بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-065-9
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٣٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

فان نفس تعرض الاصل لبيان الحكم في مورده يكون نافيا ـ ايضا ـ بالالتزام العقلي للامارة.

والحاصل : ان الاصل في مورد الاجتماع ـ ايضا ـ يدل بالالتزام العقلي على ان حكم مورده فعلا «هو مقتضى الاصل لا الامارة».

وبالجملة : انه اذا كان نفس التعرض لبيان حكم المورد هو النافي لغيره فحال الاصل في ذلك حال الامارة ، فكما ان الامارة مستلزمة عقلا لنفي الاصل فالاصل «هو مستلزم عقلا» ايضا «نفي ما هو قضية الامارة». هذا كله بالنسبة الى نفس الامارة ، وانها لا دلالة لها بالمطابقة على نفي احتمال الخلاف ، واستلزامها عقلا لنفي الحكم الذي هو غير حكمها موجود في الاصل ايضا ، فانه مستلزم عقلا لنفي الحكم غير الحكم الذي قام عليه. واما دليل الاعتبار في الامارة وهو صدق العادل ، فان كان المستفاد منه جعل الحكم المماثل على طبق ما أدّت اليه الامارة فحاله حال النفس الامارة ، حيث لا دلالة له على هذا المبنى الا الدلالة على ان ما قامت عليه الامارة هو الحكم ، ولا دلالة له على هذا على الغاء احتمال الخلاف ، لا على الغاء الحكم المحتمل ، ولا على الغاء حكم الاحتمال : أي ان صدق العادل اذا كان المراد منه جعل الحكم المماثل فلا دلالة لفظية له على غير ذلك ، فلا يدل بالدلالة اللفظية لا المطابقية ولا الدلالة اللفظية الالتزامية على الغاء الحكم المحتمل واقعا غير الحكم المماثل ، ولا على الغاء حكم الاحتمال الذي هو مورد الاصل ، فان مورد الاصل مقام حكم الاحتمال لان مورده في مقام الشك والاحتمال.

والحاصل : ان حال صدق العادل حال الامارة ليس له إلّا التعرض لجعل الحكم المماثل. ودعوى نفيه عقلا لحكم غيره بنفس تعرضه لبيان الحكم المماثل كما مر بيانه في نفس الامارة .. يجري فيه ـ ايضا ـ ما ذكرناه من كون الاصل ـ ايضا ـ ينفي عقلا غيره كما عرفت.

٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

لا يقال : ان صدق العادل يدل على لزوم التصديق بما جاء به العادل ، ومعنى التصديق به هو اعتقاد ان ما جاء به هو الواقع ، والاعتقاد بانه هو الواقع ينفي الحكم المحتمل الذي هو غير ما قامت عليه الامارة ، وينفي حكم الاحتمال لانه مع الاعتقاد بانه هو الواقع لا مجال للاحتمال حتى يكون له حكم ويجيء مورد الاصل.

فانه يقال أولا : انه ليس المراد من تصديق العادل هو تصديقه جنانا ، لان التصديق الجناني انما يحصل باسبابه ، وليس خبر العادل منها لانه من الظنيات ، فلا يكون المراد من الامر بتصديق العادل هو التصديق الجناني ، بل المراد من الامر بتصديقه هو التصديق العملي بترتيب الاثر على ما يقوله المخبر العادل عملا ، وليس هناك اعتقاد وقطع بالواقع حتى يكون نافيا لغير ما قامت عليه الامارة.

وثانيا : انه سلمنا ان المراد من التصديق هو التصديق الجناني ، إلّا انه لا بد وان يكون بنحو الكناية عن العمل ، ونتيجة الكناية هو طلب المكنى عنه دون نفس ما يدل عليه المكنى به.

فاتضح : انه لا دلالة لفظية لا بالمطابقة ولا بالالتزام لدليل الاعتبار وهو صدق العادل على الغاء احتمال الخلاف ..

وثالثا : ان الكلام مبني على ان المستفاد من دليل الاعتبار هو جعل الحكم المماثل على طبق ما أدت اليه الامارة بعنوان تصديق العادل ، بان يكون صدق العادل واسطة في جعل الحكم المماثل بعنوان انه تصديق العادل ، كمن اراد ان يأمر عمرا باكرام زيد فأمره بعنوان اكرم جارك او صديقك ، فلا يكون دالا على غير جعل الحكم المماثل ، ويكون حال دليل الاعتبار حال نفس الامارة من دون فرق ، الا كون الامارة دالة على نفس الحكم بعنوانه الخاص من الحرمة والوجوب ، ودليل الاعتبار دالا على جعله بعنوان انه تصديق المخبر العادل. فلا دلالة لصدق العادل لا بالمطابقة ولا بالالتزام على الغاء احتمال الخلاف ، لا بالنسبة الى الحكم المحتمل ،

٢٢

مع احتمال أن يقال : إنه ليس قضية الحجية شرعا إلا لزوم العمل على وفق الحجة عقلا وتنجز الواقع مع المصادفة ، وعدم تنجزه في صورة المخالفة (١). وكيف كان ليس مفاد دليل الاعتبار هو وجوب الغاء احتمال

______________________________________________________

ولا بالنسبة الى حكم الاحتمال. هذا فيما اذا كان المستفاد من دليل الاعتبار هو جعل الحكم المماثل.

فاتضح : ان المستفاد من دليل الاعتبار هو جعل الحكم المماثل ، فهو لا ينفي غيره الا بالاستلزام العقلي كما مر بيانه. والى هذا اشار بقوله : «بل ليس مقتضى حجيتها» أي ليس مقتضى حجية الامارة بدليل اعتبارها «الا نفي ما قضيته عقلا» بنحو الاستلزام العقلي «من دون دلالة عليه لفظا». ثم اشار الى ما تدل عليه الامارة ودليل الاعتبار معا بقوله : «ضرورة ان نفس الامارة لا دلالة له الا على» ان مؤداها هو «الحكم الواقعي وقضية حجيتها» المستفادة من دليل الاعتبار «ليست» هي «الا لزوم العمل على وفقها شرعا» بجعل الحكم المماثل ، فالمستفاد منهما معا هو الحكم «المنافي عقلا للزوم العمل على خلافه» وهو انما ينفي الخلاف بنحو الاستلزام العقلي ، بمعنى ان لازم كون العصير العنبي حكمه هو الحرمة ـ مثلا ـ يستلزم عقلا نفي غيره من الاحكام للعصير ، وقد عرفت ان النفي بهذا النحو من الاستلزام العقلي موجود في الاصل ايضا ، واليه اشار بقوله : «وهو قضية الاصل».

