الأصول في علم الأصول - ج ١

ميرزا علي الإيرواني النجفي

الأصول في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

ميرزا علي الإيرواني النجفي


المحقق: محمّد كاظم رحمان ستايش
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-424-879-1

الصفحات: ٢٠٠
الجزء ١ الجزء ٢

وأمّا الثاني منها فباستلزامه بطلان الأطراف جميعا حينما يؤتى بها دفعة ؛ لأنّ وجود كلّ منها يرفع التكليف عن ما عداه فيصبح الكلّ بلا تكليف.

وأمّا الثالث فباستلزامه فساد الأطراف حتّى إذا أتى بها متعاقبا ، وإنّما يصحّ حينما يقتصر على واحد بلا سبق ولا لحوق من آخر.

وأمّا الاحتمال الثاني فباطل أيضا باحتمالاته ، بل هو أشدّ فسادا من الأوّل ؛ لأنّه ـ مضافا إلى لزوم المحاذير السابقة ـ مستلزم لطلب النقيضين ؛ فإنّ وجود كلّ واحد من الأطراف يكون مطلوبا. أمّا وجوده فلأنّه المفروض ، وأمّا عدمه فلأنّه شرط واجب التحصيل للآخر.

وأمّا الاحتمال الثالث فهو كالاحتمال الأوّل طابق النعل بالنعل.

وأمّا احتمالات القول الثاني ـ وهو كون الواجب واحدا من الأطراف إمّا تعيينا أو على سبيل البدل ـ فاحتمالاته أيضا ثلاث :

الأوّل : أن يكون الواجب واحدا معيّنا من الأطراف وكانت البقيّة مسقطة للواجب.

الثاني : أن يكون الواجب واحدا مردّدا أعني ما هو مفاد النكرة.

الثالث : أن يكون الواجب عنوان أحد الأطراف أعني هذا المفهوم الكلّي الصادق على كلّ واحد منها.

والكلّ باطل ؛ أمّا الأوّل فلأنّه لا ميز للواجب عن غيره ليختصّ بالوجوب وإلّا خرج عن الواجب التخييري.

وكون الواجب هو ما اختاره المكلّف ، فاختيار المكلّف يكون هو المائز ، يدفعه : أنّ الاختيار متفرّع على التكليف المتفرّع على الميز ، فكيف يتفرّع عليه حصول الميز؟!

وأمّا الثاني فلأنّ المردّد الخارجي لا وجود له ، فكيف يتعلّق به التكليف؟!

وأمّا الثالث فلأنّ مفهوم واحد من الأطراف مفهوم انتزاعي ، فكيف يقوم به مناط التكليف؟! ولو سلّمنا كان ذلك داخلا في إيجاب القدر المشترك الذي هو ثالث الأقوال في المسألة. ولا يرد عليه شيء سوى أنّه خلاف ظاهر الأدلّة ، لكنّ التصرّف في الظاهر ممّا لا بدّ منه بعد عدم معقوليّة الأخذ به ، فيحمل الخطاب التخييري على الإرشاد إلى حكم العقل بالتخيير في موضوع خطاب الشارع بالواحد الجامع بين الأطراف.

١٢١

التخيير بين الأقلّ والأكثر

لا ريب في معقوليّة التخيير بين الأقلّ والأكثر الدفعي كمسح بإصبع أو بكفّ. وهل يعقل التخيير بين الأقلّ والأكثر التدريجي كتسبيحة أو تسبيحات؟

قد يقال : نعم ، إذ قد يكون الغرض قائما بكلّ من الأقلّ بشرط عدم الزيادة والأكثر ، وما هذا شأنه ينبغي الخطاب التخييري به ، بل ليس هذا في الحقيقة تخييرا بين الأقلّ والأكثر ؛ فإنّ الأقلّ بشرط عدم الزيادة يباين الأكثر مباينة الشيء بشرط شيء والشيء بشرط لا.

ويردّه : أنّ الأقلّ لو كان واجدا لمناط التكليف وكان كلّ من وجود الزيادة وعدمها على حدّ سواء ، كان إيجاب المولى لها قبيحا لا مقتضى يقتضيه ؛ فإنّ الزيادة على تقدير الوجود ـ وإن كانت مؤثّرة في المصلحة الإلزاميّة ـ لكن على تقدير العدم أيضا توجب تحديد الأقلّ بحدّ يؤثّر في عين تلك المصلحة ، فإذا أتى بالأقلّ لم يكن هناك ما يقتضي الإلزام بالزيادة بل كانت الزيادة مباحة ؛ فإنّه لا فرق في جعل الإباحة بين أن يكون الفعل خاليا عن المصلحة الملزمة وبين أن يكون مشتملا على المصلحة مع وجود مثل تلك المصلحة في الترك أيضا ، بحيث لو أتى بالأقلّ جاز الاقتصار عليه وجاز الإتيان بالزيادة الذي ليس ذلك إلّا معنى الإباحة.

وعلى ما ذكرناه فكلّ ما ورد في الشريعة ممّا يوهم التخيير بين الأقلّ والأكثر يحمل على وجوب الأقلّ تعيينا واستحباب الزيادة على ذلك.

١٢٢

الواجبات الكفائيّة

هل المكلّف في الواجبات الكفائيّة هو طبيعة البالغ العاقل المعنون بالعنوان الذي أخذ في حيّز الخطاب ، أو كلّ واحد واحد من آحاد هذه الطبيعة ، أو واحد معيّن منهم ، أو واحد لا بعينه وفعل البقيّة مسقط؟

الحقّ هو الثاني ؛ فإنّ الأوّل والأخير غير معقول ، والثالث خلف. وعليه فيتعدّد المكلّف به بتعدّد التكليف والمكلّف ؛ إذ لا يعقل خطاب كلّ شخص إلّا بفعل نفسه.

