون كلّ منهما مستقلّا ـ أو جعل السابق منهما هو المؤثّر والآخر خاليا عن الأثر ، أو أثره تأكّد ما حدث بالسابق ـ ويعبّر عن هذا بتداخل الأسباب كما في أسباب الوضوء ـ أو الحكم بأنّ الجزاء متعدّد لا كما يرى في ظاهر العبارة.

وهذا تارة مع الاكتفاء بفعل واحد في مقام الامتثال ـ على أن يكون الجزاء ان طبيعيّين متصادقين كما في أنواع الغسل ، ويعبّر عن هذا بتداخل المسبّبات ـ وأخرى مع عدم الاكتفاء وإيجاب الإتيان بالجزاء مكرّرا ، وهذا إنّما يكون فيما إذا كان الجزاء قابلا للتكرّر دون مثل القتل إذا تعدّدت أسبابه ، ودون مثل الوضوء الذي قام الإجماع بل الضرورة على عدم تكرّره.

وإمّا (١) إرجاع الشرطين إلى واحد جامع بين الشرطين ، فذلك إنّما ينفع إذا لم نقل بأنّ تعدّد أشخاص الشرط كتعدّد جنس الشرط في عدم معقوليّة اجتماع اثنين منه على معلول واحد وإلّا لم ينحسم به الإشكال.

__________________

(١) عطف على قوله : إمّا بتقييد كلّ من المنطوقين بالآخر ، فهذا عدل آخر من التصرّف في الظاهر.

١٥٤

وهذه التصرّفات التي ذكرناها بين ما هو مخالف للظاهر فقط ، وبين ما هو مخالف مع ذلك لحكم العقل.

أمّا ما هو مخالف للظاهر فقط فهو التصرّف الأوّل ؛ فإنّ الشرطيّتين ظاهرتان في استقلال كلّ شرط بالتأثير ، فكان رفض الاستقلال عن كلّ رفضا لهذا الظاهر. ورفع اليد عن الظهور لقرينة عقليّة ـ وإن كان ليس بعزيز ـ إلّا أنّ قيام القرينة العقليّة على ذلك في المقام وأنّ المقام من قبيل تعدّد السبب ممنوع ، وإن أوهم ظاهر الشرطيّتين ذلك ؛ لما عرفت من عود التعليق في القضايا الشرطيّة إلى الفعل الواقع في حيّز الطلب.

فكانت صور تعدّد الشرط واتّحاد الجزاء أجنبيّة عن مسألة اجتماع العلل المتعدّدة على معلول واحد داخلة في مسألة انطباق عنوانين ذوى حكم على محلّ واحد ؛ إذ بعد ما صار مفاد «أكرم زيدا إن جاءك» هو أكرم زيدا الجائي ، وكذا مفاد «أكرم زيدا إن أعطاك» هو أكرم زيدا المعطي ، فإذا جاء زيد وأعطى كان كما إذا اتّحد عنوان الهاشمي والعالم الواجب إكرامهما في زيد وأثر ذلك تأكّد الحكم في المجمع لاجتماع مناطين ، بل لو قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي لم يكن مانع من فعليّة الإيجابين في المجمع.

ولعلّ هذا مراد من قال بأنّ علل الشرع معرّفات لا مؤثّرات ، وإلّا فالمعرّفيّة لا ترفع الإشكال إن كان كلّ واحد معرّفا لعلّة تامّة. وإن أريد أنّ لكلّ معرّف لعلّة واحدة أو لحكم واحد ، كالأمارات المتعدّدة الحاكية عن حكم واحد فذاك واضح البطلان.

وأمّا المخالف للعقل والظاهر فذاك بقيّة الوجوه ؛ فإنّه يتّجه على من خصّ التأثير بأسبق الشرطين وجودا بأنّ رعاية حال ما هو الواقع في الخارج في مقام الجمع بين الأدلّة غريب ؛ إذ الجمع تصرّف في دلالة الأدلّة وصرف الظاهر منهما عن ظهوره بقرينة الأظهر ، وبينه وبين الخارج بون بعيد.

هذا ، مع أنّ الأسبقيّة ليست تحت ضابطة ، فربّ سابق في واقعة هو مسبوق في أخرى. والالتزام بالتعطيل في واقعة والتأثير في الاخرى أغرب.

