بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-065-9
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٣٧٩

تقليد الاعلم ، لا عليه لأخذ فتاويه من رسائله وكتبه ، ولا لمقلديه لذلك أيضا ، وليس تشخيص الاعلمية بأشكل من تشخيص أصل الاجتهاد ، مع أن قضية نفي العسر الاقتصار على موضع العسر ، فيجب فيما لا يلزم منه عسر ، فتأمل جيدا (١).

______________________________________________________

واما هذا الثاني ، فحاصله : دعوى السيرة من المتشرعة على الاخذ بفتوى احد المجتهدين المتخالفين في الفتوى من دون فحص عن الاعلم مع العلم بأعلمية احدهما.

ولا يخفى ان هذه السيرة هي سيرة العوام من المتشرعة ، لعدم معقولية اخذ احد المجتهدين فتوى الآخر للتقليد والعمل على طبقها. ولا يخفى ايضا ان سيرة المتشرعة الشاملة للعلماء مرجعها الى الاجماع العملي الكاشف عن رأي الامام عليه‌السلام. واما سيرة العوام فليست اجماعا عمليا ـ كما هو المصطلح ـ لفرض عدم معرفة العوام لرأي الامام عليه‌السلام. ولكنه اذا ثبتت هذه السيرة واستمرارها الى زمان الامام عليه‌السلام ، ولم يردعهم الامام عليه‌السلام كشفت عن رضائه بها وامضائه لها ، وان كان مستند العوام في سيرتهم شيئا غير معرفتهم لرأيه عليه‌السلام ، بل كان مستندهم غير ذلك كالعسر أو الغفلة عن حكم العقل بلزوم تقليد الاعلم والفحص عنه.

والجواب عن هذه الدعوى منع تحقق السيرة على ذلك ، بل المشاهد من سيرة المتشرعة ـ فعلا ـ هو تقليد الاعلم والفحص عن الاعلم بمجرد احتماله فضلا عن العلم الاجمالي به.

(١) هذا هو الدليل الثالث ، وحاصله : ان لزوم تقليد الاعلم ـ الذي هو مقتضى الاصل ـ مرفوع بادلة رفع العسر والحرج عليه وعلى مقلديه : أما عليه فلان كون الاعلم هو المتعين للتقليد لازمه تبليغ فتاويه لجميع مقلديه في جميع البلاد ، وهذا عسر عليه في زمان ما قبل الطباعة. واما على مقلديه فلان لزوم رجوع جميع عوام الشيعة الى الاعلم مع تفرقهم في البلاد المتسعة الاطراف مستلزم للعسر عليهم من

٣٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

جهة تحصيلهم لفتاويه ، ومستلزم للعسر ايضا من جهة استلزامه تكليفهم بالفحص عنه المستلزم لأسفار طويلة شاقة. فهو من اظهر مصاديق العسر والحرج المرفوع.

واجاب عنه بجوابين :

الاول : انه لا عسر على المجتهد الاعلم في كونه مرجعا لجميع الشيعة لان تبليغ فتاويه يكون بنشر رسائله المتكفلة لفتاويه ، ولا عسر عليه في نشر رسائله وكتبه وبثها في جميع اقطار الشيعة. ولا عسر ايضا على العوام في لزوم تقليدهم الاعلم والفحص عنه ، اما من حيث تحصيل فتاويه فبما عرفت من امكان تحصيلها بالاخذ من رسائله وكتبه ، واما من جهة الفحص عنه فلا عسر ايضا لامكان تحصيلهم ذلك بالمكاتبة من دون حاجة الى السفر بالسؤال من المعتمدين من اهل التمييز والخبرة. هذا اذا كان المراد من دعوى العسر على المقلدين ما ذكرنا.

واما اذا كان المراد منها ان تشخيص الاعلمية بنفسه امر مما يعسر تحصيله على العوام كما هو ظاهر المتن ... فالجواب عنه : ان تشخيص الاعلمية ليس بأشكل من تحصيل نفس الاجتهاد ، مع انه لم يدع احد عسر تحصيل اصل الاجتهاد على المقلدين.

وقد اشار الى هذا الجواب ، اما عدم العسر على المجتهد فبقوله : «ولا عسر في تقليد الاعلم لا عليه لاخذ فتاويه من رسائله وكتبه». واما عدم العسر على المقلدين فمن ناحية تحصيل فتوى الاعلم فاشار اليه بقوله : «ولا لمقلديه لذلك ايضا» أي لا عسر عليهم من ناحية تحصيل الفتاوي لما مر من امكان تحصيلها بالاخذ من كتبه ورسائله. واشار الى عدم العسر من ناحية كون نفس تشخيص الاعلم فيه عسر بقوله : «وليس تشخيص الاعلمية باشكل من تشخيص اصل الاجتهاد».

واما الجواب الثاني عن دعوى العسر : فبأنه مع تسليم العسر فلازم ذلك الاقتصار على ما يوجب العسر ، واما تقليد الاعلم والفحص عنه حيث لا يوجب العسر فلا يكون مرفوعا بادلة نفي العسر ، لانه حيث لا يكون عسرا فلا يكون

٣٤٢

وقد استدل للمنع أيضا بوجوه : أحدها نقل الاجماع على تعين تقليد الافضل.

ثانيها : الاخبار الدالة على ترجيحه مع المعارضة ، كما في المقبولة وغيرها ، أو على اختياره للحكم بين الناس ، كما دل عليه المنقول عن أمير المؤمنين عليه‌السلام اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك.

ثالثها : إن قول الافضل أقرب من غيره جزما ، فيجب الاخذ به عند المعارضة عقلا (١).

______________________________________________________

مشمولا لرفع ادلة نفي العسر والحرج. والى هذا الجواب اشار بقوله : «مع ان قضية نفي العسر» انما تقتضي «الاقتصار على موضع العسر» وحينئذ «فيجب فيما لا يلزم منه عسر».