(١) ينبغي ان لا يخفى ان هذا يدل على ان كلامه المتقدم مبني على كون المستفاد من دليل الاعتبار هو جعل الحكم المماثل. وبعد ما فرغ من عدم دلالة دليل الاعتبار ـ بناء على جعل الحكم ـ على نفي احتمال الخلاف إلّا بنحو الاستلزام العقلي الموجود مثله في الاصل ـ تعرض الى انه بناء على ان المستفاد من دليل الاعتبار هو جعل الحجية ، فلا دلالة ايضا على الغاء احتمال الخلاف ، لانه لو كان المستفاد من دليل صدق العادل هو جعل الحجية لخبر العادل : بمعنى التنجيز للواقع لو اصاب

٢٣

الخلاف تعبدا ، كي يختلف الحال ويكون مفاده في الامارة نفي حكم الاصل ، حيث أنه حكم الاحتمال بخلاف مفاده فيه ، لاجل أن الحكم

______________________________________________________

والعذر لو خالف ، من دون دلالة له على جعل الحكم المماثل على طبق مؤدى خبر العادل ، فمن الواضح ايضا انه لا دلالة لما دل على ذلك ـ وهو كون خبر العادل منجزا لو اصاب ومعذرا لو خالف ـ على الغاء احتمال الخلاف لا بالدلالة المطابقية ولا بالدلالة الالتزامية اللفظية ، فان كون خبر العادل مما ينجز لو اصاب ويعذر لو خالف لا دلالة له بالمطابقة ولا بالتزام على الغاء احتمال الخلاف ، بل بناء على ان المستفاد من دليل الاعتبار هو جعل الحجية لا جعل الحكم المماثل ، لا يكون دليل الاعتبار دالا على جعل حكم شرعا على طبق مؤدى الامارة حتى يكون ذلك الحكم نافيا عقلا لغيره. ولذا قال (قدس‌سره) : «هذا» أي ان ما قلناه مبني على ان دليل الاعتبار يدل على جعل الحكم على وفق ما قامت عليه الامارة. واما «مع احتمال ان يقال انه ليس قضية الحجية» لخبر العادل «شرعا الا لزوم العمل» على وفقه كما يلزم العمل «على وفق الحجة عقلا و» انه انما يدل على «تنجز الواقع مع المصادفة وعدم تنجزه في صورة المخالفة» فانه على هذا لا يكون دليل الاعتبار دالا على جعل حكم ، بل لا يكون دالا الا على جعل نفس الحجية.

ولا يخفى انه قد تقدم من المصنف في اول حجية الظن ان مختاره في دليل الاعتبار هذا المعنى لا جعل الحكم المماثل.

وانما ذكره هنا بنحو الاحتمال مما شاة مع الشيخ الاعظم حيث انه لا يقول بجعل الحجية ، بل هي عنده منتزعة عن جعل التكليف. فذكر أولا عدم دلالة دليل الاعتبار على الغاء احتمال الخلاف بناء على انه يدل على جعل الحكم ، ثم اشار الى انه لا دلالة له ايضا بنحو أوضح ـ بناء على ان المستفاد منه هو جعل الحجية ـ حيث انه بناء عليه لا حكم حتى يكون بوجوده نافيا لغيره عقلا.

٢٤

الواقعي ليس حكم احتمال خلافه ، كيف؟ وهو حكم الشك فيه واحتماله ، فافهم وتأمل جيدا.

فانقدح بذلك أنه لا تكاد ترتفع غائلة المطاردة والمعارضة بين الاصل والامارة ، إلا بما أشرنا سابقا وآنفا ، فلا تغفل (١) ، هذا ولا تعارض أيضا

______________________________________________________

(١) حاصله : انه لا يستفاد من دليل اعتبار الامارة الدلالة على وجوب الغاء احتمال الخلاف تعبدا ، لا بالدلالة المطابقية ولا بالدلالة الالتزامية اللفظية. نعم لو دل على ذلك لكان دالا على خصوصية تنفي مقتضى الاصل ، بخلافه في الاصل لما مر بيانه : من ان دليل الاعتبار لو كان دالا على الغاء احتمال الخلاف ، لكان مقتضاه في الامارة غير مقتضاه في الاصل ، فان مقتضاه في الامارة هو الغاء احتمال غير ما قامت عليه الامارة ، وفي مورد قيام الامارة حيث انه هناك احتمالان : احتمال كون الحكم الواقعي غير ما قامت عليه الامارة ، واحتمال حكم الشك في ذلك المورد فانه ايضا غير ما قامت عليه الامارة ، فإلغاء احتمال الخلاف في الامارة يشمل كلا الامرين.

واما مقتضى دليل الاعتبار في الاصل فهو لا يدل على اكثر من الغاء احتمال كون حكم الاحتمال في مورده هو غيره ، ولا يدل على الغاء احتمال الخلاف مطلقا حتى الغاء احتمال الحكم الواقعي ، لان المستفاد من دليل اعتبار الاصل هو العمل على طبق الاصل في مقام الشك.

