بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-065-9
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٣٧٩

وإن أبيت إلا عن ظهورهما في الترجيح في كلا المقامين ، فلا مجال لتقييد إطلاقات التخيير في مثل زماننا مما لا يتمكن من لقاء الامام عليه‌السلام بهما ، لقصور المرفوعة سندا وقصور المقبولة دلالة ، لاختصاصها بزمان التمكن من لقائه عليه‌السلام (١) ، ولذا ما أرجع إلى التخيير بعد فقد

______________________________________________________

وليس لقائل ان يقول : ان الترجيح كما يناسب مقام المخاصمة كذلك يناسب مقام الفتوى ، فلا مانع من تنقيح المناط في مقام الفتوى بعد ان كان الترجيح يناسب المقامين.

لان مجرد المناسبة بين المقامين بامكان الترجيح فيهما لا يصحح تنقيح المناط ، بل لا بد من مساواة المقيس والمقيس عليه في عامة الجهات ، وحيث كان مورد المقيس عليه وهي المقبولة في خصوص المخاصمة الذي لا يناسبه التخيير ، فلا تتم المساواة في عامة الجهات بينهما حتى يصح تنقيح المناط. والى هذا اشار بقوله : «ومجرد مناسبة الترجيح لمقامها» أي لمقام الفتوى كما هو مناسب لمقام المخاصمة «ايضا لا يوجب ظهور الرواية في وجوبه مطلقا ولو في غير مورد الحكومة» والمخاصمة بحيث يكون شاملا لمقام الفتوى «كما لا يخفى».

(١) حاصله : انه مع التنزل وتسليم دلالة المقبولة والمرفوعة على وجوب الترجيح مطلقا حتى في مقام الفتوى ، فلا بد من الاقتصار على وجوب الترجيح في مقام الفتوى في زمان الحضور دون زمان الغيبة ، فان ادلة التخيير مطلقة شاملة لزمان الحضور وزمان الغيبة ، ولا تصلح المقبولة والمرفوعة لتقييد هذا الاطلاق بحيث يشمل التقييد زمان الغيبة ، لان المرفوعة وان لم تكن مقيدة بزمان الحضور ، إلّا ان ضعف سندها جدا مانع عن قابليتها لتقييد مطلقات التخيير ، لان المقيد لا بد وان يكون بالغا مرتبة الحجية حتى يكون صالحا لتقييد المطلقات ، فان المطلق انما يجب تقييده بالمقيد لكون المقيد حجة اقوى منه ، والمرفوعة حيث انها ليست بحجة لضعفها جدا فلا تصلح لتقييد مطلقات التخيير.

٨١

الترجيح (١) ، مع أن تقييد الاطلاقات الواردة في مقام الجواب عن سؤال حكم المتعارضين ـ بلا استفصال عن كونهما متعادلين أو متفاضلين ، مع

______________________________________________________

واما المقبولة فمضافا الى ما عرفت من ان صدرها مختص بمورد الحكومة والمخاصمة ، ومع التنزل عنه فان ذيلها مختص بزمان الحضور ، فلو كانت شاملة لمقام الفتوى لاختص ذلك بالفتوى في زمان الحضور ولا تشمل الفتوى في زمان الغيبة ، لانه عليه‌السلام بعد فرض تساوي المتعارضين امره بالارجاء الى ان يلقى الامام عليه‌السلام ، والارجاء الى ان يلقى الامام مختص بزمان الحضور ، فلو كانت المقبولة شاملة لمقام الفتوى لكانت دالة على وجوب الترجيح في زمان الحضور دون الغيبة ، فلا تكون المقبولة صالحة لتقييد اطلاق ادلة التخيير حتى في زمان الغيبة وان كانت شاملة لمقام الفتوى.

والى ما ذكرنا اشار بقوله : «وان ابيت الا عن ظهورهما» أي المرفوعة والمقبولة «في الترجيح في كلا المقامين» أي في مقام الحكومة ومقام الفتوى ومع ذلك «فلا مجال لتقييد اطلاقات التخيير» حتى «في مثل زماننا» وهو زمان الغيبة الذي هو «مما لا يتمكن من لقاء الامام عليه‌السلام» فيها «بهما» أي بالمرفوعة والمقبولة ، فمتعلق هذا الجار والمجرور هو قوله فلا مجال لتقييد اطلاقات التخيير. وحاصله : انه مع التنزل وتسليم ظهور المرفوعة والمقبولة لشمول الترجيح لمقام الفتوى فلا مجال لتقييد اطلاقات التخيير بهما «لقصور المرفوعة سندا» فليست بالغة مرتبة الحجية حتى تصلح لتقييد المطلقات المذكورة «وقصور المقبولة دلالة لاختصاصها» بواسطة ذيلها «بزمان التمكن من لقائه عليه‌السلام» وهو زمان الحضور فانه في ذيلها بعد فرض التساوي امر عليه‌السلام بالارجاء الى لقائه عليه‌السلام.

(١) هذا شاهد على اختصاص المقبولة بزمان الحضور. وحاصله : ان تقييد المطلق على نحوين فانه : تارة يكون موجبا لتضييق دائرة الاطلاق في خصوص بعض افراد المطلق ، كما لو قال اكرم العالم ، ثم ورد تقييده بخصوص العادل من افراد العالم.

٨٢

ندرة كونهما متساويين جدا ـ بعيد قطعا ، بحيث لو لم يكن ظهور المقبولة في ذاك الاختصاص لوجب حملها عليه أو على ما لا ينافيها من الحمل على الاستحباب ، كما فعله بعض الاصحاب (١) ، ويشهد به الاختلاف

______________________________________________________

واخرى يكون التقييد موجبا لا خراج بعض افراد المطلق من دون دلالة له على التخصيص ببعض الافراد ، وفي مثله لا بد وان يكون الاخراج غير منته ، لاهمال الاطلاق وعدم العمل به اصلا لاستلزامه لغوية الاطلاق. والمقبولة لو كانت دالة على وجوب الترجيح حتى في زمان الغيبة لكانت دالة على ان المتعارضين عند عدم تساويهما لا بد من الترجيح وعند تساويهما لا بد من ايقاف العمل بهما ، فلا يبقى مورد لاطلاقات التخيير.

