بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-065-9
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٣٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الوجود مشخص لما تعلق به من الماهيات ، ولا يعقل ان يكون الوجود مشخصا لما كان بذاته آبيا عن التشخص ، والمردد بما هو مردد آب بذاته عن التشخص والتعين ، ومن الواضح ان الذهن نحو وجود للماهية وبه تتشخص ذهنا ، كما ان الوجود الخارجي مشخص لها خارجا.

فظهر ان المردد ـ بما هو مردد ـ لا وجود له لا ذهنا ولا خارجا ، وما لا وجود له بكلا نحوي الوجود لا يكون متعلقا لصفة من الصفات اصلا ، لا الصفات الخارجية ولا الصفات النفسية كالعلم والارادة ، ولا الصفات الاعتبارية كالحجية ، لانه لا معنى لتعلق الحجية بما لا تحقق له لا ذهنا ولا خارجا.

وما يقال : من ان العلم الاجمالي المتعلق بنجاسة احد الإناءين ـ مثلا ـ قد تعلق بالمردد فان متعلقه هو عنوان احدهما.

فانه يقال : ان العلم الاجمالي لم يتعلق بالمردد ، بل متعلقه مفصل من جهة كونه نجسا موجودا في الخارج ، ولما كان ذلك المعلوم بما هو نجس في الخارج مجهول الانطباق على الإناءين كان هو علما من جهة مشوبا بجهل من جهة اخرى ، فمرجع العلم الاجمالي الى علم من جهة وجهل من جهة ، لا ان العلم الاجمالي هو العلم المتعلق بالمردد. والمفروض في المقام كون الحجة هو احدهما بلا تعيين واقعا ، فان مرجعه الى الترديد ، ولذلك لا يرد الترديد على من قال بان الحجة هو احدهما وهو الموافق للواقع ، لان متعلق الحجة امر معين واقعا لا مردد.

وعلى كل فمن يرى عدم امكان كون الحجة هو احدهما بلا تعيين واقعا ، ولا احدهما بنحو التخيير العقلي ، ولا احدهما الموافق للواقع ، ولا يعقل ايضا ان تكون الحجة كل واحد منهما للعلم بكذب احدهما ـ فلا بد من سقوط كلا المتعارضين في المدلول المطابقي ، لعدم حجية كل واحد منهما ، واذا كان السقوط للمتعارضين في المدلول المطابقي لعدم الحجية فلا سبيل لنفي الثالث ، لان سقوطهما لاجل عدم الحجية في المدلول المطابقي معناه عدم الحجة على الملزوم ، فلا تكون هناك حجة على

٤١

الامارات من باب الطريقية (١) ، كما هو كذلك (٢) حيث لا يكاد يكون حجة طريقا إلا ما احتمل إصابته ، فلا محالة كان العلم بكذب أحدهما

______________________________________________________

اللازم ، والمدلول الالتزامي هو اللازم للمدلول المطابقي ، فحيث لا يكون الدليل حجة في مدلوله المطابقي لا يكون حجة في مدلوله الالتزامي ، بخلاف ما اذا كان الحجة في المتعارضين هو احدهما باحد الانحاء المذكورة فانه يكون هو الحجة على نفي الثالث.

(١) لا يخفى ان الاحتمالات المتقدمة : من كون الحجة احدهما بنحو التخيير ، او احدهما الموافق للواقع ، او احدهما لا بعينه ، او سقوطهما معا ، مبنية على كون حجية الامارات من باب الطريقية ولا يصال الواقع وتنجزه بها.

واما بناء على السببية وكون الحكم الواقعي هو مؤدى الامارة فسيأتي الكلام فيه.

واما كون تلك المحتملات مبنية على الطريقية ، فلوضوح ان كون الحجة هو احدهما باحد العناوين الثلاثة المذكورة ، أو تساقطهما في الحجية لكون العلم بكذب احدهما مانعا انما هو حيث يكون المبنى في الامارة حجيتها طريقا لايصال الواقع وتنجزه بها ، لبداهة انه اذا كان هناك واقع قد جعلت الامارة طريقا اليه يكون العلم بكذب احدهما ومخالفته له وعدم ايصاله اليه مانعا اما عن حجية احدهما او موجبا لتساقطهما.

واما بناء على كون الحكم الواقعي هو مؤدى الامارة ، فلا يكون العلم بكذب احدهما ومخالفته للواقع مانعا عن حجيتها ، إلّا ان يدعى ان السببية في الامارة هي في خصوص الخبر الذي لم يعلم كذبه كما سيأتي بيانه. واما اذا قيل بعدم تقيد السببية في الامارة بذلك فلا يكون العلم بكذب احدهما مانعا.

(٢) يريد ان الصحيح هو حجية الامارة من باب الطريقية ، لان حجيتها اما لبناء العقلاء ، ومن الواضح ان بناء العقلاء على الاخذ بخبر العادل او الثقة انما هو لكونه

٤٢

مانعا عن حجيته (١) ، وأما بناء على حجيتها من باب السببية فكذلك لو كان هو خصوص ما لم يعلم كذبه ، بأن لا يكون المقتضي للسببية فيها إلا فيه ، كما هو المتيقن من دليل اعتبار غير السند منها ، وهو بناء العقلاء على أصالتي الظهور والصدور ، لا للتقية ونحوها ، وكذا السند لو كان دليل اعتباره هو بناؤهم أيضا ، وظهوره فيه لو كان هو الآيات والاخبار ،

______________________________________________________

طريقا الى الواقع ، لا لان مؤداه هو الواقع واقعا. واما للاخبار ، والظاهر منها ايضا هو ذلك ، لوضوح ظهور قوله عليه‌السلام صدق العادل فيما اخبر به بذلك ، فان مادة التصديق ظاهرة في ان هناك واقعا يكون الاخذ باخبار العادل عنه تصديقا له بانه هو الواقع ، وان الامر بالأخذ بقول العادل عملا بعنوان كونه تصديقا له واضح الظهور ايضا في ان الامر بتصديقه لصدقه في خبره ومطابقته لواقع هناك ، لا لأن ما اخبر به هو الحكم واقعا وانه ليس هناك شيء يكون مطابقته له صدقا.