وبعبارة اخرى : ان ما يقتضيه اصل الاباحة هو كون حكم الواقعة المشكوكة هو الاباحة الظاهرية لا الحرمة الظاهرية ، واما كون حكمها الواقعي هو الحرمة واقعا فدليل الاعتبار في الاصل لا ينفي هذا الاحتمال ، بل دليل الاعتبار في الاصل يقول اعمل على طبق هذا الاصل والغ احتمال غيره من احتمال حكم الشك ، ولا يقول الغ احتمال الحكم الواقعي ، بل لا يعقل ان يدل على الغاء احتمال الحكم الواقعي ، لان موضوع الاصل هو احتمال الحكم الواقعي ، فكيف يدل دليل اعتباره على الغاء احتمال الحكم الواقعي ، ولو دل على الغائه للزم دلالته على الغاء نفس حكم

٢٥

إذا كان أحدهما قرينة على التصرف في الآخر ، كما في الظاهر مع النص أو الاظهر ، مثل العام والخاص والمطلق والمقيد ، أو مثلهما مما كان

______________________________________________________

الاصل ، فيلزم من دليل اعتباره عدم اعتباره ، لان موضوع دليل اعتباره متقوم بالشك في الحكم الواقعي ، فلو دل على الغاء الحكم الواقعي لدل على الغاء موضوع دليل اعتباره. ولذا قال (قدس‌سره) : «وكيف كان ليس مفاد دليل الاعتبار هو وجوب الغاء احتمال الخلاف تعبدا كي يختلف الحال» في ما يقتضيه دليل الاعتبار «ويكون مفاده في الامارة نفي حكم الاصل» لدلالته في الامارة على الغاء احتمال الخلاف سواء كان هو الحكم المحتمل او كان حكم الاحتمال و «حيث انه» في الاصل هو «حكم الاحتمال» فيدل دليل الاعتبار في الامارة على نفيه «بخلاف مفاده» أي بخلاف مفاد دليل الاعتبار «فيه» أي في الاصل فانه لا ينفي الامارة «لاجل ان» الامارة لسانها ان مؤداها هو «الحكم الواقعي» ودليل الاعتبار في الاصل يدل على الغاء الحكم الظاهري غير الحكم الذي ادى اليه ، ولا يدل على الغاء احتمال الحكم الواقعي لان الحكم الواقعي «ليس» هو «حكم احتمال خلافه» أي خلاف الحكم الظاهري ، و «كيف» يدل على الغاء احتمال الحكم الواقعي «و» الحال ان مفاد الاصل «هو حكم الشك فيه» أي في الحكم الواقعي «و» في مورد «احتماله» أي ان الموضوع في الاصل هو الشك في الحكم الواقعي واحتماله ، فلا يعقل ان يدل دليل اعتبار حكم لموضوع على ارتفاع ما هو الموضوع لذلك الحكم.

قوله (قدس‌سره) : «سابقا الخ» أي ان المطاردة والمنافاة بين المدلولين في الامارة والاصل لا ترتفع ، إلّا بما ذكره سابقا في المقام الثاني من آخر مبحث الاستصحاب ، وبما ذكره آنفا في هذا المبحث بقوله : «ولذلك تقدم الامارات المعتبرة على الاصول الشرعية» وهو ورود الامارات على الاصول كما مر بيانه.

٢٦

أحدهما نصا أو أظهر ، حيث أن بناء العرف على كون النص أو الاظهر قرينة على التصرف في الآخر.

وبالجملة : الادلة في هذه الصور وإن كانت متنافية بحسب مدلولاتها ، إلا أنها غير متعارضة ، لعدم تنافيها في الدلالة وفي مقام الاثبات ، بحيث تبقى ابناء المحاورة متحيرة ، بل بملاحظة المجموع أو خصوص بعضها يتصرف في الجميع أو في البعض عرفا ، بما ترتفع به المنافاة التي تكون في البين (١) ، ولا فرق فيها بين أن يكون السند فيها قطعيا أو ظنيا أو مختلفا ،

______________________________________________________

(١) توضيحه : ان التعارض كما مر بيانه على رأي المصنف ليس هو تنافي المدلولين ، بل هو تنافي الدليلين في مقام الحجيّة الفعلية : أي تنافيهما في مقام الاثبات والتأثير لا في مقام الثبوت والاقتضاء. فعلى هذا لا تنافي بينهما فيما اذا كان احدهما قرينة على التصرّف في الآخر ، لان ما كان هو القرينة على التصرّف في الآخر فالتأثير الفعلي له دون الآخر الذي يتعيّن التصرّف فيه ، كما في مثل العام والخاص والمطلق والمقيد ، فان العام والمطلق من قبيل الظاهر ، والخاص والمقيّد من قبيل النص او الاظهر ، ولا ريب ان النصّ والاظهر قرينة على التصرّف في الظاهر. ففي مقام الفعلية والتأثير لا حجيّة فعليّة للظاهر في قبال النصّ أو الاظهر ، فلا تنافي بينهما في مقام الفعلية والتأثير ، فليسا هما من المتعارضين على هذا. واما كون النص والاظهر قرينة على التصرّف في الظاهر فلان بناء العرف في مقام اجتماعهما على ذلك.

والحاصل : ان المتعارضين هما الدليلان المتنافيان في مقام الفعلية والتأثير ، بحيث يتحيّر ابناء المحاورة في الجمع بينهما في مقام اجتماعهما ، وحيث ان بناء المحاورة في مقام اجتماع الظاهر مع النص او الاظهر لا تحيّر عندهم فيما هو المؤثر بالفعل وما هو الحجة فعلا ، وان المؤثّر بالفعل والحجة فعلا عندهم هو النصّ او الاظهر ، فلا تنافي عند ابناء المحاورة في الحجّة الفعلية بين العام والخاص والمطلق والمقيّد ، لان الخاصّ والمقيّد عند ابناء المحاورة بمنزلة النصّ والاظهر فهو الحجة الفعلية عندهم ، والذي

٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

يتعيّن التصرّف فيه عند أبناء المحاورة برفع اليد عن تأثيره وحجيته بالفعل هو العام والمطلق لانهما من الظاهر.

والحاصل : ان أبناء المحاورة عند اجتماع العام والخاص والمطلق والمقيد يرون الخاص والمقيد قرينة على التصرّف في العام والمطلق ، فلا تنافي بينهما عندهم فيما هو الحجّة الفعلية ، فلا تعارض بينهما على هذا ، لان المتعارضين هما الدليلان المتكافئان في مقام الحجيّة الفعلية.

وقد اشار الى ما ذكرنا بقوله : «ولا تعارض ايضا اذا كان احدهما قرينة على التصرّف» ... الى قوله «والمطلق والمقيد».