لا يقال : ان الايقاف انما هو في زمان الحضور ، لان الايقاف حتى يلقى الامام عليه‌السلام مما يختص بزمان الحضور ، فيبقى مورد التخيير عند تساويهما في زمان الغيبة. فانه يقال : ان وجوب الايقاف لما وجب فيه الترجيح فلا بد وان يكون الطرفان في زمان الحضور ، فلا وجه لان يكون احد الطرفين وهو وجوب الترجيح شاملا لزمان الغيبة دون وجوب الايقاف ، ومع شمول الايقاف لزمان الغيبة لا يبقى مورد لاطلاق ادلة التخيير. والى هذا اشار بقوله : «ولذا ما ارجع الى التخيير بعد فقد الترجيح».

(١) هذا هو الاشكال الثالث على كون ادلة الترجيح مقيدة لاطلاق ادلة التخيير.

وحاصله : ان مرجع الاطلاق والتقييد هو حمل المطلق على المقيد ، وحيث يكون التقييد مخرجا لافراد المطلق كما عرفت ، لا بد وان لا يكون المطلق محمولا على الفرد النادر ، ولازم وجوب الترجيح وتقييد اطلاقات التخيير بادلته هو لزوم حمل اطلاقات التخيير على الفرد النادر ، لانه قلما يكون المتعارضان متساويين من جميع الجهات ، والغالب في المتعارضين هو وجود احدى المزايا المذكورة في ادلة الترجيح في احد المتعارضين ، فمع لزوم الترجيح في المتعارضين مطلقا يلزم حمل اطلاقات التخيير على الفرد النادر وهو قبيح ، فلو كانت ادلة الترجيح سالمة عن كل اشكال

٨٣

الكثير بين ما دل على الترجيح من الاخبار (١).

______________________________________________________

وظاهرة في وجوب الترجيح مطلقا لوجب رفع اليد عن احد ظهورين فيها : اما عن ظهورها في الاطلاق والشمول لمقام الفتوى ، وبقاء ظهور الوجوب فيها على حاله مختصا بمورد الحكومة والمخاصمة. او عن ظهورها في الوجوب وحملها على الاستحباب ، وبقاء شمولها لمقام الفتوى على حاله حتى لا يلزم حمل اطلاقات التخيير على الفرد النادر.

وقد اشار الى ندرة تساوي المتعارضين بقوله : «مع ندرة كونهما متساويين جدا» وجدا من متعلقات الندرة : أي ان كون المتعارضين متساويين من جميع الجهات نادر جدا ، وحمل اطلاقات التخيير على الفرد النادر «بعيد قطعا» ، ولازم كون الترجيح واجبا مطلقا مع غلبة وجود احدى المزايا الموجبة للترجيح في احد المتعارضين هو حمل اطلاقات التخيير على الفرد النادر الذي هو بعيد قطعا.

وقد اشار الى لزوم رفع اليد عن احد الظهورين حتى لا يلزم حمل اطلاقات التخيير على الفرد النادر بقوله : «بحيث لو لم يكن ظهور المقبولة في ذاك الاختصاص» وهو مورد الحكومة والمخاصمة «لوجب حملها عليه» مع بقاء ظهور الوجوب فيها على حاله «او» وجب حملها «على ما لا ينافيها» أي على ما لا ينافي اطلاقات التخيير بوجه آخر «من الحمل على الاستحباب» وابقاء شمولها لمورد الفتوى «كما فعله بعض الاصحاب».

(١) هذا شاهد الحمل على الاستحباب .. ووجهه : ان اختلاف ادلة الترجيح من جهة الترتيب ومن جهة نفس المرجحات من ناحية الكثرة والقلة يشهد بان الامر فيها استحبابي ، وإلّا لوقعت المعارضة بين ادلة الترجيح بانفسها ، ولما كان في حملها على الاستحباب يرتفع التنافي بينها ويرتفع التنافي بينها وبين اطلاقات التخيير ايضا ، لذا كان هذا الاختلاف شاهدا على ان الامر فيها للاستحباب لا للوجوب.

٨٤

ومنه قد انقدح حال سائر أخباره (١) ، مع أن في كون أخبار موافقة الكتاب أو مخالفة القوم من أخبار الباب نظرا ، وجهه قوة احتمال أن يكون الخبر المخالف للكتاب في نفسه غير حجة ، بشهادة ما ورد في أنه زخرف ، وباطل ، وليس بشيء ، أو أنه لم نقله ، أو أمر بطرحه على الجدار ، وكذا الخبر الموافق للقوم ، ضرورة أن أصالة عدم صدوره تقية بملاحظة الخبر المخالف لهم مع الوثوق بصدوره لو لا القطع به غير جارية ، للوثوق حينئذ بصدوره كذلك ، وكذا الصدور أو الظهور في الخبر المخالف للكتاب يكون موهونا بحيث لا يعمه أدلة اعتبار السند ولا الظهور ، كما لا يخفى ، فتكون هذه الاخبار في مقام تميز الحجة عن اللاحجة لا ترجيح الحجة على الحجة (٢) ،

______________________________________________________

(١) أي مما ذكرنا من الاشكالات على المرفوعة والمقبولة : من عدم الاطلاق فيها بحيث يشمل مورد الفتوى تارة ، ومن كونها مختصة بزمان الحضور اخرى ، ومن لزوم حملها على ما لا ينافي اطلاقات التخيير بحملها على الاستحباب ثالثة ـ يظهر الحال في الاخبار الأخر التي ذكرها الشيخ الاجل في رسائله للدلالة على وجوب الترجيح في مقام الفتوى في زمان الغيبة.

(٢) لا يخفى ان المزايا المذكورة في ادلة الترجيح مختلفة : بعضها يرجع الى صفات الراوي كالاعدلية وامثالها ، وبعضها يرجع الى نفس الرواية ككونها مشهورة او غير مشهورة ، وبعضها يرجع الى الحكم في الرواية كموافقة الكتاب ومخالفة العامة.

