الأصول في علم الأصول - ج ١

ميرزا علي الإيرواني النجفي

الأصول في علم الأصول - ج ١

المؤلف:

ميرزا علي الإيرواني النجفي


المحقق: محمّد كاظم رحمان ستايش
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-424-879-1

الصفحات: ٢٠٠
الجزء ١ الجزء ٢

ويمكن الاستدلال لإبطال الوجوب الغيري بوجهين ينهض أحدهما لإثبات الوجوب النفسي أيضا.

الأوّل : أنّه لو وجبت المقدّمات بوجوب مستقلّ عدا وجوب ذيها لزم على سبيل منع الخلو إمّا اختصاص الوجوب بمجموع المقدّمات من حيث المجموع دون كلّ جزء من أجزائها ، أو لا تناهي الوجوب بلا تناهي أجزاء المقدّمة وانقسامها ، وكلاهما باطلان ، فالمقدّم باطل.

أمّا بطلان الأوّل فلأنّ الأجزاء مشتركة مع الكلّ في عنوان المقدّميّة ومناط الوجوب ، فلا وجه لاختصاص الوجوب بالكلّ ، وأمّا بطلان الثاني فواضح.

الثاني : أنّه لو وجبت المقدّمات بوجوب مستقلّ غيري ، فإمّا أن يكون ذلك لغرض التمكّن من ذيها برفع الاستحالة التي هي في عدمها ، أو يكون ذلك لغرض الوصول الفعلي.

فإن كان الأوّل ، كان ذلك قولا بالوجوب النفسي لغاية التمكّن ، بلا نظر إلى حصول الوصول الفعلي إلى ذي المقدّمة ، وهو باطل.

وإن كان الثاني ، كان الغرض بالاخرة هو ما في ذي المقدّمة من الغرض الموجب لإيجابه ؛ فإنّ غرضا واحدا لا يوجب إرادات شتّى ، بل إرادة واحدة متعلّقة بمجموع ما هو المحصّل للغرض ، فلا يكون تعدّد في الغرض ولا تعدّد في الإرادة. وذلك هو ما قلناه.

خاتمة :

لا أصل في المسألة يكون مرجعا لدى الشكّ.

نعم ، لو شكّ في الوجوب النفسي كان الأصل البراءة ، توضيحه : أنّ الملازمة بين الوجوبين لا حالة سابقة يقينيّة لها نفيا وإثباتا حتّى تستصحب. ولو سلّم لا أثر شرعي مترتّب عليها. وثبوت أحد المتلازمين عند وجود الآخر ليس أثرا للملازمة ليصحّ الاستصحاب بالنظر إليه عند كونه حكما شرعيّا.

وأمّا وجوب المقدّمة وجوبا غيريّا فهو وإن كان مسبوقا بالعدم حين لم يجب ذوها ، إلّا أنّ أدلّة الاستصحاب شأنها الجعل الاستقلالي دون الجعل التبعي. ولو أريد إثبات حكم تبعي

١٠١

بالأصل أو نفيه لم يكن بدّ من إجراء الأصل في المتبوع ثمّ ينتفي الحكم في التابع ، أو يثبت بتبعه لا بإجراء أصل مستقلّ ، وهذا في المقام لا سبيل إليه ؛ لأنّ المتبوع قطعي الوجوب ومع ذلك شكّ في التابع لأجل الشكّ في الملازمة. وإنّما يتيسّر هذا حينما كان الشكّ في الوجوب التابع ناشئا من الشكّ في وجوب المتبوع.

والحاصل : لسان أدلّة الأصول لسان جعل استقلالي غير متولّد من جعل آخر ، فالحكم الذي ينشأ بهذا اللسان هو حكم استقلالي لا تبعي. وإنّما يعقل إثبات الحكم التبعي بالأصل حيثما يكون الأصل جاريا في المتبوع ، فيتبعه الحكم في التابع ، دون المقام الذي حكم المتبوع فيه معلوم ، ومع ذلك شكّ في التابع.

١٠٢

الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه

الحقّ أنّ النهي عن الضدّ ليس الأمر بضدّه ولا جزئه ولا لازمه ولا ملازمه ، بل ينفكّ أحدهما عن الآخر سواء في الضدّ الخاصّ والعامّ.

والمراد بالضدّ العامّ إمّا ما يشمل النقيض فيكون توصيفه بالعموم لأجل هذا الاعتبار ، وهو شمولاه لكلّ من الضدّ الاصطلاحي أعني الأضداد الوجوديّة والنقيض ، أو المراد به خصوص النقيض ، وتوصيفه بالعموم باعتبار عموم مضادّة نقيض كلّ شيء مع عين ذلك الشيء بخلاف الأضداد الخاصّة ؛ فإنّ المضادّة فيها بين أشياء خاصّة وليس ضدّ شيء ضدّا لكلّ شيء. ولنحرّر الكلام في مقامين :

المقام الأوّل : في الضدّ العامّ

وفي هذا يتكلّم تارة في الاقتضاء بمعنى العينيّة ، وأخرى في الاقتضاء بمعنى الجزئيّة ، وثالثة في الاقتضاء بمعنى الملازمة ، ورابعة في الاقتضاء بمعنى الاستلزام.

أمّا الاقتضاء بمعنى العينيّة فبيانه هو أنّ النهي عبارة عن طلب ترك الشيء ، كما أنّ الأمر عبارة عن طلب فعل الشيء. وكلّ شيء فهو ترك لتركه ، فالأمر طلب لترك تركه ، فكان عين النهي عن الضدّ العامّ الذي هو الترك. وأيضا أنّ الأمر بالشيء كما أنّه بعث نحو الشيء ، كذلك صرف للمكلّف عن ترك ذلك الشيء ، فإنّك إذا أشغلت أحدا بعمل فقد أشغلته عن نقيض ذلك العمل ، وكما أنّك وجّهته إلى جانب ذلك العمل كذلك صرّفته عن نقيض ذلك العمل.

١٠٣

فكان البعث الواحد بعثا وزجرا ، بعثا نحو المطلوب وزجرا عن نقيض المطلوب.

ومنه يظهر أنّ العينيّة من الطرفين وأنّ النهي عن الضدّ أيضا عين الأمر بالشيء.

وجوابه : أنّا نمنع كون الشيء عين ترك تركه ، وكيف يكون كذلك مع أنّ ترك الترك أمر عدمي والوجود لا يصير مصداقا للعدم؟!

وقد أنكر الأستاذ العلّامة العينيّة في المقام (١) مع اعترافه بها عند ذكر ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة (٢).