نعم ، يختصّ الواجب الكفائي بخصيصة بها يكون امتيازه عن الواجبات العينيّة ، وتلك الخصيصة هي تعليق كلّ واحد من الواجبات على خلوّ وعاء الخارج عن الفعل من آخرين ، فلو حصل الفعل من واحد سقط خطاب البقيّة وما لم يحصل وجب على الكلّ المبادرة إلى الامتثال ، فلو حصل الفعل من الكلّ دفعة حصل الامتثال بفعل الجميع واستحقّوا الثواب جميعا.

فالواجب الكفائي هو ما وجب على الكلّ إتيانه مقيّدا بعدم حصول الفعل من واحد منهم ، ومع ذلك لا يجب عليهم تحصيل هذا القيد بالتواطؤ على الإتيان دفعة ، بل جاز لكلّ التواني حتّى يحصل المسقط لتكليفه بالامتثال من الآخرين.

١٢٣

الواجب المؤقّت

ينقسم الواجب إلى مؤقّت وغير مؤقّت ، والمؤقّت إلى مضيّق وموسّع.

والمؤقّت ما أخذ زمان خاصّ قيدا في متعلّق التكليف بخلاف غير المؤقّت ـ وإن احتاج لا محالة إلى زمان ـ والمضيّق ما كان وقته بقدر الفعل بخلاف الموسّع ؛ فإنّه الذي زاد زمانه على الفعل.

والفرائض الخمسة اليوميّة من الموسّع على تقدير ومن المضيّق على آخر. وتفصيل ذلك هو : أنّه إن كان التكليف متوجّها إلى جامع ما كان بين المبدأ والمنتهى ـ حتّى كان التخيير بين الأفراد الواقع بين الحدّين تخييرا عقليّا ـ فهو من الموسّع ، وإن كان التكليف متوجّها إلى الأشخاص الواقعة بين الحدّين ـ كلّ شخص في قطعة زمانه ـ فكان التخيير بين تلك الأفراد شرعيّا إن قلنا بمعقوليّته ، وكان جواز التخيير بمناط جواز ترك كلّ من أطراف التخيير إلى بدل لا بمناط سعة الوقت فهو من المضيّق.

وتمييز كلّ من هذين عن صاحبه في غاية الغموض ، فلذا يسرع إليه الاشتباه فيظنّ أنّ الواجب موسّع وهو في الواقع مضيّق.

وهل مثل خطاب «صلّ من الزوال إلى الغروب» ظاهر في أيّهما؟ الحقّ أنّ هذا الخطاب بعد صرفه عن ظاهره ـ الذي هو وجوب استيعاب ما بين الحدّين من الصلاة إمّا بالتكرار أو بإطالة فرد واحد ـ ظاهر في الواجب الموسّع وأنّ «من» و «إلى» حدّان للطبيعة الواقعة في حيّز الطلب ، فتكون طبيعة الصلاة المتخصّصة بالكون فيما بين الحدّين ـ المنطبقة على كلّ

١٢٤

فرد منها الواقعة في جزء من أجزاء هذا الزمان الممتدّ ـ هي المطلوبة دون الأفراد الواقعة في كلّ قطعة قطعة من قطعات ما بين الحدّين ليحمل طلبها على التخيير.

القضاء بأمر جديد أو بالأمر الأوّل؟

إذا توجّه الطلب إلى قيد ومقيّد ـ ومن ذلك قيد الزمان ـ فالظاهر أنّ المتّصف بالمطلوبيّة يكون هو المقيّد بقيده لا كلّ واحد منها على سبيل الاستغراق ، ولازمه أنّه إذا تعذّر القيد سقط المقيّد. وعليه فالتكاليف المؤقّتة تسقط بذهاب وقتها واحتاج ثبوت التكليف في خارج الوقت إلى أمر جديد.

وكذا كلّ عاجز عن قيد ، أو كان القيد في حقّه حرجيّا أو ضرريّا ؛ فإنّه يسقط عنه التكليف بالمقيّد إلّا أن يكون الجمع العرفي بين دليل نفي الجرح أو الضرر النافي للتكليف عن القيد وبين أدلّة التكاليف الواقعيّة هو وجوب ما عدا القيد في حال يكون القيد حرجيّا أو ضرريّا ، كما قيل : إنّ قضيّته عند الجهل بوجوب قيد أو جزء هو وجوب ما عدا المجهول وجوبه. هذا إذا استفيد وجوب مجموع القيد والمقيّد من خطاب واحد.

وأمّا إذا تكفّل كلّا منهما خطاب مستقلّ فإن كان الخطاب المشتمل على القيد شارحا مفسّرا للخطاب الآخر ، أو كان مقيّدا للخطاب الآخر ، وكان شارحا أو مقيّدا له بقول مطلق ، أم لم يكن الخطاب الآخر ذا إطلاق بالنسبة إلى غير مورد القيد فهو كالأوّل ، وإلّا بأن كان تقييده أو شرحه مختصّا بالنسبة إلى من لم يكن القيد في حقّه حرجيّا أو ضرريّا ـ مع انحفاظ إطلاقه بالنسبة إلى من كان القيد في حقّه حرجيّا أو ضرريّا ـ فحينئذ يؤخذ إطلاق الخطاب بالنسبة إلى من كان القيد حقّه حرجيّا أو ضرريّا ويحكم بوجوب ما عدا القيد أو الجزء الحرجي أو الضرري.

١٢٥

الأمر بالأمر بالشيء

الأمر بالأمر بالشيء أمر واحد بالنسبة إلى الواسطة ليأمر من قبل نفسه ، فيختصّ بما إذا كانت الواسطة واجب الإطاعة بالنسبة إلى الثالث ، فلو أمر وجب على الثالث إطاعته بما أنّ الواسطة أمره وأمره واجب الاتّباع ، ولو لم يأمر لم يجب عليه شيء إلّا إذا علم بأنّ غرض المولى من أمره بالأمر حصول الفعل من ذلك الثالث فوجب عليه الفعل حينئذ من باب وجوب تحصيل غرض المولى.