(١) هذا تعليل لكون ما تقدم من الكلام انما هو بناء على الطريقية. وحاصله :

انه بناء على الطريقية تكون الحجية منحصرة في الطريق الذي احتمل اصابته للواقع ، اما ما علم عدم اصابته للواقع فلا يكون بحجة ، ولذلك كان العلم اجمالا بكذب احدهما مانعا عن حجية احدهما ، فلا يعقل ان يكون كل واحد من المتعارضين حجة بالفعل مع العلم بكذب احدهما ، ولا بد ان يكون الحجة هو احدهما كما مر بيانه.

وقد اشار الى انحصار الحجية بما احتمل اصابته بقوله : «حيث لا يكاد الى آخر الجملة» واشار الى كون العلم بكذب احدهما مانعا على الطريقية بقوله : «فلا محالة الى آخر الجملة».

٤٣

ضرورة ظهورها فيه ، لو لم نقل بظهورها في خصوص ما إذا حصل الظن منه أو الاطمئنان (١).

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان ظاهر الشيخ (قدس‌سره) في رسائله انه بناء على السببية في الامارات فالوجه هو التخيير مطلقا وان علم بكذب احدهما ، فالعلم بكذب احدهما ليس بمانع بناء على السببية في الامارات. وكلام المصنف تعريض به.

وقد عرض به من وجوه : الاول ما اشار اليه بقوله : «فكذلك لو كان الى آخر الجملة» أي ان العلم بالكذب يكون مانعا حتى على القول بالسببية ، فيما اذا قلنا بان ما يدل على ان الجعل في الامارات بنحو السببية هو في خصوص ما لم يعلم كذبه.

وتوضيح ذلك : انه لا اشكال ان مقام جعل الامارة سواء على الطريقية او السببية هو الجهل بالحكم الواقعي ، لبداهة انه مع العلم بالحكم الواقعي لا مقام لجعل الامارة ، وفي مقام الجهل بالحكم الواقعي يتأتى الجعل في الامارة التي هي من الظنون. وللامارة جهات ثلاث : جهة الدلالة ، وجهة الصدور لا للتقية ، وجه السند. ولا بد من تمامية الحجة في الامارة من هذه الجهات الثلاث ، فانه متى كانت الحجة في جهة من هذه الثلاث غير تامة لا تكون الامارة بحجة.

والحجة في الامارة من جهة الدلالة وجهة الصدور منحصرة في بناء العقلاء على الاخذ بظهور ما كان الدليل ظاهر الدلالة فيه ، وفي بناء العقلاء على ان الظاهر في الكلام الصادر من العقلاء انه قد صدر للواقع لا لبيان غير الواقع ، ومن الواضح ان القدر المتيقن من بناء العقلاء حيث انه لا اطلاق له لانه دليل عملي ، فهو دليل لبي لا لفظي حتى يكون له اطلاق ، ولذا كان القدر المتيقن منه كون الحجة في جهة الدلالة وجهة الصدور هو في الامارة التي لا يعلم كذبها.

واما في جهة السند فالدليل غير منحصر ببناء العقلاء ، فان الدليل على الحجية فيها : بناء العقلاء ، والآيات ، والاخبار. وحال بناء العقلاء في جهة السند كحاله في

٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

جهة الظهور الدلالي وجهة الصدور لا للتقية في ان القدر المتيقن منه هو حجية سند الامارة التي لا يعلم كذبها. واما الآيات والاخبار فحيث انها دليل لفظي فقد يتوهم ان لها اطلاقا يعم الخبرين وان علم بكذب احدهما .. إلّا انه توهم باطل ، لضرورة ظهور اخبار الجعل ـ كصدق العادل المستفاد من آية النبأ ، ومثل قوله عليه‌السلام فلان مأمون على الدين والدنيا ، وفلان ثقة ـ في خروج ما علم كذبه من الامارة عن الحجية ، فتختص الحجية في الامارة بخصوص ما لم يعلم الكذب منها. وهذا اذا لم نقل بان الاخبار تدل على اكثر من ذلك وانها انما تدل على حجية خصوص الامارة الموجبة للظن او لخصوص مرتبة الاطمئنان منه.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : ان العلم بكذب احدهما مانع على السببية ايضا ، ولازم كونه مانعا كون الحجة في المتعارضين هو احدهما لا على التعيين ، كما كان ذلك هو اللازم على الطريقية على مختار المصنف (قدس‌سره) كما مر بيانه. وقد اشار الى هذه النتيجة في اول كلامه بقوله : «بان لا يكون المقتضي للسببية فيها» أي في الامارات «الا فيه» أي الا كون الحجة هي في خصوص ما لم يعلم كذبه ، وعليه فلا بد من كون العلم بالكذب مانعا ، وكون الحجة في المتعارضين هو احدهما بلا تعيين.

واشار الى ان دليل الاعتبار في غير جهة السند ـ وهو جهة الدلالة والصدور ـ منحصر في بناء العقلاء ، وان القدر المتيقن منه كون الحجة خصوص الامارة التي لم يعلم كذبها بقوله : «كما هو المتيقن من دليل اعتبار غير السند منها» وهو جهة الدلالة وجهة الصدور «وهو بناء العقلاء على أصالتي الظهور والصدور لا للتقية ونحوها» كالقاء الخلاف بين الشيعة حفظا لهم.

واشار الى ان جهة السند دليل الاعتبار فيها غير منحصر في بناء العقلاء ، بل هو بناء العقلاء والآيات والاخبار ، وانه فيما كان هو بناء العقلاء يكون الحال في جهة السند كالحال في جهة الدلالة والصدور بقوله : «وكذا السند لو كان دليل اعتباره هو

٤٥

وأما لو كان المقتضي للحجية في كل واحد من المتعارضين لكان التعارض بينهما من تزاحم الواجبين ، فيما إذا كانا مؤديين إلى وجوب الضدين أو لزوم المتناقضين (١) ، لا فيما إذا كان مؤدى أحدهما حكما غير

______________________________________________________

بناؤهم ايضا». واما الآيات والاخبار فأشار الى ان الظاهر منها ايضا هو كون الحجة خصوص ما لم يعلم كذبه بقوله : «وظهوره فيه» أي وظهور دليل الاعتبار في حجية خصوص ما لم يعلم كذبه «لو كان هو الآيات والاخبار ضرورة ظهورها فيه» كما عرفت من ان الظاهر ـ من صدق العادل المستفاد من آية النبأ ، والاخبار الواردة في ذلك كقوله عليه‌السلام : فلان مأمون او ثقة ـ هو حجية خصوص ما لم يعلم كذبه. واشار الى ان المستفاد من الآيات والاخبار اكثر من ذلك بقوله : «لو لم نقل بظهورها في خصوص ما اذا حصل الظن منه» أي من السند «او» حصل منه «الاطمئنان».