والغرض المناقشة في عد مزية موافقة الكتاب ومخالفة العامة من مزايا الترجيح ، لان الترجيح لا بد فيه من فرض الروايتين مشمولتين لادلة الاعتبار لو لا المعارضة ، فتكون المرجحات موجبة لترجيح احدى الحجتين على الاخرى ، لا ان تكون المزية موجبة لتمييز الحجة عن اللاحجة. ويحتمل قويا في هاتين المزيتين كونهما لتمييز الحجة عن اللاحجة لا لترجيح الحجة على الحجة ، ففي عدهما من مزايا الترجيح نظر ، لان

٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الضابط في مورد الترجيح كون الرواية حجة لو لا المعارضة ، بحيث تكون الرواية جامعة لجميع شرائط الحجية ، وبالمعارضة تسقط فعلية حجيتها ، وحينئذ يكون الترجيح لترجيح حجة على حجة ، والرواية المخالفة للكتاب غير حجة لما ورد من الاخبار في الخبر المخالف للكتاب بمضامين كلها تقتضي ان الخبر المخالف للكتاب خارج عن دائرة الحجية ، كما مر ذكرها في مبحث حجية الظن ، كمضمون ان الخبر المخالف للكتاب زخرف وباطل ، وفي بعضها انه ليس بشيء ، وفي بعضها ان ما خالف قول ربنا لم نقله ، وفي بعضها امر عليه‌السلام بطرحه على الجدار.

ومثله في الخبر الموافق للعامة ، فانه ورد الامر بترك موافقة العامة ، لان الرشد في خلافهم ، وفي بعضها اجاب الامام عليه‌السلام السائل له عن حكم امر حادث لا بد له من معرفته ، فقال له عليه‌السلام : (ائت فقيه البلد فاستفته من امرك فاذا افتاك بشيء فخذ بخلافه فان الحق فيه) (١) وفي بعضها ذكر التعليل للاخذ بما خالف العامة فيما ورد عن ابي عبد الله عليه‌السلام : (قال عليه‌السلام : أتدري لم امرتم بالاخذ بخلاف ما تقول العامة. فقلت : لا ، فقال عليه‌السلام : ان عليا عليه‌السلام لم يكن يدين الله بدين الا خالف عليه الامة الى غيره ارادة لابطال امره ، وكانوا لا يسألون امير المؤمنين عليه‌السلام عن الشيء الذي لا يعلمونه ، فاذا افتاهم جعلوا له ضدا من عندهم ليلتبسوا على الناس) (٢).

ومثله ما جاء في رواية عبيد بن زرارة عن الصادق عليه‌السلام (قال عليه‌السلام : ما سمعته مني يشبه قول الناس فيه التقية ، وما سمعت مني لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه) (٣).

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٨ : ٨٢ / ٢٣ باب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٢) الوسائل ج ١٨ : ٨٣ / ٢٤ باب ٩ من ابواب صفات القاضي.

(٣) الوسائل ج ١٨ : ٨٨ / ٤٦ باب ٩ من ابواب صفات القاضي.

٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وتوضيح الحال لكون ما وافق العامة وما خالف الكتاب خارجا عن الحجية :

اما في الخبر الموافق للعامة فان في حجية الخبر اصولا ثلاثة : اصالة تصديق العادل في الصدور ، واصالة الظهور ، واصالة كون الصدور لبيان الواقع ، ومن الواضح انه مع الاخبار المتقدمة فيما وافق العامة لا مجال لاصالة الصدور لبيان الواقع ، فان الخبر الموافق لهم لو كان موثوق الصدور او مقطوعا بصدوره وكان قوي الظهور في مضمونه او كان نصا فيه فلا مجال للاخذ به ، لدلالة تلك الاخبار على ان جهة صدوره كان لاجل التقية ، فهو خارج عن الحجية لعدم تمامية اصالة الصدور فيه لبيان الواقع ، فانه مع دلالة الاخبار المذكورة على ان الموافق للعامة قد صدر لا لبيان الواقع بل كان صدوره للتقية لا مجال لاصالة الصدور فيه ، فلا يكون مستوفيا لشرائط الحجية.

فاتضح مما ذكرنا : ان معارضة الخبر المخالف للعامة والخبر الموافق لهم من معارضة الحجة باللاحجة ، لان الخبر الموافق للعامة غير داخل فيما هو الحجة ، فعد مخالفة العامة من المرجحات لا وجه له ، بل هي في مقام تمييز الحجة عن اللاحجة.

والى ما ذكرنا اشار بقوله : «ضرورة ان اصالة عدم صدوره تقية» أي ان اصالة عدم صدور الخبر الموافق للعامة تقية ، بان يكون اصالة كونه لبيان الواقع «بملاحظة الخبر المخالف لهم» أي للعامة حتى «مع الوثوق بصدوره» أي بصدور الخبر الموافق لهم «لو لا القطع به» أي حتى مع القطع بصدور الموافق «غير جارية» هذا خبر لاسم ان المتقدم وهو اصالة عدم صدوره تقية ، والتقدير ان اصالة عدم صدوره تقية غير جارية في مقام معارضته بالخبر المخالف لهم «للوثوق حينئذ بصدوره كذلك» أي للتقية ، ففي حال معارضته بالخبر المخالف للعامة يحصل الوثوق بان الخبر الموافق للعامة كان صدوره للتقية لا لبيان الواقع ، ومع الوثوق بكونه للتقية لا مجال لاصالة صدوره لبيان الواقع ، واذا كان لا مجال لجريان اصالة جهة الصدور فيه فيكون مما لم يتم فيه شروط الحجية.

٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

فاتضح مما ذكرنا : ان الموافقة والمخالفة لهم لتمييز الحجة عن اللاحجة ، لا لترجيح احدى الحجتين على الاخرى ، فعد مزية مخالفة العامة من المزايا بالمرجحة غير صحيح ، لما عرفت من ان ضابط الترجيح هو كون الخبر مما تم فيه شرائط الحجية ، لانه حينئذ يكون الترجيح من باب رجحان احدى الحجتين على الأخرى.

اما اذا كان فاقد المزية خارجا عن دائرة الحجية ، فالمزية تكون لتمييز الحجة عن اللاحجة ، لا لترجيح احدى الحجتين على الأخرى.