هذا ما يقتضيه الجمود على ظاهر عبارة الأمر بالأمر ، ولكنّ المتعارف الشائع في الأمر بالأمر هو إرادة الأمر بتبليغ أمره إلى الثالث ، فتكون العبارة منحلّة إلى أمرين : أمر بالنسبة إلى الواسطة ـ وهو أمره بتبليغ أمره وحمله إلى الثالث ـ وأمر بالنسبة إلى الثالث بأصل الفعل فوجب الفعل حينئذ على الثالث بعنوان إطاعة أمر المولى الأوّل.

ولا يختصّ وجوب الفعل بما إذا بلّغ الواسطة أمر المولى ، بل إذا علم الثالث به وجب عليه الفعل ـ سواء بلّغ الواسطة أمر المولى ، أم لا ـ إلّا إذا علم دخالة تبليغه في وجوب الفعل. ومن هنا ذهب الأخباريّون إلى عدم وجوب متابعة ما يقطع من أحكام الشرع بغير واسطة تبليغ الصادقين عليهم‌السلام ، فكأنّ الشارع أراد الأفعال الخاصّة من الطرق الخاصّة.

١٢٦

النواهي

١٢٧
١٢٨

النواهي

النهي بمادّته وهيئته كالأمر ، إلّا أنّ ذلك بعث إلى المتعلّق وإن كان تركا كخطاب «أترك» ، وهذا زجر وإمساك عن الإتيان بالمتعلّق وإن كان فعلا كخطاب «لا تترك». فصيغة «أترك» أمر ، وخطاب «لا تترك» نهي. وبذلك بطل الفرق بينهما بأنّ الأمر طلب للفعل والنهي طلب للترك ، فإنّ الأمر قد يكون لطلب الترك كما قد يكون النهي لطلب الترك. فليس الفرق بين الصيغتين من جهة متعلّق الطلب بل من جهة نفس الطلب وكونه في أحدهما خطاب بعث وفي الآخر خطاب زجر.

واعلم أنّ كلّ ما وقع الترك تحت الطلب ـ سواء كان بصيغة الأمر أو كان بصيغة النهي ـ خلت الهيئة عن الدلالة على الطلب بمعنى الإرادة للترك ؛ إذ الترك لا يكون عن إرادة وإنّما الإرادة تتعلّق بالفعل وتختصّ بالفعل ، وكفى في الترك عدم الإرادة للفعل.

نعم ، النهي ناشئ عن درك فساد الفعل المنهي عنه ومنافرته وليس كترك الفعل بالمباشرة ؛ فإنّه يكفي فيه عدم الإرادة للفعل ـ فكلّ نهي ناشئ عن أمر وجودي وهو النفورة كما أنّ كلّ أمر ناشئ عن أمر وجودي وهو الملازمة ـ وأمّا الإرادة للترك فلا ؛ وكيف تتعلّق الإرادة بالترك وتؤثّر فيه مع أنّ الترك أمر عدمي ، والعدم لا يحتاج إلى العلّة؟! وأيضا الإرادة أمر وجودي والوجود لا يكون مؤثّرا في العدم. فجميع التروك بالمباشرة متروكة لعدم وجود علّة وجودها ، وجميع التروك بالتسبيب ومن جهة خطاب النهي ، فمنشؤها أمر وجودي هو نفوره الفعل وهو الذي أوجب نهى المكلّف وردعه عن الفعل وقطع دواعيه وصدّه عن مشتهياته.

١٢٩

وإن شئت فسمّ ما هو المؤثّر في نهي المولى عن الفعل بالكراهة ـ أعني كراهة الفعل ـ مقابل الحالة المؤثّرة في أمر المولى ـ وهي الميل وملاءمة الفعل ـ وكلا الطلبين الإنشائيّين ـ أعني الأمر والنهي الناشئين من المنشأين اللذين عرفتهما ـ في حدّ سواء في وجوب إطاعتهما عقلا.

وهذا الذي ذكرناه هو الشبهة التي أوردوها في المقام ، وهي أنّ الإرادة كيف تتعلّق بالترك في مورد النواهي مع أنّ الترك لا يكون بإرادة واختيار ، فالشبهة في إرادة المولى في مقام الطلب لا في إرادة العبد في مقام الامتثال وأنّ تركه ليس بالإرادة والاختيار. فكيف يكون مع ذلك موردا لطلب المولى؟! حتّى يجاب عنها تارة بأنّ الترك يكون بالاختيار ويكون الفعل بالاختيار والإرادة لا بإرادة متعلّقة بالترك ، ويلتجئ آخر بجعل متعلّق الطلب في النواهي هو الكفّ ، وهو أمر وجودي قلبي يلزمه الترك بالجوارح.

مع أنّه مردود أوّلا : بأنّه قد لا يكون فعل قلبي في امتثال النواهي بل كان مجرّد الترك المطلق.

وثانياً : ليس الكفّ أمرا وجوديّا ، بل عنوان للترك الخاصّ المقارن مع ميل النفس مقابل الترك المطلق الأعمّ الشامل له وللترك الآخر غير المقارن لميل النفس.

لا بدّ في الطلب أن يكون متعلّقا بأمر اختياري من فعل أو ترك. فالجزئي الحقيقي لا يكون متعلّقا للطلب ؛ إذ الجزئي لا يصير جزئيّا إلّا بالوجود ، وكلّ فعل وجود فقد خرج عن تحت الاختيار ، كما أنّه كلّ ما لم يوجد فهو كلّي وإن قيّد حتّى ينحصر مصداقه في واحد.

هذا في الفعل المتعلّق للتكليف.