ويتّجه على من كثّر الجزاء بتعدّد الشرط ـ على أن يكون الواجب بكلّ شرط فرد من الطبيعة ـ بأنّ المراد من الفرد إن كان هو الفرد الخارجي ومصداق الفرد لم يعقل تقييد الطبيعة الواقعة في حيّز الطلب به ؛ لأنّه قبل الوجود لا فرد وبعده لا وجوب ؛ وإن كان هو مفهوم الفرد

١٥٥

ولم يختلف ذلك عن نفس الطبيعة فما الداعي لهذا التقييد؟! إذ الفرد أيضا كلّي كنفس الطبيعة وقد وقع جزاء لشرطين ، إلّا أن يخصّ كلّ بخصوصيّة غير الاخرى فيخرج حينئذ عن الفرض ، ويكون الجزاء في كلّ من الشرطيّتين نوعا من الماهيّة غير الجزاء في الاخرى.

وأمّا تقييد أحد الفردين بكونه غير الآخر فهو ممّا لم أتحصّل معناه ؛ فإنّ عنوان غيريّة هذا لا يتحقّق إلّا مع تعيّن الآخر والفرض ألا تعيّن للآخر ليكون هذا غيره.

مفهوم الوصف

تعليق الحكم على الصفة هل يقتضي المفهوم وانتفاء الحكم عند انتفاء الصفة ، أو لا يقتضيه كما لا يقتضي انتفاؤه عند انتفاء الموصوف ؛ فإنّ الصفة والموصوف مشتركان في الدخل في الحكم ، فإذا لم يقتض انتفاء الموصوف انتفاء الحكم لم يقتض انتفاء الصفة أيضا انتفاؤه ، ولم تتخصّص الصفة بخصيصة ليختصّ باقتضاء المفهوم. نعم ، هما مشتركان في أنّ بانتفائهما ينتفي شخص الحكم وهذا لا كلام فيه.

وإنّما الكلام في باب المفاهيم في الدلالة على انتفاء نوع الحكم حتّى لو دلّ الدليل على ثبوته عند انتفاء الصفة عارض ذلك دليل تعليق الحكم على الصفة إن قلنا فيه بالمفهوم.

والمراد من التعليق على الصفة تعليق واقع الحكم دون الأخذ في مجرّد العبارة ـ كما في القيود التوضيحيّة ـ فإنّ انتفاءها لا يوجب انتفاء شخص الحكم فضلا عن سنخه.

نعم ، طريق استكشاف تعليق واقع الحكم هو ظاهر العبارة ، ولذا قيل : إنّ الأصل في القيد أن يكون احترازيّا ـ وهو مقابل التوضيح ـ يعني أنّ الأصل في القيد أن يكون جزء متمّما لموضوع الحكم الشخصي دخيلا فيه ، والمراد من الأصل هو الظهور وهذا لا إشكال فيه.

وإنّما الإشكال في دخالة القيد الدخيل في شخص الحكم في سنخ الحكم أيضا ليستتبع انتفاؤه انتفاء سنخ الحكم مضافا إلى انتفاء شخصه أوّلا ، فمن قال بالمفهوم قال بالأوّل ، ومن أنكره قال بالثاني. فموضوع البحث في ثبوت المفهوم هو القيود المسلّمة الدخل في شخص الحكم دون القيود التوضيحيّة التي لا توجب ارتفاعها ارتفاع شخص الحكم فضلا عن سنخه.

ثمّ المختار في المقام هو المختار في المقام السابق ، يعنى أنّ المسلّم من دلالة التعليق على الوصف على المفهوم دلالته على انتفاء سنخ الحكم عن الموصوف خاليا عن كلّ صفة.

١٥٦

وأمّا انتفاؤه مطلقا حتّى إذا اتّصف بصفة أخرى فلا.

وعليه فلا يعارض دليل التعليق على صفة دليل التعليق للحكم في ذلك الموضوع على صفة أخرى.

وإن شئت قلت : إنّ دخل القيد في شخص الحكم يقتضي دخله في سنخه ولو دخلا بدليّا ـ على أن يكون الدخيل أحد الوصفين أو الأوصاف على البدل ، بحيث لو لا شيء منها لم يكن حكم ـ وإلّا لم يكن القيد دخيلا في شخص الحكم أيضا وكان تمام الموضوع لشخص الحكم ذات الموصوف بلا دخل أيّ صفة.

والحاصل : أنّ التعليق للحكم على صفة لا يدلّ على انتفاء الحكم عن الموصوف إذا اتّصف بصفة أخرى ، وإنّما يدلّ على انتفائه عن ذات الموصوف العاري عن كلّ صفة ، فقضيّة «في الغنم السائمة زكاة» (١) تدلّ على عدم الزكاة في الغنم بما هو غنم ولا تدلّ على عدم الزكاة فيها إذا اتّصفت بصفة أخرى غير السوم ، فلا يعارض هذه ما يدلّ على ثبوت الزكاة فيه بصفة أخرى غير السوم.

