بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-065-9
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٣٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الاصلية الشاملة لمورد المعارضة ، فالقاعدة الاولية في المتعارضين وان كانت ما ذكر إلّا انه لما كان لازمها اهمال دلالة اصلية ، وكان لازم الجمع بينهما اهمال دلالة تبعية ، فقاعدة الجمع اولى من الطرح تكون هي القاعدة الثانية في المتعارضين.

ويرد عليه أولا : ان كون الجمع مستلزما لاهمال دلالة تبعية ، بخلاف القاعدة الاولية فانها مستلزمة لاهمال دلالة اصلية ، لا يوجب كون قاعدة الجمع هي القاعدة التي يلزم اتباعها في المتعارضين ، لعدم كون ذلك برهانا عقليا محضا ، ولا بناء عقلائيا لعدم بناء العقلاء الا على اصالة الظهور واصالة الصدور واصالة السند ، ولا بناء من العقلاء على تقديم ما يستلزم الاهمال في الدلالة التبعية على ما يستلزم الاهمال في الدلالة الاصلية.

وثانيا : ان لزوم تقديم ما يستلزم الدلالة التبعية على ما يستلزم الاهمال في الدلالة الاصلية لا يقتضي كون الجمع اولى من الطرح ، لان الجمع برفع اليد عن بعض ما يشمله المدلول الاولي ـ ايضا ـ هو رفع يد عن الدلالة الاصلية ، لان المفروض كون الدلالة الاصلية هي الشمول ، فرفع اليد عن الشمول رفع يد عن الدلالة الاصلية ايضا ، فلا يكون الجمع اولى من الطرح ، لان في الجمع ـ ايضا ـ اهمالا لدلالة اصلية. هذا في الدليل العقلي على قاعدة الجمع.

واما الدليل النقلي فغايته هو دعوى الاجماع المنقول عليها .. وفيه اولا : عدم حجية الاجماع المنقول. وثانيا : انه لا صراحة في هذا الاجماع المنقول على ان المراد من امكان الجمع هو الامكان العقلي الشامل لما لا يساعد العرف على التصرف فيه الذي هو مورد التعارض ، بل يحتمل ان يكون المراد من امكان الجمع هو الامكان العرفي المختص بما يساعد العرف على التصرف فيه ، وهو مختص بغير مورد التعارض كما عرفت.

فاتضح مما ذكرنا : انه لا دليل لا من العقل ولا من النقل على هذه القاعدة لتكون هي القاعدة المتبعة في المتعارضين دون القاعدة الاولية. والى ما ذكرنا اشار بقوله :

٦١

أيضا طرحا للامارة أو الامارتين ، ضرورة سقوط أصالة الظهور في أحدهما أو كليهما معه ، وقد عرفت أن التعارض بين الظهورين فيما كان سنداهما قطعيين ، وفي السندين إذا كانا ظنيين (١) ، وقد عرفت أن

______________________________________________________

«اذ لا دليل عليه فيما لا يساعد عليه العرف» الذي هو مورد التعارض. نعم الجمع اولى من الطرح فيما يساعد عليه العرف الخارج عن التعارض «مما كان المجموع او احدهما قرينة عرفية على التصرف في احدهما بعينه» كما في مثل الورود والحكومة «او فيهما» وذلك في بعض موارد التوفيق العرفي كما اذا كان لكل واحد من الدليلين نص من جهة وظهور من جهة اخرى «كما عرفته في الصورة السابقة».

(١) هذا هو الايراد الثاني على قاعدة الجمع في المتن ، لانه بعد ان اورد عليها أولا بانه لا دليل عليها لا من العقل ولا من النقل ... اضاف الايراد الثاني بقوله : «مع ان الى الى آخره».

وتوضيحه : ان الاصول العقلائية في الطريق كالخبر الواحد ـ مثلا ـ ثلاثة : اصالة السند ، واصالة الظهور ، واصالة الصدور. ولازم كون القاعدة هي الجمع هو تقديم اصالة السند فيهما على اصالة الظهور ، ولازم القاعدة الاولية المذكورة في المتعارضين هو سراية التعارض من الظهور فيهما الى سنديهما ، في مثل الخبرين اللذين هما ظنيا السند ظنيا الدلالة ، وبناء على قاعدة الجمع والتصرف في مدلولهما او مدلول احدهما هو المحافظة على اصالة السند فيهما ورفع اليد عن اصالة الظهور فيهما ، ففي قاعدة الجمع في المتعارضين بالتصرف في مدلولهما او مدلول احدهما طرح لاصالة الظهور ، فلم يخل العمل بقاعدة الجمع في المتعارضين عن طرح ايضا. وما المرجح لاصالة السند على اصالة الظهور؟ نعم فيما كان السند في المتعارضين قطعيا يكون الجمع بالتصرف في مدلولهما او مدلول احدهما طرحا لاصالة الظهور خاصة ، من دون تقديم لاصالة السند عليها ، فقاعدة الجمع المذكورة لم تخل عن الطرح لاصالة الظهور على كل حال.

٦٢

قضية التعارض إنما هو سقوط المتعارضين في خصوص كل ما يؤديان إليه من الحكمين ، لا بقاؤهما على الحجية بما يتصرف فيهما أو في أحدهما ، أو بقاء سنديهما عليها كذلك بلا دليل يساعد عليه من عقل أو نقل (١) ،

______________________________________________________

وقد اشار الى ما ذكرنا بقوله : «مع ان في الجمع كذلك» بالتصرف في مدلولهما او مدلول احدهما «ايضا طرحا للامارة» بالتصرف في احدهما «او الامارتين» بالتصرف في كليهما «ضرورة سقوط اصالة الظهور في احدهما او كليهما معه» أي مع الجمع على كل حال كما عرفت. واشار الى ان التعارض في الظهورين فقط فيما اذا كان السندان قطعيين ، وفي السندين ايضا فيما اذا كان السندان ظنيين كالظهورين بقوله : «وقد عرفت ان التعارض بين الظهورين الى آخر الجملة».