وأمّا موضوع التكليف ـ أعني المفعول به للفعل المتعلّق للتكليف ـ فذاك قد يكون جزئيّا وقد يكون كليّا. وعند ما يكون جزئيّا ـ سواء كان خاصّا ك «أكرم زيدا» أو عامّا ك «أكرم كلّ عالم» ـ لا يخرج الفعل المتعلّق للتكليف عن كونه طبيعة كلّيّة ؛ إذ الكلّي لا يخرج عن كلّيّته بالإضافة إلى جزئي حقيقي ك «أكرم زيدا».

وحكم الجميع إذا كان الخطاب خطاب نهي هو : أنّ المتعلّق للطلب إن كانت طبيعة عامّة غير متخصّصة بخصوصيّة ـ كما في «لا تشرب الخمر» ـ كان الواجب في مقام الامتثال ترك تمام أفراد تلك الطبيعة حتّى يحصل ترك الطبيعة ، ولولاه لصدق الإتيان بتلك الطبيعة

١٣٠

وحصل معصية خطابها ولو بإتيان فرد واحد من تلك الطبيعة وسقط الخطاب ، وجاز من بعد ذلك الإتيان بسائر الأفراد.

ومثله الحال لو كان النهي متعلّقا بطبيعة أضيفت إلى مجموع الأفراد من حيث المجموع ، وفي هذه الصورة الأمر يشارك النهي.

وأمّا إذا كان متعلّق الطلب طبيعة أضيفت إلى الأفراد على سبيل الاستغراق انحلّ النهي إلى نواه متعدّدة حسب تعدّد الأفراد. وحينئذ فإذا عصى النهي في فرد لم يوجب ذلك سقوطه بالنسبة إلى فرد آخر والنواهي الواردة في الشريعة كلّها من هذا القبيل ، وإن كان ظاهر خطابها أنّها من قبيل الأوّل ؛ وذلك للإجماع بل الضرورة على عدم سقوط خطاب النهي بمعصيته في فرد.

وتوهّم أنّ ذلك لأجل إطلاق خطاب النهي المتوجّه إلى الطبيعة (١) يضعّفه : أنّ التمسّك بإطلاق الخطاب لما بعد المعصية كالتمسّك بإطلاقه لما بعد الإطاعة في الفساد والبطلان ؛ فإنّ الإطاعة والمعصية مسقطتان للتكليف دافعتان له ، فأيّ معنى لإطلاق التكليف واستمراره لما بعدهما؟!

وأيضا أنّ الإطاعة والمعصية حالتان مترتّبتان على التكليف ، فكيف تؤخذان في متعلّق التكليف؟! مع أنّ إطلاق الخطاب لما بعد المعصية مشتمل على الخلف وعدم كون المعصية معصية.

ولا يسع أن يقال : إنّ المعصية معصية لطلب متعلّق بترك ما أتاه مع بقاء الطلب فيما عداه ؛ وذلك لأنّ انحلال الخطاب إلى تكاليف متعدّدة يكون ببركة هذا الإطلاق إن صحّ ، فكيف يصحّح به الإطلاق؟!

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٥٠.

١٣١

اجتماع الأمر والنهي

لا ريب في امتناع اجتماع الأمر والنهي بمعنى عروضهما على محلّ واحد لا تعدّد فيه بوجه. وإنّما الكلام إذا تعدّد الوجه والعنوان ؛ لشبهة أنّ ذلك رافع للاستحالة الذاتيّة ويخرج بذلك عن الاجتماع في المعروض الواحد ـ بل كلّ عارض على عنوان غير ما عرض عليه الآخر ـ أو أنّ الاستحالة لا ترتفع لأنّ المعروض واحد ـ وهو المعنون دون العنوان ، وإنّما العنوان إشارة إلى الخارج المعنون ـ أو أنّ الاستحالة الذاتيّة وإن ارتفعت بذلك إلّا أنّ الاستحالة بالغير ومن جهة لزوم التكليف بالمحال باقية ؛ لعدم قدرة المكلّف على امتثال الخطابين في المجمع ، وقدرته على الامتثال في غير المجمع لفرض المندوحة لا يرفع المحذور عن المجمع ، ولا يصحّح توجّه الطلبين إلى المجمع.

وتحقيق الحال وتوضيح محلّ النزاع هو : أنّا إذا لاحظنا خطا بين تكليفيّين توجّه إلينا فتارة نرى التباين بين موضوعيهما كما في «صلّ» و «لا تشرب الخمر» ، وأخرى نرى الاتّحاد والعينيّة التامّة كما في «صلّ» و «لا تصلّ» ، وثالثة نرى اتّحادا من جهة واختلافا من أخرى ، فإمّا اتّحادا في الماهيّة واختلافا في الوجود أو بالعكس.

لا إشكال في خروج ما عدا القسم الأخير عن محلّ الكلام. وإنّما الكلام في هذا الأخير ، ففي محلّ البحث ينبغي المحافظة على كلمتين ـ أعني تعدّد الماهيّة واتّحاد الوجود ـ فإذا اتّحدت الماهيّة لم يكن إشكال في الامتناع ، أو [إذا] تعدّد الوجود لم يكن إشكال في الجواز.

١٣٢

والبحث تارة مترشّحة من الاختلاف في متعلّق الأوامر والنواهي وأنّه الطبائع أو الأفراد ، فيكون البحث صغرويّا راجعا إلى أنّ المتعلّقين هل هما متّحدان ليستحيل باستحالة ذاتيّة ، أولا؟. فالقائل بتعلّقها بالأفراد يقول : نعم ، والقائل بتعلّقها بالطبائع يقول : لا.

وأخرى مستقلّة راجعة إلى البحث عن الاستحالة بالغير ومن جهة لزوم التكليف بما لا يطاق ، وعدم استحالته.

والمانع تكفيه إحدى الجهتين ، والمجوّز لا بدّ له من سدّ كلتا الجهتين. وموضوع البحث لا يختصّ بأمر ونهي خاصّ ، بل يعمّ كلّ الأوامر والنواهي من النفسيّين والغيريّين والتعيينيّين والتخييريّين والعينيّين والكفائيّين ؛ بل الأمر والنهي عنوان مطلق الطلبين ولو كانا متماثلين.