وأمّا الاقتضاء بمعنى الجزئيّة فبيانه أنّ معنى الأمر هو طلب الفعل مع المنع من الترك فكان المنع من الترك جزء معنى الأمر.

وجوابه : منع الجزئيّة وأنّ الطلب بسيط غير مركّب ، والإيجاب من العقل في موضوع طلب المولى.

وأمّا الاقتضاء بمعنى الملازمة فبيانه أنّ وجود كلّ شيء ملازم لارتفاع نقيضه فكان طلبه ملازما لطلب رفع نقيضه.

وفيه : منع استلزام الملازمة بين أمرين الملازمة بين طلبيهما. فيجوز أن يكون أحدهما محكوما بحكم ولا يكون الآخر محكوما بذلك الحكم.

نعم ، لا يجوز أن يكون محكوما بحكم يلزم منه التكليف بالمحال كأن يوجب أحد المتلازمين ويحرّم الآخر.

وأمّا الاقتضاء بمعنى الاستلزام ـ وهو الظاهر من كلمة الاقتضاء ـ فبيانه أنّ حبّ الشيء لازمه بغض تركه ، فكما أنّ الحبّ للشيء يؤثّر في طلبه كذلك البغض لشيء يؤثّر في النهي عنه ، فكان لازم الأمر بالشيء النهي عن ضدّه.

وجوابه : منع استلزام حبّ الشيء بغض تركه. نعم ، لا يكون تركه محبوبا ، لا أنّه يكون مبغوضا. وإذا ترك فقد ترك المحبوب لا أنّه أتى بالمبغوض. فليس في موارد الحبّ لشيء أمران : الحبّ له ، والبغض لنقيضه ، كي يستتبع طلبين أمرا ونهيا ، بل حبّ فقط وعلى طبقه

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٣٣.

(٢) كفاية الأصول : ١٢١.

١٠٤

أمر ، كما أنّ في موارد البغض لشيء بغض فقط وعلى طبقه نهي.

المقام الثاني : في الضدّ الخاصّ

والاقتضاءات فيه على طبق الاقتضاءات في المقام السابق.

وبيان الاقتضاء فيه بمعنى العينيّة هو : أنّ البعث نحو الشيء إشغال للمكلّف بذلك الشيء وصرف له عن أضداد ذلك الشيء ، وصرف المكلّف عن شيء هو عين معنى النهي عن ذلك الشيء.

وجوابه : أنّ الغرض من الأمر بالشيء قد يكون هو إشغال المكلّف وإلهاؤه وصرفه عن أضداد ذلك الشيء ، لكن ليس كلّ صرف عن الشيء داخلا في النهي عن ذلك الشيء إنّما النهي هو الصرف الخاصّ ، وصرف كان من سبيل الزجر عن الفعل وطلب تركه. وطلب الفعل لغرض انتراك أضداده ليس طلبا لترك أضداده.

وبيان الاقتضاء فيه بمعنى التلازم هو ما تقدّم في الضدّ العامّ مع جوابه.

وبيان الاقتضاء فيه بمعنى الاستلزام ـ وهو عمدة ما قيل في المقام ـ هو أنّ ترك الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه ، ومقدّمة الواجب واجبة. وقد تقدّم البحث عن الأخير.

وأمّا الأوّل [أي ترك الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه] ، فيبتني على أمرين :

الأوّل : وجود التمانع بين الأضداد فيكون كلّ ضدّ مانعا عن ضدّه.

الثاني : كون عدم المانع من أجزاء العلّة ، ونتيجة المقدّمتين مقدّميّة عدم كلّ ضدّ لوجود ضدّه.

وربما يجاب عن المقدّمة الأولى بمنع التمانع بين الأضداد وإلّا لزم الدور ؛ لأنّه كلّ ضدّ يكون مانعا عن صاحبه فيتوقّف وجود كلّ ضدّ على عدم الآخر توقّف الشيء على عدم مانعة ، وعدم الآخر على وجود هذا ، توقّف عدم الشيء على وجود مانعة (١).

ولا يدفع الدور ما قيل من أنّ هذا التوقّف فعليّ من أحد الجانبين وشأني من الجانب الآخر ، وأنّ وجود أحد الضدّين يتوقّف على عدم الآخر توقّف الشيء على عدم مانعة ،

__________________

(١) راجع هداية المسترشدين : ٢٣٠ عند قوله في ثانيها ؛ نقله في كفاية الأصول : ١٣٠ أيضا.

١٠٥

وعدم الآخر لا يستند إلى وجود هذا إلّا إذا كان مقتضيه بشرائطه موجودا ، ولعلّ هذا كان محالا ؛ لأنّ وجود أحد الضدّين يلازم ارتفاع مقتضى الآخر (١).

لا لما قيل من كفاية التوقّف الشأني في لزوم محذور الدور ـ وإن لم يلزم هو بنفسه ـ وإن كان ذلك أيضا صحيحا (٢).

بل لفعليّة التوقّف في كلا الجانبين ؛ فإنّ دعوى الشأنيّة ناشئة من حسبان عدم استناد ارتفاع المعلول إلى وجود المانع إلّا في ظرف اجتماع سائر أجزاء العلّة وإلّا استند إلى عدم سائر أجزاء العلّة ، وهو توهّم فاسد ؛ فإنّه إذا ارتفع جميع أجزاء العلّة استند ارتفاع المعلول إلى جميعها ، ولا وجه لقصر استناده إلى ارتفاع سائر أجزاء العلّة ما عدا علم المانع ؛ فإنّ نسبة ارتفاع المعلول إلى ارتفاع كلّ جزء نسبة واحدة.

نعم ، لو اختصّ الارتفاع إلى جزء من أجزاء العلّة مع وجود بقيّة الأجزاء استند عدم المعلول إلى ذلك الذي ارتفع ، ولكن إذا ارتفع الجميع استند إلى ارتفاع الجميع بلا ترجيح استناد ارتفاعه إلى ارتفاع البعض على استناده إلى البعض الآخر ، فالدور بحاله لا دافع له. لكنّ نتيجة الدور خروج المانع من العلّيّة ، وعدم كون ارتفاعه من أجزاء العلّة ، لا خروج الضدّ من صفّ المانع الاصطلاحي ودخوله في المانع بمعنى آخر ، على أن ينقسم المانع على قسمين :

قسم يمنع المقتضي في تأثيره ، وأخر يزاحم الشيء ويعانده في وجوده. والمعدود عدمه من أجزاء العلّة هو الأوّل دون الثاني ، والضدّ من قبيل الثاني دون الأوّل ؛ فإنّ الحقّ أن المانع ليس له إلّا قسم واحد وهو ما يضادّ الممنوع ، ولمكان مضادّته للممنوع يمنع المقتضي في تأثيره. فأكبر مانع اصطلاحي هو الجسم المانع عن نفوذ الماء إلى الطرف المقابل ، وأنت إذا تأمّلت في مانعيّته ترى أنّ ذلك من جهة مضادّة الجسمين وعدم اجتماعهما في فراغ واحد. فإذا كان أحد الجسمين قد ملأ الفراغ بالدقائق المؤلّف منها قطرة منع ذلك من دخول ذرّات جسم آخر ـ وهو الماء في المثال في ذلك الفراغ ـ ولذلك ينفذ الماء في ذرّات جسم آخر

__________________

(١) نقله في مطارح الأنظار : ١٠٩ عن المحقّق الخوانساري.