(١) حاصله : الاشارة الى ما مر تحقيقه : من ان القاعدة في الدليلين المتعارضين الظني السند والظهور ـ كالخبرين ـ هي سقوط كلا المتعارضين عن الحجية سندا في جميع مدلولهما المطابقي ، دون قاعدة الجمع التي مقتضاها بقاء سنديهما على الحجية وعدم سقوطهما في جميع مدلولهما المطابقي ، بالتصرف في ظهورهما او في ظهور احدهما بما به ترتفع المعارضة بينهما. ومما ذكرنا يظهر نفي احتمال ثالث وهو بقاء سنديهما على الحجية وسقوطهما معا في الدلالة المطابقية ، بدعوى ان المعارضة بينهما انما هي في مدلولهما ، فلا مجال للاخذ باصالة الظهور فيهما بعد المعارضة ، وبعد سقوطهما في الظهور لا معارضة بينهما من حيث السند ، فلا مانع من التعبد بسنديهما ، فتكون النتيجة بقاء سنديهما على الحجية وسقوطهما في الدلالة المطابقية.

ويرد عليه : ان التعبد بالسند مع عدم حجية الظهور لغو لا فائدة فيه ، فلا وجه لبقاء سنديهما على الحجية مع عدم حجية الظهور فيهما معا.

وقد اشار الى ما هو المختار الذي مر تحقيقه بقوله : «وقد عرفت الى آخر الجملة». والى عدم صحة قاعدة الجمع بقوله : «لا بقاؤهما على الحجية الى آخر الجملة». والى نفي الاحتمال الثالث بقوله : «او بقاء سنديهما عليها» أي على

٦٣

فلا يبعد أن يكون المراد من إمكان الجمع هو إمكانه عرفا ، ولا ينافيه الحكم بأنه أولى مع لزومه حينئذ وتعينه ، فإن أولويته من قبيل الاولوية في أولي الارحام ، وعليه لا إشكال فيه ولا كلام (١).

______________________________________________________

الحجية «كذلك» أي مع سقوطهما في الدلالة. واشار الى ان الوجه في عدم صحة قاعدة الجمع والاحتمال الثالث : انه لا دليل من العقل ولا من النقل يساعد على ما ذكروه بقوله : «بلا دليل يساعد الى آخر الجملة».

(١) حاصله : انه لو ثبت اجماع على القضية المذكورة التي استدل بها من قال بالجمع في المتعارضين ، من ان الجمع مهما امكن اولى من الطرح ، فحيث ان الامكان العقلي لا يصح ارادته كما عرفت ، فلا يبعد ان يكون المراد من الامكان فيها هو الامكان العرفي الخارج عن مبحث التعارض كما مر ، فيكون المراد بهذه القضية الثانية بالاجماع هو موارد الجمع العرفي الذي يساعد العرف فيه على التصرف اما في احدهما او في كليهما.

لا يقال : ان ظاهر لفظ الاولى في القضية المذكورة كون الجمع بالتصرف ليس متعينا بالذات ، ولازم ذلك ان يكون موردها التعارض لكون الجمع بالتصرف ليس متعينا فيه ، بل القاعدة الاولية تقتضي غير الجمع بالتصرف ، بخلاف الجمع فيما يساعد عليه العرف فانه متعين بذاته.

فانه يقال : لا مانع من كون المراد من الاولى فيها هو التعين بالذات ، وتكون الاولوية فيه كالاولوية في آية اولي الارحام بعضهم اولى ببعض ، فان الاولوية في ميراث ذوي الارحام يراد بها التعين واللزوم.

وقد اشار الى حمل القضية على الامكان العرفي بقوله : «فلا يبعد الى آخر الجملة». واشار الى الاشكال المذكور بقوله : «ولا ينافيه الحكم بانه اولى» الظاهر في عدم تعين الجمع ولزومه «مع لزومه» أي مع كون الجمع لازما متعينا بناء على ان المراد منها هو الامكان العرفي ، لان الجمع فيما يساعد العرف على التصرف فيه

٦٤

فصل

لا يخفى أن ما ذكر من قضية التعارض بين الامارات ، إنما هو بملاحظة القاعدة في تعارضها ، وإلا فربما يدعى الاجماع على عدم سقوط كلا المتعارضين في الاخبار ، كما اتفقت عليه كلمة غير واحد من الاخبار (١) ، ولا يخفى أن اللازم فيما إذا لم تنهض حجة على التعيين أو

______________________________________________________

لازم «حينئذ وتعينه» واضح. والى جوابه اشار بقوله : «فان أولويته من قبيل الاولويّة في اولي الارحام» فهو اولوية لزومية «وعليه لا اشكال فيه ولا كلام» أي حيث تكون الاولوية لزومية يرتفع الاشكال عن حمل القضية على الامكان العرفي.

(١) حاصله : انك قد عرفت ان القاعدة الاولى في المتعارضين من الطرق والامارات تقتضي سقوط كلا المتعارضين في الدلالة المطابقية على الطريقية ، وعلى السببيّة فالقاعدة الاولية تقتضي التخيير مطلقا على رأي الشيخ (قدس‌سره) ، وعلى رأي المصنف هو سقوطهما ـ ايضا ـ في الدلالة المطابقية بناء على كون العلم بالكذب مانعا ، والتخيير في بعض المقامات والتعيين في بعض المقدمات بناء على عدم كون العلم بالكذب مانعا كما مرّ بيانه.

واما القاعدة الثانية ففي خصوص المتعارضين من الاخبار فقد قام الاجماع وجملة وافية من الاخبار على عدم سقوط كلا المتعارضين في الدلالة المطابقية. هذا هو القدر المتيقن من القاعدة الثانية.