(١) قد ظهر من المصنف في قوله وهو الاقوى للاصل ان المقتضي للزوم تقليد الاعلم هو الاصل. وكما انه لا دليل على خلافه من دعوى الاطلاق والسيرة والعسر ، كذلك لا دليل ايضا على لزوم تقليد الاعلم غير الاصل من الادلة التي ذكروها.

وقد اشار الى ادلة ثلاثة قد ادعي دلالتها على المنع عن تقليد غير الاعلم.

الاول : الاجماع المنقول على تعيين الافضل ولزوم اختصاص التقليد به ، واليه اشار بقوله : «احدها نقل الاجماع على تعين تقليد الافضل».

الثاني : ادلة الترجيح المتقدمة الدالة على تعين الافضل ، ومنها المقبولة بما تضمنت من انه عند المعارضة لا بد من تقديم الافقه ، حيث ورد فيها الحكم ما حكم به اعدلهما وأفقههما. ومثلها ما ورد في غيرها كرواية الصدوق عن داود بن الحصين عن الصادق عليه‌السلام (في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فرضيا بالعدلين فاختلف العدلان بينهما عن قول أيهما يمضي الحكم ، قال عليه‌السلام : ينظر الى افقههما وأعلمهما بأحاديثنا) (١). ومثلهما ما ورد عن امير المؤمنين

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ج ٣ ، ص ٥ ـ ح ١٧.

٣٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

عليه‌السلام في نهج البلاغة في عهده الذي كتبه لمالك الاشتر لما ولاه مصر وقد جاء فيه : (اختر للحكم بين الناس افضل رعيتك) (١).

ولا يخفى ان المستفاد من المقبولة ورواية الصدوق هو تقديم قول الاعلم عند المعارضة ، لقوله عليه‌السلام في المقبولة الحكم ما حكم به افقههما ، ولقوله عليه‌السلام في رواية الصدوق : ينظر الى افقههما واعلمهما باحاديثنا. والمستفاد مما ورد عن امير المؤمنين عليه‌السلام : هو لزوم تقديم الاعلم للحكم بين الناس ، وهو الوارد في عهده الى مالك حيث قال فيه : واختر للحكم بين الناس افضل رعيتك ، ومرجعه الى لزوم تعيين الاعلم لاخذ الحكم منه ، ولزوم تعيينه لاخذ الحكم يدل على انه هو المتعين للتقليد واخذ الفتوى منه. والخبران المتقدمان حيث دلا على ان النافذ هو حكم الاعلم فهما ايضا يدلان بالملازمة على ان الاعلم هو المتعين وإلّا لما اختص النفوذ بحكم الاعلم دون حكم غير الاعلم. والى ما ذكرنا اشار بقوله : «ثانيها الاخبار الدالة على ترجيحه» أي على ترجيح الاعلم «مع المعارضة كما في المقبولة وغيرها» كرواية الصدوق (قدس‌سره) ، ومثلهما ما دل على لزوم تقديم الاعلم للحكم ، وهو ما ورد عن امير المؤمنين عليه‌السلام ، واليه اشار بقوله : «او على اختياره» أي ما كان دالا على لزوم اختيار الاعلم «للحكم بين الناس كما دل عليه المنقول عن امير المؤمنين عليه‌السلام» في عهده لمالك (ره) «اختر للحكم بين الناس افضل رعيتك».

الثالث : انه بناء على الطريقية لا بد من تقديم الاعلم ، لان رأيه مع فرض اعلميته يكون اقرب الى الواقع من رأي غير الاعلم ، ولما كان رأي الاعلم وغير الاعلم طريقين الى الواقع ، بناء على الطريقية ـ فلا محالة يلزم تقديم الاعلم عند حصول التعارض بينهما بفرض اختلافهما في الفتوى ، لان رأي الاعلم اقرب الى

__________________

(١) نهج البلاغة (فيض الاسلام) ص ٩٩٣.

٣٤٤

ولا يخفى ضعفها : أما الاول : فلقوة احتمال أن يكون وجه القول بالتعيين للكل أو الجل هو الاصل ، فلا مجال لتحصيل الاجماع مع الظفر بالاتفاق ، فيكون نقله موهونا ، مع عدم حجية نقله ولو مع عدم وهنه (١).

وأما الثاني : فلان الترجيح مع المعارضة في مقام الحكومة ، لاجل رفع الخصومة التي لا تكاد ترتفع إلا به ، لا يستلزم الترجيح في مقام الفتوى ، كما لا يخفى (٢).

______________________________________________________

الواقع من غير الاعلم. والى هذا اشار بقوله : «ان قول الافضل اقرب من غيره جزما» بناء على الطريقية «فيجب الاخذ به عند المعارضة عقلا» لوضوح حكم العقل بان المناط في الطريقية على الأقرب ، وبداهة كون الاعلم رأيه اقرب الى الواقع من رأي غير الاعلم ، فالكبرى عقلية والصغرى مسلمة بالوجدان.

(١) حاصل الجواب عن الاول ـ وهو دعوى الاجماع ـ جوابان : الاول : انه محتمل المدرك ، لقوة احتمال كون وجه القول بتعيين الاعلم هو الاصل المتقدم.

والثاني : انه اجماع منقول ، وقد مر في مبحث الاجماع عدم حجية الاجماع المنقول.

وقد اشار الى الجواب الاول بقوله : «فلقوة احتمال ان يكون ... الى آخر الجملة». واشار الى الجواب الثاني بقوله : «مع عدم حجية نقله» أي مع عدم حجية الاجماع المنقول «ولو مع عدم وهنه» باحتمال المدرك.