نعم ، الظاهر أنّ النهي التخييري غير معقول ؛ فإنّ المنهي عنه إن كان هو الجامع اقتضى النهي عنه ترك تمام الأفراد ، وليس كالأمر بالجامع يقتضي التخيير بين أفراده عقلا ، وإن كان هو الأفراد تخييرا كان مرجعه إلى النهي التعييني عن الجمع بين الأطراف في الوجود ، فلا مانع حينئذ عن الإتيان ببعض الأطراف ، فإذا لم يكن منه مانع جاز أن يتّحد مع المأمور به. فإذا أمر بالصلاة والصوم تخييرا ونهي عن المجالسة مع الأغيار والدخول في الدار كذلك ، جاز أن يصلّي في الدار لفرض جواز دخولها ، فما المانع عن الصلاة فيها؟ نعم ، لو صلّى في الدار جالسا في الصلاة مع الأغيار كان ذلك من اجتماع الواجب مع الحرام التعييني ، كما أنّه لو كان جالسا مع الأغيار سابقا حتّى تعيّن عليه ترك الدخول في الدار لم يجز له أيضا أن يصلّي فيها ، وكان ذلك أيضا من اجتماع الواجب مع الحرام التعييني.

ثمّ إنّه يمكن التعبير عن مسألة واحدة بتعبيرات مختلفة كان مال كلّها إلى معنى واحد ، فتارة يقال : هل يجوز اجتماع الأمر والنهي ، أولا؟ وأخرى يقال : مع توجّه النهي هل يبقى أمر ، أولا؟ وعلى هذا فقد يتوهّم أنّ مرجع هذه المسألة ومسألة اقتضاء النهي للفساد إلى واحد واختلافهما في التعبير فقط ، فتعبير المقام كما في الأوّل وتعبير تلك المسألة كما في الثاني.

نعم ، ذلك بالنسبة إلى شطر العبادات فإنّ اقتضاء النهي للفساد وعدمه من لوازم ارتفاع الأمر العبادي بتوجّهه وعدمه ، فمال البحث في اقتضاء النهي للفساد إلى البحث عن اجتماع الأمر والنهي ، أو أنّ الأوّل يزول بتوجّه الثاني أو لا يزول.

١٣٣

وتوهّم عدم دوران الصحّة مدار الأمر بل كفاها الملاك (١) ، مدفوع بأنّ كفاية الملاك ـ عند من يزعمه ـ مختصّ بما إذا لم يكن نهي كما في المقام.

ويمكن التفرقة بين المسألتين بأنّ النزاع في المسألة الآتية في أنّ النهي المتوجّه إلى عبادة خاصّة ـ كالصلاة في الحمّام ـ هل هو نهي عن الخصوصيّة ، أو نهي عن المتخصّص بالخصوصيّة وعن حصّة من الصلاة حاصلة تحت تلك الخصوصيّة؟ فعلى الثاني نافى الأمر بتلك الحصّة ، ولذا تقع فاسدة ؛ لأنّ هذه الحصّة مبغوضة فلا تصلح لأن يتقرّب بها. وعلى الأوّل تكون صغرى لهذا البحث ومن جزئيّاته المندرجة فيه ؛ لعموم هذا البحث لكلّ ذي عنوانين كان بأحدهما موردا للأمر وبالآخر موردا لنهي ، سواء كان بينهما عموم مطلق أو عموم من وجه.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ حفظ حيثيّة البحث ـ وكون البحث بحثا عن عنوان الاجتماع ـ يقتضي أن يكون المقتضي والمناط لكلّ من التكليفين موجودا تامّا ـ والنزاع في جواز تأثير كلّ منهما واجتماعه مع تأثير الآخر ولا جوازه ـ فأمّا لو لم يكن مناط شيء منهما موجودا ، أو كان الموجود مناط واحد معيّن منهما دون مناط الآخر فخارج عن محلّ البحث وحكمهما واضح. وكذلك لو كان الموجود أحدهما لا على التعيين. والدليلان الدالّان على الحكمين في مثل هذه الصورة يعدّان متعارضين بخلاف الدليلين الدالّين على الحكمين مع وجود مناطيهما في المجمع ؛ فإنّهما يعدّان متزاحمين. ويمتاز كلّ من التعارض والتزاحم عن صاحبه بمميّزين :

الأوّل : أن علاج التزاحم على القول بامتناع الاجتماع يكون بقوّة الملاك ، فيؤخذ بأقوى الحكمين مناطا وإن كان أضعفهما دليلا ، وإن لم تكن هناك قوّة يحكم بالإباحة ، وعلاج المعارضة مع عدم الجمع العرفي هو التساقط والرجوع إلى الأصل أو التخيير. هذا في غير الأخبار ، وفي الأخبار علاجه بالرجوع إلى المرجّحات ، ومع التكافؤ الحكم بالتخيير.

الثاني : أنّ في التعارض لو قدّم دليل النهي في مادّة التعارض لم يكن سبيل إلى حكم بصحّة تلك المادّة في مورد من الموارد ، وأمّا في التزاحم فربما يحكم بصحّتها ، وذلك في كلّ

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٥٧.

١٣٤

مورد سقط النهي لعذر من الأعذار إمّا جهل بالحكم قصورا أو لنسيان له أو جهل بالموضوع أو نسيانه له أو لاضطرار إليه كالمحبوس في أرض مغصوبة ؛ وذلك لأنّ الفعل باشتماله على مناط العبادة صالح لأن يتقرّب به ، وإنّما منع عن حصول القرب بقصد التقرّب به وقوعه مبغوضا ومبعّدا من المكلّف ، فإذا ارتفع هذا المحذور بشيء من الأعذار ارتفع هذا المانع ، والمفروض قصد التقرّب به فيقع مقرّبا فعليّا.