(٢) كفاية الأصول : ١٣١ حيث قال : «إلّا أنّ غائلة لزوم توقّف الشيء على ما يصلح أن يتوقّف عليه على حالها».

١٠٦

حيث يجد بينها فراغا. ومعنى ذلك عدم إشغال المانع جميع سعة الفراغ وبقاء الفراغ خال عن شاغل لتخلخل الجسم الشاغل ، وإلّا لم يكن للماء فيه سبيل.

خاتمة :

قد ذكروا لهذا البحث ثمرة وهو بطلان عبادة صارت ضدّا لواجب أهمّ على القول بالاقتضاء ، وعدمه على عدمه.

وقد أشكل عليه بأنّ العبادة باطلة على كلّ من القولين ؛ لعدم الأمر على كلّ منهما ؛ لأنّ الأمر بالضدّين باطل ، والعبادة لا تكون بلا أمر (١).

وردّ بعدم احتياج صحّة العبادة إلى الأمر ، بل يكفي وجود مناط الأمر والمصلحة الداعية إلى الأمر. ومن المعلوم أنّ المناط باق لعدم المزاحمة بين المناطات. وإنّما المزاحمة بين الأوامر الفعليّة فيرتفع بمزاحمة الأمر بالأهمّ الأمر بالمهمّ مع بقاء مناط الأمر على حاله (٢).

والحقّ أنّ الثمرة فاسدة ، وأنّ المناط غير كاف في صحّة العبادة وقصد التقرّب منه تعالى. نعم ، يكفي مدح الفاعل على ذلك وهو غير وقوعه عبادة. فلذلك ترى أنّ كثيرا من المستحبّات الواردة في أبواب المعاشرة ومكارم الأخلاق يصدر حسنها حتّى من أهالي الملل الفاسدة ـ فضلا عن المسلمين ـ ومع ذلك لا تقع عبادة الله تعالى ؛ إذ لم تصدر بداعي التقرّب وإن صدرت بداعي حسنها. فالتقرّب منوط بقصد الطلب وبداعي امتثال الأمر.

ثمّ لو سلّمنا كفاية المناط فذلك فيما لم يوجب العمل المشتمل على المناط تفويت واجب أهمّ وإلّا منع من إتيانه العقل ، ومع منع العقل لا يقع على صفة الحسن فضلا عن التعبّد.

مع أنّ هذا مختصّ بما إذا كان الأمر بمناط في متعلّقه لا بمناط فيه.

وأيضا دعوى وجود المناط مع سقوط الأمر تخرّص ورجم بالغيب ، وأين السبيل إلى المناط والطريق إلى معرفته بعد سقوط الأمر الذي هو الطريق الكاشف عن ثبوت المناط إنّا.

والحاصل : أنّ احتمال أن يكون المناط مقدّرا بقدر الأمر قائم ـ فلا يكون مناط حيث

__________________

(١) المستشكل هو الشيخ البهائي في زبدة الأصول : ٨٢ ، (مخطوط).

(٢) كفاية الأصول : ١٣٤.

١٠٧

لا يكون أمر ولو لمانع عقلي ـ ومعه كيف يحكم بوجود المناط؟! ومجرّد أنّ الأمر متعلّق بالطبيعة من غير قيد لا يكشف عن سعة المناط بعد ورود القصر العقلي على هذا الأمر. ونمنع ثبوت الفرق بين القصر العقلي والشرعي فلا يبقى كاشف عن المناط في الثاني دون الأوّل.

الترتّب

ثمّ إنّه قد يتكلّف لتصحيح العبادة المزاحمة بالأهمّ بإثبات الأمر لها على سبيل الترتّب على الأمر بالأهمّ ، فيكون الأمر متعلّقا بالأهمّ والمهمّ جميعا. نعم ، على سبيل ترتّب الثاني على الأوّل.

ولتوضيح هذا نقدّم مقدّمة وحاصلها : أنّ الأمر بالضدّين على وجه الترتّب يكون على أقسام :

الأوّل : أن يأمر بهما على وجه يكون أمر أحدهما مرتّبا على فعليّة معصية الآخر وسقوط أمره ، فما دام أمره باق لم يعص [و] لا أمر بالنسبة إلى الآخر بل الأمر مختصّ به ، فإذا عصى وسقط جاءت نوبة الأمر بالنسبة إلى الآخر ؛ لأنّ شرطه وهو المعصية الفعليّة للأوّل قد حصل. وذلك مثل أن يأمر بالحجّ والخروج مع الرفقة في آخر أزمنة الخروج ثمّ يأمر بالإقامة والصوم إذا لم يخرج في آخر أزمنة الإمكان حتّى سقط الأمر بالحجّ.

وهذا القسم لا إشكال في جوازه ؛ إذ لا يجتمع الأمر بل في كلّ زمان ليس إلّا أمر واحد ، فإذا ذهب أحدهما جاء الآخر. والذي هو باطل هو اجتماع الأمر بالضدّين في زمان واحد طلبا ومطلوبا. فلو تعدّد زمان أحدهما ـ إمّا الطلب كما في المقام ، أو المطلوب كما إذا أمر فعلا بالقعود والقيام : القعود الآن ، والقيام غدا ـ لم يكن بذلك بأس.

الثاني : أن يأمر بأحدهما مطلقا وبالآخر معلّقا على شرط وقد حصل ذلك الشرط.

وهذا باطل ؛ إذ في وعاء تحقّق الشرط يتوجّه الأمران وهو باطل ، ولا يصحّحه تعليق أحد الأمرين على فعل اختياري ، والمكلّف باختياره أتى بذلك الفعل ؛ فإنّ امتناع التكليف بالمحال لا يرفعه كون ذلك بالاختيار فلذا لا يجوز الأمر بهما جميعا ، أو بفعل آخر غير اختياري معلّقا على فعل اختياري.