(٢) حاصل الجواب عن الدليل الثاني وهو الاخبار الثلاثة : اما عن المقبولة وخبر الصدوق فلانهما واردان في مقام فصل الحكم ، ومن الواضح ان فصل الحكم بعد اختلاف الحكمين في حكمهما لا يكون إلّا بقول احدهما ، فتعيين قول الاعلم في هذا المقام ـ أي مقام فصل الحكم ـ لا يستلزم تعيينه في مقام الفتوى لانه من القياس. واما عن الخبر الثالث فهو وان كان دالا على تعيين الاعلم للحكم ابتداء لا عند

٣٤٥

وأما الثالث : فممنوع صغرى وكبرى ، أما الصغرى فلاجل أن فتوى غير الافضل ربما يكون أقرب من فتواه ، لموافقته لفتوى من هو أفضل منه ممن مات (١) ، ولا يصغى إلى أن فتوى الافضل أقرب في نفسه ، فإنه

______________________________________________________

المعارضة ، إلّا انه ايضا انما يدل على تعيينه لان يكون حكما بين الناس ومرجعا لفصل الحكومات لا لأجل الفتوى والعمل على طبق رأيه ، فهو من القياس ايضا التعدي عن مورده الى مورد الفتوى ، لاحتمال ان يكون تعيين الاعلم لان يكون حكما لاجل ان لا يكون للناس مورد الاعتراض لأجل الشغب.

ولا يخفى ان ما في المتن يختص بالجواب عن الخبرين لا عن الخبر الثالث ، لان حاصله ان تقديم الاعلم الذي دلت عليه الاخبار هو ترجيح له عند المعارضة فلا يتعدى عنها الى الفتوى ، وقد عرفت ان ذلك مورد الخبرين المقبولة ورواية الصدوق ، دون الخبر الثالث. وعبارة المتن واضحة.

(١) قد عرفت ان الدليل الثالث مركب : من صغرى وهي كون رأي الاعلم اقرب الى الواقع من رأي غير الاعلم ، ومن كبرى وهي انه بناء على الطريقية ان ملاك الحجية هي القرب الى الواقع .. وقد اجاب عنهما معا : اما عن الصغرى فبان رأي الاعلم لا يكون دائما اقرب الى الواقع من رأي غير الاعلم ، وذلك واضح فيما اذا كان رأي غير الاعلم موافقا لرأي أعلم قد مات وكان ذلك الميت اعلم من هذا الحي ، فان فتوى غير الاعلم تكون اقرب الى الواقع من فتوى هذا الاعلم الحي. والى ما ذكرنا اشار بقوله : «اما الصغرى فلأجل ان فتوى غير الافضل ربما يكون اقرب» الى الواقع «من فتواه» أي من فتوى الافضل «لموافقته» أي لموافقة فتوى غير الافضل «لفتوى من هو افضل منه ممن مات» أي افضل من هذا الافضل الحي ، وحيث ان هذا القائل يرى ان فتوى الافضل اقرب ، ففتوى الافضل الميت من هذا الافضل الحي هي اقرب الى الواقع بحسب هذا المناط ، ولما كان فتوى غير الافضل

٣٤٦

لو سلم أنه كذلك إلا أنه ليس بصغرى لما ادعى عقلا من الكبرى ، بداهة أن العقل لا يرى تفاوتا بين أن تكون الاقربية في الامارة لنفسها ، أو لاجل موافقتها لامارة أخرى ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

الحي موافقة لفتوى الافضل الميت ، فلا محالة تكون فتوى غير الافضل الحي لهذه الموافقة اقرب الى الواقع من فتوى الافضل الحي.

(١) حاصله انه يمكن ان يقال : ان المدار في ترجيح الاعلم على غير الاعلم من جهة القرب بالنسبة الى نفس رأي الاعلم وغير الاعلم : أي ان المناط في كون رأي الاعلم اقرب من رأي غير الاعلم هو كونه في نفسه اقرب من رأي غير الاعلم لا بملاحظة ما هو خارج عنهما ، لان المفروض هو الترجيح بينهما بملاحظة ان احدهما اقرب ، ولذا لا اشكال في كون الاعلم من جهة الترجيح بالاقربية هو اقرب ، وان كان رأي غير الاعلم موافقا لظن من الظنون غير المعتبرة بحيث يكون بواسطة موافقته لهذا الظن غير المعتبر اقرب من رأي الاعلم.

والجواب عنه : ان اذا كان المدار على الاقربية الى الواقع فلا وجه لملاحظة الاقربية من حيث نفس رأي الاعلم ورأى غير الاعلم ، فان العقل لا يفرق بين الاقربية من حيث نفسهما ومن حيث ما هو الخارج عنهما. وما ذكر من انه لا اشكال في كون رأي الاعلم اقرب من حيث الترجيح على رأي غير الاعلم وان كان رأي غير الاعلم موافقا لظن من الظنون غير المعتبرة ، بحيث يكون بواسطته اقرب من رأي الاعلم ـ فغير مسلم ، بل ينبغي حيث يكون المدار على الاقربية هو الترجيح لرأي غير الاعلم على رأي الاعلم. نعم الظن غير المعتبر بنفسه لا يتقدم على رأي الاعلم ، لكنه يكون موجبا لترجيح رأي غير الاعلم. والسبب في ذلك ان الظن غير المعتبر حيث لم يكن حجة فلا يعقل ان يترجح على رأي الاعلم ، لان المفروض هو الترجيح لاحدى الحجتين على الاخرى من حيث الاقربية ، والظن غير المعتبر ليس بحجة حتى يكون قربه الى الواقع مرجحا له. وهذا بخلاف رأي غير الاعلم فانه حيث

٣٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

انه بنفسه حجة وموافقته للظن غير المعتبر موجبة لأقربيته ، فلذا كان ملاك الأقربية المقتضية للترجيح فيه موجودا حيث يكون موافقا للظن غير المعتبر بحيث يكون اقرب الى الواقع من رأي الاعلم.

والحاصل : ان العقل لا يفرق بين الاقربية من حيث نفس احد الرأيين وبين الاقربية من ناحية الامر الخارجي لاحدهما.