نعم ، يعارضها ما يدلّ على ثبوت الزكاة في ذات الغنم ، ولذا يعاملون معاملة الإطلاق والتقييد بين دليل «أعتق رقبة» ودليل «أعتق رقبة مؤمنة».

فصحّ نسبة ما اخترناه إلى كلّ من أنكر مفهوم الوصف ومع ذلك عمل العمل المذكور بين مثل ذينك الدليلين.

تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّيّة

قد يتوهّم أنّ تعليق الحكم على الوصف يدلّ على علّيّة الصفة للحكم وكونها هي تمام الموضوع للحكم يدور حولها الحكم حيثما كانت ، فكان الموصوف ملغى غير دخيل في الحكم حاله حال الصفات التوضيحيّة.

وربما يزاد على ذلك بالقول بالدلالة على انحصار العلّة في الوصف فحيث ما كان ، كان الحكم ، وحيثما لم يكن ، لم يكن. فمثل : «في الغنم السائمة زكاة» يدلّ على ثبوت الزكاة في

__________________

(١) لم يرد هذه القضيّة في الأخبار إلّا أنّ فقهائنا استفادوها من مجموع الأخبار الواردة في زكاة الغنم فراجع وسائل الشيعة ٩ : ٥٣ ـ ٦٠ ، أبواب ما تجب فيه وما ... ب ٨ ، ح ١ ـ ١٧.

١٥٧

معلوفة الإبل حتّى لو دلّ دليل على عدمها فيه عارضه. نسب هذا إلى الشافعي. وقد عرفت إنكار دلالة التعليق على المفهوم فضلا عمّا ذكر.

نعم ، إشعار التعليق على الوصف على علّيّة الوصف غير بعيد ، لكن لا جدوى في مجرّد الإشعار ما لم ينته إلى حدّ الدلالة.

مفهوم الغاية

كلمتا «من» و «إلى» تدخلان على أمور امتداديّة حقيقيّة أو وهميّة كالزمان والزماني غير القارّ الراسم في الخيال أمرا امتداديّا فيحدّدان مدخولهما من حيث المبدأ والمنتهى ، ولا يحدّدان الفعل المتعلّق للتكليف أو نفس التكليف إلّا ثانيا وبالعرض وبتبع موضوع التكليف لأنّهما غير امتداديّين ، ففي مثل : «سرت من البصرة إلى الكوفة» أو «اغتسل للجمعة من الفجر إلى الزوال» المحدّد بالأداتين هي المسافة المكانيّة أو الزمانيّة الواقع فيها الفعل المتعلّق للتكليف.

نعم ، هذا التحديد لهما بلحاظ الفعل أو الحكم لا لهما في ذاتهما ؛ فإنّهما في ذاتهما لا حدّ لهما ، فمعنى تحديد مسافة ما بين البصرة والكوفة هو تحديدها بما هي مسافة للسير ، فروحه يرجع إلى تحديد السير. وكذا تحديد ما بين المرفق والإصبع هو تحديده بما أنّه يجب غسله ، ومن أجل ذلك يدلّ على تحديد الغسل. ويمكن كون التحديد لنفس الفعل ابتداء ؛ وذلك لأنّ السير والغسل امتداد وهمي باعتبار المسافة الواقعة فيها ذلك ، والامتداد الوهمي كاف في معقوليّة التحديد. ويشهد له استفادة معنى الشروع والختام ، والابتداء والانتهاء من التحديد بهاتين الأداتين ، ولا شروع ولا ختام إلّا في الفعل.

نعم ، قد تنسلخان عن معنى الشروع والختام كما في [الشعر] :

حوض له ما بين صنعاء إلى

أيلة أرض الشام أو أوسع (١)

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٧ : ٣٣١. من قصيدة السيّد الحميري العينيّة التي مطلعها :

لأم عمرو باللوى مربع

طامة أعلامة بلقع

وروي باختلاف فيه :

حوض له ما بين صنعا إلى

أيلة والعرض به أوسع

١٥٨

وكما في آية الوضوء (١) ـ بناء على مذهب أهل الحقّ ـ وهو مراد من قال : إنّ الآية لتحديد المغسول دون الغسل ، يريد أنّها لضبط ما بين الحدّين بلا دلالة على الشروع والختام [سواء] كانت لتحديد المغسول أو كانت لتحديد الغسل.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّهم اختلفوا في اقتضاء التحديد بالغاية للمفهوم ونفي سنخ الحكم عمّا بعد الغاية. ولا أعلم لقصر خلافهم هذا بالغاية وجها ، بل كان اللازم أن يبحثوا بالنسبة إلى الابتداء أيضا ؛ فإنّ حكمه حكم الغاية ، فيقال : إنّ التحديد بالمبدإ والمنتهى هل يقتضي نفي الحكم عن الجانبين وقصره بالوسط أو لا تعرض إلّا للوسط ، والجانبان مسكوت عن حكمهما نفيا وإثباتا يرجع فيهما إلى الأصل إن لم يرد دليل على الحكم فيهما؟