وقد اشار الى هذا بقوله : «لا يخفى ان ما ذكر من قضية التعارض بين الامارات» من سقوط كلا المتعارضين في الدلالة المطابقية اما مطلقا او في بعض المقامات وفي بعضها بالتخيير «انما هو بملاحظة القاعدة» الاولية «في تعارضها» أي في تعارض الامارات «والّا» فبملاحظة القاعدة الثانوية «فربما يدعى الاجماع على عدم سقوط كلا المتعارضين في» خصوص «الاخبار» من الامارات المتعارضة «كما» انه يدل على ذلك ايضا ما «اتفقت عليه كلمة غير واحد من الاخبار».

٦٥

التخيير بينهما هو الاقتصار على الراجح منهما ، للقطع بحجيته تخييرا أو تعيينا ، بخلاف الآخر لعدم القطع بحجيته ، والاصل عدم حجية ما لم يقطع بحجيته ، بل ربما ادعي الاجماع أيضا على حجية خصوص الراجح (١) ،

______________________________________________________

(١) حاصله : انه بعد ما عرفت ان القاعدة الثانوية في خصوص تعارض الاخبار : هي عدم سقوط كلا المتعارضين في الدلالة المطابقية ، وان هذا هو القدر المتيقن من القاعدة الثانوية ... فلا بد من تأسيس اصل ـ بناء على هذه القاعدة الثانوية ـ قبل الدخول فيما تقتضيه الادلة الخاصة في المقام.

والاصل يقتضي ـ بناء على الطريقية ـ الاقتصار على الراجح من الخبرين ، لانه من دوران الامر بين التخيير والتعيين في المسألة الاصولية ، فانا لو قلنا بالتخيير في دوران الامر بين التعيين والتخيير في المسألة الفرعية ، لكن لا نقول به في المسألة الاصولية كما في المقام لان المشكوك هو الحجية والامر دائر بين كون الحجة هو احدهما على التخيير ، أو ان الحجة هو خصوص الراجح منهما .. وليس التخيير في الحكم الفرعي وانه هل هو احدهما تخييرا او خصوص احدهما تعيينا؟

وتوضيح ذلك : يتوقف على امور :

الاول : انه هل هناك مانع عقلي من التخيير بينهما بناء على الطريقية ، ام لا مانع عقلا من التخيير حتى بناء على الطريقية؟

وما يمكن ان يقال في وجه المانعية عن التخيير بناء على الطريقية : هو انه بناء على الطريقية ان الواقع واحد وقد جعلت الامارة طريقا الى تنجيزه ، وحيث ان احدى الامارتين توافقه والاخرى تخالفه ، فجعل التخيير بين ما يوافق الواقع وما يخالفه مناف لكون الداعي لجعل الامارة تنجيز الواقع بها وايصالها له ، فلا وجه للتخيير بين ما يوافق الواقع وبين ما يخالفه ، مع فرض كون الواقع واحدا وان الداعي للجعل ايصاله بالامارة ، فكيف يجعل الشارع ما يخالف الواقع حجة مع كون الداعي لجعل الحجية هي الايصال؟

٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

والجواب عنه : ان محض موافقة الامارة للواقع ليست هي العلّة التامة لجعل الامارة ، والّا كانت كلّ امارة موافقة للواقع حجّة ، فاختصاص جعل الحجيّة ببعض الامارات دون بعض ـ كخبر الثقة دون غيره ـ يكشف عن انه هناك شيء آخر اوجب ان يختصّ الجعل ببعض الامارات دون بعضها ، وذلك الشيء الآخر موجود في بعض الامارات دون بعضها الآخر.

فتحصّل مما ذكرنا : ان العلّة لجعل الامارة هي موافقة الواقع ، ومصلحة اخرى موجودة في بعض الامارات دون بعضها ، فاذا كان هناك شيء آخر غير الاصابة وموافقة الواقع شريكا في جعل الحجية يتضح معقولية جعل التخيير في مورد التعارض ، لان صرف موافقة احدى الامارتين للواقع ليست هي العلّة التامة لجعل الحجية حتى يكون التخيير بين ما يوافقه وما لا يوافقه غير معقول ، بل هناك مصلحة اخرى لا بد من انضمامها الى موافقة الواقع ، والمصلحة الاخرى انما تتحقق في الامارة الموافقة حيث لا تعارض هذه الامارة امارة الاخرى التي هي العدل لهذه الامارة الموافقة ، اما اذا عارضتها الامارة الاخرى فلا تكون الامارة الموافقة تامة المصلحة حتى تكون الحجية لها دون غيرها ، وحيث لا تكون العلة تامة في الامارة الموافقة فلا مانع عقلا من جعل الحجية للامارة المخالفة بنحو التخيير.

الثاني : ان معنى الحجية بنحو التخيير هي كون كل واحدة من الامارتين منجزيتها متقوّمة بأمرين : موافقتها للواقع ، وترك العمل على طبق عدلها المعذّر. ومعذّريتها متقوّمة بأمرين ايضا : خطؤها والعمل على طبقها او على طبق عدلها.

الثالث : ان من الواضح ان المنجّز للواقع هو الحجة الواصلة ، والمعذّر عن مخالفة الواقع هو الحجة الواصلة. ومن البيّن ان الامارة الراجحة يعلم قطعا بكونها منجّزة للواقع اما تعيينا او تخييرا ، والامارة المرجوحة لا يعلم معذريتها عن الواقع ، لاحتمال كون الامارة الراجحة هي الحجة تعيينا ، فلا تكون موافقتها مقطوعة المعذريّة بالفعل ، فالعقل يحكم بلزوم الاقتصار على الامارة الراجحة لانها معذّرة

٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

قطعا للعلم بحجيتها اما تعيينا او تخييرا ، ولا محالة ما هو مقطوع الحجية معذر قطعا ، بخلاف الامارة المرجوحة فان العقل لا يجوز الاقتصار على موافقتها ، لانه لم يعلم كون موافقتها معذرة عن مخالفة الامارة الراجحة ، لاحتمال كون الامارة الراجحة هي الحجة تعيينا. فاذا كانت معذرية الامارة الراجحة واصلة بحكم العقل ، ومعذرية الامارة المرجوحة غير واصلة ، فلا مانع من العقاب على مخالفة الامارة الراجحة لو كانت مصادفة للواقع ، بخلاف الامارة المرجوحة فانه يقطع بعدم العقاب على مخالفتها وان صادفت الواقع لموافقة عدلها الراجح الذي هو معذر عن مخالفتها.