فظهر مما ذكرنا : ان رأي غير الاعلم الموافق لرأي الاعلم الميت الذي هو اعلم من الاعلم الحي موجب لكون رأي غير الاعلم اقرب من رأي الاعلم الحي. والى ما ذكرنا اشار بقوله : «ولا يصغي الى» ما يقال من «ان فتوى الافضل اقرب في نفسه» من فتوى غير الافضل ، والمدار في الترجيح على اقربية احدهما من الآخر من حيث نفسهما لا من حيث ما هو خارج عنهما. والوجه في عدم الاصغاء الى هذه الدعوى هو ما اشار اليه بقوله : «فانه لو سلم انه كذلك» والاشارة بقوله لو سلم الى ما يأتي منه من المناقشة في الكبرى فحاصله : انه لو سلم كون المدار على الاقربية «إلّا انه» ليس فتوى الافضل اقرب من فتوى غير الافضل اذا كان فتوى غير الافضل موافقة لفتوى ميت هو افضل من الافضل الحي ، لان العقل لا يفرق بين الاقربية الداخلية والخارجية ، ففتوى غير الافضل الموافقة لفتوى الميت الافضل «ليس بصغرى لما ادعى عقلا من الكبرى» وهي كون المدار على الاقربية الى الواقع بناء على الطريقية ، بل فتوى غير الافضل الموافقة لفتوى الميت بحسب هذه الكبرى تكون اقرب من فتوى الافضل الحي ، لان المفروض في هذا الدليل هو كون الاقربية الى الواقع هي المدار في ترجيح الافضل ، ولا فرق عند العقل في حصول الاقربية الى الواقع بين الموجب للقرب سواء كان في نفس الشيء او كان لأمر خارجي. واشار الى الوجه في ذلك من انه ليس بصغرى لهذه الكبرى بقوله : «بداهة ان العقل لا يرى تفاوتا بين ان تكون الاقربية» الى الواقع «في الامارة لنفسها» كما في اقربية

٣٤٨

وأما الكبرى فلان ملاك حجية قول الغير تعبدا ولو على نحو الطريقية ، لم يعلم أنه القرب من الواقع ، فلعله يكون ما هو في الافضل وغيره سيان ، ولم يكن لزيادة القرب في أحدهما دخل أصلا. نعم لو كان تمام الملاك هو القرب ، كما إذا كان حجة بنظر العقل ، لتعين الاقرب قطعا (١) ،

______________________________________________________

فتوى الافضل فانها بنفسها اقرب من فتوى غير الافضل «او لاجل موافقتها لأمارة اخرى» كما في فتوى غير الافضل الموافقة لفتوى الميت الافضل.

(١) توضيح مناقشته في الكبرى : ان القرب الى الواقع ليس تمام الملاك للحجية حتى بناء على الطريقية ، لانه لا اشكال ـ مثلا ـ في اشتراط حجية قول الراوي بالاسلام ، وربما يكون الراوي غير المسلم المأمون الكذب الذي يكون تنبهه والتفاته اقوى من المسلم يكون ما يرويه أقرب الى الواقع من رواية المسلم ، ومع ذلك لا تكون روايته حجة ورواية المسلم حجة ، ولا ينافي ذلك البناء على الطريقية ، لان كونه طريقا الى الواقع ومقربا له ليس تمام المقتضي بل بعض المقتضي ، فاذا كان القرب الى الواقع بعض المقتضي لا تتم الكبرى المذكورة ، لان كون رأي الاعلم اقرب من رأي غير الاعلم اذا لم يكن تمام المقتضي فربما تكون هناك جهات اخرى لها دخل في جعل الحجية متوفرة في غير الاعلم ، بحيث يكون بحسبها مساويا لرأي الاعلم ، وعلى هذا لا تكون زيادة القرب الى الواقع في رأي الاعلم لها دخل اصلا في تعيينه للحجية دون رأي غير الاعلم.

نعم لو قلنا ان تمام الملاك للحجية هو القرب الى الواقع كما في الانسداد بناء على الحكومة او الكشف فان الظن انما يتعين دون الشك والوهم لكونه اقرب ، وحيث يكون القرب تمام الملاك تكون حينئذ الحجية بنظر العقل منحصرة في رأي الاعلم قطعا.

والى ما ذكرنا اشار بقوله : «واما الكبرى» وهي ان تمام الملاك للحجية هو القرب الى الواقع «ف» ممنوعة «لان ملاك حجية قول الغير تعبدا ولو على نحو

٣٤٩

فافهم (١).

______________________________________________________

الطريقية لم يعلم انه القرب من الواقع» على نحو يكون القرب تمام الملاك «فلعله يكون ما هو في الافضل وغيره سيان» من جهة الحجية لوجود جهات متوفرة في غير الافضل توجب كونه مساويا للافضل «و» على هذا «لم يكن لزيادة القرب» المتحققة «في احدهما» وهو الافضل «دخل اصلا» في تعيينه للحجية دون غير الافضل. واشار الى انه لو قلنا ان القرب تمام الملاك لكان حينئذ قول الاعلم متعينا بقوله : «نعم لو كان تمام الملاك هو القرب كما اذا كان حجة بنظر العقل لتعين الاقرب قطعا» كما في الانسداد ، فان العقل يحكم بتقديم الظن على الوهم والشك لرجحانه عليهما ، والمناط في رجحانه هو كونه اقرب منهما ، وبهذا المناط لا بد من حكمه بتعين الافضل هنا فيما اذا كان الدليل على التقليد هو الانسداد ، لوضوح كون رأي الافضل اقرب من رأي غير الافضل. ولكن قد عرفت ان الدليل على اصل التقليد للعامي هو كونه بديهيا فطريا ، وفي تقليد الاعلم هو الاصل العقلي الحاكم بلزوم تعيين محتمل التعيين ، وبالنسبة الى المجتهد على اصل التقليد هو الاخبار كما مر من المصنف دعوى العلم الاجمالي بصدور بعضها ، وان ظهر منه التشكيك فيه في هذه المسألة ، وبالنسبة الى تقليد الاعلم هو الاصل ايضا كما مر بيانه. واما القرب الى الواقع فيكفي في المناقشة فيه المناقشة في صغراه كما عرفت.