ومما ذكرنا يظهر انه كلما اجتمع الظاهر مع النص او الاظهر فالنص والاظهر يكونان قرينة على التصرّف في الظاهر ، وتنحصر الحجّة الفعلية في النصّ والاظهر ، فلا تنافي في مقام التأثير والحجية الفعلية بين كل ظاهر ونصّ او اظهر وان كان بينهما عموم وخصوص من وجه ، ولا اختصاص لما ذكرنا بالعام والخاص والمطلق والمقيد ، بل فيما كان بين الدليلين عموم وخصوص من وجه فان كان احدهما ظاهرا والآخر نصّا يكون التصرّف في خصوص الظاهر ، وان كان كلّ منهما نصّا في جهة وظاهرا في جهة اخرى يكون التصرّف في ظاهر كل منهما بقرينة النصوصية او الاظهريّة في الآخر. والى هذا اشار بقوله : «او مثلهما» أي ومثل العام والخاص والمطلق والمقيد غيرهما ، كالدليلين اللذين كان بينهما عموم وخصوص من وجه «مما كان احدهما نصّا أو اظهر» من الآخر ، فلا تعارض بين هذين الدليلين كما لا تعارض بين العام والخاص والمطلق والمقيد. وقد اشار الى الوجه في عدم التعارض بين هذه الادلة بقوله : «حيث ان بناء العرف» ... الى قوله «وبالجملة». واشار الى ان التعارض ليس هو التنافي بين المدلولين ، بل هو التنافي بين الدليلين في مقام الاثبات والحجيّة الفعلية بقوله : «وبالجملة» ... الى قوله «بحيث تبقى ابناء المحاورة متحيرة». ثم اشار الى ان التعارض ليس هو في مثل العام والخاص والمطلق والمقيد ، او ما كان

٢٨

فيقدّم النصّ أو الاظهر ـ وإن كان بحسب السند ظنيّا ـ على الظاهر ولو كان بحسبه قطعيا (١).

______________________________________________________

بينهما عموم وخصوص من وجه وكان احدهما ظاهرا والآخر نصّا او اظهر ، او كان كلّ واحد منهما ظاهرا في جهة ونصّا او اظهر في جهة اخرى ، فان هذه الموارد لا تعارض بينها في مقام الحجيّة الفعلية ، لتعيّن التصرف اما في احدهما بخصوصه او في كليهما ، وبذلك ترتفع المنافاة بينهما في مقام التأثير والحجية الفعلية ، فلا تعارض بينهما فيما هو الحجّة بالفعل بقوله : «بل بملاحظة المجموع» ... الى آخر قوله «بما ترتفع المنافاة التي تكون في البين».

(١) حاصله : ان موارد الجمع الدلالي كلّها التي ضابطها ان يكون احدهما ظاهرا والآخر نصّا او اظهر ، يقدّم في جميعها النصّ والاظهر وان كان ظني السند على الظاهر وان كان قطعي السند ... فان الصور المتصوّرة فيهما اربع :

الاول : ان يكونا معا قطعيين بحسب السند. الثانية : ان يكونا معا ظنيين بحسب السند. الثالثة : ان يكون النصّ او الاظهر قطعيا سندا والظاهر ظنيّا. الرابعة : بالعكس بان يكون النص او الاظهر ظنيّا سندا ، والظاهر قطعيّا بحسب السند.

ولما كانت الصورة الاخيرة هي التي ربما يتوهّم فيها تقديم الظاهر على النص او الاظهر ، لفرض كون الظاهر فيها قطعيا من حيث السند والنصّ والاظهر ظنيّا ، لذلك نبّه على لزوم التقديم في جميع الصور حتى في هذه الصورة ، ولا ينبغي ان يتوهّم فيها تقديم الظاهر لكونه قطعي السند ، لان التقديم انما يكون مع التعارض ، وحيث قد عرفت ان في موارد الجمع الدلالي كلها لا تعارض بين الدليلين فلا وجه للتقديم. فالنص والاظهر دلالة الظني من حيث السند يتقدم على الظاهر دلالة وان كان مقطوع السند ، فان سريان التعارض الى السندين انما هو حيث يتحقق التعارض في مقام الدلالة للتنافي فيها ، وحيث لا تنافي في مقام الدلالة فلا يكون بين السندين تعارض حتى يتوهّم لزوم تقديم القطعي بحسبه على الظن بحسبه. ولذا قال

٢٩

وإنما يكون التعارض في غير هذه الصور مما كان التنافي فيه بين الادلة بحسب الدلالة ومرحلة الاثبات (١) ، وإنما يكون التعارض بحسب السند

______________________________________________________

(قدس‌سره) : «ولا فرق فيها» أي لا فرق في موارد الجمع الدلالي كلها «بين ان يكون السند فيها قطعيا» في كليهما «او ظنيّا» في كليهما «او مختلفا» وفي جميعها يتقدّم النصّ والاظهر من دون فرق حتى في الصورة الاخيرة «فيقدّم النصّ أو الاظهر وان كان بحسب السند ظنيّا على الظاهر ولو كان بحسبه قطعيا».

(١) التعارض في غير صور الجمع الدلالي انما هو للتنافي في مقام الدلالة.

وصور التعارض في الدليلين المتنافيين ـ في مقام الدلالة وهي في مرحلة الاثبات ـ المتكافئين فيها ست :

الاولى : ان يكون الدليلان قطعيّ السند وقطعيّ الدلالة ، ولا بد في هذه الصورة من ان يكونا من حيث جهة الصدور ظنيّين ، اذ لا يعقل ان يكونا قطعيين حتى من حيث جهة الصدور للزوم التناقض في مرحلة الواقع ، لانهما اذا كانا قطعي السند وقطعي الدلالة وقطعيين من حيث جهة الصدور بان يكونا قد صدرا لبيان الواقع واقعا ، فلازم ذلك ان يكون الواقع الشيء وعدمه اعمّ من كونه نقيضه او ضده ، وهذا معنى لزوم التناقض ، ولا يعقل صدور المتناقضين واقعا بحسب الواقع من الشارع.

الثانية : ان يكون الدليلان قطعيّ السند ظاهري الدلالة.

الثالثة : ان يكونا ظنيّ السند قطعيّ الدلالة.

الرابعة : ان يكونا ظنيّ السند ظاهري الدلالة.

الخامسة : ان يكون الدليلان مختلفين من حيث السند ، فيكون احدهما قطعي السند والآخر ظنيّه ، ولكن من حيث الدلالة يكونان قطعيين معا.