ولا يخفى ان كون بناء العقلاء دليلا على الحجية لازمه كون مبنى الحجية هو الطريقية دون السببية ، لان بناء العقلاء على الحجية في الامارات من حيث الجهات الثلاث كلها ـ جهة الدلالة وجهة الصدور وجهة السند ـ انما هو لان الاصل عندهم في الظهور الدلالي مطابقته للواقع ، ولان الاصل في الصدور ان يكون لبيان الواقع ، ولان الاصل في المخبر الثقة ان يكون صادقا يطابق اخباره الواقع ، ففي جميع هذه الاصول الثلاثة العقلائية هناك واقع عند العقلاء ، يكون مؤدى الخبر مطابقا له من حيث الدلالة ومن حيث الصدور ومن حيث المخبر ، وليس للسببية عند العقلاء عين ولا اثر. نعم السببية يمكن ان تدعى بالنسبة الى الادلة اللفظية الدالة على الاعتبار بالنسبة الى جهة السند كما سيأتي بيان ذلك.

(١) هذا هو الوجه الثاني من وجوه التعريض ، والرد على ما ذهب اليه الشيخ : من انه بناء على السببية فالوجه هو التخيير مطلقا وان علم بكذب احدهما.

٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وتوضيحه : ان مدرك القول بالسببية ان كان للتخلص عن اشكال تفويت المصالح الواقعية ، فلازم ذلك هو القول بالسببية في خصوص الخبر المخالف للواقع ، واما الخبر الموافق للواقع فلا سببية فيه ، وهذا قول بالطريقية والسببية معا ، لان الخبر ان كان موافقا للواقع فقد ادرك فيه مصلحة الواقع ، وان كان مخالفا للواقع فقد كان به المصلحة التي بها يتدارك ما يفوت من مصلحة الواقع ، وعلى هذا فالمقتضي للحجية وان كان موجودا في كل واحد من الخبرين ، إلّا ان لازم هذا القول كون دليل الاعتبار جامعا للطريقية والسببية ، وهو جمع بين الآلية والاستقلالية بنظر واحد وهو محال.

إلّا ان يقال : انه ليس في دليل الاعتبار جمع بين اللحاظين ، بل دليل الاعتبار يتضمن لزوم اتباع ما اخبر به العادل ، غايته ان العلة لاعتباره مختلفة : تارة تكون مصلحة الواقع ، واخرى المصلحة التي يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع.

ولكنه يرد عليه ما يأتي في المبنى الثاني للسببية من ان التخيير ليس مطلقا.

الثاني : ان مبنى القول بالسببية ليس التخلص عن اشكال التفويت ، بل مبناها هو ان الظاهر من كل عنوان رتب عليه حكم ان الحكم قد رتب عليه بذاته ، لا لانه معرف لغيره وطريق اليه ، فظاهر اعتبار ما اخبر به العادل هو لزوم الاخذ به لانه خبر عادل ، لا لانه طريق الى غيره ، غايته حيث ان الجعل لا بد وان يكون لمصلحة فيكون ما اخبر به ذا مصلحة على كل حال ، وعلى هذا فالمقتضي للحجية في كل واحد من الخبرين موجود ، ولا يكون العلم بالكذب مانعا لفرض كون المصلحة متحققة في نفس مؤدى الخبر ، وهي العلة للجعل والاعتبار ، وليس العلة للجعل والاعتبار مصلحة الواقع حتى يكون العلم بعدم مطابقة مؤدى الخبر للواقع مانعا عن الحجية ، بل ليس هناك داع للجعل الا المصلحة القائمة بنفس مؤدى الخبر ، وهي متحققة في كل واحد من الخبرين.

٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

فاذا تعارض الخبران على هذا المبنى للسببية يكونان من المتزاحمين في خصوص ما اذا كانا مؤديين الى حكمين الزاميين كوجوب الضدين ، كما لو دل احدهما ـ مثلا ـ على وجوب القصر والآخر على وجوب التام ، او كانا مؤديين الى حكمين متناقضين ، كما لو دل احدهما على وجوب فعل شيء والآخر على وجوب تركه.

والوجه في كونهما من المتزاحمين هو تمامية المقتضي في كل واحد منهما ، وهي المصلحة المشتمل عليها مؤدى كل منهما ، والمانع عن تأثيرهما هو عدم القدرة على الجمع بينهما للزوم اجتماع الضدين او المتناقضين ، فلا بد من القول بالتخيير بينهما لان بتركهما تفوت المصلحتان معا ، وحيث لا يمكن الجمع بينهما فيكون الوجه هو التخيير بينهما.

والحاصل : ان التعارض يكون من التزاحم بناء على السببية في خصوص ما اذا دل المتعارضان على مثل وجوب الضدين ، أو دلا على وجوب امرين متناقضين كما اذا دلا على وجوب الفعل او وجوب الترك ، وحينئذ فاللازم هو التخيير بينهما. لا فيما اذا كان احد الخبرين دالا على حكم الزامي والآخر على حكم غير الزامي ، فانه لا وجه للقول بالتخيير بينهما كما سيأتي بيانه.

فاتضح مما ذكرنا : انه على القول بالسببية لا وجه للقول بالتخيير مطلقا في المتعارضين. والى ما ذكرنا اشار بقوله : «واما لو كان المقتضي للحجية في كل واحد من المتعارضين» كما عرفت في السببية على المبنى الثاني ، وعلى فرض كون السببية بهذا المعنى لا تكون النتيجة التخيير مطلقا بل «لكان التعارض بينهما» موجبا لان يكون التعارض «من» باب «تزاحم الواجبين في» خصوص «ما اذا كان مؤديين الى وجوب الضدين او لزوم المتناقضين».