(١) لعله اشارة الى انه بعد الاعتراف بان القرب بعض ما له الدخل في حجية قول الغير وان لم يكن هو تمام العلة ، إلّا انه لا بد على هذا من تقديم الافضل ، لفرض كون الافضل وغير الافضل متساويين من كل جهة للحجية عدا كون الافضل له زيادة القرب ، ومن الواضح ان الرجحان وان كان ببعض ما هو قوام الحجية لازمه ترجيح ما كان له هذا الرجحان ، ولا يختص الرجحان بكون القرب تمام العلة للحجية. والله العالم.

٣٥٠

فصل

اختلفوا في اشتراط الحياة في المفتي ، والمعروف بين الاصحاب الاشتراط ، وبين العامة عدمه ، وهو خيرة الاخباريين وبعض المجتهدين من اصحابنا ، وربما نقل تفاصيل ، منها التفصيل بين البدوي فيشترط والاستمراري فلا يشترط ، والمختار ما هو المعروف بين الاصحاب (١) ، للشك في جواز تقليد الميت ، والاصل عدم جوازه ، ولا مخرج عن هذا الاصل ، إلا ما استدل به المجوز على الجواز من وجوه ضعيفة (٢).

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان الاقوال المشار اليها في المتن ثلاثة : الاول : اشتراط الحياة مطلقا سواء في التقليد البدوي والاستمراري. وهو مختار اكثر الاصوليين.

الثاني : عدم الاشتراط مطلقا لا في التقليد البدوي ولا في الاستمراري ، فيجوز تقليد الميت ابتداء ويجوز البقاء على تقليده بعد موته. وهو مختار اصحابنا الاخباريين والعامة جميعا.

الثالث : التفصيل بين البدوي فلا يجوز ، وبين الاستمراري وهو البقاء على تقليده بعد الموت فهو جائز. وهو مختار جماعة من المتأخرين.

والمختار للمصنف هو القول الاول : وهو اشتراط الحياة في المفتي ابتداء فلا يجوز تقليد الميت بدوا ولا استمرارا فلا يجوز البقاء على تقليد المجتهد بعد الموت. ولذا قال (قدس‌سره) : «والمختار ما هو المعروف بين الاصحاب».

(٢) لا يخفى ان المراد من الاصل هو اصالة عدم حجية قول شخص على شخص آخر ، وهو اصالة عدم الحجية في كل ما شك في حجيته ، وحيث يشك العامي في حجية قول الميت بالنسبة اليه فالاصل عدم حجيته ، هذا حيث يلتفت العامي الى ان الاصل عدم الحجية. واما غير الملتفت منهم فلا محالة انه يشك في براءة ذمته في تقليده للميت لاحتماله اشتراط الحياة في المجتهد الذي يجوز الرجوع اليه ، ومع هذا

٣٥١

منها : استصحاب جواز تقليده في حال حياته ، ولا يذهب عليك أنه لا مجال له ، لعدم بقاء موضوعه عرفا ، لعدم بقاء الرأي معه ، فإنه متقوم بالحياة بنظر العرف ، وإن لم يكن كذلك واقعا ، حيث أن الموت عند أهله موجب لانعدام الميت ورأيه (١) ، ولا ينافي ذلك صحة استصحاب

______________________________________________________

الاحتمال لا بد له مما يقطع ببراءة ذمته فيه فيتعين عليه تقليد الحي لانه مبرئ لذمته قطعا.

(١) توضيحه : ان المصنف جعل الكلام في مقامين : الاول : في التقليد الابتدائي.

الثاني : في التقليد الاستمراري وهو البقاء على تقليده بعد الموت. فانه وان لم يذكر هنا انه في التقليد الابتدائي إلّا ان قوله بعد واما الاستمراري مما يدل على ان الكلام فعلا في التقليد الابتدائي.

وحيث عرفت ان الاصل الاولي فيما شك في حجيته وعدم حجيته هو لزوم تقليد الحي ـ فقد استدل على الخروج عن هذا الاصل الاولي المقتضي لعدم جواز الرجوع ابتداء الى المجتهد الميت بوجوه :

منها الاستصحاب : فانه لو تم لدل على صحة تقليد الميت ، فيكون صحة تقليد الميت ـ الذي كان الاصل الاولي يقتضي عدم صحته ـ قد خرج عن هذا الاصل بواسطة الاستصحاب ... وتقريره يمكن ان يكون بوجوه ثلاثة :

الاول : استصحاب صحة الرجوع الى هذا المجتهد الميت لما كان حيا ، فانه لما كان حيا كان يصح تقليده والرجوع اليه ، وبعد موته يشك في هذه الصحة فتستصحب.

والجواب عنه : انه لا بد في المستصحب ان يكون مجعولا شرعيا ، وهذا الحكم عقلي لا شرعي ، لما مر من ان التقليد الابتدائي دليله البداهة عند العقل فهو حكم عقلي.

الثاني : استصحاب الاحكام التي ادى اليها رأي هذا المجتهد في حال الحياة ، فانه بعد موته يشك في بقائها فتستصحب.

٣٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

والجواب عنه سيأتي عند التكلم على التقليد الاستمراري.

الثالث : استصحاب حجية رأيه في حال الحياة لليقين بحجية رأيه في حال حياته ، وبعد موته يشك في بقاء هذه الحجية فتستصحب.

والى هذا الاستصحاب اشار المصنف بقوله : «منها» أي من الوجوه الضعيفة التي استدل بها على الخروج عن الاصل هنا «استصحاب جواز تقليده» أي استصحاب جواز تقليد الميت «في حال حياته». والظاهر ان مراده من استصحاب جواز تقليده هو استصحاب حجية رأيه وقوله في حال حياته لليقين بحجية رأيه في حال حياته ، وبعد موته يشك في بقاء هذه الحجية فتستصحب.