والحاصل : أنّ حصول القرب يدور مدار عدّة أمور : كون الفعل قربيّا عباديّا مشتملا على مناط التعبّد ، وقصد التعبّد به ، وأيضا عدم وقوعه مبغوضا فعليّا من المكلّف ، والمفروض أنّ كلّها حاصلة فيقع مقرّبا فعليّا من المكلّف. هكذا قيل.

والتحقيق عندي عدم الميز بين البابين في شيء من الأمرين ؛ أمّا اختصاص التعارض بالرجوع إلى المرجّحات ـ إذا كان ذلك في الأخبار أو مطلقا ـ فيمكن منعه بأنّ المستفاد من أدلّة العلاج الأخذ بأقوى الروايتين سندا مطلقا ـ حتّى فيما إذا كان المقتضي لكلا الحكمين موجودا ـ فلعلّ الشارع علم أنّ أقوى الدليلين سندا هو الأقوى مناطا ، أو أنّ الأقوى سندا وإن كان أضعف مناطا إلّا أنّ مناطه يقوى بقوّة مناط تصديق سنده على مناط تصديق سند الآخر. وهذا يناسب مسلك السببيّة في الأمارات.

وأمّا الحكم بصحّة المجمع في باب التزاحم في غير مورد من الموارد دونه في باب التعارض ، فيدفعه أنّه لا وجه للحكم بالصحّة. ومجرّد الاشتمال على مناط الأمر لا يجدي في صلاحيّة التقرّب بعد مغلوبيّته في جنب مناط النهي ؛ فإنّ المناط المغلوب صفر بموازنة ما يوازيه من مناط الغالب ، والباقي في الفعل الموجب لوقوع الفعل على صفته هو الباقي من مناط الغالب الخالي عن المزاحم ، وهو مقدار زيادته على مناط المغلوب. فكأنّ في الفعل ليس إلّا هذا المناط الباقي ، والباقي صفر ، فكما لو لم يكن في الفعل إلّا هو لم يقع الفعل صحيحا في شيء من الأحوال فكذلك في هذا المجمع حرام خالص ليس فيه مناط التعبّد.

ويشهد لما ذكرناه أنّ المجمع مع تساوي المناطين يقع على صفة الإباحة ـ إباحة واقعيّة لا يصلح للتقرّب في شيء من الأحوال ـ فلو صدق ما ذكروه هنا لجرى مثله في ذلك ، بل كان ذلك أولى بالصحّة ممّا غلب فيه مناط النهي.

إذا تمّت لك هذه المقدّمات فاعلم أنّا قد أشرنا في صدر المقام إلى أنّ للبحث في المقام

١٣٥

جهتين : فتارة يبحث في إمكان الاجتماع واستحالته ذاتا ، وأخرى في إمكانه واستحالته بالغير ومن جهة كونه تكليفا بالمحال ، فيستحيل صدوره من الحكيم ، وفي هذا يعتبر المندوحة إخراجا له عن التكليف بالمحال.

فعلينا أن نشرح البحث في كلّ من الجهتين مستقلّا كي لا يختلط كلام بكلام. ونعتذر إليك أمام البحث عمّا يقع من التكرار لبعض ما تقدّم في الأبحاث السابقة ؛ فإنّ ذلك حرص على اجتماع جميع جهات الكلام في المقام كي لا يفوت أمر بتفرّقها.

فنقول : أمّا الجهة الأولى ـ أعني البحث عن إمكان الاجتماع واستحالته ذاتا ـ فهو بحث ناشئ عن الاشتباه في متعلّق الطلب ، وأنّه هل يتعلّق بالوجود أو يتعلّق بالماهيّة؟ وبعبارة أخرى تخصّصات الوجود وحدوده يشمل الحدّ الذاتي والعرضي ، فهل الوجود بحدوده متعلّق الحكم ، أو متعلّق بحكم نفس الوجود وذاته؟

فإن كان الأوّل فالوجود واحد وهو لا يتحمّل حكمين ، وإن كان الثاني فالحدود متعدّد ـ وإن اجتمعا في وجود واحد وكانا جميعا حدّي وجود واحد ـ والعبرة في الجواز والامتناع على وحدة معروض الحكم وتعدّده لا على وحدة ما هو الخارج عن هذا المعروض وتعدّده.

والحقّ في المقام هو أنّ متعلّق الطلب تحديد الوجود لا إحداثه وجعله ، فلا بأس بالاجتماع بل ليس باجتماع في معروض واحد.

والذي يدلّك على ذلك وجوه :

الأوّل : أنّ ما يصدر منّا من الأفعال ليس إلّا تحديد الموجودات ، والتصرّف في الموجودات ، وإخراج موجودات هذا العالم من حدّ إلى حدّ ، ومن كساء إلى كساء دون إحداث الوجود وخلقه ؛ فإنّ ذلك خارج من وسعنا ولا تتعلّق به قدرتنا ، وما لا تتعلّق به القدرة لا يتعلّق به الطلب من المولى ولا الإرادة من النفس ، فشغلنا تبديل الصيغة وحركة الموجودات ونقلها من حدّ إلى حدّ ومن مرتبة إلى مرتبة.

والسائر في تمام المراتب أصل محفوظ لا يعتريه كثرة ، وواحد متّصل ليس له انفصام ، وهو حاصل لا بتحصيلنا ، ففي مثال «صلّ» و «لا تغصب» تحديد البدن بالحركات الصلاتيّة واجب ، وتحديده بالحركات الغصبيّة حرام. فإذا صلّى في الدار المغصوبة فمطابق كلمة الصلاة حدّ غير الحدّ الذي هو مطابق كلمة الغصب ، ومطابق الأوّل مأمور به ومطابق الثاني

١٣٦

منهيّ عنه ، فإذا جمعهما المكلّف في حركته فذات الحركة ومتنها بما هي حركة لا محبوبة ولا مبغوضة ، وإنّما المبغوض والمحبوب حدّاها ، والحدّان اثنان ، ولذلك لا ينتزع من أحدهما ما ينتزع من الآخر.