٤٨

إلزامي ، فإنه حينئذ لا يزاحم الآخر ، ضرورة عدم صلاحية ما لا اقتضاء فيه أن يزاحم به ما فيه الاقتضاء (١) ، إلا أن يقال بأن قضية اعتبار دليل غير الالزامي أن يكون عن اقتضاء ، فيزاحم به حينئذ ما يقتضي

______________________________________________________

(١) توضيحه : ان مصلحة الحكم غير الالزامي في مرحلة الثبوت على نحوين : الاول : ان تكون المصلحة لها اقتضاء بالنسبة الى الحد غير الالزامي ، واما بالنسبة الى المرتبة العليا التي هي فوق مرتبة غير الالزامي وهي مرتبة الحد الالزامي فهي لا اقتضاء ، وعلى هذا فلا يكون تعارض الخبرين الدال احدهما على استحباب الشيء والآخر على وجوبه من المتزاحمين ، لعدم معقولية مزاحمة ما لا اقتضاء له لما له الاقتضاء ، لان ما دل على الاستحباب له مصلحة مقتضية للحد غير الالزامي ، وبالنسبة الى المرتبة العليا وهي مرتبة اللزوم لا اقتضاء له ، والدليل الدال على الوجوب له اقتضاء بالنسبة الى المرتبة العليا وهي مرتبة اللزوم ، فدليل الاستحباب بالنسبة الى مرتبة اللزوم لا اقتضاء له ودليل الوجوب بالنسبة الى مرتبة اللزوم له اقتضاء ، ولا يعقل ان يزاحم ما ليس له اقتضاء لما له الاقتضاء ، فلا تزاحم بين ما يدل على الاستحباب وبين ما يدل على الوجوب ، ولا بد من تقديم ما يدل على الوجوب. فلا يكون في هذا الفرض تزاحم بين هذين المتعارضين ليكون الحكم فيها التخيير ، فلا وجه للحكم بالتخيير مطلقا على السببية ، فانه في مثل هذا الفرض لا بد من تقديم الامارة الدالة على الوجوب على الامارة الدالة على الاستحباب ، لعدم التزاحم بين ما ليس له اقتضاء وما له الاقتضاء.

والى ما ذكرنا اشار بقوله : «لا فيما اذا كان مؤدى احدهما حكما غير الزامي» وكان مؤدى الآخر حكما الزاميا «فانه حينئذ لا يزاحم الآخر» أي انه على هذا الفرض لا يزاحم ما كان غير الزامي لما كان الزاميا «ضرورة» انه اذا كان غير الالزامي لا اقتضاء له بالنسبة الى المرتبة العليا فلا يزاحم ما كان له الاقتضاء بالنسبة الى المرتبة العليا ل «عدم صلاحية ما لا اقتضاء فيه ان يزاحم به ما فيه الاقتضاء».

٤٩

الالزامي ، ويحكم فعلا بغير الالزامي ، ولا يزاحم بمقتضاه ما يقتضي غير الالزامي ، لكفاية عدم تمامية علة الالزامي في الحكم بغيره (١).

______________________________________________________

(١) حاصل إلّا ان يقال : هو ان الدليل غير الالزامي له الاقتضاء ايضا بالنسبة الى عدم المرتبة العليا ثبوتا وإثباتا. فلا بد من التكلم فيه في مرحلة الثبوت وفي مرحلة الاثبات ..

واما الكلام في مرحلة الثبوت ، فنقول : ان المصلحة في الدليل غير الالزامي كما انها يكون لها اقتضاء بالنسبة الى الحد غير الالزامي يكون لها اقتضاء ايضا بالنسبة الى عدم المرتبة العليا ، لاقتضائها فعلية الحكم غير الالزامي ، وفعلية الحد غير الالزامي تنافي فعلية الحد الالزامي ، فلو كان هناك حد الزامي لكان منافيا لكون الحكم الفعلي هو الحد غير الالزامي. وعلى هذا الفرض يكون الدليل غير الالزامي مزاحما للدليل الالزامي ، لانه كما ان الدليل الالزامي له اقتضاء بالنسبة الى المرتبة العليا فللدليل غير الالزامي اقتضاء ايضا بالنسبة الى عدمها ، فيقع التزاحم بينهما بالنسبة الى المرتبة العليا التي هي حد الالزام ، لان الدليل الالزامي يقتضي وجودها ، والدليل غير الالزامي يقتضي عدمها. واما بالنسبة الى اصل الرجحان فلا تزاحم بينهما ، بل كل منهما له اقتضاء بالنسبة اليه ، وحينئذ فتكون النتيجة هو الحكم بالرجحان بعد تساقطهما في المرتبة العليا. هذا في مرحلة الثبوت.

واما مرحلة الاثبات التي اشار اليها بقوله : «ان قضية اعتبار دليل غير الالزامي الى آخره» ، فتوضيحها :

ان دليل الاعتبار الشامل للامارة المتكفلة للحكم غير الالزامي الاستحبابي يقتضي ان الحكم الفعلي هو الاستحباب على طبق مؤدى الامارة التي دلت عليه ـ بناء على السببية ـ ووجود المصلحة الفعلية في مؤدى الامارة ، ففيما لو كان في الواقع مصلحة تقتضي الوجوب وكانت الامارة الدالة على الاستحباب لا مزاحم لها ، فلا بد وان هذه المصلحة الفعلية الاستحبابية لها اقتضاء بالنسبة الى عدم مرتبة اللزوم ،

٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

وليست بالنسبة اليها لا اقتضاء ، وإلّا لأثرت المصلحة الوجوبية وكانت هي الفعلية دون الاستحبابية ، لعدم مزاحمة اللااقتضاء لما له اقتضاء ، فيعلم من كون الحكم الفعلي هو الاستحباب ان المصلحة الاستحبابية لها اقتضاء بالنسبة الى عدم المرتبة الالزامية ، بل يعلم منه اقوائية المصلحة غير اللزومية في مقام التأثير من المصلحة الالزامية لتغلبها عليها. هذا فيما اذا كانت الامارة الدالة على الاستحباب منفردة لا مزاحم لها.