١٠٨

الثالث : أن يأمر بأحد الضدّين مطلقا وبالآخر معلّقا على عدم ثبوت التأثير للأوّل في الإطاعة ، وعدم البعث والتحريك نحو متعلّقه.

وهذا هو محلّ النزاع ، ومنشأ البحث والنزاع هو البحث فيما هو مناط قبح الأمر بالضدّين في عرض واحد ، وأنّه هل يعمّ المقام ممّا كان الأمر بهما على سبيل الترتّب ، أولا؟

فالواجب استعلام المناط المذكور ليعلم أنّه هل يعمّ المقام ، أو لا؟

فاعلم أنّا إذا لاحظنا الطلب من مبدئه الأعلى إلى مقامه السافل ـ وهو مقام إنشائه وبعث المكلّف على طبقه ـ نرى أمورا متدرّجة مترتّبة. فأوّل ما نجد هو المصالح والمفاسد القائمة بالمتعلّقات ـ بناء على تبعيّة التكاليف لمناطات في المتعلّق ـ ثمّ من بعد ذلك نرى إدراك المولى لتلك المناطات وتصوّره لها ، ثمّ تصديقه بوجودها ، ثمّ شوقه إليها ـ بناء على أنّ الإرادة هي الشوق المؤكّد الناشئ من العلم بالصلاح دون نفس العلم بالصلاح ـ ثمّ بعثه نحو الفعل ، وهذا البعث بإزاء حركة العضلات لتحصيل المقدّمات في إرادة الفعل بالمباشرة.

وكلّ هذه المراتب كما تتحقّق في الأفعال الممكنة كذلك تتحقّق في الأفعال الممتنعة سوى البعث ؛ فإنّه وإن أمكن أيضا تحقّقه بالنسبة إلى الأفعال الممتنعة لكنّه قبيح ، فلذلك يقبح طلب الضدّين بمعنى البعث إليهما ؛ وذلك لأنّ البعث إنّما يكون لغاية انبعاث العبد ، وفيما لا يعقل الانبعاث لا يعقل البعث من الحكيم ؛ لكونه لغوا قبيحا. ولعلّنا نتعرّض لمعقوليّة أمر العصاة في مقام أنسب من هذا المقام. فالأمر بالضدّين محال وقبيح بمقام بعثهما لا بمقام إرادتهما ؛ وذلك لكونه بعثا نحو المحال لا أنّ اجتماعهما في ذاتهما محال.

وحينئذ نقول : إنّ لاجتماع البعثين مرتبتين : مرتبة اجتماعهما بذاتهما ، ومرتبة اجتماعهما بوصف كونهما باعثين محرّكين. أمّا اجتماعهما في ذاتهما ، فذلك ممّا لا مانع منه لعدم المضادّة بين ذات البعثين. وإنّما المضادّة بين وصفين مترشّحة من مضادّة المبعوث إليهما ، وفي الحقيقة المضادّة هي تلك المضادّة بعينها لا غيرها ، وحينئذ فإذا فرضنا بعثين ليس وصف باعثيّتهما نحو المتعلّق عرضيّين على أن يكون بعث كلّ منهما في [مستوى] سطح بعث الآخر وعرضه بل اختصّ اقتضاء أحدهما بموضوع عدم اقتضاء الآخر وفي وعاء عدم تأثيره ، لم يكن باجتماعهما بأس. بل كان اجتماعهما من قبيل اجتماع ذات البعثين لا اجتماعهما بما هما باعثان.

١٠٩

ومحلّ الكلام من هذا القبيل ؛ فإنّ الأمر بالمهمّ وإن اجتمع مع الأمر بالأهمّ ، وقد توجّه حينما هو متوجّه إلّا أنّه لم يجتمع معه حينما هو مؤثّر ، بل اختصّ توجّهه بحينما خلا الأمر بالأهمّ عن التأثير ولو عزما من المكلّف على المعصية ، وبمجرّد ارتفاع هذا العزم يرتفع الأمر بالمهمّ بارتفاع شرطه.

والشاهد على قصور اقتضاء الأمر بالمهمّ وكونه عقيب تأثير الأمر بالأهمّ مع كونه مجمعا معه في التوجّه والتعلّق هو : أنّه لو فرض محالا جمع المكلّف بينهما لم يقع الفعلان جميعا على صفة الامتثال ، بل يقع المهمّ لغوا وتختصّ صفة الامتثال بالأهمّ.

لا يقال : فما فائدة توجيه طلبين كذلك بعد أن كان الانبعاث من أحدهما قاصرا وليس في مستوى الانبعاث من الآخر ؛ فإنّ الغرض من البعث هو الانبعاث ، فإذا علم بعدم تصوّر الانبعاث الجمعي فما معنى البعث الجمعي ، وأيّ محلّ يبقى للأمر بالضدّين في زمان واحد؟

فإنّه يقال : الأمران بذاتيهما غير قاصرين في الاقتضاء ، وعدم تأثير أحدهما الموجب لتوجّه الآخر ليس لنقص في اقتضائه وإنّما هو من جهة عصيان المكلّف. والمفروض أنّ العزم على المعصية لا يوجب ذهاب الطلب ولا يرفع معقوليّته ، فالأمر بالأهمّ باق مع عزم المكلّف على عصيانه ، ومع ذلك يتوجّه الأمر بالمهمّ لتحقق شرط توجّهه وهو العزم المذكور. فاجتمع الأمران بذاتيهما بلا تصادم في اقتضاءيهما ؛ إذ لم يكن متعلّق الأمر في المهمّ إتيان المهمّ على كون المكلّف آتيا بالأهمّ وفي عرض كونه آتيا بالأهمّ ، بل بشرط عدم كونه آتيا به. ولا مانع عقلا من اجتماع أمر كذائي قاصر الاقتضاء مع أمر آخر بضدّه.

والحاصل : أنّ قصد معصية الأمر بالأهمّ لا يجعل أمره لغوا وإلّا لغي توجيه الأمر إلى العصاة. ثمّ في هذا الموضوع لا مانع من إحداث الداعي في نفس المكلّف بالأمر بضدّه ؛ فإنّه يشتغل في هذا الموضوع بشغل البتّة فيصرفه المولى بأمره عن سائر الأشغال إلى فعل المأمور به المهمّ.