ومما ذكرنا يظهر : ان اصالة البراءة غير جارية في المقام ، لان مورد البراءة عدم وصول البيان ، وبعد وصول حكم العقل بلزوم الاقتصار على الراجح لانه معذر قطعا ، وعدم جواز الاقتصار على المرجوح لعدم القطع بمعذريته ، وانه لا دافع لاحتمال العقاب على مخالفة الراجح لو اقتصرنا على المرجوح ، فان هذا من العقل يكون بيانا واصلا ، ومع وصول هذا البيان لا مجرى للبراءة. هذا كله بناء على الطريقية ، وقد اتضح ان الاصل يقتضي الاقتصار على الراجح.

واما بناء على السببية والموضوعية ، فقد مر ان الاصل الاولي والقاعدة الاولية هو حجية احدهما : تارة على التعيين ، واخرى على التخيير ، فلا فائدة في هذه القاعدة الثانوية على القول بالسببية ، لان القدر المتيقن منها ـ اما للاجماع او للاخبار ـ هو عدم سقوطهما معا عن الحجية. وبعد ان كانت القاعدة الاولية هو حجية احدهما تعيينا او تخييرا فالاجماع على عدم سقوطهما لا يفيد تعبدا جديدا. ومثله الاخبار الدالة على محض عدم سقوطهما لدلالة القاعدة الاولية على ذلك.

واما ما يقتضيه الاصل في الخبرين الدالين على الحكم الالزامي ، فيما اذا كان احد الخبرين ذا مزية دون الآخر ، فانه حيث كان ـ بناء على السببية ـ كل واحد من الخبرين واجدا لملاك الحجية بالذات فهما مع الغض عن هذه المزية من الواجبين المتزاحمين ، ولكن بملاحظة المزية يكون واجدها محتمل الاهمية. وقد مر من المصنف

٦٨

واستدل عليه بوجوه أخر أحسنها الاخبار (١) ، وهي على طوائف :

______________________________________________________

انه لا بد من الاقتصار على محتمل الاهمية ، وعليه فالاصل بناء على السببيّة كالطريقية يقتضي الاقتصار على الراجح منهما ، ولذا اطلق المصنف في المتن بان الاصل يقتضي الاقتصار على الراجح من دون تخصيص له بالطريقية ، فقال (قدس‌سره) : «ولا يخفى ان اللازم فيما اذا لم تنهض حجة» خاصة «على التعيين او التخيير بينهما» في الخبرين المتعارضين بعد كون القاعدة الثانوية المستفادة من الاجماع والاخبار هو عدم سقوطهما معا عن الحجية ، فالاصل في المقام «هو الاقتصار على الراجح منهما». ثم اشار الى الوجه في هذا الاصل بقوله : «للقطع بحجيّته» أي للقطع بحجية الراجح اما «تخييرا او تعيينا بخلاف الآخر» وهو المرجوح «لعدم القطع بحجيّته و» لما كان «الاصل» الاولي في الامارات هو «عدم حجية ما لم يقطع بحجيّته» فلا يكون المرجوح بحجة بالفعل «بل» مضافا الى هذا الاصل «ربما ادّعي الاجماع ايضا على حجية خصوص الراجح».

ولا يخفى حيث ان الاجماع المدعى في المقام من الاجماع المنقول أولا ، وثانيا انه محتمل المدرك .. فلذلك اشار الى ضعفه بقوله : «بل ربما ادعي الاجماع ايضا».

(١) قد عرفت ان الاصل في المقام يقتضي الاقتصار على خصوص الراجح ، وعليه فذو المزية من الخبرين يكون هو الحجة الفعلية بمقتضى هذا الاصل ، وقد استدل ايضا بلزوم الاقتصار على ذي المزية بوجوه أخر غير هذا الاصل سيأتي التعرّض لها ، ولكن احسنها الاخبار الدالة على تقديم الراجح وهو ذو المزية.

ولا يخفى انه لو تمت دلالة الاخبار على حجية خصوص الراجح لكانت دليلا خاصا على التعيين للراجح ، ومعها لا مجال للاصل المذكور وان كان موافقا لها ، لوضوح ان الرجوع الى الاصل انما هو حيث لا يكون هناك دليل خاص ، هذا اذا تمت دلالة الاخبار على تقديم الراجح وهو ذو المزية. واما اذا لم تتم دلالة هذه

٦٩

منها : ما دلّ على التخيير على الاطلاق ، كخبر الحسن بن الجهم ، عن الرضا ـ عليه‌السلام : قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا يعلم أيهما الحق ، قال : فإذا لم يعلم فموسع عليك بأيهما أخذت. وخبر الحارث بن المغيرة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة ، فموسع عليك حتى ترى القائم فترد عليه. ومكاتبة عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن عليه‌السلام اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، في ركعتي الفجر ، فروى بعضهم : صل في المحمل ، وروى بعضهم : لا تصلها إلا في الارض ، فوقع عليه‌السلام موسع عليك بأية عملت ومكاتبة الحميري إلى الحجة عليه‌السلام ـ إلى أن قال في الجواب عن ذلك حديثان .. إلى أن قال عليه‌السلام وبأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا (١)

______________________________________________________

الطائفة من الاخبار ، وتمت دلالة طائفة اخرى على التخيير كانت هذه الطائفة هي المقدمة على الاصل المذكور.

(١) لا يخفى ان الطوائف هي مطلق الاخبار : الدال بعضها على التخيير ، وبعضها على التوقّف ، وبعضها على الاحتياط ، وبعضها على الترجيح ، لا خصوص اخبار الترجيح كما يوهمه ظاهر عبارة المتن في قوله وهي على طوائف (١) بعد قوله واستدل عليه : أي على الترجيح بوجوه احسنها الاخبار ، الّا انه بعد قوله ومنها ما دلّ على التخيير يتعيّن ان مراده من الطوائف ما ذكرناه ، فيكون ذلك على سبيل الاستخدام.