السادسة : ان يكونا مختلفين ـ ايضا ـ من حيث السند ، ولكن من حيث الدلالة يكونان معا ظاهرين.

٣٠

فيما إذا كان كل واحد منها قطعيا دلالة وجهة ، أو ظنيا (١) فيما إذا لم

______________________________________________________

(١) توضيحه : ان الصور الست المذكورة للتعارض ليس في جميعها تعارض من حيث السند ، بل التعارض من حيث السند في بعض منها.

بيان ذلك : انه فيما كان السند فيهما قطعيا لا تعارض من حيث السند ، لوضوح انه مع فرض كون السند فيهما قطعيا فلا يعقل ان ينفي احدهما الآخر من جهة السند.

ومما ذكرنا يظهر انه لا تعارض من حيث السند في الصورة الاولى ، ولا في الدلالة ـ ايضا ـ لفرض كونها قطعيّة ايضا ، ويتعيّن التعارض حينئذ ان يكون في جهة الصدور فقط.

ولا تعارض ـ ايضا ـ من حيث السند في الصورة الثانية لفرض كونه قطعيا فيهما ، وتكون المعارضة في الدلالة لكونها ظنيّة فيهما.

وفي الصورة الثالثة لا تعارض بينهما من حيث الدلالة لفرض كونها قطعيّة فيهما ، وينحصر التعارض بينهما من حيث السند لكونه ظنيّا فيهما.

وفي الصورة الرابعة يتعارضان من حيث السند والدلالة لفرض كونهما معا ظنيين فيهما.

وفي الصورة الخامسة حيث فرض كون احدهما قطعيّ السند وفرض كون الدلالة فيهما معا قطعيّة ، فان كان ما هو قطعي السند وقطعي الدلالة قد كان قطعيا ايضا من حيث جهة الصدور ، فلا بد من تقديمه على ما هو ظني السند ، للعلم بان ما كان قطعيّا من حيث جهة الصدور قد صدر لبيان الواقع قطعا مع فرض كونه قطعي السند والدلالة ، للعلم بان الحكم الذي دلّ عليه هو الحكم الواقعي قطعا ، ومع العلم بان حكمه هو الحكم الواقعي لا بد من العلم بان معارضه لم يكن صادرا ، او كان صادرا لا لبيان الواقع ، فهو ساقط عن الحجية قطعا ، واذا لم يكن ما هو قطعي

٣١

يكن التوفيق بينها بالتصرّف في البعض أو الكل (١) ، فإنه حينئذ لا معنى للتعبّد بالسند في الكل ، إما للعلم بكذب أحدهما ، أو لاجل أنه لا معنى

______________________________________________________

السند وقطعي الدلالة قطعيّا من حيث الجهة فيقع التعارض حينئذ بين جهته فقط وسند ظني السند وجهته ، دون دلالته لفرض كونها قطعية ايضا.

وفي الصورة السادسة يقع التعارض بين دلالة قطعي الصدور وسند ظني السند ودلالته ، لفرض كون الدلالة فيهما معا غير قطعية والسند في خصوص احدهما ظنيّا.

وقد تبيّن مما مرّ ان تعارض الدليلين معا من ناحية السند انما هو في الصورة الثالثة والرابعة ، وعدم تعارضهما معا من حيث السند في الصورة الاولى والثانية لفرض كونه قطعيا فيهما معا ، ولا في الصورة الخامسة حيث ان احد السندين قطعي ، وفي الفرض الاول منه يتقدّم ما هو قطعي السند والدلالة والجهة ، وفي الفرض الثاني يقع التعارض بين جهة قطعي الصدور والدلالة وبين سند ظني الصدور وجهته ، فلا تعارض بينهما معا من حيث السند. وفي الصورة السادسة يقع التعارض بين دلالة قطعي الصدور وسند ظني الصدور ودلالته ، فلا تعارض ايضا بينهما معا من حيث السند. وقد اشار الى الصورتين التي يتعارض الدليلان معا من حيث السند فيها بقوله : «وانما يكون التعارض بحسب السند فيما اذا كان كل واحد من» الدليلين «قطعيا دلالة وجهة» كما في الصورة الثالثة «او» كان كل واحد منهما «ظنيّا» من جهة الدلالة كما هما ظنيان من جهة السند ايضا.

(١) لانه قد عرفت انه فيما اذا امكن التوفيق بالجمع الدلالي بينهما لا يكونان من المتعارضين ، فلا تعارض بينهما من حيث السند فيما اذا كان احدهما نصّا او اظهر وكان الآخر ظاهرا ، او كان كلّ واحد منهما نصّا من جهة وظاهرا من جهة اخرى ، ففي الصورة الاولى يكون التصرف في احدهما ، وفي الصورة الثانية يكون التصرّف فيهما معا كما مرّ بيان ذلك.

٣٢

للتعبّد بصدورها مع إجمالها ، فيقع التعارض بين أدلة السند حينئذ ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

(١) قد عرفت ان التعارض بين الدليلين في السندين معا انما هو في الصورة الثالثة والرابعة ... وقد ذكر المصنف وجهين لوقوع التعارض : الوجه الاول ما اشار اليه بقوله : «فانه حينئذ لا معنى للتعبّد بالسند في الكل اما للعلم بكذب احدهما» والعلم بكذب احدهما هو الوجه الاول. والوجه الثاني ما اشار اليه بقوله : «او لاجل انه لا معنى للتعبّد بصدورها مع اجمالها الى آخره».