واما اذا كانت مزاحمة بالامارة الدالة على الوجوب فحيث ثبت ان الامارة الدالة على الاستحباب هي مما لها اقتضاء بالنسبة الى عدم المرتبة العليا الزائدة عليها فيتزاحمان في المرتبة العليا وهي مرتبة اللزوم ، وتكون النتيجة مع الامارة الدالة على غير الالزام لكفاية اصل الرجحان في الحكم بالاستحباب بعد عدم الوجوب. هذا فيما اذا كانت الامارة متكفلة لحكم غير الزامي استحبابي.

واما اذا كانت الامارة متكفلة لحكم غير الزامي وغير استحبابي كما في الامارة الدالة على الاباحة ، فانه لا بد ـ بناء على السببية ـ ان تكون اقتضائية بالنسبة الى حكم الاباحة ، وان كانت الاباحة الواقعية يمكن ان تكون عن لا اقتضاء ويمكن ان تكون عن اقتضاء ، لكنه بناء على السببية في مؤدى الامارة ، وانها لا بد من وجود مصلحة على طبق مؤدى الامارة ، فتكون الامارة على هذا واجدة لمصلحة اقتضت الاباحة ، وحينئذ يقع التزاحم بينها وبين ما دل على الحكم الالزامي ، لان الاباحة بعد ان كانت اقتضائية فهي تزاحم ما كان له اقتضاء الالزام ، والنتيجة حينئذ بعد تساقطهما مع الاباحة ، لكفاية عدم تمامية علة الحكم الالزامي في الحكم بعدم الالزام.

والى ما ذكرنا اشار بقوله : «إلّا ان يقال بان قضية اعتبار دليل غير الالزامي» بناء على السببية سواء كان دالا على الحكم الاستحبابي او على الاباحة «ان يكون عن اقتضاء» بالنسبة الى عدم المرتبة التي فوقه في الحكم الاستحبابي وبالنسبة الى الترخيص في العدم في الحكم الاباحتي «فيزاحم به حينئذ ما يقتضي» الحكم

٥١

نعم يكون باب التعارض من باب التزاحم مطلقا لو كان قضية الاعتبار هو لزوم البناء والالتزام بما يؤدي إليه من الاحكام ، لا مجرد العمل على وفقه بلا لزوم الالتزام به ، وكونهما من تزاحم الواجبين حينئذ وإن كان واضحا ، ضرورة عدم إمكان الالتزام بحكمين في موضوع واحد من الاحكام (١) ، إلا أنه لا دليل نقلا ولا عقلا على

______________________________________________________

«الالزامي» وتكون النتيجة مع غير الالزامي كما عرفت و «يحكم فعلا بغير الالزامي ولا يزاحم بمقتضاه» أي لا يزاحم بمقتضى الدليل الالزامي «ما يقتضي غير الالزامي لكفاية عدم تمامية علة» الحكم «الالزامي في» ان تكون النتيجة مع «الحكم بغيره».

(١) حاصله : انه استدرك عما ذكر من ان المتعارضين لو كان احدهما دالا على حكم الزامي والآخر على حكم غير الزامي لا مورد للتخيير فيهما ، لان الحكم غير الزامي ان كان لا اقتضاء فيه بالنسبة الى المرتبة العليا فالنتيجة تقديم الحكم الالزامي فلا تخيير ، وان كان عن اقتضاء لعدم المرتبة العليا فالنتيجة مع الحكم غير الالزامي فلا تخيير ايضا كما عرفت. فاستدرك كلامه هذا بما اشار اليه بقوله : «نعم يكون باب التعارض من باب التزاحم مطلقا الى آخر ما ذكره».

وتوضيحه : ان المراد من قوله مطلقا هو كون الدليل غير الالزامي لو قلنا انه وان كان لا اقتضاء له بالنسبة الى عدم المرتبة العليا الالزامية ، لكنه يكون التعارض من باب التزاحم فيما اذا قلنا بان ادلة الاعتبار تدل على وجوب الموافقة الالتزامية ، وانه يجب الالتزام بالمؤدى زيادة على جعل المؤدى على طبق ما اخبر به العادل بناء على السببية ، فيكون لدليل الاعتبار دلالتان : دلالة على جعل المؤدى ، ودلالة على وجوب الموافقة الالتزامية وهي وجوب الالتزام قلبا بهذا المؤدى .. والوجه في ذلك ان المؤدى للخبر وان كان غير الزامي ، بل كان حكما استحبابيا عمليا لا اقتضائيا بالنسبة الى المرتبة العليا ، إلّا ان الالتزام به قلبا يكون واجبا بناء على دلالة دليل

٥٢

الموافقة الالتزامية للاحكام الواقعية فضلا عن الظاهرية ، كما مر تحقيقه (١). وحكم التعارض بناء على السببية فيما كان من باب التزاحم هو التخيير لو لم

______________________________________________________

الاعتبار على وجوب الموافقة الالتزامية ، وحينئذ فدليل الاستحباب وان كان لا اقتضاء له بالنسبة الى دليل الوجوب من جهة المرتبة العليا ، إلّا انه يجب الالتزام به كما يجب الالتزام بمؤدى الدليل الدال على الوجوب ، فدليل الاعتبار بالنسبة الى وجوب الالتزام لا فرق فيه بين الدليل غير الالزامي اللااقتضائي وبين دليل الوجوب الاقتضائي. وحيث انه لا يعقل الالتزام قلبا بحكمين متنافيين في موضوع واحد فلا محالة يقع التزاحم بين الدليل الالزامي والدليل غير الالزامي في وجوب الموافقة الالتزامية ، وان كان لا اقتضاء له ، لانه بعد ان كان الالتزام بغير الالزامي واجبا كالالتزام بالدليل الالزامي فحيث لا يعقل الالتزام بهما معا يقع التزاحم بين هذين الواجبين.