ثم ان الاخبار التي ذكرها في المتن اربعة : خبر الحسن بن الجهم (٢) وخبر الحارث بن المغيرة (٣) ، ومكاتبة عبد الله بن محمد (٤) ، ومكاتبة الحميري (٥).

__________________

(١) لا يخفى ان المراد بقوله وهي على طوائف : اي الاخبار الواردة في المقام على طوائف (منه قدس‌سره).

(٢) الوسائل ج ١٨ : ٨٧ / ٤٠ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٣) الوسائل ج ١٨ : ٨٧ / ٤١ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٤) الوسائل ج ١٨ : ٨٨ / ٤٤ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٥) الوسائل ج ١٨ : ٨٧ / ٣٩ ، باب ٩ من أبواب صفات القاضي.

٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

ويدل على التخيير مطلقا في خبر الحسن قوله عليه‌السلام : فاذا لم يعلم ـ أي الحق ـ فموسع عليك بايهما اخذت ، فان مورد السؤال فيه هو الخبران المتعارضان الذي كان راوي كل واحد منهما ثقة ، بحيث لو لا تعارضهما لما كان يسأل ابن الجهم عن الحكم فيهما ، بل كان يأخذ بكل واحد منهما فيما لو كان منفردا. وجوابه عليه‌السلام كان في ذلك الفرض هو جواز الأخذ بأيّ واحد منهما من دون تقييد بشيء مما ذكر في اخبار الترجيح.

ومثله خبر الحارث فان قوله عليه‌السلام فيه : (فموسع عليك حتى ترى القائم) ، فانه وان كان قد دلّ على التخيير مطلقا الى ان يلقى الامام عليه‌السلام ، الّا انه لو كان الاخذ بالراجح لازما لقيّده بذلك ، ولو في تلك المدّة الواقعة بين سماع الاحاديث ولقاء الامام عليه‌السلام.

وكذلك الحال في مكاتبة عبد الله بن محمد ، فان قوله عليه‌السلام : فموسع عليك بأيّة عملت ، بعد كون السائل قد سأل عن تعارض الخبرين في صلاة ركعتي الفجر من انها هل تصلّى في المحمل كما رواه بعض الاصحاب ، او تصلّى على الارض كما رواه البعض الآخر منهم؟ فاجابه عليه‌السلام بانه موسع عليه باي واحد منهما اخذ.

الّا ان هذه المكاتبة قابلة للمناقشة :

أوّلا بانها خاصة لان السؤال فيها عن التعارض في خصوص ركعتي الفجر ، فالتخيير في جوابه عليه‌السلام لا اطلاق فيه يعم غير مورد السؤال.

وثانيا : بانه لا تعارض في هذه الرواية ، لانه لا يشترط في الصلاة الاستحبابية كيفيّة خاصة ، والتعارض انما هو حيث يكون الحكم الواقعي واحدا ، وحيث ان الحكم الواقعي في الصلاة الاستحبابية عدم اشتراطها بكيفيّة خاصة فلا تعارض هنا.

وثالثا : انه لو تعدّينا عن المورد لكان لنا التخيير في خصوص تعارض المستحبات ، والتخيير في المستحبات لا يستلزم التخيير في تعارض الالزاميات ، فان المستحبات

٧١

إلى غير ذلك من الاطلاقات (١).

ومنها : ما دلّ على التوقف مطلقا (٢).

______________________________________________________

نختلف عن الالزاميات في جملة من الاحكام ، فليس لنا التعدّي من الحكم فيها الى الالزاميات.

واما مكاتبة الحميري فالحال فيها كمكاتبة عبد الله بن محمد ، لان قوله ـ عجّل الله فرجه ـ فيها : وبايهما اخذت من باب التسليم كان صوابا يدل على التخيير مطلقا. ولكنها واردة ايضا في خصوص تعارض المستحبات ، والمناقشة كالمناقشة في مكاتبة عبد الله بن محمد.

(١) قد عرفت ان المصنف ذكر في المتن اربع روايات مما تدل على التخيير مطلقا.

ولما كان هناك روايات اخرى تدل باطلاقها على التخيير مطلقا ـ ايضا ـ اشار الى ذلك بقوله : «الى غير ذلك من الاطلاقات».

منها ما في العيون في خبر طويل عن الرضا عليه‌السلام قال في آخره : (وبايهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم) (١).

ومنها ما في الكافي عن ابي عبد الله عليه‌السلام (قال سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من اهل دينة في امر كلاهما يرويه ، احدهما يامره والآخر ينهاه ، كيف يصنع؟ قال عليه‌السلام : (يرجئه حتى يلقى من يخبره فهو في سعة حتى يلقاه) (٢). ثم قال صاحب الكافي : وفي رواية اخرى بايهما اخذت من باب التسليم وسعك.

(٢) لا يخفى ان الاخبار التي تدل على التوقف مطلقا في خصوص مورد التعارض : هو خبر سماعة عن ابي عبد الله عليه‌السلام (قلت يرد علينا حديثان واحد يامرنا بالاخذ به والآخر ينهانا عنه. قال عليه‌السلام : لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله.

__________________

(١) عيون اخبار الرضا (ط. قم) ج ١ ، ص ٢٩٠ ، حديث ٣٩.

(٢) الكافي ج ١ : ص ٦٦ ، حديث ٧.

٧٢

ومنها : ما دلّ على ما هو الحائط منها (١).

______________________________________________________

قلت لا بد ان نعمل بواحد منهما. قال عليه‌السلام : خذ بما فيه خلاف العامة) (١) وهذا وان كان ملحوقا بالترجيح الّا انه في خصوص ما لا بد فيه من العمل ، فلا ينافي دلالته على التوقف مطلقا ، لان الظاهر مما لا بد فيه من العمل هو مورد الدوران بين المحذورين ، وهو خارج عن مورد جعل التوقف شرعا ، والتخيير فيه عقلي.