وتوضيح الاول : ان المتعارضين تارة يعلم اجمالا بان احدهما لم يصدر واما الثاني يكون محتمل الصدور وعدم الصدور ، وفي هذه الصورة يعلم بكذب احدهما قطعا لفرض العلم بعدم صدور احدهما. واخرى يعلم اجمالا بصدور احدهما وعدم صدور الآخر ، وفي هذه الصورة ـ ايضا ـ يعلم بكذب احدهما قطعا لفرض العلم بعدم صدور احدهما اجمالا. وثالثة : يعلم اجمالا بصدور احدهما فقط من دون علم بالآخر ، فيكون الآخر محتمل الصدور وعدم الصدور ، وفي هذه الصورة لا علم بكذب احدهما لفرض كون العلم بالصدور مختصّا باحدهما اجمالا ، والآخر محتمل الصدور وعدم الصدور فلا علم بالكذب. ورابعة : انه لا يكون علم اجمالي في البين ، لا بعدم صدور احدهما ، ولا بصدور احدهما وعدم صدور الآخر ، ولا بصدور احدهما فقط ، وفي هذه الصورة ايضا لا علم بالكذب كما هو واضح ، وفي هذه الصورة لا يكون هناك الّا العلم الاجمالي بعدم صدورهما معا لبيان الواقع ، اذ لا يعقل ان يكون الحكم الواقعي كل واحد منهما ، والّا لما كانا متعارضين. ولا يخفى ان هذا العلم الاجمالي موجود في جميع صور التعارض.

فاتضح مما ذكرنا : ان العلم بالكذب وان كان يختصّ بالصورة الاولى والثانية ، ولا يعمّ الصورة الثالثة والرابعة المذكورتين للمتعارضين ، إلّا ان العلم الاجمالي بعدم صدورهما معا لبيان الواقع يعم جميع الصور. ولا يخفى انه مع العلم بكذب

٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

احدهما يمتنع عقلا جعل الحجيّة لكلّ واحد من السندين بناء على الطريقية لا الموضوعية ، فيقع التعارض بين السندين لامتناع حجية كل واحد منهما ـ بناء على الطريقية ـ مع العلم بكذب احدهما ، ويمتنع عقلا ايضا حجية كل واحد منهما مع العلم الاجمالي بعدم صدورهما معا لبيان الواقع.

وتوضيح الثاني : انه قد عرفت ان تعارض السندين معا في الدليلين المتعارضين هو في الصورة الثالثة والرابعة من الصور الست المتقدمة. وحيث فرض في الصورة الثالثة قطعية الدلالة فيهما معا فلا اجمال في الدلالة ، وتنحصر المعارضة بينهما في السندين. واما الصورة الرابعة فالدلالة فيهما وان كانت ظنية كما هو المفروض فيها ، إلّا انه بعد تعارضهما دلالة لا بناء من العقلاء على حجية الظهور فيهما معا ، ويكون حالهما حال المجمل من حيث الظهور ، فلا معنى لجعل الحجية الفعلية لكل واحد من السندين مع تعارضهما في الدلالة ، فان جعل الحجية الفعلية لكليهما لغو من الحكيم مع فرض تعارضهما دلالة الموجب لاجمال الظهور فيهما ، كما لو كان الدليل مجملا من حيث الدلالة فانه مع اجماله في الدلالة يكون جعل الحجية الفعلية لسنده لغوا من الحكيم لعدم الفائدة في هذا الجعل ، فاذا كانت الادلة متعارضة في الدلالة فجعل الحجية الفعلية لسند كل واحد منها ايضا لا فائدة فيه لاجمال ظهورها فهو لغو لا يصدر من الحكيم ، فلا بد وان يكون الحجة الفعلية هو احد الادلة المتعارضة ، ولذلك يقع التعارض في السند ايضا في الادلة المتعارضة في الدلالة.

والمتحصل من جميع ما ذكرنا : ان الموجب للتعارض : اما العلم الاجمالي بعدم صدورهما معا لبيان الواقع ، او لزوم اللغوية في جعل الحجية الفعلية لكل واحد من المتعارضين ، وهذا هو الثاني الذي اشار اليه بقوله (قدس‌سره) : «او لاجل انه لا معنى للتعبد بصدورها» أي لا معنى للتعبد بصدور الادلة المتعارضة في الدلالة «مع اجمالها» لما عرفت من انه بعد تعارضها في الدلالة لا بناء من العقلاء على الاخذ بظهورها جميعا فتكون مجملة من حيث اصالة الظهور ، وحيث عرفت ايضا

٣٤

فصل

التعارض وإن كان لا يوجب إلّا سقوط أحد المتعارضين عن الحجية رأسا ، حيث لا يوجب إلا العلم بكذب أحدهما ، فلا يكون هناك مانع عن حجية الآخر ، إلا أنه حيث كان بلا تعيين ولا عنوان واقعا ـ فإنه لم يعلم كذبه إلا كذلك ، واحتمال كون كل منهما كاذبا ـ لم يكن واحد منهما بحجة في خصوص مؤدّاه ، لعدم التعيين في الحجة أصلا ، كما لا يخفى.

نعم يكون نفي الثالث بأحدهما لبقائه على الحجية ، وصلاحيته على ما هو عليه من عدم التّعيّن لذلك لا بهما (١) ، هذا بناء على حجية

______________________________________________________

انه لا معنى لجعل الحجية الفعلية لسند كل واحد منها «ف» لاجل ذلك «يقع التعارض بين ادلة السند حينئذ كما لا يخفى».

(١) توضيح الحال يتوقف على امور : الاول : ان الظاهر من ادلة الجعل لحجيّة الامارات هو الطريقية وانها بداعي الايصال الى الواقع ، كقوله عليه‌السلام : العمري وابنه ثقتان فما أدّيا فعني يؤدّيان ، وغيره من ادلة الجعل ، وظهور اخبار العلاج في ذلك ايضا ، فان المزايا المذكورة في الادلّة العلاجية : كالأوثقيّة والأصدقيّة والأورعيّة والأفقهيّة وموافقة الكتاب ومخالفة القوم كلها ظاهرة في ان جعل الحجية انما هو بداعي الايصال الى الواقع.

الثاني : ان الجامع الاولي للامارة المجعولة هو احتمال الاصابة للواقع شخصا ، وغلبة الاصابة نوعا.

الثالث : انه بناء على الطريقية فالعلم التفصيلي بكذب الامارة مخرج لها موضوعا عن ادلّة الحجية ، لان جعل الحجية للامارة حيث انه بداعي الايصال فلا بد وان تكون الامارة محتملة الاصابة شخصا غالبة الاصابة نوعا ، ومع العلم بالكذب تفصيلا لا تكون الامارة محتملة الاصابة شخصا ولا غالبة الاصابة نوعا.

٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

واما مع العلم الاجمالي بكذب احدهما فان كل واحد من الامارتين وان كان محتمل الاصابة شخصا غالب الاصابة نوعا ، الّا ان الواقع حيث انه غير قابل للفعلية فيهما معا ، لوضوح عدم امكان ان يكون الواقع كل واحد منهما ، بل الواقع على فرضه لا يكون الّا في ضمن احدهما ـ فلا يعقل ان يكون كل واحد منهما مشمولا لادلة الحجية. ومنه يظهر ان احتمال ان يكون كل واحد من الدليلين حجة بالفعل في مدلوله المطابقي غير معقول بناء على الطريقية.

ومما ذكرنا يظهر ايضا : ان العلم الاجمالي بعدم صدور كل واحد منهما لبيان الواقع ـ بناء على الطريقية ـ لا بد فيه في فرض التعارض ، ومع هذا العلم الاجمالي لا يعقل ـ ايضا ـ ان يكون كل واحد من الدليلين حجة بالفعل في مدلوله المطابقي.

الرابع : انه بعد ما عرفت عدم امكان حجيّة كل واحد من المتعارضين فعلا في المدلول المطابقي ... فمحتملات المقام امور :

منها حجيّة احدهما بنحو التخيير العقلي بينهما.

والوجه فيه ان اطلاق دليل الحجية يشملهما معا ، لان كل واحد منهما محتمل الاصابة شخصا غالب الاصابة نوعا ، لانه من الظنون النوعية ، والعلم الاجمالي بكذب احدهما يوجب سلب القدرة عن العمل بهما معا ، ولازم شمول الاطلاق لكلا الدليلين وعدم القدرة على الجمع بينهما هو التخيير بينهما عقلا.

ويرد عليه : ان اطلاق دليل الحجية وان شمل كل واحد منهما مع الغض عن الآخر ، الّا انه لا يشملهما معا : بمعنى انه لا يشمل كل واحد منهما مع لحاظ اجتماعه مع الآخر ، للعلم بعدم وجود ملاكها فيهما معا ثبوتا بناء على الطريقية ، فليس المانع هو عدم القدرة على الجمع بينهما ، وانما يكون المانع عدم القدرة فيما اذا كان كل واحد منهما بلحاظ الآخر واجدا لملاك الحجية ثبوتا ، كانقاذ الغريقين فانه حينئذ يكون المانع عدم القدرة على الجمع بينهما فيكون التخيير عقليا. اما في

٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

المتعارضين فليس ملاك الحجية ثبوتا متحققا فيهما معا ليكون المانع عدم القدرة ، بل المانع عدم تحقق ملاك الحجية ثبوتا فيهما معا ، فلا يكون المقام من التخيير العقلي.

ومنها : حجيّة الخبر الموافق للواقع وعدم حجية الخبر الكاذب غير الموافق للواقع ، ويكون المقام من قبيل اشتباه الحجة باللاحجة.

والوجه فيه ان كل واحد من الخبرين مع لحاظه بذاته يغض النظر عن الآخر يشمله اطلاق دليل الحجية ، الّا ان الحجيّة الفعلية ـ بناء على الطريقية ـ الموجبة لتنجّز الواقع والموصلة اليه هي خصوص الخبر الموافق للواقع ، دون الخبر غير الموافق للواقع الذي هو الخبر الكاذب ، لوضوح كون الخبر الكاذب لا ينجّز الواقع ولا يوصل اليه.

وبعبارة اخرى : انه مع لحاظ الخبرين معا مجتمعين فان احدهما بخصوصه وهو الخبر الموافق للواقع يكون هو الحجة ، والخبر غير الموافق للواقع لا يكون بحجة ، وحيث لا يعلم الخبر الموافق للواقع بخصوصه من الخبر غير الموافق للواقع ، فلازم هذا كون المقام من قبيل اشتباه الحجة باللّاحجّة.

وفيه أولا : ان مورد اشتباه الحجة باللّاحجّة هو ان لا يكون كل واحد من الخبرين مع فرض الغض عن الآخر مما يشمله اطلاق دليل الحجية ، كما لو اشتبه ـ مثلا ـ رجال الخبرين الثقة والضعيف ، بان روى كل واحد من الخبرين عن ابن سنان ، وعلم اجمالا بان احدهما راويه هو ابن سنان الضعيف والآخر ابن سنان الثقة ، فان كل واحد من الخبرين لا يشمله اطلاق دليل الحجية ، وحيث علم ان احد الراويين ثقة والآخر ضعيف فالمورد يكون من قبيل اشتباه الحجة باللاحجة. اما في المقام فحيث ان اطلاق دليل الحجية يشمل كل واحد منهما على الفرض ، والعلم بكذب احدهما اجمالا يمنع عن الحجية الفعلية لكل واحد منهما لا انه يوجب اخراج احدهما عن شمول اطلاق دليل الحجية ، فلا يكون من قبيل اشتباه الحجة باللّاحجّة.

٣٧

وثانيا : ان فرض الكلام هو العلم بكذب احدهما فقط ، لا العلم بكذب احدهما وصدق الآخر ، فلا يعلم بموافقة الآخر للواقع حتى يكون الخبر المعلوم موافقته للواقع هو الحجة والخبر غير الموافق للواقع ليس بحجة ، ليكون من قبيل اشتباه الحجة باللاحجة.

والحاصل : ان فرض الكلام هو عدم موافقة احدهما للواقع ، واما الآخر فيمكن ان يكون موافقا ويمكن ان لا يكون موافقا ، فليس في فرض الكلام لنا علم بموافقة احد الخبرين للواقع حتى يكون هو الحجة بخصوصه ، ويكون من قبيل اشتباه الحجة باللاحجة.

وثالثا : ان مجرد الموافقة للواقع لا تكفي في كون الخبر الموافق له حجة بالفعل ، بل الحجة الفعلية متقومة بوصول الواقع بالخبر وتنجزه به ، وحيث لم يعلم المنجز للواقع منهما والموصل له ، فمجرد كون احدهما موافقا للواقع من دون كون الواقع واصلا به ومنجزا به لا يوجب كون احدهما هو الحجة الفعلية ، فلم يبق لنا إلّا احتمال الموافقة وهو موجود في كل واحد من الخبرين ، فلا يكون المقام من قبيل اشتباه الحجة باللاحجة.