والجواب عنه ـ الذي اشار اليه المصنف ـ هو انه لا مجال لهذا الاستصحاب ، لان جريان الاستصحاب لا بد فيه من بقاء الموضوع ، والمحكم في بقاء الموضوع وعدمه هو العرف لا العقل ولا لسان الدليل كما تقدم تحقيقه في مبحث الاستصحاب. وقد تقدم هناك انه بين الموضوع بنظر العقل وبنظر العرف عموم من وجه ، فقد يتصادقان ، وقد يكون مرتفعا بنظر العقل وباقيا بنظر العرف ، وقد يكون باقيا بنظر العقل ومرتفعا بنظر العرف. ومن موارد الاخير مقامنا ، فان الموضوع وهو رأي المجتهد مما يرى العرف ارتفاعه بالموت وان كان باقيا بنظر العقل ، اذ الموت لا يوجب إلّا انتقال النفس من هذا البدن الى عالم المثال ، وتقوم الرأي ببقاء النفس لا بالجسد ، إلّا ان العرف يرى انعدام الموضوع بالموت. وحيث انه هو المرجع في بقاء الموضوع وعدمه في جريان الاستصحاب ، فلا مجال لجريان الاستصحاب هنا لحجية رأي المجتهد بعد الموت لانعدام الرأي بنظر العرف عند الموت ، لان الحياة بنظر العرف مما يتقوم بها رأي المجتهد وبنظرهم انه بالموت ينعدم الميت ورأيه.

والى هذا اشار بقوله : «ولا يذهب عليك انه لا مجال له» أي لا مجال للاستصحاب «لعدم بقاء موضوعه عرفا لعدم بقاء الرأي معه» أي مع الموت «فانه متقوم بالحياة بنظر العرف وان لم يكن كذلك واقعا» عند العقل لبقاء النفس واقعا

٣٥٣

بعض أحكام حال حياته ، كطهارته ونجاسته وجواز نظر زوجته إليه ، فإن ذلك إنما يكون فيما لا يتقوم بحياته عرفا بحسبان بقائه ببدنه الباقي بعد موته ، وإن احتمل أن يكون للحياة دخل في عروضه واقعا ، وبقاء الرأي لا بد منه في جواز التقليد قطعا ، ولذا لا يجوز التقليد فيما إذا تبدل الرأي أو ارتفع ، لمرض أو هرم إجماعا.

وبالجملة يكون انتفاء الرأي بالموت بنظر العرف بانعدام موضوعه (١) ، ويكون حشره في القيامة إنما هو من باب إعادة المعدوم ، وإن لم يكن

______________________________________________________

وعدم موتها وفنائها ، ولكنه «حيث ان الموت عند اهله» أي اهل العرف «موجب لانعدام الميت ورأيه» والعرف هو المحكم في بقاء الموضوع فلا مجال لجريان استصحاب حجية رأيه حال الحياة.

(١) حاصله الاشارة الى توهم في المقام : وهو منع كون العرف يرى انعدام الموضوع بالموت ، وذلك لانه لا اشكال في جريان الاستصحاب في نظر العرف بعد الموت في طهارة الميت ، فيما اذا شك في برده بالموت وعدم برده ، وفي جواز نظر زوجة الميت اليه فيما احتمل نجاسته واحتمل عدم جواز النظر اليه بعد الموت ، فتستصحب طهارة الميت في حال حياته وجواز النظر اليه في حال حياته. وحيث ان جريان الاستصحاب لا بد فيه من بقاء الموضوع بنظر العرف ، وقد فرض جريان الاستصحاب بنظر العرف في طهارة الميت وجواز النظر اليه ، فيكشف ذلك عن بقاء الموضوع بنظر العرف بعد الموت. وعليه فلا بد من الالتزام باستصحاب حجية رأيه بعد الموت لبقاء الموضوع بنظر العرف.

والجواب عن هذا التوهم : ان الموضوع مختلف ، فان الموضوع لرأي المجتهد بنظر العرف هو نفسه لا جسده ، والموضوع للطهارة والنجاسة ولجواز النظر وعدمه بنظر العرف هو البدن ، وحيث ان الموضوع للرأي هو النفس والعرف يرى عدم بقائها بالموت فالموضوع لهذا الحكم منتف بانتفاء موضوعه ولا مجال لجريان الاستصحاب

٣٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

فيه ، بخلاف الطهارة والنجاسة وجواز النظر وعدمه فان الموضوع له بنظر العرف هو البدن ، وان احتمل ان للحياة دخلا في الحكم بالطهارة وجواز النظر ، وحيث ان الموضوع لهذين الحكمين هو البدن فلا مانع من جريان الاستصحاب بعد الموت. واما حجية الرأي فالموضوع لها بنظر العرف هي النفس ، ولا بقاء لها بنظر العرف بعد الموت فلا مجال لجريان استصحابها. ومن الواضح ان جريان الاستصحاب منوط ببقاء الموضوع في نظر العرف

والحاصل : انه لا مانع من جريان الاستصحاب من جهة لحكم وعدم جريانه من ناحية حكم آخر. والى هذا اشار بقوله : «ولا ينافي ذلك» أي لا ينافي ما ذكرنا من عدم جريان الاستصحاب في حجية الرأي بعد الموت لعدم بقاء الموضوع بنظر العرف «صحة استصحاب بعض أحكام حال حياته كطهارته ونجاسته وجواز نظر زوجته اليه» بعد موته. والوجه في جريان هذا الاستصحاب وعدم جريان ذاك الاستصحاب ما اشار اليه بقوله : «فان ذلك انما يكون فيما لا يتقوم» الموضوع للحكم «بحياته عرفا» أي بنظر العرف «بحسبان بقائه» أي بحسبان بقاء الموضوع «ببدنه الباقي بعد موته وان احتمل ان يكون للحياة دخل في عروضه واقعا» على البدن ، لانه حيث لا يحتمل ان يكون للحياة دخل لا يكون هناك شك فلا حاجة الى الاستصحاب.