وقد اشار الى ما ذكرنا بقوله : «نعم يكون باب التعارض من باب التزاحم مطلقا» أي وان كان الحكم غير الالزامي لا اقتضاء فيما «لو كان قضية الاعتبار هو لزوم البناء والالتزام» قلبا «بما يؤدى اليه من الاحكام لا مجرد العمل على وفقه بلا لزوم الالتزام به» بان يكون لدليل الاعتبار دلالتان : العمل على وفق المؤدى ، ووجوب الالتزام به «وكونهما من تزاحم الواجبين حينئذ وان كان واضحا» لانه على هذا يجب الالتزام بالحكم غير الالزامي اللااقتضائي كما يجب الالتزام بالحكم الالزامي ، فيكون التعارض بين الدليل غير الالزامي اللااقتضائي والدليل الالزامي من باب تزاحم الواجبين بالنسبة الى وجوب الالتزام. واشار الى وجه وقوع التزاحم بينهما بقوله : «ضرورة عدم امكان» وجوب «الالتزام بحكمين» متنافيين «في موضوع واحد من الاحكام».

(١) حاصله : ان التعارض يكون من باب التزاحم مطلقا ، وان كان بين الدليل غير الالزامي اللااقتضائي والدليل الالزامي ، فيما اذا قلنا بدلالة دليل الاعتبار على

٥٣

يكن أحدهما معلوم الاهمية أو محتملها في الجملة ، حسبما فصلناه في مسألة الضد ، وإلا فالتعيين (١) ، وفيما لم يكن من باب التزاحم هو لزوم الاخذ بما دل

______________________________________________________

وجوب الموافقة الالتزامية زيادة على جعل الحكم على طبق مؤدى الخبر. إلّا انه قد تقدم في مبحث القطع انه لا دليل على وجوب الموافقة الالتزامية لا من العقل ولا من النقل في الاحكام الواقعية ، فضلا عن الاحكام الظاهرية المجعولة للطرق في مقام الشك في الحكم الواقعي ، وقد تبين هناك مفصلا انه لا دليل من العقل ولا من النقل على وجوب الالتزام بالحكم الواقعي قلبا ، بل الدليل العقلي والنقلي لا يدلان على اكثر من موافقة الحكم الواقعي عملا والجريان على طبقه عملا لا التزاما. فاذا كانت الموافقة لا تجب في الحكم الواقعي الواصل فبطريق اولى ان لا تجب الموافقة الالتزامية في الحكم الظاهري المجعول في مقام الشك في الحكم الواقعي ، فدليل الاعتبار لا يدل على اكثر من الموافقة العملية ، ولا دلالة له على وجوب الموافقة الالتزامية ، فلا يكون باب التعارض من باب التزاحم مطلقا. والى هذا اشار بقوله : «إلّا انه لا دليل نقلا ولا عقلا على الموافقة الالتزامية الى آخر الجملة».

(١) هذا هو الوجه الثالث من وجوه التعرض لما ذهب اليه الشيخ (قدس‌سره) : من التخيير مطلقا.

وحاصله : انه لا وجه للتخيير مطلقا في المتعارضين بناء على السببية ، حتى فيما كان الدليلان متكفلين لحكمين متضادين او متناقضين ، بل فيما اذا احرز اهمية احدهما لزم تقديم الاهم فلا تخيير هنا كما مر بيان هذا في مسألة الضد.

وفيما اذا لم تحرز الاهمية في احدهما ولكن احتملنا الاهمية في احدهما فقد ذكر تفصيلا في حاشيته المباركة في هذا المقام ، وحاصله : ان احتمال الاهمية ان كان منشؤه حدوث ملاك آخر وانطباقه على المورد ، فحيث ان مرجعه الى احتمال تكليف آخر فهو مرفوع بادلة البراءة ، وبعد رفعه بادلة البراءة يتساوى المتعارضان ، وفي مثله يحكم العقل بالتخيير كما لو قطعنا بعدم اهمية احدهما. وان كان منشأ احتمال

٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الاهمية هو احتمال شدة الملاك وقوته في احدهما دون الآخر ، فحيث ان شدة الملاك وقوته ليس مرجعه الى احتمال تكليف مستقل ، بل في محتمل الاقوائية لا يكون هناك الا نفس التكليف بنحو اكيد ، فاحتمال تأكد الطلب في احدهما لا مجرى فيه للبراءة ، فلا بد من تعيين محتمل الاهمية اذ لا مدفع لهذا الاحتمال ، فيحكم العقل بلزوم الخروج عن عهدة التكليف الثابت في الجملة ، ولا يقطع بالخروج عنه إلّا باتيان محتمل الاهمية ، ففي مثل هذا الفرض لا وجه للقول بالتخيير مطلقا ، بل يتعين الامتثال لخصوص محتمل الاهمية ، ولا محالة يتقدم محتمل الاهمية.

فظهر ان مورد التخيير في المتعارضين الالزاميين انما هو فيما اذا لم يكن احد المتعارضين معلوم الاهمية ، وفيما اذا لم يكن احدهما محتمل الاهمية ملاكا ومناطا ، فانه في هذين الفرضين لا وجه للتخيير ، بل لا بد من تقديم معلوم الاهمية ومحتمل الاهمية. وانما يكون الحكم هو التخيير فيما اذا علم عدم الاهمية ، أو كان احتمال الاهمية لانطباق عنوان آخر على احدهما كما مر بيانه.

والى ما ذكرنا اشار بقوله : «وحكم التعارض بناء على السببية فيما كان من باب التزاحم» كما لو كان المتعارضان الزاميين «هو التخيير» ولكن ليس مطلقا بل هو «لو لم يكن احدهما معلوم الاهمية او محتملها في الجملة» بان لا يكون احتمال الاهمية لشدة الملاك وقوته «حسبما فصلناه في مسألة الضد» بالنسبة الى معلوم الاهمية وبالنسبة الى محتمل الاهمية في حاشية الرسائل على المقام «وإلّا فالتعيين» أي في معلوم الاهمية وفي محتمل الاهمية لاحتمال شدة الملاك وقوته لا بد من التعيين ، فانه لا تخيير في هذين الفرضين ، بل لا بد من تقديم معلوم الاهمية ومحتمل الاهمية.