واما في الخبر المخالف للكتاب فان ما ورد فيه من المضامين المتقدمة ـ كقوله عليه‌السلام انه زخرف ، وباطل ، وانه لم نقله ، والامر بطرحه على الجدار ، وعدم العمل به ـ يوجب الوهن في اصالة تصديق العادل بالنسبة اليه ، وفي اصالة الظهور فيه ايضا ، فانه بعد قوله عليه‌السلام : (ما خالف قول ربنا لم نقله) الدال على ان المخالف للكتاب لا يقولونه وليس بصادر منهم عليه‌السلام لا تكون اصالة تصديق العادل المقتضية للصدور جارية ، بل تكون موهونة فيما اذا كان الخبر من الظنون النوعية ، واذا كان موثوق الصدور او مقطوع الصدور فلا بد وان يكون الراوي قد اخطأ فيما سمعه عنهم ، فتكون اصالة الظهور موهونة ، فلا يكون الخبر المخالف للكتاب مما تمت فيه شرائط الحجية ، ولا تعمه ادلة اعتبار السند ، ولا دليل اعتبار الظهور ، فمعارضته بالخبر الموافق للكتاب من معارضة الحجة باللاحجة ، وعليه فتكون مزية موافقة الكتاب لتمييز الحجة عن اللاحجة ، لا لترجيح الحجة على الحجة.

والى ما ذكرنا اشار بقوله : «وكذا الصدور او الظهور في الخبر المخالف للكتاب يكون موهونا» تارة من جهة السند ، واخرى من جهة الظهور «بحيث» يكون خارجا عن الحجية «ولا يعمه ادلة اعتبار السند ولا» دليل اعتبار الظهور كما لا يخفى» وعليه «فتكون هذه الاخبار» الدالة على الاخذ بالخبر الموافق للكتاب دون الخبر المخالف له «في مقام تمييز الحجة عن اللاحجة لا» في مقام «ترجيح الحجة على الحجة» لتكون من باب الترجيح.

٨٨

فافهم (١).

______________________________________________________

(١) لعله اشارة الى ان مخالفة الكتاب على نحوين : تارة بنحو التباين ، واخرى بنحو العموم والخصوص ، والاخبار المتقدمة ظاهرة في المخالفة على نحو التباين ، لان المخالفة بنحو العموم والخصوص مما لا ريب فيها ، ولذا جاز تخصيص الكتاب بالخبر الواحد. وعليه فلا مانع من عد الموافقة للكتاب من المرجحات ، لان الخبر المخالف للكتاب على نحو العموم والخصوص جامع لشرائط الحجية ، ولا يكون المقام من باب تمييز الحجة عن اللاحجة فيما لو عارضه خبر آخر موافق للكتاب ، بل من باب ترجيح احدى الحجتين على الاخرى.

ومثله الحال في موافقة العامة ، فان الاخبار الواردة في غير فرض التعارض انما تدل على ترك ما تفرد به العامة ، كأمره عليه‌السلام بالرجوع الى قاضي البلد والاخذ بخلافه ، وكالتعليل في وجه امرهم بخلاف ما ذهب اليه العامة من انهم كانوا يسألون عليا امير المؤمنين عليه‌السلام ثم يجعلون له ضدا من عند انفسهم.

واما الموافقة في مورد التعارض ففرضها فرض عدم كون الحكم مما تفرد به العامة ، مضافا الى ان المتعارضين ربما يكونان دالين على حكمين كليهما موافقين للعامة ، كما في المرفوعة فانه فرض فيها موافقتهما تارة لما عند العامة ومخالفتهما اخرى معا لهما ، وهذا يدل على ان مورد المعارضة ليس دائما يكون احد الخبرين موافقا لما تفرد به العامة ، مع ان المتعارضين الموافقين للعامة ربما يكونان دالين على حكمين متنافيين بالسلب والايجاب ، ولا يعقل ان يكون الرشد في خلاف السلب والايجاب معا. هذا مضافا الى ان موافقة الكتاب ومخالفة العامة قد ذكرا في المقبولة ، وفي المرفوعة بعد ذكر جملة من المرجحات ، فلو كان ذلك من باب تمييز الحجة عن اللاحجة لكان ذكرهما متقدما على بقية المرجحات.

فاتضح : ان دعوى موافقة العامة دائما حتى في مورد التعارض من باب تمييز الحجة عن اللاحجة لا يخلو عن اشكال.

٨٩

وإن أبيت عن ذلك ، فلا محيص عن حملها توفيقا بينها وبين الاطلاقات ، إما على ذلك أو على الاستحباب كما أشرنا إليه آنفا ، هذا (١) ثم إنه لو لا التوفيق بذلك للزم التقييد أيضا في أخبار المرجحات ، وهي آبية عنه ، كيف يمكن تقييد مثل : ما خالف قول ربنا لم أقله ، أو زخرف ، أو باطل؟ ... كما لا يخفى (٢).

______________________________________________________

(١) حاصله : انه لو قلنا بان موافقة الكتاب ومخالفة العامة من المرجحات ، وشأنهما شأن المزايا الأخر المذكورة معهما كالأعدلية والشهرة ، إلّا انه لما عرفت من كون عمدة اخبار الترجيح المقبولة ، وقد مر الاشكال عليها : تارة بانها واردة في مورد الخصومة والمحاكمة ، واخرى بان موردها زمان الحضور ، وثالثة بلزوم حمل مطلقات التخيير على الفرد النادر ، فلا بد من حملها على ما لا ينافي اطلاق ادلة التخيير ، اما على اختصاص وجوب الترجيح بمورد الحكومة او على الاستحباب.

والى ما ذكرنا اشار بقوله : «وان أبيت عن ذلك» أي وان أبيت عن قبول ما ذكرنا : من كون موافقة الكتاب ومخالفة العامة لتمييز الحجة عن اللاحجة ، بل كان حالهما حال غيرهما من المزايا المذكورة معهما واردة للترجيح «فلا محيص عن حملها» على ما لا ينافي اطلاقات التخيير «توفيقا بينها وبين الاطلاقات اما على ذلك» أي على لزوم الترجيح بالمزايا المذكورة في مورد الحكومة «او على الاستحباب».