ومنها : كون الحجة هو احدهما من غير تعيين ، وهو الذي يظهر من المتن اختياره.

والوجه فيه هو ان المقتضي للحجية موجود في كل واحد من الخبرين ، لان المقتضي للحجية في الخبر هو احتمال اصابته الواقع شخصا وغلبة اصابته نوعا ، وهذا المعنى موجود في كل واحد من الخبرين ، والمانع عن تأثير هذا الاقتضاء في كل واحد من الخبرين هو العلم الاجمالي بكذب احدهما ، وهذا المانع متساوي النسبة الى كل واحد من المقتضيين الموجودين في الخبرين ، واذا كان المقتضي موجودا في كل واحد من الطرفين ، وكان المانع متساوي النسبة اليهما ، ولم يكن مانعا عن كل واحد منهما بخصوصه ، ولم يكن ايضا مانعا عن احدهما المعين بخصوصه ، كان

٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ذلك المانع مانعا عن تأثير المقتضيين فيهما معا. اما تأثير المقتضي في احدهما بلا تعيين فلا مانع منه ، فيكون الحجة هو احدهما من غير تعيين لتحقق المقتضى له من غير مانع ، اما تحقق المقتضي له فلما عرفت من وجود المقتضى في كل واحد منهما ، واما عدم المانع فلما عرفت ايضا من ان المانع المذكور انما يمنع عن تأثير كلا المقتضيين معا ، ولا يمنع عن تأثير كل واحد منهما بخصوصه ولا عن احدهما المعين بخصوصه ليكون مانعا عن التأثير في احدهما بلا تعيين ، فلا مانع حينئذ عن تأثير المقتضي في احدهما بلا عنوان ، ويسقط المقتضي عن التأثير في احدهما بلا عنوان ايضا ، وعلى هذا فيكون الحجة هو احدهما بلا تعيين والساقط هو احدهما بلا تعيين ايضا. وحيث كان الحجة هو احدهما بلا تعيين ولم يعلم انه أيهما فكل واحد منهما بخصوصه لا يكون حجة بالفعل في مؤداه ، لان الحجة هو احدهما بلا عنوان ومن غير تعيين ، فما هو المعين بعنوانه الخاص ليس بحجة وما هو الحجة هو احدهما بلا تعيين ، ولازم ذلك عدم حجية كلا الخبرين في مدلولهما المطابقي ونفي الثالث غيرهما ، لفرض كون الحجة هو احدهما بلا عنوان ، وهذا المقدار كاف في نفي الثالث لان الثالث هو غيرهما ، وحيث كان الحجة هو احدهما فلازمه ان يكون غيرهما ليس بحجة. فكون الحجة هو احدهما بلا تعيين صالح بنفسه لنفي الثالث.

وليس نفي الثالث بهما معا ، بدعوى انهما بعد تساقطهما في مدلولهما المطابقي ينفيان الثالث بمدلولهما الالتزامي ، فان للدليل دلالة مطابقية وهو كون مؤداه هو الحكم ، ودلالة التزامية وهو نفي الحكم الذي خالف مؤداه المطابقي ، فالمتعارضان وان سقطا في مدلولهما المطابقي للعلم بكذب احدهما ، إلّا انهما لم يسقطا في مدلولهما الالتزامي وهو نفي الثالث ، فيكون نفي الثالث منفيا بهما معا. ولكنه لا وجه لهذه الدعوى بعد ما عرفت من ان الحجة هو احدهما بلا تعيين ، وانما تساقطا لعدم تمييز ما هو الحجة منهما ، وبعد العلم بكذب احدهما يكون الكاذب

٣٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ساقطا عن الحجية في مدلوله المطابقي والالتزامي ، فلا بد وان يكون نفي الثالث مستندا الى ما هو الحجة وهو احدهما بلا تعيين.

وقد اشار الى ما ذكرنا بقوله : «التعارض وان كان لا يوجب إلّا سقوط احد المتعارضين عن الحجية رأسا» لتحقق المقتضي للحجية في كل واحد منهما ، وهو كونه محتمل الاصابة شخصا غالب الاصابة نوعا ، وانما لا يؤثر هذا المقتضي في حجية كل واحد منهما لوجود المانع ، والمانع «لا يوجب» الا عدم تأثير المقتضي في احدهما لانه ليس هو «إلّا العلم بكذب احدهما فلا يكون هناك مانع عن حجية الآخر إلّا انه حيث كان» ما هو الساقط هو احدهما «بلا تعيين ولا عنوان واقعا» لفرض عدم العلم به بخصوصه «فانه لم يعلم كذبه الا كذلك» أي لم يعلم كذبه الا اجمالا وكونه احدهما «و» هذا لا يوجب إلّا «احتمال كون كل منهما كاذبا» ولعدم تمييز ما هو الكاذب منهما «لم يكن واحد منهما بحجة في خصوص مؤداه لعدم التعيين في الحجة اصلا كما لا يخفى. نعم يكون نفي الثالث باحدهما لبقائه على الحجية» لما عرفت من عدم المانع عن كون الحجة هو احدهما بلا تعيين «وصلاحيته» أي وصلاحية ما هو الحجة وهو احدهما «على ما هو عليه من عدم التعين لذلك» أي لا يكون نفي الثالث به «لا بهما» معا.

ومنها : سقوط المتعارضين في الحجية الفعلية ، ولا يكون الحجة هو احدهما بنحو التخيير العقلي لما عرفت ، ولا الموافق للواقع منهما كما مر ، ولا احدهما بلا تعيين كما هو ظاهر المتن لان مرجع ما ذكره الى حجية المردد ، فان احدهما بلا تعيين واقعا ليس هو إلّا المردد ، والمردد لا تحقق له لا ذهنا ولا خارجا ، اما خارجا فلبداهة ان كل شيء في الخارج هو هو لا هو او غيره ، واما ذهنا فلأن كل موجود سواء كان في الذهن او الخارج له ماهية ممتازة عن ساير الماهيات بامتياز ما هوي ، وله وجود ممتاز بنفس هويته الوجودية عن ساير الوجودات ، ومن الواضح ان المردد بما هو مردد لا ماهية له ممتازة عن ساير الماهيات لفرض الترديد في نفس ذاته ، ولا وجود له لان

٤٠