٥٥

على الحكم الالزامي ، لو لم يكن في الآخر مقتضيا لغير الالزامي ، وإلا فلا بأس بأخذه والعمل عليه ، لما أشرنا إليه من وجهه آنفا (١) ، فافهم (٢).

______________________________________________________

(١) هذا العطف منه هنا وان كان اعادة لما سبق بيانه منه (قدس‌سره) إلّا انه لجمع نتيجة ما مر منه. وحاصله : ان ما ذكره الشيخ (قدس‌سره) من التخيير مطلقا بناء على السببية ، بعد الغض عن الايراد الاول ، وهو ان السببية انما هي فيما لم يعلم كذبه ، فلا يكون لدليل الاعتبار على السببية اطلاق يشمل كلا الخبرين المتعارضين ، فلو اعرضنا عن هذا وسلمنا الاطلاق في دليل الاعتبار على السببية ، فتكون النتيجة هي التزاحم والتخيير في غير معلوم الاهمية او محتمل الاهمية لاحتمال قوة الملاك لا مطلقا ، مضافا الى ما ذكره سابقا من عدم الاطلاق في التخيير فيما اذا كان احد المتعارضين غير الزامي والآخر الزاميا ، فانه مع كون غير الالزامي لا اقتضائيا تكون النتيجة تقديم الالزامي لا التزاحم والتخيير ، واذا كان غير الالزامي اقتضائيا كانت النتيجة هو العمل على طبق غير الالزامي فلا تخيير ايضا.

وقد اشار الى هذا بقوله : «وفيما لم يكن من باب التزاحم» وذلك فيما اذا كان احد المتعارضين غير الزامي والآخر الزاميا لا تزاحم بينهما فلا تخيير ، بل اللازم «هو لزوم الاخذ بما دل على الحكم الالزامي لو لم يكن في الآخر مقتضيا غير الالزامي» بان كان غير الالزامي لا اقتضائيا «وإلّا» أي وان كان غير الالزامي اقتضائيا «فلا بأس باخذه» أي فلا باس بأخذ غير الالزامي «والعمل عليه لما اشرنا اليه من وجهة آنفا» كما مر بيانه.

(٢) لعله اشارة الى ما ذكره من التعريض الثالث على الشيخ : وهو لزوم تقديم محتمل الاهمية فيما اذا كان منشؤه احتمال شدة الملاك ، لعدم جريان رفع ما لا يعلمون فيه لفرض تعينه بذاته وان لم يكن متعينا بالفعل للمعارضة ، ولكن احتمال شدة الملاك تعينه بالفعل.

٥٦

هذا هو قضية القاعدة في تعارض الامارات ، لا الجمع بينها بالتصرف في أحد المتعارضين أو في كليهما ، كما هو قضية ما يتراءى مما قيل من أن الجمع مهما أمكن أولى من الطرح ، إذ لا دليل عليه فيما لا يساعد عليه

______________________________________________________

فان فيه : انه وان لم تجر فيه البراءة النقلية وهي رفع ما لا يعلمون لعدم مجال للجعل الشرعي فيه بعد تعيّنه بذاته ، الّا انه تجري فيه البراءة العقلية وهي قبح العقاب بلا بيان ، لان لازم تعيّنه بالفعل صحّة العقاب عليه ، وحيث انه لم يصل به بيان يعيّنه بالفعل يقبح العقاب عليه ، والمفروض انه محض احتمال الاهمية من دون بيان فيه.

او انه اشارة الى ان ما ذكره من كون دليل الاعتبار يقتضي كون غير الالزامي اقتضائيا بالنسبة الى عدم المرتبة العليا لا يساعد عليه طبع الدليل الدال على الحكم غير الالزامي ، فانه لا يقتضي اكثر من وجود مصلحة تقتضي هذا الحكم غير الالزامي ، واما كونه اقتضائيا ـ ايضا ـ لعدم المرتبة العليا فهي مئونة زائدة لا يساعد عليها نفس دليل الحكم غير الالزامي.

وما ذكرناه من الوجه وهو ما اذا كان الدليل غير الالزامي منفردا وكان في مورده حكم واقعي لزومي فلا بد من غلبة المصلحة غير اللزومية على المصلحة اللزومية الواقعية ، والّا لكان الغالب هي المصلحة اللزومية ، فلا وجه له لعدم لزوم غلبة المصلحة غير اللزومية ، بل المصلحة غير اللزومية انما تنجزت لوصولها بالخبر الدال عليها ، والمصلحة اللزومية لعدم وصولها لم تنجز ، فلا داعي للالتزام بلزوم غلبة المصلحة غير اللزومية.

هذا مضافا الى ان فرض غلبة المصلحة غير اللزومية في مرحلة الثبوت والواقع هو عدم وجود الحكم الواقعي على طبق المصلحة اللزومية ، لفرض مغلوبيتها بالمصلحة غير اللزومية ، ولازم هذا عدم الحكم الواقعي المشترك بين العالم والجاهل ، وهو تصويب مجمع على بطلانه. والله العالم.

٥٧

العرف مما كان المجموع أو أحدهما قرينة عرفية على التصرّف في أحدهما بعينه أو فيهما ، كما عرفته في الصور السابقة (١) ، مع أن في الجمع كذلك

______________________________________________________

(١) قد عرفت مما مرّ ان القاعدة الاوليّة في الامارتين المتعارضتين بناء على الطريقيّة هي سقوط كلا الامارتين في مدلولهما المطابقي وحجيّة احدهما لا بعينه على مختاره ، وبناء على السببيّة ايضا على مختاره هو حجيّة احدهما لا بعينه ، وعلى مختار الشيخ (قدس‌سره) هو التخيير بما تقدّم من الكلام فيه. وليس هناك قاعدة اخرى تقتضي في المتعارضين الجمع بينهما بالتصرّف في احدى الامارتين او في كليهما.

والحاصل : انه بعد ما عرفت ان القاعدة الاولية في المتعارضين هي ما ذكرناه ، فلا وجه لان يدعى ان القاعدة الاولى وان كانت هي كما ذكر ، الّا ان قاعدة الجمع مهما امكن اولى من الطرح تكون هي القاعدة التي يلزم اتباعها في المتعارضين ، فهي كقاعدة ثانية مقدّمة على القاعدة الاولى في المتعارضين ، لان قاعدة الجمع مهما امكن اولى من الطرح لا اصل لها.