(٢) حاصله : انه لو لم نحمل اخبار الترجيح على ما ذكرنا ، وقلنا بان المزايا المذكورة في اخبار الترجيح كلها للترجيح حتى موافقة الكتاب ومخالفة العامة ، فلا بد من تقييد مطلقات اخبار موافقة الكتاب ومخالفة العامة بغير الموافقة والمخالفة في مورد التعارض ، لوضوح ظهور تلك المطلقات في كون المخالف لكتاب الله والموافق للعامة مطلقا ليس بحجة من رأس ، ولكنها في مورد التعارض تكون حجة مرجوحة ، لان الترجيح لا بد فيه من فرض الحجية أولا ثم تقديم الراجح. وحينئذ يرد اشكال آخر :

٩٠

فتلخص ـ مما ذكرنا ـ أن اطلاقات التخيير محكمة ، وليس في الاخبار ما يصلح لتقييدها. نعم قد استدل على تقييدها ، ووجوب الترجيح في المتفاضلين (١) بوجوه أخر :

______________________________________________________

وهو ان ظهور تلك المطلقات آب عن التخصيص والتقييد ، فان قوله عليه‌السلام ما خالف قول ربنا لم نقله ، او انه زخرف وباطل ، ومثل مضمون قوله عليه‌السلام في مقام موافقة العامة ائت فقيه البلد واستفته وخذ بخلافه فان الحق فيه آب عن التقييد ... ومرجع هذا الى اشكال رابع على اخبار الترجيح في خصوص موافقة الكتاب ومخالفة العامة.

ولا يخفى ان ظاهر المتن ان التوفيق بما ذكره بين مطلقات اخبار التخيير واخبار الترجيح يقتضي صحة كون الموافقة للكتاب والمخالفة للعامة من المرجحات ، مع انه حيث تكون اخبارها المطلقة آبية عن التقييد فالتوفيق المذكور لا يصحح كونها من المرجحات حتى في مورد الحكومة ، بل لا بد من انها حتى في هذا المورد لتمييز الحجة عن اللاحجة لا من المرجحات. وكذا بالحمل على الاستحباب فان المخالف لكتاب الله والموافق للعامة لا يجوز العمل عليه لانه ليس بحجة ، لا انه يستحب العمل بالموافق لكتاب الله والمخالف للعامة بالنسبة الى المخالف لكتاب الله والموافق للعامة.

(١) هذا ملخص ما مر : من ان الاصل العملي وان كان يقتضي الاخذ بما فيه المزية ، إلّا انه لا مجرى له مع اطلاقات التخيير ، لوضوح ان الرجوع الى الاصل العملي انما هو حيث لا يرد دليل لفظي على خلافه ، وبعد ورود اطلاقات التخيير فلا وجه لجريانه.

واما اخبار الترجيح وتقييد مطلقات التخيير بها فقد عرفت انه لا وجه له ايضا ، لما يرد عليها من الاشكالات المتقدمة.

فالحق في تعارض الخبرين هو التخيير بينهما في مقام الفتوى.

٩١

منها : دعوى الاجماع على الاخذ بأقوى الدليلين (١).

وفيه أن دعوى الاجماع ـ مع مصير مثل الكليني إلى التخيير ، وهو في عهد الغيبة الصغرى ويخالط النواب والسفراء ، قال في ديباجة الكافي : ولا نجد شيئا (٢) أوسع ولا أحوط من التخيير (٣) ـ مجازفة.

______________________________________________________

(١) قد استدل القائلون بلزوم الترجيح في المتعارضين بوجوه أخر :

منها الاجماع المدعى على لزوم الاخذ باقوى الدليلين. ولا ريب ان المزايا المذكورة مما توجب قوة الدليل الواجد لها على الفاقد لها ، فان الدليل الذي يكون راويه اعدل هو اقوى من حيث السند من الدليل الذي راويه ليس باعدل ، والرواية التي تكون مشهورة هي اقوى من الرواية غير المشهورة ، والرواية التي يكون حكمها موافقا للكتاب او مخالفا للعامة هي اقوى من حيث جهة الصدور من الرواية المخالفة للكتاب او الموافقة للعامة.

(٢) توضيحه : ان الصحيح من مسالك الاجماع هو الاجماع الحدسي كما مر بيانه في مبحث الاجماع. ومع مصير الكليني (قدس‌سره) الى التخيير في المتعارضين لا وجه لدعوى الاجماع ، لان حياة الكليني (قدس‌سره) كانت في الغيبة الصغرى ، وكان مخالطا لنواب الامام وسفرائه فيها ، وذهاب الكليني الى التخيير يكشف عن ان رأي السفراء لم يكن على الترجيح ، وإلّا لما قال بالتخيير.

(٣) حاصله : ان الكليني (قدس‌سره) يقول انه ليس هناك شيء اوسع من التخيير في المتعارضين ولا احوط منه. ولا يخفى ان كلامه (قدس‌سره) ظاهر بذهابه الى التخيير وانه اوسع واحوط : اما كونه اوسع فواضح ، لان الاخذ بأي واحد من الخبرين اوسع من الاخذ بخصوص احدهما. واما كونه احوط فقد يكون المراد من احوطيته هو كون ادلة التخيير اقوى من ادلة الترجيح ، ولا ريب ان الاخذ باقوى الدليلين احوط ، او انه احوط لكونه عملا بكلا الدليلين وهو احوط من الاخذ باحدهما. والله العالم.

٩٢

ومنها : أنه لو لم يجب ترجيح ذي المزية ، لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح عقلا ، بل ممتنع قطعا (١).

وفيه انه إنما يجب الترجيح لو كانت المزية موجبة لتأكد ملاك الحجية في نظر الشارع ، ضرورة إمكان أن تكون تلك المزية بالاضافة إلى ملاكها من قبيل الحجر في جنب الانسان ، وكان الترجيح بها بلا مرجح ، وهو قبيح كما هو واضح (٢) ، هذا مضافا إلى ما هو في الاضراب من الحكم

______________________________________________________

قوله : «مجازفة الخ» هذا خبر إن والتقدير ان دعوى الاجماع على الترجيح مجازفة مع ذهاب الكليني الى التخيير.