وهناك وجه آخر لجواز الأمر بالضدّين على وجه الترتّب خطر بالبال ، وحاصله : أنّ الأوامر بأجمعها منبعثة عن مناط واحد ـ هو جامع المناطات والمصالح المتشتّتة ـ فكانت الأوامر أيضا منتهية إلى أمر واحد متوجّه إلى جامع تلك المتشتّتات ، كما أنّ النواهي كذلك ترجع إلى نهي واحد عن جامع ما يؤثّر في الفساد وهذه الكثرات كثرات صوريّة وحقيقتها

١١٠

هي ذلك الواحد ، (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ)(١) و (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(٢) فالأوامر بشتاتها تفصيل أمر واحد وكثرات طلب فارد ، وكذا النواهي.

والتكثّر جاء من نسبة الطلب إلى أنواع المتعلّقات وإلّا فالطلب واحد لجامع ذي المصلحة وذي المفسدة ، وحينئذ فإذا تزاحم واجبان ، كان معنى ذلك أنّ تحصيل مناطيهما غير مقدور ، ومقتضاه أن يسقط غير المقدور عن حيّز الطلب ويبقى المقدور.

والمقدار المقدور مع تساوي المناطين هو أحد المناطين لا على سبيل التعيين فيتخيّر بينهما عقلا. ومع الاختلاف ، المقدور هو المقدار المشترك من المناطين مع فضل ذي الفضل لا خصوص ذي المناط الفاضل. وإنّما يتعيّن ذو المناط الفاضل عقلا تحصيلا للفضل لا لأجل خصوصيّة فيه بالنسبة إلى المقدار المشترك. فعلى ذلك لو أتى المكلّف بغير ذي الفضل فهو بالنسبة إلى المقدار المشترك ممتثل لأمر حصّل المقدار المشترك الممكن التحصيل وإن كان عاصيا في ترك الفضل ، وفرارا عن هذا العصيان وطلبا للفضل قد عيّن العقل إتيان ذي الفضل بلا خصوصيّة له في المقدار المشترك ، بل هو وصاحبه في حدّ سواء في ذلك.

فصحّ أن نقول : إنّ المقدار المشترك معروض للطلب ، وفي أيّ من المتزاحمين أتاه فقد امتثل أمره ـ وإن تعيّن امتثاله في الأهمّ تحصيلا لما فيه من الفضيلة ـ لكن لو ترك ذلك وأتى بالمهمّ ، لم يكن فعله ذلك خلاف المأمور به ؛ فإنّ الأمر بالمهمّ هو عين الأمر بالأهمّ بالنسبة إلى المصلحة المشتركة لا شيء غيره.

وملخّص الكلام ومختصر المقام هو : أنّ المصلحة المشتركة مأمور بتحصيلها ، وكلّ من الضدّين مصداق لهذا المأمور به سواء تساويا في مقدار المصلحة أو اختلفا. نعم ، تختصّ صورة الاختلاف بالأمر بالأهمّ تحصيلا للفضل والزيادة ، فلو تركه المكلّف فقد فوّت على نفسه هذه الفضيلة مع تدارك المقدار المشترك المأمور به في ضمن المهمّ بلا قصور فيه ولا فتور.

ومن هنا كان سبيل القول بالترتّب واضحا على القول بتبعيّة الأحكام لمصالح في

__________________

(١) النحل (١٦) : ٩٠.

(٢) النحل (١٦) : ٩٠.

١١١

المأمور به ، وأوضح منه سبيلا على القول بإرشاديّة أوامر الشارع ، وأنّها إعلام بالمناطات التي يلزم بها العقل إذا علم بلا أمر مولوي على طبقها.

ثمّ إنّه يمكن الاستدلال على بطلان الترتّب بوجهين :

الأوّل : أنّ استحالة اجتماع الضدّين بالذات ومن جهة أنّه اجتماع للنقيضين ، لا من باب أنّه طلب للمحال كي يرتفع ذلك بالأمر بهما على وجه الترتّب.

توضيحه يتمّ برسم أمور :

[الأمر] الأوّل : أنّ إرادة النقيضين ضدّان لا يجتمعان في النفس على خلاف إرادة الضدّين فإنّه يجوز اجتماعهما. ونعني بإرادة الضدّين ـ مع أنّ العدم غير قابل لأن تتعلّق به الإرادة ـ ذاك المعنى الموجود في موارد النهي وسيجيء بيانه. ومن أجل هذا لم يجز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد لا تعدّد فيه بوجه ؛ والوجه في ذلك أنّ ترجّح كلّ من جانبي الوجود والعدم على صاحبه يكون بعين مرجوحيّة الآخر ، ففرض الترجّح في كلّ من الجانبين معناه اجتماع رجحان كلّ ومرجوحيّته وهو محال ؛ لأنّ لازمه رجحانه وعدم رجحانه.

[الأمر] الثاني : أنّ الإرادة لا تخلو إمّا أن تكون متعلّقة بفعل النفس أو بفعل غيره ، ثمّ المتعلّقة بفعل غيره إمّا أن تكون متعلّقة بفعله الاختياري ، أو بفعله غير الاختياري ، أو ما يعمّ الأمرين وما كان متعلّقا بفعله الاختياري إمّا يكون متعلّقا بفعله الاختياري المطلق ، أو بفعله الاختياري الخاصّ الناشئ اختياره من منشأ خاصّ ، ومن هذا القبيل باب التكاليف ؛ فإنّها إرادات بأفعال العبد الاختياريّة الحاصلة من منشأ الطلب والبعث. وفي كلّ هذه الإرادات لا بدّ للمريد من ترتيب مقدّمات تحصيل مطلوبه على قدر مطلوبه سعة وضيقا ، ففي التكليف لا بدّ للمولى من الطلب والبعث ؛ إذ أنّ الفعل الحاصل من طريق البعث هو مراده ومتعلّق إرادته.

[الأمر] الثالث : لا فرق في امتناع اجتماع إرادة المتناقضين بين الطلبيّتين منها وبين سائر أقسام الإرادة التي أشرنا إليها. فكما لا يجوز اجتماع الأمر والنهى في شيء واحد بعنوان واحد كذلك لا يجوز اجتماع الإرادتين في جانبي النقيض من سائر أقسام الإرادة ، فلذا يرتّب المريد مقدّمات منتجة للفعل ولا يعقل أن يرتّب مقدّمات منتجة للترك ،

١١٢

فمقدّمات متخالفة الاقتضاء لا يعقل صدورها من شخص واحد.