والحقّ هو عدم الدلالة ؛ فإنّ التحديد بهما يكون دائما للموضوع دون الحكم. أمّا الفعل المتعلّق للحكم أو موضوع هذا الفعل فيدخل التحديد بهما في التقييد. وقد عرفت أنّ القيد لا مفهوم له ولم يختصّ هذا التقييد بخصيصة من بين سائر أقرانه ليختصّ بالمفهوم.

وممّا ذكرناه من أنّ التحديد بالغاية دائما يكون لمتعلّقات الحكم لا هو نفسه لا يبقى موضوع لما قيل في المقام من التفصيل بين أن تكون الغاية غاية للحكم ـ فالمفهوم ثابت ـ وبين أن تكون غاية للموضوع فلا ، مع أنّا لو سلّمنا أنّ الغاية تكون للحكم كما تكون للموضوع منعنا اختلاف دلالة مثل كلمة «إلى» باختلاف المدخول ؛ فإنّ وضع اللفظ واحد والمغيّا لا قرينيّة فيه على شيء.

ثمّ إنّا إن قلنا بالمفهوم أو لم نقل فهناك بحث آخر ، وهو أنّه هل مدخول «إلى» داخل في حكم المغيّا ومشارك مع المنطوق في الحكم أو داخل في الغاية يجري عليه ما يجري على الغاية؟

وكان اللازم تعميم هذا البحث أيضا إلى جانب الابتداء فيبحث عن أنّ الحدّين المدخولين للأداتين في جانبي المبدأ والمنتهى هل هما في حكم الوسط أو هما في حكم الطرفين؟

__________________

(١) هي قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) المائدة (٥) : ٦.

١٥٩

الذي يترجّح عندي دخولهما في حكم الوسط ما لم تقم قرينة على الخلاف ؛ فإنّ المتعارف أنّ جزءين من المسافة التي يراد تحديدها يؤخذ فيجعل مدخولا للأداتين من جانبي المبدأ والمنتهى ، ثمّ يحكم على مجموع المسافة بجزأيها. وقلّما يؤخذ جزءان من الخارج الملاصق للمسافة فيجعل مدخولا للأداة ، فمثل (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ)(١) يكون على خلاف الشائع المتعارف ، فلولا دليل خارج لحكمنا هناك أيضا بوجوب إدخال جزء من الليل في الإمساك.

وأمّا مثل : «سرت من البصرة إلى الكوفة» فهو جار على وفق الشائع ؛ إذ لا يراد من البصرة والكوفة خصوص ما أحاط به سورهما ، بل ما يعمّه وتوابعه ، فلو كان السير واقعا في جانبي المبدأ والمنتهى في جزء من الملحقات صدق أنّه سار من أحد البلدين إلى الآخر.

مفهوم الاستثناء

يبحث في الاستثناء تارة عن أنّه هل يقتضي مخالفة ما بعده لما قبله في الحكم ، أو لا يقتضي سوى قصر ما أنشئ فعلا من الحكم على المستثنى منه وأنّ المتكلّم فعلا ليس في صدد التعرّض لحكم المستثنى ، فلا يكون معارضا لدليل دلّ على مشاركة المستثنى للمستثنى منه في الحكم؟

وأخرى عن أنّه على تقدير اقتضائه قصر سنخ الحكم بما قبله هل ذلك بالمفهوم ومن جهة دلالة الاستثناء على الخصوصيّة المستتبعة لانتفاء الحكم عن المستثنى وهي الدلالة على الحصر ، أم هو بالمنطوق ، ومن جهة دلالة أداة الاستثناء على نفي الحكم عمّا بعدها؟ فمن ضمّ هذه الدلالة إلى دلالة عقد المستثنى منه ينتزع الحصر ، لا أن يكون الحصر مدلول الجملة ابتداء. وهذا هو الظاهر.

ولا ثمرة لهذا البحث بعد ثبوت الدلالة على كلّ تقدير ، إلّا إذا قلنا : إنّ الدلالة المفهوميّة أضعف دائما من الدلالة بالمنطوق ، فيجدي هذا البحث لتعيين ما هو قضيّة الجمع عند

__________________

(١) البقرة (٢) : ١٨٧.

١٦٠