(١) توضيح هذا الوجه ان الخبر الواجد للمزية هو الراجح ، والخبر الفاقد للمزية هو المرجوح ، فلو لم يكن العمل على طبق الراجح واجبا بان يكون الحكم هو التخيير بينهما للزم ترجيح المرجوح على الراجح ، لوضوح ان الحكم بالتخيير بينهما معناه مساواتهما والغاء رجحان الراجح ، ومن البين ان ترجيح المرجوح على الراجح قبيح عقلا ، بل ممتنع قطعا على الشارع.

ولا يخفى انه لو تم هذا الدليل لكان لازمه تقديم الخبر ذي المزية مطلقا سواء كانت المزية منصوصة أو غير منصوصة ، ولكان لازمه عدم امكان القول بالتخيير ، لوضوح انه بعد تمامية البرهان العقلي على لزوم الترجيح لما هو واجد للمزية لا يعقل الاخذ بظهور اخبار التخيير ، لعدم امكان مصادمة الظهور لما قام الدليل العقلي عليه.

(٢) توضيح ما اجاب به (قدس‌سره) عن هذا الوجه وهو ان كبرى هذه القضية وهو ان ترجيح المرجوح على الراجح قبيح مسلمة ، ولكن الفساد ناشئ من تطبيقها على ما نحن فيه.

وبيان ذلك : ان مساواة فاقد المزية لواجدها انما يكون من مصاديق هذه الكبرى ومن ترجيح المرجوح على الراجح ، حيث تكون تلك المزية في الواجد موجبة

٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

لاقوائية ملاك الحجيّة في الواجد بالنسبة الى ملاك الحجيّة في الفاقد ، وليس كل مزيّة في الواجد تكون موجبة لقوّة ملاك الحجيّة في نظر الشارع ، فان من الجائز ان تكون المزيّة بالنسبة الى ملاك الحجية اجنبية تماما ، ومن قبيل الحجر في جنب الانسان ، فان وجود الحجر في جنب الانسان غير مرتبط بإنسانيته ، وحيث تكون تلك المزية اجنبية تماما عن اقوائية ملاك الحجية في احد الخبرين في نظر الشارع فترجيح الواجد لها حينئذ على الفاقد يكون ترجيحا من غير مرجح ، لا ان مساواة الفاقد للواجد من ترجيح المرجوح على الراجح ، لوضوح ان الواجد للمزية اذا كانت المزية فيه اجنبية عن قوّة ملاك الحجية فيكون ملاك الحجية في الواجد والفاقد على حدّ سواء ، فترجيح الواجد ـ حينئذ ـ على الفاقد بالنسبة الى ملاك الحجيّة من الترجيح بلا مرجّح ، لفرض كون تلك المزية اجنبية عنه ، ولا موجب آخر للترجيح ، فالترجيح حينئذ يكون بلا مرجّح ، وينقلب الحال للزوم المساواة على الفرض ، وترجيح الواجد على الفاقد يكون من الترجيح بلا مرجّح.

هذا بالنسبة الى اصل المزيّة. واما بالنسبة الى المزايا المنصوصة ، فحيث عرفت ان القدر المتيقن منها هو اما مورد الحكومة او زمان الحضور. اما بالنسبة الى مورد الفتوى في زمان الغيبة فلا دلالة لها على كونها موجبة لاقوائيّة ملاك الحجية فيه في نظر الشارع ، فلا يكون الحكم بالمساواة بين الواجد والفاقد في زمان الغيبة في مقام الفتوى من ترجيح المرجوح على الراجح ، بل اطلاقات التخيير تقتضي المساواة بينهما ، فلا يكون الحكم بالتخيير من ترجيح المرجوح على الراجح ، بل يكون لزوم تقديم الواجد على الفاقد من الترجيح بلا مرجّح ، لعدم ثبوت ما يقتضي الترجيح.

فظهر مما ذكرنا : ان عدم القول بالترجيح في زمان الغيبة في الخبرين المتعارضين ليس من مصاديق ترجيح المرجوح على الراجح ، لانه انما يكون من مصاديقها حيث تكون المزيّة موجبة لاقوائيّة ملاك الحجية في نظر الشارع ولم يثبت ذلك.

٩٤

بالقبح إلى الامتناع ، من أن الترجيح بلا مرجح في الافعال الاختيارية ومنها الاحكام الشرعية ، لا يكون إلا قبيحا ، ولا يستحيل وقوعه إلا على الحكيم تعالى ، وإلّا فهو بمكان من الامكان ، لكفاية إرادة المختار علة لفعله ، وإنما الممتنع هو وجود الممكن بلا علّة ، فلا استحالة في ترجيحه تعالى للمرجوح ، إلّا من باب امتناع صدوره منه تعالى ، وأما غيره فلا استحالة في ترجيحه لما هو المرجوح مما باختياره.

وبالجملة : الترجيح بلا مرجّح بمعنى بلا علّة محال ، وبمعنى بلا داع عقلائي قبيح ليس بمحال ، فلا تشتبه (١).

______________________________________________________

والى ما ذكرنا اشار بقوله : «وفيه انه انما يجب الترجيح» لواجد المزية على فاقدها «لو كانت المزية موجبة لتأكد ملاك الحجية في نظر الشارع» وقد عرفت انه ليس كل مزية موجبة لتأكّد ملاك الحجية في نظر الشارع «ضرورة امكان ان تكون تلك المزية بالاضافة الى ملاكها» أي الى ملاك الحجية «من قبيل الحجر في جنب الانسان» فلا تكون تلك المزية موجبة لتأكّد ملاك الحجية.

وقد اشار الى انه حيث تكون تلك المزية اجنبية عن تأكّد ملاك الحجية ينقلب الحال ويكون الترجيح بها من الترجيح بلا مرجّح بقوله : «وكان الترجيح بها بلا مرجّح وهو قبيح كما هو واضح» لبداهة ان الترجيح مع فرض كون تلك المزية اجنبية عن تأكد ملاك الحجية يكون الترجيح بها بلا مرجّح ، لان الترجيح بما لا يقتضي الترجيح من الترجيح بلا مرجّح.

(١) المراد من الاضراب هو قولهم : بل ممتنع عقلا.

ومحصل مرامهم : انه لو لم يجب ترجيح الواجد للمزيّة على الفاقد لها لزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وترجيح المرجوح على الراجح قبيح عقلا ، بل مضافا الى قبحه عقلا انه ممتنع قطعا ، ففيه محذوران : القبح العقلي ، والامتناع الذاتي.

٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وحاصل ما يقوله المصنف : ان كون ترجيح المرجوح على الراجح في مقامنا من الممتنع بالذات فيه خلط بين موارد هذه القاعدة.

وتوضيح ذلك : ان هناك نزاعا بين العدلية والاشاعرة في افعاله تبارك وتعالى ، مع فرض كون الفعل خاليا عن أي غرض وعن أي مصلحة. فذهب الاشاعرة الى انه لا مانع من صدور الفعل الخالي عن أي مصلحة وغرض منه تعالى شأنه.

وقال العدلية بقبحه من جهة ، وبامتناعه من جهة اخرى مع تسالم الطرفين على ان الفعل لا بد من صدوره عن ارادة واختيار ، لان صدور الفعل بلا ارادة منه تعالى ولا اختيار مرجعه الى جواز حصول المعلول بلا علة ، وهو من الترجيح بلا مرجح ، وقد اطبق الكل على محاليته.

والاشاعرة حيث انكروا الحسن والقبح العقلي وقالوا بامكان الارادة الجزافية قالوا لا مانع من صدور الفعل الخالي عن أي غرض ومصلحة منه تعالى شأنه ، لانه انما لا يصدر منه الفعل الخالي عن الغرض والمصلحة لانه قبيح حيث لا بد وان يكون فعله حسنا اما بالذات او بالعرض ، وفعل ما ليس فيه غرض ولا مصلحة قبيح فعله من الحكيم ، وهذا انما يلزم عند من يرى الحسن والقبح العقلي. اما من لا يرى ذلك فلا مانع عنده من صدور الفعل منه تعالى بلا مصلحة ولا غرض ، ويكفي في صدور الفعل منه تعالى نفس الارادة والاختيار ، فلا يكون الفعل الخالي عن المصلحة والغرض من المعلول بلا علة ، لفرض كونه صادرا عن ارادة واختيار.

نعم لازم ذلك هو الارادة الجزافية ، لانه مع فرض خلو الفعل عن المصلحة والغرض تكون ارادته من الجزاف ، ولذا قالوا بامكان الجزافية له تبارك وتعالى شأنه عن ذلك علوا كبيرا.

والعدلية بعد ان اثبتوا الحسن والقبح العقلي اوردوا عليهم : بان فعل ما ليس فيه غرض ولا مصلحة بالنظر الى نفس صدور الفعل بلا مصلحة ولا غرض هو قبيح عقلا فلا يصدر منه ، تعالى شأنه عن صدور القبيح منه ، وبالنظر الى نفس الارادة

٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الجزافية فهي ممتنعة عقلا ، لان الارادة المتعلقة بالفعل الخالي عن المصلحة والغرض حيث انها بنفسها موجود من الموجودات فهي مما تحتاج الى علة ، فان كانت العلة المرجحة لتحققها وتعلقها بهذا الفعل الخالي عن كل شيء دون غيره هو ارادة اخرى يلزم التسلسل ، وان كان تحققها من غير علة يلزم كون هذه الارادة المتعلقة بالفعل الخالي عن كل شيء من المعلول بلا علة ، وهو من الترجيح بلا مرجح المسلم بطلانه عند الكل. فالمانع بالنسبة الى نفس صدور الفعل الخالي عن كل شيء هو القبيح ، والمانع بالنسبة الى نفس الارادة الجزافية هو الامتناع.

ولا يخفى ان الكلام في هذه المسألة خارج عن مقامنا ، لان المفروض في مقامنا ان هناك شيئين في كل واحد منهما مصلحة وغرض ، غايته ان المصلحة والغرض في احدهما اقوى من الآخر. فالكلام في تلك المسألة في الترجيح بلا مرجح. والكلام في هذه المسألة هي في ترجيح من فيه رجحان على ما هو ارجح منه ، وهو يرجع الى ترجيح المرجوح على الراجح. ولما كان تقديم المرجوح على الراجح لدواع غير عقلائية لا امتناع فيه ، بل كثيرا ما يصدر من غير الحكيم ، لذلك كان ترجيح المرجوح على الراجح لا يصدر منه تعالى لانه قبيح ، حيث انه لا بد وان يكون لداع غير عقلائي ، لا لان ارادته من المعلول بلا علة.

فظهر مما ذكرنا : ان مورد الامتناع العقلي هو الارادة الجزافية المتعلقة بالفعل الخالي عن الغرض والمصلحة ، وهو من الترجيح بلا مرجح ، وبالنسبة الى نفس الفعل هو من الترجيح بلا مرجح ، ومقامنا مورد القبح العقلي هو الفعل بلا داع عقلائي ، وهو مما لا يصدر من الحكيم ، ولا امتناع فيه بالذات لانه من ترجيح المرجوح على الراجح من غير داع عقلائي ، وليس فيه امتناع بالذات ، وإلّا لما صدر من غيره.

فتبين ان الاضراب في كلام هذا القائل قد صدر من الخلط بين المقامين ، ولا وجه له في مقامنا لان مقامنا من ترجيح المرجوح على الراجح من غير داع عقلائي.

٩٧

ومنها : غير ذلك مما لا يكاد يفيد الظن ، فالصفح عنه أولى وأحسن.

ثم إنه لا إشكال في الافتاء بما اختاره من الخبرين ، في عمل نفسه وعمل مقلديه ، ولا وجه للافتاء بالتخيير في المسألة الفرعية ، لعدم الدليل عليه فيها. نعم له الافتاء به في المسألة الاصولية ، فلا بأس حينئذ باختيار