ومكاتبة محمد بن علي بن عيسى الى على بن محمد عليه‌السلام يسأله عن العلم المنقول الينا عن آبائك واجدادك عليهم‌السلام (قال قد اختلف علينا فيه فكيف العمل به على اختلافه؟ أو الردّ اليك فيما اختلف فيه؟ فكتب عليه‌السلام : ما علمتم انه قولنا فالزموه ، وما لم تعلموا فردّوه الينا) وقوله عليه‌السلام : ما لم تعلموا فردّوه الينا بعد ان كان السؤال عن مورد الاختلاف يدل على التوقف مطلقا.

(١) مطلقا في مورد التعارض ، فان ما يدل على الحائطة مطلقا هو ما ذكر في مبحث البراءة ، والمفروض ذكر الطوائف في مورد التعارض ، وليس في مورد التعارض ما يدل على الاحتياط مطلقا.

الّا ان يقال : ان تلك الاخبار التي ذكرت في البراءة لا بد وان يكون موردها التعارض أو تكون محمولة عليه ، لما عرفت من انه لا تعارض في موارد الجمع العرفي ، بل لا بد فيها من حمل العام على الخاص والمطلق على المقيد والمورود على الوارد والمحكوم على الحاكم. ولا مجال للاحتياط لعدم التحيّر فيها ، فان الجمع فيها بما مرّ لازم عند العرف. وعلى كل فلم يرد لزوم الاحتياط ابتداء بعنوان التعارض.

نعم في المقام قد ورد الامر بالاحتياط بعد فقد المرجحات ايضا. فليس في المقام ما يدل على الاحتياط مطلقا.

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ : ٨٨ / ٤٢ ، باب ٩ من ابواب صفات القاضي.

٧٣

ومنها : ما دلّ على الترجيح بمزايا مخصوصة ومرجحات منصوصة ، من مخالفة القوم وموافقة الكتاب والسنة ، والاعدليّة ، والأصدقيّة ، والافقهية والأورعيّة ، والاوثقية ، والشهرة (١) على اختلافها في الاقتصار على بعضها وفي الترتيب بينها (٢).

ولاجل اختلاف الاخبار اختلفت الانظار (٣).

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان الشيخ الاجل في رسائله قد استقصى الاخبار الدالة على الترجيح بمزايا خاصة ، الّا انه سيأتي ان عمدة الاخبار الدالة على الترجيح هي مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة لانهما اجمع الاخبار بالنسبة الى المزايا المقتضية لترجيح ذي المزية على عدله.

(٢) حاصله : ان اخبار الترجيح مختلفة من جهتين : من جهة سعة المزايا وكثرتها ، فان المقبولة اوسع الاخبار لذكر المزايا. ومن جهة الاختلاف في ترتيب المزايا من حيث التقديم والتأخير ، فان في المقبولة اخّر الترجيح بالشهرة عن الترجيح بالاعدليّة ، وجملة من مزايا اخرى. وفي المرفوعة قدّم الترجيح بالشهرة على الترجيح بالاعدليّة ، وغيرها من المزايا.

والى هاتين الجهتين في اخبار الترجيح اشار بقوله : «على اختلافها». الى الجهة الاولى اشار بقوله : «في الاقتصار على بعضها» ، والى الجهة الثانية اشار بقوله : «وفي الترتيب بينها».

(٣) توضيحه : ان الطوائف المتقدّمة وان كان قد عدّها المصنف اربعا ، إلّا انه حيث لم يوجد في مورد التعارض بعنوان التعارض ما يدل على الاحتياط مطلقا ، فلا قائل به.

واما ما دلّ على التوقف كخبر سماعة ومكاتبة محمد بن علي بن عيسى فلم يقل به احد في مورد التعارض ، لضعف خبر سماعة واعراض المشهور عن العمل بهما.

فالاقوال في المقام هي : في التخيير مطلقا ، او بعد عدم المزية فيهما ، او لوجود المزية في كل منهما. أما اذا كانت المزيّة في احدهما فالترجيح لذي المزيّة. وعلى

٧٤

فمنهم من أوجب الترجيح بها ، مقيدين بأخباره إطلاقات التخيير ، وهم بين من اقتصر على الترجيح بها ، ومن تعدى منها إلى سائر المزايا الموجبة لأقوائية ذي المزية وأقربيته ، كما صار إليه شيخنا العلامة أعلى الله مقامه ، أو المفيدة للظن ، كما ربما يظهر من غيره (١).

______________________________________________________

القول بالترجيح هل يجب الاقتصار فيه على المزايا المنصوصة ، او يتعدّى عنها الى غيرها؟

ولا يخفى ان السبب في الاختلاف وتعدد الاقوال هو اختلاف الاخبار ، لان بعضها كما عرفت دلّ على التخيير مطلقا ، وبعضها يدل على الترجيح ثم التخيير.

واختلاف الانظار فيما يستفاد منها من لزوم الاقتصار على المزايا المنصوصة أو التعدّي عنها الى غيرها من المزايا غير المنصوصة.

(١) الاقوال التي اشار اليها المصنف في الترجيح ثلاثة ، ولازم هذه الثلاثة كلها هو تقييد اطلاقات اخبار التخيير المتقدمة :

الاول : تقييد اطلاقات اخبار التخيير بين بلزوم الترجيح بخصوص المزايا المنصوصة في اخبار الترجيح بلا تعدّ منها الى غيرها ، وهو مذهب الاخباريين ونسب الى المشهور ايضا.

الثاني : التعدّي منها الى غيرها من المزايا غير المنصوصة مما توجب اقوائية ذي المزية واقربيته نوعا ، وان لم يحصل منها الظن الفعلي الشخصي.

الثالث : التعدّي منها الى غيرها مما يفيد الظن الشخصي الفعلي.