[الأمر] الرابع : كما أنّ الأمر مقدّمة يتوصّل به إلى تحقّق المطلوب كذلك مقدّمة يتوصّل به إلى ترك أضداد المطلوب. لا أقول : إنّ الأمر يقتضي النهي عن الضدّ أو هو عينه بل أقول : إنّ الأمر كما هو مقدّمة طلبيّة إلى حصول متعلّقة كذلك هو مقدّمة غير طلبيّة إلى ترك أضداد متعلّقة ؛ إذ كما هو إشغال بالمطلوب كذلك هو صرف عن أضداد المطلوب ، فهو بصرفه وجه المكلّف وقدرته إلى جانب فعل ، صارف وجهه وقدرته عن أضداد ذلك الفعل ، وهذا أجنبي عن اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ ، بل هو ثابت ـ قلنا بالاقتضاء ، أو لم نقل ـ إذ ليس هذا نهيا عن الضدّ بل طلب الفعل مقدّمة غير طلبيّة لترك أضداد ذلك الفعل. فبذلك أشبه النهي في جهة كونه مقدّمة لترك الضدّ ، لكن فارقه في أنّ هذا مقدّمة غير طلبيّة والنهي مقدّمة طلبيّة. بل لعلّ أرباب القول بالاقتضاء اشتبه عليهم الأمر من هذا المقام ، فحسبوا هذا نهيا ، لكنّ الذي يكذّبه أنّهم لم يقولوا بالاقتضاء بمعنى العينيّة ، مع أنّ الأمر هنا عين مقدّمة ترك الضدّ لا أنّه يقتضيه.

والحاصل : أنّ الطلب علاج عملي لصرف المكلّف عمّا وراء المطلوب وشاغل له بالمطلوب كسائر الأمور الملهية.

نعم ، قد يكون هذا الصرف ملتفتا إليه وقد لا يكون ، وعند الالتفات قد يكون مقصودا بالأصالة وكان الأمر بالفعل تبعا ، وقد يكون بالعكس ، أو كلا المقصدين في عرض واحد.

إذا تمّت لك هذه المقدّمات ظهر لك صدق ما قلنا من استحالة اجتماع طلب الضدّين استحالة ذاتيّة ؛ لأنّه من اجتماع النقيضين ، وأنّه عبارة عن رجحان كلّ من الفعل والترك على صاحبه وعدم رجحانه بل مرجوحيّته ، وأنّ ارادة الضدّين إرادة لفعل كلّ وتركه ـ إحداهما المتعلّقة بالفعل طلبيّة والاخرى المتعلّقة بالترك غير طلبيّة ـ وقد عرفت عدم الفرق في استحالة الاجتماع بين أنواع الإرادات.

فالقول بمعقوليّة الاجتماع على وجه الترتّب ـ بزعم اختصاص جهة اللامعقوليّة بالأمر بهما لا على وجه الترتّب ، وهو رجوع الأمر بهما إلى طلب الجمع بين الضدّين ـ باطل (١)

__________________

(١) راجع كشف الغطاء : ٢٧ ، البحث الثامن عشر.

١١٣

والزعم المذكور فاسد.

الثاني : لو جاز الأمر بالضدّين على سبيل الترتّب استوجب العقاب على أمر غير مقدور ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.

بيانه : أنّه لو عصى المكلّف الأمر بالأهمّ والمهمّ جميعا بتركه لهما لزم على القول بالترتّب أن يستحقّ عقابين لطلبين إلزاميّين توجّها إليه ، مع أنّه غير قادر على الفعلين جميعا فكان عقابه عقابا على أمر غير مقدور ، والعقاب على أمر غير مقدور قبيح ، فكان القول بالترتّب باطلا.

ويمكن الجواب عنه بأنّ العقاب من تبعات ما فوّته المكلّف على نفسه بمعصيته. فإن كان الذي فوّته فضل الأهمّ على المهمّ ـ كما إذا ترك الأهمّ وأتى بالمهمّ ـ عوقب على تفويت هذا الفضل لا على ترك الأهمّ ؛ لإتيانه بالمقدار المشترك من المناط في ضمن المهمّ ، وإن كان الذي فوّته هو مقدار ما في الأهمّ من المناط ـ لأنّه ترك الأهمّ والمهمّ جميعا ـ عوقب على جميع ما في الأهمّ. هذا إذا كانت الأهميّة بقوّة المناط ، وأمّا إذا كانت بضيق وقت أحد الواجبين وسعة وقت الآخر ، كان العقاب عند تركهما ؛ إذ كان يمكنه الإتيان بهما جميعا ، هذا في الوقت المضيّق وذاك في الوقت الموسّع.

واعلم أنّه قد يتوهّم أنّ الحاجة إلى تصحيح الترتّب إنّما تكون في المضيّقين ، أمّا مع سعة وقت أحد الواجبين فيمكن الإتيان بالموسّع في وقت المضيّق بقصد امتثال الأمر بالطبيعة الصادقة عليه وإن لم يسعه الأمر لمكان الأمر بالمضيّق ومزاحمة هذا له ؛ فإنّ عدم شمول الأمر إن كان لقصور في اقتضائه بحيث لا يشمل هذا منع ذلك عن الإتيان بهذا بقصد امتثال الأمر ، وإن كان لمانع عقلي مع عموم الاقتضاء ـ كما في المقام ـ لم يمنع. فالأمر بطبيعة يدعو إلى كلّ ما هو من أفرادها ومندرج تحتها وإن لم يسعه الأمر لأجل مزاحم.

والسرّ أنّ دعوة الأمر إنّما هو بمناط أن المدعوّ إليه محصّل للغرض الداعي إلى الأمر ، وهذا معنى مشترك بين جميع أفراد الطبيعة المأمور بها ما كان منها تحت الأمر وما خرج عن الأمر لمزاحم عقلي ؛ فإنّ الكلّ يشترك في تحصيل غرض المولى من أمره. فالكلّ يمكن أن يؤتى به بداعي الأمر ما كان تحت الأمر وما خرج. بل لعلّ هذا الكلام يسري إلى الأجنبي الخارج عن طبيعة المأمور بها إذا شارك الطبيعة المأمور بها في تحصيل الغرض فيؤتى به

١١٤

بداعي الأمر كما يؤتى بالطبيعة المأمور بها بداعيه (١).

ويردّه أوّلا : أنّه إن صحّ ذلك عمّ الفرد المحرّم أيضا فجاز الوضوء بالماء المغضوب بداعي أمر «توضّأ».

وثانيا : إن صحّ عموم دعوة الأمر وسرايتها إلى الخارج ممّا أحاط به أعاد محذور المزاحمة ولم يجده قصر أحد الخطابين ، إذ مناط المزاحمة عموم الدعوتين وشمولهما لمحلّ واحد ، فإذا كانت الدعوتان على عمومهما وشمولهما فما فائدة قصر الخطاب؟ وهل قصر الخطاب إلّا لقصر الدعوة؟ وإذا لم يحدث في الدعوة قصور فلم يقصّر الخطاب؟ بل لو قصر أيضا كان مزاحما في عين قصوره لعموم دعوته فلا يكون محيص في رفع المزاحمة من رفض الخطاب بأثره.