والحاصل : ان الاستصحاب في الطهارة والنجاسة وجواز النظر يجري لبقاء ما هو الموضوع فيه بنظر العرف. واما حجية الرأي فلا اشكال في ان متعلق الحجية هو الرأي ، وحيث ان الرأي متقوم بالنفس لا بالبدن قطعا ، والنفس بنظر العرف لا بقاء لها بعد الموت ، فلذا لا يجري استصحاب حجية الرأي ، لعدم بقاء الرأي بنظر العرف لارتفاعه بنظرهم بارتفاع ما يتقوم به الرأي وهو النفس. واما انه لا بد من بقاء الرأي في جواز التقليد فالدليل عليه : هو انه لو تبدل رأي الحي برأي آخر فلا اشكال

٣٥٥

كذلك حقيقة ، لبقاء موضوعه ، وهو النفس الناطقة الباقية حال الموت لتجرده ، وقد عرفت في باب الاستصحاب أن المدار في بقاء الموضوع وعدمه هو العرف ، فلا يجدي بقاء النفس عقلا في صحة الاستصحاب مع عدم مساعدة العرف عليه ، وحسبان أهله أنها غير باقية وإنما تعاد يوم القيامة بعد انعدامها ، فتأمل جيدا (١).

______________________________________________________

في عدم حجية الرأي الاول ، وان الحجة فعلا هو الرأي الثاني الذي بنى عليه المجتهد أخيرا.

ويدل عليه ايضا : انه اذا ارتفع رأي المجتهد في حياته بسبب مرض او هرم فلا اشكال ايضا في ارتفاع الحجية بارتفاع رأي المجتهد ، ولا يجوز للمقلد العمل على طبق رأيه السابق في مقام التبدل ، ولا يجوز ايضا له العمل على طبق رأيه المرتفع بسبب الهرم او المرض. فاتضح ان بقاء رأي المجتهد مما لا بد منه قطعا في جواز تقليده والعمل على طبق ما ادى اليه رأيه ، وحيث ان العرف في الموت يرى ارتفاع الرأي بانعدام النفس فيكون من باب ارتفاع الحكم بانعدام موضوعه فلا مجال لاستصحابه. والى ما ذكرنا اشار بقوله : «وبقاء الرأي لا بد منه في جواز التقليد قطعا» ... الى قوله «بانعدام موضوعه».

(١) حاصله ـ هو التأكيد لما ذكره من كون العرف يرى انعدام النفس بالموت ـ ان الحشر للناس يوم القيامة بنظر العرف هو من باب اعادة المعدوم لا من باب تبدل متعلق النفس من عالم الدنيا وهو عالم الكون والفساد ، فانها متعلقة في هذا العالم بالبدن المادي الذي له تبدلات من الطفولة الى حال الهرم ، ثم ينتقل بعد الموت الى عالم البرزخ وفيه يكون متعلقها البدن المثالي ، ثم تنتقل الى بدن يناسب الحشر.

وعلى كل فعلى هذا لا إعادة للنفس بل هي باقية لا فناء لها ، وانما الفناء لمتعلقها بحسب هذه العوالم. فليس الحشر من اعادة المعدوم بالنسبة الى النفس الناطقة. هذا بحسب ما ثبت بالبرهان في محله.

٣٥٦

لا يقال : نعم ، الاعتقاد والرأي وإن كان يزول بالموت لانعدام موضوعه ، إلا إن حدوثه في حال حياته كاف في جواز تقليده في حال موته ، كما هو الحال في الرواية (١).

______________________________________________________

واما بنظر العرف فالنفس حالها عندهم حال البدن وان حشرها من باب اعادة المعدوم ، وحيث كان المدار في الاستصحاب بقاء الموضوع بنظر العرف فلا مجال لجريان الاستصحاب في حجية الرأي ، لارتفاعه بانعدام النفس بالموت بنظر العرف.

والى ما ذكرنا اشار بقوله : «ويكون حشره في يوم القيامة انما هو من باب اعادة المعدوم وان لم يكن كذلك حقيقة ل» قيام البرهان العقلي على «بقاء موضوعه وهو النفس الناطقة» ... الى آخر قوله «فتأمل جيدا».

(١) حاصله : ان التعبد برأي المجتهد وقوله كالتعبد برواية الراوي وقوله. ومن الواضح ان حياة الراوي موضوع بنظر العرف حدوثا ، لا حدوثا وبقاء ، لبداهة التمسك بالرواية وان مات الراوي. ومثله الحال في التعبد برأي المجتهد فان حياة المجتهد لها دخل في التعبد برأيه في جواز التقليد حدوثا لا حدوثا وبقاء ، فموت المجتهد وان انعدم به رأي المجتهد بنظر العرف لانعدام النفس بنظرهم ، إلّا انه لما كان موضوعا للتعبد بجواز تقليده حدوثا لا بقاء فلا ينتفي التعبد بجواز تقليده.

ولا يخفى ان مقتضى هذا انه لا حاجة للاستصحاب لعدم الشك في حجية رأي المجتهد بعد الموت لان كونه حجة حدوثا لا فناء له ، لوضوح ان حدوث الحادث بعد حدوثه لا زوال له فلا مجال للشك. إلّا ان يقال : ان كون الموضوع هو الحدوث دون البقاء لا ينافي احتمال دخالة الحياة لاحتمال دخالتها لا بنحو ان تكون مقومة للموضوع ، بل بنحو تكون خارجة عن المقومية للموضوع بان تكون دخالتها بنحو الشرط ، فانه له دخالة في ترتب الاثر وان كان خارجا عن المقتضي للأثر ، ويكون حال الحياة كحالها بالنسبة الى استصحاب الطهارة والنجاسة وجواز النظر الى

٣٥٧

فإنه يقال : لا شبهة في أنه لا بد في جوازه من بقاء الرأي والاعتقاد ، ولذا لو زال بجنون وتبدل ونحوهما لما جاز قطعا ، كما أشير إليه آنفا (١).

______________________________________________________

الزوجة كما مر بيانه ، وعلى هذا فلا مناص عن الحاجة الى الاستصحاب لاحتمال دخالة الحياة.