وتوضيح ذلك : ان قاعدة الجمع اولى من الطرح اما فيما يساعد العرف على الجمع بينهما بالتصرّف في احدهما كمورد الورود والحكومة ، او بالتصرّف في كليهما كما في بعض الموارد ، فيما اذا كان لكل واحد من الدليلين نصّ من جهة وظهور من جهة اخرى ، فيؤخذ بنصّ كل منهما ويرفع اليد عن الظهور في كل منهما. فقد عرفت ان هذه الموارد كلها ليست من المتعارضين ، وهي خارجة عن التعارض لان التعارض تنافي الدليلين لا المدلولين.

واما فيما لا يساعد العرف على التصرّف في احدهما او في كليهما وهو مورد التعارض فلا مجال لهذه القاعدة ، لان المراد من الامكان فيها المدلول للفظ مهما امكن : اما الامكان العرفي ، ولازم ذلك كون الجمع مما يساعد عليه العرف ، وقد عرفت ان ما يساعد عليه العرف خارج عن التعارض ، والكلام في التعارض وفيه

٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يساعد العرف على الجمع بينهما بالتصرّف ، فلا يكون المراد من الامكان فيها هو الامكان العرفي.

واما ان يراد منها هو الامكان العقلي ، وفيه اولا : انه لا بد من دليل اما عقلي او نقلي يدل على انه مهما امكن عقلا الجمع فهو اولى من الطرح. ولا يخفى ان الامكان العقلي اعم مما يساعد عليه العرف وغيره مما لا يساعد عليه العرف ، ومنه يظهر ان مورد هذه القاعدة ـ بناء على ان المراد من امكان الجمع هو الامكان العقلي ـ مما يشمل ما هو خارج عن التعارض ، وهو مورد الجمع الذي يساعد عليه العرف بالتصرّف في احدهما أو كليهما ، ومورد التعارض المفروض انه لا يساعد العرف فيه على الجمع بالتصرّف في احدهما او كليهما. وقد ظهر مما مرّ انه فيما هو خارج عن التعارض الدليل على الجمع بينهما بالتصرّف في احدهما او فيهما هو مساعدة العرف على ذلك ، كما مرّ بيانه في موارد الجمع المتقدّمة.

والحاصل : انه فيما لا يساعد العرف على التصرّف فيه وهو مورد التعارض لا دليل من العقل على الجمع بينهما.

وما استدل به على لزوم الجمع بين المتعارضين عقلا وجهان :

الاول : ان الاصل في الدليلين اعمالهما ، فانه بعد فرض ان كل واحد من المتعارضين بنفسه يشمله دليل الاعتبار ، فيكون الاصل في كل واحد منهما اعماله ، فلا يجوز ان يطرحا معا ولا يجوز ان يؤخذ باحدهما دون الآخر لانه ترجيح بلا مرجّح ، فلا بد من اعمالهما معا بالتصرّف في ظهور احدهما او كليهما. فالقاعدة الاوليّة في المتعارضين وان كان ما ذكر من سقوطهما او حجيّة احدهما او التخيير ، الّا ان كون الاصل في الدليلين هو اعمالهما معا يكون هو القاعدة الثانية التي يلزم العمل بها في المتعارضين.

ويرد عليه أولا : ان دليل الاعتبار وان كان يشمل كل واحد منهما لو كان منفردا ، الّا انه بعد تعارضهما لا يعقل ـ بناء على الطريقية ـ شمول دليل الاعتبار

٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

لهما معا مع كذب احدهما ، لوضوح انه لا يعقل ان يكون الواقع مع كونه واحدا ان ينجّز بدليلين متنافيين. وبناء على السببيّة فانه وان كان كل واحد منهما واجدا للمصلحة على طبق مؤدّاه ، الّا انه بعد عدم امكان الجمع بين المصلحتين المتنافيتين لا يعقل شمول دليل الاعتبار لهما معا ، فليس الاصل في المتعارضين لزوم اعمالهما ، لان لزوم الاعمال انما هو لما كان حجة ، وحيث لا يعقل حجتيهما معا فلا يكون الاصل في المتعارضين اعمالهما.

وثانيا : ان التصرّف بعد فرض كونه مما لا يساعد العرف عليه لا بد وان يكون تصرفا اقتراحيا ، ولازم ذلك كون الاعمال اعمالا اقتراحيا ، والاصل المذكور انما يقتضي الاعمال العقلائي لا الاقتراحي ، وحيث لا مجال للاعمال العقلائي لعدم مساعدة عليه ، فلا يكون الاصل في المتعارضين الاعمال ، لان الاعمال العقلائي لا مجال له ، والاقتراحي ليس اعمالا.

الوجه الثاني : ان القاعدة الاولى على ما ذكرتم ـ بناء على الطريقية ـ تقتضي سقوط كلا المتعارضين في الدلالة المطابقية ، وبناء على السببية تقتضي التخيير مطلقا على رأي الشيخ (قدس‌سره) ، وعلى رأي المصنف تقتضي ايضا سقوط كلا المتعارضين في الدلالة المطابقية ، بناء على ان المجعول في السببية هو غير معلوم الكذب ، وبناء على ان المجعول على السببية هو مؤدى الطريق من دون تخصيص لها بخصوص غير معلوم الكذب ، فالنتيجة هي التخيير في بعض افراد المتعارضين. وعلى كل حال فاللازم هو الطرح للدلالة المطابقية إما في كليهما او في احدهما. ولا اشكال ان الدلالة المطابقية دلالة اصلية ، فلازم ما ذكر هو اهمال دلالة اصلية ، بخلاف اعمالهما معا فان لازمه اهمال دلالة تبعية لا اصلية.

وبيان ذلك : ان معنى اعمالهما معا هو رفع اليد عن شمول كل منهما لمورد المعارضة ، بان يكون المراد من كليهما معنى يرتفع به التعارض بينهما ، فيكون لازم الاعمال رفع اليد عن بعض مدلول الدليل ، وشمول الدليل لهذا البعض تبع الدلالة

٦٠