والى الاول اشار بقوله : «وهم بين من اقتصر على الترجيح بها» ، والى الثاني اشار بقوله : «ومن تعدى منها الى سائر المزايا الموجبة لأقوائية ذي المزية واقربيته». وحيث انه في قبال ما يفيد الظن الشخصي الفعلي ، فلا بد وان يكون المراد بالاقوائية والاقربية النوعية. والى الثاني ذهب الشيخ الاجل في رسائله ، كما اشار الى ذلك بقوله : «كما صار اليه شيخنا العلامة اعلى الله مقامه» والى الثالث اشار بقوله :

٧٥

فالتحقيق أن يقال : إن أجمع خبر للمزايا المنصوصة في الاخبار هو المقبولة والمرفوعة (١) ، مع اختلافهما وضعف سند المرفوعة

______________________________________________________

«او المفيدة للظن كما ربما يظهر من غيره». ولم يذكر المصنف من الذي يظهر من كلامه ذلك.

(١) لما كان مختار المصنف (قدس‌سره) هو التخيير مطلقا في المتعارضين ... شرع في تحقيق فساد كون الترجيح لازما من أصله ، ومنه يظهر فساد الاقوال الثلاثة المتقدّمة. ولما كان عمدة اخبار الترجيح هي المقبولة والمرفوعة جعلهما هدف التحقيق لما يدل على فساد استفادة لزوم الترجيح منهما بحيث يعم مورد الفتوى.

ولا بأس بذكر نفس الروايتين تيمّنا وتبرّكا وتتميما للفائدة.

اما المقبولة فهي مقبولة عمر بن حنظلة (قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من اصحابنا يكون بينهما منازعة في دين او ميراث فتحاكما الى السلطان او الى القضاة أيحل ذلك؟ قال عليه‌السلام : من تحاكم اليهم في حق او باطل فانما تحاكم الى الطاغوت الى ان قال ـ قلت : فان كان كل رجل يختار رجلا من اصحابنا فرضيا ان يكونا الناظرين في حقهما فاختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم. قال عليه‌السلام : الحكم ما حكم به اعدلهما وأفقههما واصدقهما في الحديث واورعهما ، ولا يلتفت الى ما يحكم به الآخر. قلت : فانهما عدلان مرضيان عند اصحابنا لا يفضل واحد منهم على الآخر قال عليه‌السلام ينظر الى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين اصحابك فيؤخذ به من حكمهما ، ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند اصحابك ، فان المجمع عليه لا ريب فيه ـ الى ان قال ـ قلت فان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم. قال عليه‌السلام : ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف الكتاب والسنة ووافق العامة. قلت جعلت فداك : أرأيت ان كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة فوجدنا احد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا بايّ الخبرين يؤخذ؟ قال عليه‌السلام : ما

٧٦

جدا (١) ، والاحتجاج بهما على وجوب الترجيح في مقام الفتوى لا يخلو عن إشكال ، لقوة احتمال اختصاص الترجيح بها بمورد الحكومة لرفع

______________________________________________________

خالف العامة ففيه الرشاد. قلت جعلت فداك : فان وافقهم الخبران جميعا. قال عليه‌السلام : ينظر الى ما هم اميل اليه حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر. قلت : فان وافق حكامهم الخبرين جميعا. قال عليه‌السلام : اذا كان ذلك فارجه حتى تلقى امامك فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات) ... (١) انتهت هذا الرواية المباركة.

واما المرفوعة فهي الرواية التي ذكرها صاحب عوالي اللآلي عن كتب العلامة (قدس‌سرهما) رفعها عن زرارة (قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام فقلت جعلت فداك : يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟ فقال عليه‌السلام : يا زرارة خذ بما اشتهر بين اصحابك ودع الشاذ النادر. فقلت يا سيدي : انهما معا مشهوران مأثوران عنكم فقال عليه‌السلام : خذ بما يقول اعدلهما عندك واوثقهما في نفسك. فقلت : انهما معا عدلان مرضيان موثقان. فقال عليه‌السلام : انظر ما وافق منهما العامة فاتركه وخذ بما خالف ، فان الحق فيما خالفهم. قلت ربما كانا موافقين لهم او مخالفين فكيف اصنع؟ قال عليه‌السلام : إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك الآخر. قلت : فانهما معا موافقان للاحتياط او مخالفان له فكيف اصنع؟ فقال عليه‌السلام : اذا فتخير احدهما فتأخذ به ودع الآخر) (٢).

(١) قد عرفت انهما مختلفان من جهة كثرة المزايا المرجحة وقلتها ، فان المقبولة اكثر ، لانه في المرفوعة اقتصر على الاعدل ، لان الظاهر من الاوثق في نفسك هو الاعدل ،

__________________

(١) الكافي ج ١ ، ص ٦٧ ، ح ١٠.

(٢) عوالي اللآلي ج ٤ ، ص ١٣٣.

٧٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وفي المقبولة ضم اليه الافقه والاصدق والاورع ، وفي المقبولة موافقة الكتاب وليس موجودا في المرفوعة ، وفي المقبولة الحكم الذي كان حكامهم وقضاتهم اميل اليه ، وليس له ذكر في المرفوعة.

نعم في المرفوعة موافقة الاحتياط ولم تذكر في المقبولة ، كما انه أمر في المقبولة بالارجاء عند التساوي ، وفي المرفوعة بالتخيير.

ومن جهة الترتيب ـ ايضا ـ مختلفان فانه في المقبولة الاعدلية والصفات الاخرى للراوي مقدمة على الشهرة ، وفي المرفوعة الشهرة مقدمة على الاعدلية.

ولو كان الترجيح بهذه المزايا لازما لوقع التعارض بين المقبولة والمرفوعة للاختلاف المذكور.

إلّا ان يقال : ان المرفوعة ضعيفة السند جدا ، ولم توجد في كتب العلامة التي ذكر صاحب العوالي انه نقله عنها. وقد طعن فيها صاحب الحدائق الذي ليس من مبناه الطعن في الروايات. فلا تعارض بين المقبولة والمرفوعة ، لان المقبولة مروية في كتب الحديث وقد قبلها المشهور ولهذا سميت بالمقبولة. فالقائل بلزوم الترجيح يقتصر على المقبولة ، والقائل بلزوم الاقتصار على المزايا المنصوصة يقتصر ايضا على ترتيب المقبولة.