وكذلك في مثل «أكرم العالم» و «لا تكرم الفاسق» بالنسبة إلى مادّة الاجتماع ؛ فإنّ الامتثال يكون بحدّ كون الإكرام ، إكرام العالم ، والمعصية بحدّ كونه إكرام الفاسق ، والحدّان متعدّدان وإن كان المحدود بهما واحدا.

الثاني : أنّ المصالح والمفاسد والأغراض والمقاصد قائمة بالحدود ، وأصل الوجود ومتنه عار من كلّ ذلك ، وإلّا اشتركت عامّة الوجودات في الأغراض ، وهو باطل. فإذا كانت المصالح قائمة بالحدود قام الطلب أيضا بها ؛ فإنّه معلول منها تابع لها ، يقوم بما تقوم به بلا تخلّف قيد شعرة ، ويضع قدمه موضع قدمها بلا تخطّ مقدار إبرة.

الثالث : اشتمال الواجبات على الخصوصيّات المباحة ، فإنّه شاهد قويّ على جواز الاجتماع ؛ إذ لو لاه لم تجتمع الإباحة أيضا مع الوجوب ، فإنّ التضادّ عامّ لسائر الأحكام ، ودعوى وجوب واحد من تلك الخصوصيّات على البدل خروج عن الفرض من كون الواجب هو الواحد الجامع دون شيء من الخصوصيّات ، وأنّ التخيير بين الخصوصيّات ثابت بحكم العقل في موضوع خطاب الشارع لذلك الواجد الجامع ؛ إلّا أن يراد من الإباحة في المقام عدم الحكم والإلزام من الشارع بشيء من الخصوصيّات لا الحكم بالإباحة.

وأمّا الجهة الثانية ـ أعني البحث عن إمكان الاجتماع واستحالته بالغير ومن جهة لزوم التكليف بما لا يطاق ـ إذ التكليفان المتوجّهان إلى العنوانين المتصادقين الساريين إلى المجمع تبع سراية متعلّقيهما مجتمعان في المجمع ، ومال اجتماعهما في المجمع إلى التكليف بالمحال. ولا يرفع محذور التكليف بالمحال وجود المندوحة ؛ إذ المندوحة يرفع محذور التكليف بالمحال في مورد المندوحة لا في مادّة الاجتماع.

والأصل في هذا الباب أنّ التكليف إذا توجّه إلى طبيعة على انبساطها وسرايتها إلى المصاديق هل يجوز من دون دخول الأفراد المنبسط فيها جميعا تحت القدرة ـ فلو خرج فرد عن القدرة حصل بسببه قصر في الطبيعة المأمور بها وصارت الطبيعة بقيد كونها في ما عدا ذلك الفرد مأمورا بها ، ولازمه أنّه إذا انحصر المقدور من أفراد الطبيعة في واحد صارت

١٣٧

الطبيعة بقيد كونها في ذلك الواحد مأمورا بها ـ أو أنّه لا تخرج الطبيعة الواقعة تلو الأمر عن انبساطها وسعتها باتساع القدرة في أفرادها وعدم اتّساعها ، ففرد واحد إذا كان مقدورا فهو كما لو كان كلّ الأفراد مقدورا في أنّ الطبيعة المأمور بها هي لا تزيد ولا تنقص؟

وهذا هو الأظهر عندي ؛ فإنّ الطبيعة بذاتها وجوهرها سيّالة لا تهبط عن سيلانها ، كما أنّ الشخص بعكس ذلك راكد جامد لا يزول عن جموده ما دام شخصا ، فلحاظهما على صفتي السريان والجمود لحاظ لهما على ما هو ثابت في ذاتيهما. وأمّا كثرات الأفراد فهي خارجة عن تحت الطلب ، وما هو خارج عن تحت الطلب لا يؤثّر فيما هو داخل ، وما هو داخل واحد لا كثرة فيه ، ومتعلّق واحد لا يتحمّل إلّا حكما واحدا ، وحكم واحد لا يستدعي إلّا قدرة واحدة. ولازم ذلك عدم اختلاف الحال باتّساع القدرة في دائرة الأفراد وعدم اتّساعها إذا كان مورد التكليف أمرا وراء الأفراد ، فلئن عمّت القدرة جميع الأفراد أو خصّت فردا واحدا كان الأمر بالطبيعة ذلك الأمر بلا توسعة ولا تضييق.

نعم لا نتحاشى من أن تجمع طبائع متعدّدة في عبارة واحدة ، ثمّ يؤمر بالجميع على وجه ينحلّ الأمر الواحد إلى أوامر ـ حسب ما وسعته القدرة وشملته العبارة ـ لكنّ ذلك خارج عن المقام من تعلّق الأمر بطبيعة واحدة. والعموم الأصولي من هذا القبيل ؛ فإنّ خطاب «أكرم العلماء» أمر بطبائع متعدّدة حسب تعدّد أشخاص العلماء ـ أعني طبيعة «أكرم زيدا العالم» الشامل لكلّ فرد من أفراد إكراماته ، وكذلك طبيعة إكرام عمرو العالم وبكر العالم وهكذا إلى آخر الأفراد ـ وليس الأمر متعلّقا بالأشخاص ؛ لما عرفت أنّ الشخص لا يؤمر به. نعم ، يكون موضوعا للحكم ومفعولا به للفعل الكلّي المتعلّق به الحكم.

وحاصل الكلام وملخّص المقام هو : أنّ سعة التكليف وعدم سعته ـ بسعة القدرة وعدم سعتها ـ إنّما يكون في العامّ الأصولي دون العامّ المنطقي المتعلّق فيه الحكم بالطبيعة الواحدة.