وثالثا : أنّ ذلك إنّما يتمّ إذا لحق القيد مادّة الخطاب الموسّع مصونا إطلاق هيئته. أمّا إذا لحق هيئته لم يبق في زمان المزاحمة طلب بالنسبة إلى الموسّع ولو على سبيل الواجب التعليقي ، بل الطلب يكون متوجّها ممّا بعد دفع المزاحمة. فإذا لم يكن فعلا طلب فبأيّ داع يؤتى؟ ثمّ إذا لم يكن دليل على أحد التقييدين وكان كلّ منهما رافعا للمزاحمة عرض للخطاب إجمال من ذلك وكان المتيقّن من التصرّف ما يطابق بالنتيجة لتقييد الهيئة.

وأمّا ما تقدّم من الوجوه لتقييد المادّة وتقديم ذلك التقييد على تقييد إطلاق الهيئة ، فهو ضعيف. وقد اعترف بضعفها هذا المتوهّم.

__________________

(١) كفاية الأصول : ١٣٦.

١١٥

تعلّق الأوامر بالطبيعة أو الأفراد

هل الأحكام متعلّقة بالطبائع ، أم بوجوداتها؟ وعلى الأخير فهل المتعلّق لها أصل الوجود ومتنه بلا دخل كلّ خصوصيّة ، أو أنّ المتعلّق لها الوجود بخصوصيّاته؟ قلنا في المقام بحثان ، وكلاهما عقليّان لا دخل لهما بدلالة اللفظ.

أمّا الأوّل فالحقّ فيه هو الأوّل وأنّ متعلّق الأحكام هو الطبائع من حيث هي ، ولا تعلّق للطلب بالوجود سواء قلنا بأصالة الوجود ، أم قلنا بأصالة الماهيّة.

بيان ذلك : أنّ متعلّق الطلب في الأحكام وكذلك متعلّق الإرادة في الأفعال التكوينيّة لا يخلو إمّا أن يكون هو متن الوجود ، أو طرف الوجود وحدّه وهو الماهيّة ، أو الوجود بحدّه ، والطرفان باطلان فيتعيّن الوسط.

أمّا بطلان الطرف الأوّل فبأنّ رقبة الوجود مع قطع النظر عن كلّ حدّ حاصل ، والطلب لا يتعلّق بأمر حاصل ، مع أنّ المناط المنبعث منه الطلب لا يقوم بمتن الوجود كي يقوم الطلب بمتن الوجود ، وإلّا كان كلّ الآثار متشاركة بين كلّ الوجودات ، وهو باطل.

وأمّا بطلان الطرف الثاني فبأنّ نفس الوجود إذا خرج عن قابليّة تعلّق الطلب ـ كما بيّن آنفا ـ لم يجد خلطه مع غيره في حصول القابليّة. وبعبارة أخرى متن الوجود إذا كان حاصلا ومن جهة حصوله لم يتعلّق به الطلب توجّه الطلب لا محالة إلى حدّه وحاشيته ، وكان ذلك هو المحور الذي يدور حوله الطلب وإن كان الطلب في ظاهر الخطاب متوجّها إلى الوجود بحدّه ؛ فإنّه يصرف عن هذا الظاهر مع أنّ مدار الأغراض ومبادئ الإرادات أيضا هو هذا

١١٦

الحدّ ، فالإرادات بل كافّة القوى المؤثّرة في عالم الطبائع عملها وفعلها هو التحوّل والتقلّب في عالم الوجود بإخراجه عن حدّ إلى حدّ ، وليس عملها الخلق والإيجاد وتكوين ما لم يكن بل تبديل ما هو كائن بإخراجه عن صورة إلى صورة وعن لباس إلى لباس.

والأصل المحفوظ في كلّ هذه الطوارئ محفوظ من مبدأ عالم الخلقة إلى منتهى طيّ السماوات والأرضين بلا زيادة ولا نقيصة ، فلو أمرت برسم مقدار ذراع من الخطّ كفاك في مقام الامتثال تنصيف الخط المرسوم بمقدار ذراعين بلا حاجة إلى تجديد الرسم. ولئن جدّدت الرسم أيضا لم يكن تجديدك ذلك إيجادا لما لم يكن ، بل تغيير وتبديل فيما هو كائن حتّى برز بصورة خطّ كذائي.

ثمّ لو سلّمنا أنّ الصادر من العلل والفواعل في هذا العالم هو الوجود لا نسلّم أنّه قابل لتعلّق الطلب. ويتّضح ذلك بملاحظة أمرين :

الأوّل : أنّ كلّ ما هبط من عالم النفس إلى الخارج فصورته الحاصلة في النفس قبل الوصول إلى الخارج صورة كليّة ، وإنّما الصورة الجزئيّة هي ما كانت راقية من الخارج إلى النفس.

الثاني : أنّ تصوّر الفعل هو مبدأ للفعل الاختياري ، فأوّل ما يحصل في النفس في سبيل الاختيار هو صورة ذلك الفعل ، ثمّ لا يزال يتولّد ما يتلوها من المقدّمات حتّى تنتهي إلى الإرادة ، وهذه الصورة إن كانت راقية من الخارج لم يعقل توليدها للإرادة ؛ لأنّها تكون إرادة لأمر حاصل. نعم ، تولّد الرضا فالصورة المولّدة للإرادة هي صورة أمر كلّي ، فإذا كان مبدأ الإرادة هي صورة أمر كلّي كانت الإرادة المتولّدة منها أيضا متعلّقة بأمر كلّي ؛ فإنّ الإرادة مولودها المتولّدة على شكلها الواضعة قدمها موضع قدمها. وهذه الإرادة المتعلّقة بأمر كلّي تولّد جزئيّا حقيقيّا خارجيّا. ومقتضى ذلك أن يكون الشخص ـ بما هو شخص ـ خارجا عن حيّز الإرادة أوّلا وآخرا ؛ الأوّل حين لم يكن ، والآخر بعد أن كان وتحقّق.

وإن شئت قل : إنّ المعلوم صلاحه إن كان موجودا خارجيّا لم يؤثّر إلّا في حصول البهجة والالتذاذ به ، وإن كان صورة كليّة أثّر في الحركة نحو تحصيلها ، وليست الإرادة إلّا هذه الصورة المؤثّرة للحركة نحو تحصيل متعلّقها في الخارج.