وقد اشار المصنف الى ضعف سند المرفوعة بقوله : «وضعف سند المرفوعة جدا» وظاهره ايضا ضعف المقبولة سندا إلّا ان المرفوعة اشد ضعفا ، ولكن بعد ان كان المشهور قبلوها واعتمدوا عليها ولذا سميت بالمقبولة فضعف سندها منجبر بذلك.

ولا يخفى ان الاختلاف وضعف السند هو الاشكال الاول الذي اشار اليه المصنف في روايات الترجيح.

٧٨

المنازعة وفصل الخصومة كما هو موردهما ، ولا وجه معه للتعدي منه إلى غيره ، كما لا يخفى (١).

ولا وجه لدعوى تنقيح المناط ، مع ملاحظة أن رفع الخصومة بالحكومة في صورة تعارض الحكمين ، وتعارض ما استند إليه من

______________________________________________________

(١) هذا هو الاشكال الثاني عليها. وحاصله : انه حيث كانت المرفوعة ضعيفة السند جدا فهي غير قابلة للاحتجاج بها ، لان المستند لا بد وان يكون جامعا لشرائط الوثوق وهو منتف في المرفوعة ، فالاحتجاج للترجيح بالمزايا لا بد وان يكون المستند فيه هي المقبولة. إلّا ان الاحتجاج بها والاستناد اليها في مقام الفتوى لا يخلو عن الاشكال.

ووجهه ان مورد المقبولة هو التنازع ، ومن الواضح ان التنازع لا يعقل فيه التخيير ، لان التخيير لا يرفع الخصومة ، لان كل واحد من المتخاصمين يختار ما يوافق مدعاه فلا ترتفع الخصومة ، فلا مجال للتخيير في مورد التنازع والمخاصمات ، ولا ترتفع الخصومة إلّا بالترجيح ، او بايقاف الدعوى حتى يلقى الامام عليه‌السلام. ومع كون المورد مما لا يصح فيه التخيير فلا وجه للتعدي بواسطة المقبولة التي موردها لا يقبل التخيير الى المورد الذي يقبل التخيير وهو مقام الفتوى ، فيقال بلزوم الترجيح فيه كما في مقام التنازع.

والى هذا اشار بقوله : «لقوة احتمال اختصاص الترجيح بها» أي بالمقبولة «بمورد الحكومة لرفع المنازعة وفصل الخصومة كما هو موردهما» لما عرفت من ان مقام التنازع لا يعقل فيه التخيير لعدم امكان رفع الخصومة به ، ولا بد فيه من الترجيح او الايقاف.

واشار الى ان مورد المقبولة حيث كان لا يقبل التخيير فلا وجه للتعدي عنه الى ما يقبل التخيير ، بان يكون الحال فيما يقبل التخيير هو لزوم الترجيح ايضا بقوله : «ولا وجه معه» أي لا وجه مع كون مورد المقبولة مما لا يقبل التخيير وهو مورد التنازع «للتعدي منه الى غيره» وهو المورد الذي يقبل التخيير وهو مورد الفتوى.

٧٩

الروايتين لا يكاد يكون إلا بالترجيح ولذا أمر عليه‌السلام بإرجاء الواقعة إلى لقائه عليه‌السلام في صورة تساويهما فيما ذكر من المزايا ، بخلاف مقام الفتوى (١) ومجرد مناسبة الترجيح لمقامها أيضا لا يوجب ظهور الرواية في وجوبه مطلقا ولو في غير مورد الحكومة ، كما لا يخفى (٢).

______________________________________________________

(١) حاصله : انه لا وجه لان يدعى تنقيح المناط بين مورد التنازع ومورد الفتوى ، بان الغرض في كل منهما بيان ما هو الحكم ، وكما ان مورد التنازع وتعارض الروايات فيه لا ينتهي إلّا بالحكم الشرعي ، فكذا مورد الفتوى.

والوجه في عدم صحة تنقيح المناط : هو لان التعارض لا يرتفع إلّا بالحكم الشرعي البات ، فالترجيح في مورد التنازع لبيان الحكم الشرعي البات الذي لا تخيير فيه ، وهذا المناط غير موجود في مورد الفتوى عند تعارض الروايات لامكان التخيير فيه.

وبما ذكرنا تعرف انه لا وجه لتنقيح المناط ، لانه لا بد في تنقيح المناط من تساوي المقيس والمقيس عليه ، ولا تساوي بينهما هنا لما عرفت من ان مورد التنازع مما لا يقبل التخيير ، بخلاف مورد الفتوى فانه يقبل التخيير ، ومع هذا الاختلاف بينهما لا وجه لتنقيح المناط والتعدي عن مورد الخصومة الى مورد الفتوى.

والى هذا اشار بقوله : «ولا وجه لدعوى تنقيح المناط» ليكون الترجيح في مورد التنازع جاريا ـ ايضا ـ في مورد الفتوى ، فانه لا وجه لوحدة المناط فيهما «مع ملاحظة ان رفع الخصومة» لا يكاد يكون الا «بالحكومة» و «في صورة تعارض الحكمين وتعارض ما استند اليه من الروايتين لا يكاد يكون إلّا بالترجيح» او بالايقاف «ولذا امر عليه‌السلام بارجاء الواقعة الى لقائه عليه‌السلام في صورة تساويهما فيما ذكر من المزايا» ولا مجال للتخيير فيه «بخلاف مقام الفتوى» فان للتخيير مجالا فيه.

(٢) توضيحه : ان مقام الفتوى مما يمكن فيه الامور الثلاثة : الترجيح بالمزايا ، والتوقف ، والتخيير. ومقام المخاصمة يختص بالترجيح والتوقف ، ولا يعقل فيه التخيير.

٨٠