وانقسام العامّ إلى الاستغراقي والمجموعي والبدلي أيضا يكون في العامّ الأصولي دون العامّ المنطقي فإنّه على قسم واحد.

نعم ، يختلف اقتضاء الطلب المتعلّق بالطبيعة باختلاف أقسام الطلب حتّى يظنّ أنّ العامّ

١٣٨

بنفسه مختلف ، فيكون شموليّا تارة ك (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) وخطاب النواهي ، وبدليّا أخرى كخطاب الأوامر.

فقد تحصّل ألا مانع من اجتماع الأمر والنهي ـ حتّى من جهة لزوم التكليف بالمحال ـ إذا كانت هناك مندوحة ؛ فبالمندوحة جاز توجيه الطلب إلى طبيعتين متصادقتين.

ثمّ الطبيعتان في ذاتهما ساريتان لا أنّهما بما هما ساريتان وجّه إليهما الطلب ليلزم التكليف بالمحال في المجمع ولا تجديه المندوحة ، ووجود مادّة الافتراق من جهة أنّ مادّة الافتراق تصلح موردها لا مورد الاجتماع ؛ فإنّ القدرة من فرد واحد من الطبيعة تصحّح الأمر بالطبيعة.

ثمّ يجوز امتثاله في الفرد المحرّم من غير أن يكون الفرد المحرّم بشخصه تحت الطلب كعدم كون الفرد المحلّل أيضا بشخصه تحت الطلب ، فكلّ أشخاص الأفراد منعزلة عن تعلّق الطلب وإنّما الطبيعة السيّالة في جميعها هي تحت الطلب.

فحصّل مجموع المقامين جواز اجتماع الأمر والنهي وعدم استحالته ذاتا ولا بالغير.

أمّا الأوّل فلتعدّد متعلّق الطلبين ، وهما الطبيعتان ، وأمّا الثاني فلعدم توجّه الطلبين إلّا بذات ما هو سار في الأفراد ومنه المجمع ، لا به بقيد السريان ليلزم في حصّة المجمع طلب المحال.

خاتمة :

إذا حصل الاضطرار إلى ارتكاب الحرام أو ترك الواجب ـ بسوء الاختيار ، أو لا بسوء الاختيار ـ سقط الطلب لا محالة ؛ لأنّ الطلب لا يتعلّق بأمر غير اختياري وإن كان الامتناع بالاختيار. وما قيل من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار فإمّا باطل أو مؤوّل بإرادة ترتّب تبعات الفعل الاختياري أو غير ذلك.

وإذا حصل الاضطرار إلى ارتكاب أحد الحرامين ، أو ترك أحد الواجبين ، أو إلى فعل حرام ، أو ترك واجب ، فمع ثبوت أهميّة في أحدهما يتنجّز خطاب الأهمّ ، ومع المساواة

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٧٥.

١٣٩

يحكم بالتخيير في العمل مع ثبوت العقاب على معصيته الآخر إن كان الاضطرار بسوء الاختيار.

ومن جزئيّات المقام من توسّط أرضا مغصوبة أو ارتمس في ماء مغصوب فاضطرّ إلى ارتكاب [أحد] الحرامين ـ من البقاء والخروج ـ فهل يقع الخروج مبغوضا منهيّا عنه ، أو بلا نهي ، أو يقع محبوبا لانطباق عنوان التخلّص عن الحرام الأشدّ عليه؟ إشكال.

هذا فيما إذا كان الدخول بسوء الاختيار ، وإلّا وقع الخروج محبوبا قولا واحدا.

وليعلم أنّ الخلاف في المسألة فيما يجب على المولى رعايته عقلا في باب التكليف ، بعد الاتّفاق على أنّه يجب على العبد التخلّص عن الحرام عقلا من باب لزوم اختيار أخفّ القبيحين عند دوران الأمر بينهما ، وبعد الاتّفاق على أنّ كلّا من البقاء والخروج مشتمل على مناط التحريم ، وبعد الاتّفاق على عموم خطاب النهي لكلّ من البقاء والخروج قبل أن يضطرّ إلى أحدهما ، فيبحث عن أنّه إذا حصل الاضطرار بسبب التوسّط فهل الخطاب التحريمي بالنسبة إلى الخروج ينقلب إلى الخطاب الإيجابي ، أو لا ، بل يقع الخروج مبغوضا ومعاقبا عليه؟

الذي ينبغي أن يقال : إنّ ما اضطرّ إليه الشخص بعد التوسّط في الأرض المغصوبة هو الغصب بمقدار زمان الخروج إن خرج أو بقي ، فبالنسبة إلى الغصب في هذا المقدار من الزمان لا يبقى خطاب تحريمي.

وأمّا وقوعه معصية للخطاب السابق الساقط فمبني على أنّ التصرّف الزائد عن هذا المقدار هل هو تحت تحريم فعلي أم لا؟

فإن قلنا : نعم ، لم يعقل بقاء الخروج على صفة المبغوضيّة وإلّا كان التكليف بترك التصرّف الزائد قبيحا ؛ إذ لا فرق في لزوم القبح بين أن يكون الخروج منهيّا عنه فعلا أو مبغوضا معاقبا عليه. وكيف يعقل أن يكلّف بترك البقاء ثمّ يعاقب على الخروج؟! سواء قلنا بأنّ الخروج مقدّمة لترك البقاء أم لم نقل!

وإن قلنا : لا ، كان جميع ما يقع منه بعد الدخول من البقاء والخروج مبغوضا غير متّصف بصفة الحرمة الفعليّة من غير فرق بين البقاء بمقدار زمان الخروج وبين البقاء أزيد من ذلك ، لكن لا وجه لسقوط النهي عن التصرّف الزائد ؛ لعدم اضطرار المكلّف إلى ذلك ، بل يجب

١٤٠