فصحّ أن نقول : إنّ متعلّق الإرادة والعلم بالمصلحة هو أمر كلّي ، والشخص والجزئي

١١٧

يكون في المرتبة المتأخّرة متولّدا عن الإرادة لا متعلّقا لها. ولا ينافي ذلك توصيفه بالاختياريّة ؛ فإنّا حيثما نصف الفعل بالاختياريّة لا نعني منه إلّا كونه صادرا من مبدأ العلم بالصلاح المتعلّق بكلّي ذلك الفعل لا العلم بالصلاح المتعلّق بشخص ذلك الفعل. هذا في الفعل المتعلّق للطلب ، وأمّا المفعول به لهذا الفعل ، فجاز أن يكون جزئيّا ك «أكرم زيدا» كما جاز أن يكون كلّيّا.

وأمّا الثاني وهو أنّ الطلب على تقدير تعلّقه بالوجود فهل هو متعلّق بأفراد الوجود على أن يكون فردا ما من طبيعة كذا الواقعة في حيّز الخطاب بكافّة خصوصيّاته متعلّقا للطلب ، أو هو متعلّق بأصل الوجود ملغاة عنه كلّ ما عداه من الطوارئ والعوارض الملازمة طائفة منها على البدل لكلّ وجود وجود؟

والحقّ هو الثاني ؛ وذلك لأنّه لو كان متعلّقا بالفرد فإمّا هو فرد معيّن ، أو فرد ما مردّدا ، أو مفهوم الفرد ، أو أحد الأفراد ؛ والأوّل باطل بعدم ذكر ما يعيّن الفرد في ظاهر الخطاب. ولو ذكر وعيّن أيضا لا يخرج ما يحويه الخطاب عن الكلّيّة وإن أتى بألف قيد.

والثاني باطل بأنّ فردا ما مردّدا لا وجود له في الخارج ليتعلّق به حكم.

والثالث لا يخرج عن تعلّق الطلب بالكلّي ؛ فإنّ مفهوم الفرد أو أحد الأفراد كلّي كنفس ما أضيف إليه هذا المفهوم ينطبق على كلّ ما ينطبق هو عليه.

١١٨

الواجب التخييري

هل المتّصف بصفة الوجوب في الواجبات التخييريّة هو جميع أطراف التخيير ، أو واحد منها لا بعينه ، أو واحد معيّن ، أو الواحد الجامع بين الأطراف الصادق على كلّ واحد منها؟ ومنشأ هذا النزاع هو عدم تعقّل اجتماع الوجوب مع جواز الترك ، ولا ريب أنّ كلّ واحد من الأطراف جائز الترك.

فمن قائل قال : إنّ جواز الترك إلى بدل لا ينافي حقيقة الوجوب وهذا نحو وجوب خاصّ يجوز تركه إلى بدل. وآخرون ما لم يتعقّلوا ذلك ذهب كلّ إلى مذهب ، فمن قائل قال : بأنّ الواجب هو فرد مردّد بين الأطراف أو فرد معيّن والبقيّة مسقطه ؛ ومن ملتزم بوجود قدر جامع بين الأطراف هو المتّصف بالوجوب وإن لم نتصوّره نحن ، فيكون التخيير في الأطراف عقليّا كما في جميع الواجبات التعيينيّة بالنسبة إلى أطرافها.

وتفصيل الحال في المقام يتوقّف على ذكر احتمالات كلّ من الأقوال بل أقوالها المنشعبة إليها حتّى يتبيّن الرشد من الغيّ.

فأمّا احتمالات القول الأوّل فثلاث :

أحدها : اتّصاف كلّ واحد من الأطراف بالوجوب التعييني لكن إذا أتى واحد منها سقط الباقي ، فيكون سقوط ذلك الذي أتى بالامتثال ، وكان سقوط البقيّة من أجل تعذّر ما فيها من الأغراض بعد الإتيان بذلك الواحد.

ويردّه : أنّ إيجاب الجميع حينئذ إمّا أن يكون لغوا محضا ، أو يتعيّن على المكلّف الإتيان

١١٩

بالجميع دفعة ؛ وذلك لأنّ الإتيان بطرف لو كان موجبا لسقوط البقيّة مطلقا كان هو الأوّل ، وكان إيجاب أزيد من واحد على البدل لغوا بعد العلم بسقوطه بإتيان واحد. ولو اختصّ إسقاطه للبقيّة بصورة الإتيان بالأطراف تدريجا وجب على المولى التكليف بالجمع بين الأطراف وإتيانها دفعة تحصيلا لما في الجميع من الأغراض.

وثانيها : اتّصاف كلّ واحد من الأطراف بالوجوب التخييري ، وكان الوجوب التخييري ضربا من الوجوب له خواصّ وآثار.

منها : جواز ترك كلّ واحد إلى بدل وحرمة ترك الجميع.

ومنها : كون الإتيان بالبعض مسقطا للبقيّة.

ومنها : حصول الامتثال بالجميع لو أتى بها دفعة.

ويردّه : أنّا لا نتعقّل للوجوب أنحاء سوى ما يرجع إلى الإطلاق والتقييد في الوجوب أو في الواجب. ولو سلّم فلا نتعقّل اجتماع الوجوب مع جواز الترك من أيّ أنحاء الوجوب كان.

وثالثها : اتّصاف كلّ واحد من الأطراف بالوجوب التعييني ، لكن كان وجوب كلّ مشروطا بأن لا يكون المكلّف آتيا بسائر الأطراف وكان في ظرف عدم الإتيان بها ، أو كان الواجب مشروطا كذلك. فكان امتياز الواجب التخييري عن التعييني بإطلاق الوجوب واشتراطه ، أو بإطلاق الواجب واشتراطه.

ويردّه : أنّ عدم الإتيان بسائر الأطراف لا يخلو إمّا أن يكون قيدا للحكم أو للموضوع ، وعلى تقدير كونه للموضوع لا يخلو إمّا أن يكون قيدا واجب التحصيل ، أو غير واجب التحصيل نظير القيد في الواجبات المعلّقة.

وعلى كلّ من الاحتمالات الثلاث تارة يكون القيد هو عدم الإتيان السابق ، وأخرى يكون ما يعمّه والمقارن ، وثالثة يكون ما يعمّهما واللاحق ؛ فهذه احتمالات تسع وأمّهاتها ثلاث.

أمّا الاحتمال الأوّل فباطل بجميع صوره واحتمالاته الثلاث.

أمّا الأوّل منها فباستلزامه وجوب الإتيان بالأطراف دفعة ؛ لحصول شرط توجّه كلّ بعدم الإتيان بما عداه.

١٢٠