______________________________________________________

والى ما ذكرنا اشار بقوله : «هذا مضافا الى ما هو في الاضراب من الحكم بالقبح العقلي الى الامتناع» العقلي. واشار الى الوجه في عدم صحة هذا الاضراب ، وان مقامنا ليس مورد الامتناع بالذات الذي مرجعه الى حدوث المعلول بلا علة بقوله : «من ان الترجيح بلا مرجح في الافعال الاختيارية ومنها الاحكام الشرعية لا يكون إلّا قبيحا» لانه من الترجيح بلا مرجح عقلائي «و» هو قبيح عقلا لا ممتنع عقلا لانه «لا يستحيل وقوعه الا على الحكيم تعالى شأنه» عن فعل القبيح «وإلّا فهو بمكان من الامكان» لصدوره من غير الحكيم و «لكفاية ارادة المختار» ولو لداع غير عقلائي «علة لفعله وانما الممتنع هو وجود الممكن بلا علة» ومورده الفعل الخالي عن أي غرض «فلا استحالة في ترجيحه تعالى للمرجوح» لداع غير عقلائي «الا من باب امتناع صدوره منه تعالى» لانه حكيم ويستحيل على الحكيم الفعل لداع غير عقلائي لانه قبيح «واما غيره» تعالى «فلا استحالة في ترجيحه لما هو المرجوح» لداع غير عقلائي «مما» يصدر «باختياره» لموجب غير عقلائي «وبالجملة الترجيح بلا مرجح» الذي هو «بمعنى» الترجيح بلا مرجح وحدوث المعلول «بلا علة محال» وهو الممتنع عقلا «و» ترجيح المرجوح على الراجح الذي هو «بمعنى» كونه «بلا داع عقلائي قبيح عقلا وليس بمحال» بالذات عقلا «فلا تشتبه».

٩٨

المقلد غير ما اختاره المفتي ، فيعمل بما يفهم منه بصريحه أو بظهوره الذي لا شبهة فيه (١).

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان فتوى المفتي في مقامين : الاول : في الحكم الفرعي في مورد التعارض ، وفي هذا المقام ليس له ان يفتي بالتخيير بين الحكمين المدلولين للخبرين المتعارضين ، ولكن له ان يختار احد الخبرين ويفتي بالحكم الفرعي الذي هو مؤدّى الخبر الذي اختاره منهما ، والوجه في ذلك انه بناء على الطريقية الحكم الواقعي واحد فهو تعييني لا تخييري ، ولازم الافتاء بالتخيير بين الحكمين كون الحكم الواقعي تخييريا مع انه تعييني لا تخييري ، فالافتاء بالتخيير بين الحكمين يكون تشريعا محرما. ولكنه حيث قام الدليل في التعارض على التخيير في الاخذ بايّ الخبرين فله ان يختار احد الخبرين ، ويفتي بمؤدّاه في عمل نفسه وعمل مقلّديه.

وبعبارة اوضح : ان الدليل انما قام على التخيير في الطريق لا في الحكم الواقعي ، ومعنى التخيير في الحكم هو كونه واجبا تخييريا ، وحيث لم يقم الدليل على الوجوب التخييري فالافتاء بما يرجع الى الوجوب التخييري تشريع محرم. نعم قد دلّ الدليل على التخيير في الطريق : أي ان له الاخذ بايّ واحد من الخبرين المتعارضين.

والحاصل : ان التخيير في الحكم الفرعي في مقام الفتوى هو ان يقول المقلّد الى مقلّديه : انتم مخيّرون بين الوجوب وغيره فيما لو دلّ احد الخبرين على الوجوب ودلّ الخبر الثاني المعارض على غير الوجوب. واما التخيير في المسألة الاصولية هو ان يقول المقلّد لمقلّديه : انتم مخيّرون في الاخذ والاتباع لاحد هذين الخبرين المتعارضين. ولازم التخيير في الطريق أي الاخذ باحد الخبرين مما ذكرنا من جواز اختيار احد الخبرين والافتاء على طبقه ، ولا وجه للافتاء بالتخيير في نفس الحكمين لرجوعه الى الوجوب التخييري ، وحيث لا دليل عليه فهو تشريع محرم.

والمقام الثاني ما اشرنا اليه وهو الافتاء بالتخيير في نفس المسألة الاصولية ، وله فيها ان يفتي بالتخيير بان يقول : قد تعارض الخبران وللشخص ان يختار احد الخبرين

٩٩

وهل التخيير بدوي أم استمراري؟ قضية الاستصحاب لو لم نقل بأنه قضية الاطلاقات أيضا كونه استمراريا (١).

______________________________________________________

ويعمل على طبقه. ويتفرّع على الفتوى بالتخيير في المسألة الاصولية انه لا مانع من ان يكون عمل المقلّد لهذا المفتي على خلاف عمل المفتي ، بان يختار المقلّد خبرا غير الخبر الذي اختاره المفتي.

وقد اشار الى المقام الاول وهو ان للمجتهد ان يختار احد الخبرين ويفتي على طبقه بقوله : «ثم انه لا اشكال في الافتاء بما اختاره من الخبرين الى آخر الجملة». واشار الى انه ليس له ان يفتي بالتخيير بين حكمي الخبرين وهو التخيير في المسألة الفرعية بقوله : «ولا وجه للافتاء بالتخيير في المسألة الفرعية لعدم الدليل عليه» أي لعدم الدليل على التخيير في نفس الحكم الفرعي ، وانما قام الدليل على التخيير في الاخذ بايّ واحد من الخبرين وهو من التخيير في الطريق للحكم الفرعي لا في نفس الحكم الفرعي ، فالتخيير في الحكم الفرعي لا دليل عليه «فيها» أي في مسألة التعارض.

واشار الى المقام الثاني وهو الافتاء بالتخيير في المسألة الاصولية بقوله : «نعم له الافتاء به» أي بالتخيير «في المسألة الاصولية» كما عرفت. وقد اشار الى ما يتفرّع على الفتوى بالتخيير في المسألة الاصولية بقوله : «فلا بأس حينئذ باختيار المقلّد غير ما اختاره المفتي الى آخر الجملة».

(١) لا يخفى ان المراد من التخيير الذي وقع الخلاف في كونه بدويّا او استمراريا هو التخيير الثابت بقوله عليه‌السلام اذا فتخيّر في مرفوعة زرارة ، والمستفاد من قوله عليه‌السلام موسع عليك باية عملت .. وقد وقع الكلام في ان هذا التخيير بدوي او استمراري. ومعنى كونه بدويا انه اذا اختار احد الخبرين فليس له بعد ذلك ان يختار الخبر الآخر. ومعنى كونه استمراريا انه له بعد اختيار احد الخبرين ان يختار الخبر الآخر ايضا.

ومختار المصنف انه استمراري. وقد اشار الى وجهين للدلالة على انه استمراري :

١٠٠