والى ما ذكرنا اشار بقوله : «نعم الاعتقاد والرأي وان كان يزول بالموت» في نظر العرف «لانعدام موضوعه» وهو النفس بالموت في نظرهم «إلّا ان» الرأي «حدوثه في حال حياته» هو الموضوع لجواز تقليده ، وعلى هذا فحدوثه «كاف في جواز تقليده في حال موته كما هو الحال في الرواية» فان موت الراوي لا يضر بحجية روايته.

(١) وحاصله : ان الرأي بنظر العرف حدوثا وبقاء قد اخذ موضوعا للحجية ، بخلاف قول الراوي فانه قد اخذ موضوعا للحجية حدوثا لا بقاء. والحاصل : ان الموضوع بنظر العرف الرأي حدوثا وبقاء ، وقول الراوي بنظرهم حدوثا لا بقاء.

ويدل على ذلك ان مرض الراوي وهرمه لا يضر بحجية روايته ، بخلاف رأي المجتهد فان الاجماع قائم على انه مع زوال الرأي بمرض او تبدل تزول حجية رأيه. وهذا دليل واضح على ان الموضوعية في الرأي قد اخذت حدوثا وبقاء ، بخلاف الموضوعية في الرواية فانها قد اخذت حدوثا لا بقاء.

فاتضح : ان جواز التقليد لا بد فيه من بقاء رأي المجتهد وبزواله يزول جواز التقليد ، بخلاف حجية خبر الراوي فانه لا تزول بزوال الراوي فضلا عن زوال رأيه. ثم ان الاجماع الذي استدل به المصنف سابقا واشار اليه هنا ليس مراده منه حجية نفس الاجماع على المطلوب ، بل المراد ان قيام الاجماع كاشف عن اختلاف الموضوع بنظر العرف.

وعلى كل فقد اشار الى ما ذكرنا بقوله : «فانه يقال لا شبهة في انه لا بد في جوازه» أي لا بد في جواز التقليد «من بقاء الرأي والاعتقاد» عند المجتهد «ولذا

٣٥٨

هذا بالنسبة إلى التقليد الابتدائي.

وأما الاستمراري ، فربما يقال بأنه قضية استصحاب الاحكام التي قلده فيها ، فإن رأيه وإن كان مناطا لعروضها وحدوثها ، إلا أنه عرفا من أسباب العروض لا من مقومات الموضوع والمعروض (١) ، ولكنه لا يخفى

______________________________________________________

لو زال» الرأي «بجنون وتبدل» بغيره «ونحوهما» كالهرم الذي يزول به رأي المجتهد «لما جاز» تقليده «قطعا كما اشير اليه آنفا» فيما تقدم ، بخلاف قول الراوي فانه موضوع حدوثا لا بقاء ، ولذا لا شبهة في بقاء حجيته مع هذه الامور كلها.

(١) بعد فراغه من الكلام في الاستصحاب في التقليد الابتدائي بعد الموت ـ وقد عرفت انه لا مجال له بالنسبة الى نفس حجية رأي المجتهد في حال حياته لعدم الموضوع بنظر العرف ، وفي نفس صحة تقليده في حال حياته لا مجال له ايضا لانه حكم عقلي لا شرعي ـ شرع في الكلام في التقليد الاستمراري وهو البقاء على تقليده بعد الموت ، وحيث انه بعد الموت يشك في جواز البقاء فلا محالة لا بد من دليل يدل عليه. والكلام فعلا في اقتضاء الاستصحاب له. وحيث عرفت الكلام في الاستصحاب من حيث صحة التقليد ومن حجية الرأي فلا وجه للاعادة.

فالكلام الآن من حيث استصحاب الاحكام التي كانت منجزة على المقلد بسبب تقليده له في زمان حياته. ولا يخفى ان استصحاب الاحكام في التقليد الاستمراري من الاستصحاب التنجيزي لمنجزية الاحكام على المقلد بعد تقليده ، وفي التقليد الابتدائي يكون من الاستصحاب التعليقي. فما يجري من الكلام في استصحاب الاحكام في التقليد الاستمراري يجري عينا في التقليد الابتدائي من دون فرق بينهما ، الا في التعليقية والتنجزية ، ولذلك لم يتكلم هناك في هذا الاستصحاب ، لان الكلام فيه هناك يكون مبنيا على صحة الاستصحاب التعليقي بخلافه هنا فانه تنجيزي ، ولا اشكال فيه من هذه الجهة.

٣٥٩

أنه لا يقين بالحكم شرعا سابقا ، فإن جواز التقليد إن كان بحكم العقل وقضية الفطرة كما عرفت فواضح ، فإنه لا يقتضي أزيد من تنجز ما أصابه من التكليف والعذر فيما أخطأ ، وهو واضح.

______________________________________________________

وعلى كل فغاية ما يمكن ان يقال في التقليد الاستمراري : ان استصحاب حجية نفس رأي المجتهد وان كان لا يجري لعدم الموضوع بنظر العرف ، إلّا ان الاحكام التي كانت منجزة على المقلد بسبب تقليده له لا مانع من جريان الاستصحاب فيها لليقين بها والشك في ارتفاعها. واما رأي المجتهد فهو بالنسبة اليها وان كان هو الملاك والمناط في توجيهها بالنسبة الى المقلد ، إلّا ان الراي بالنسبة اليها ليس من قبيل الموضوع بل الموضوع للاحكام متعلقاتها ، والرأي هو السبب في عروضها على موضوعتها بحسب نظر العرف. واللازم في جريان الاستصحاب بقاء الموضوع في القضية المشكوكة والمتيقنة. واما احتمال كون العلة في الحدوث هي العلة في البقاء فلا يمنع من جريان الاستصحاب ، بل هذا الاحتمال يكون سببا للشك في البقاء لان العرف لا يرى العلة لعروض الحكم على موضوعه من مقومات الموضوع ، بل غايته انه يحتمل ان عروض الحكم على موضوعه كما هو منوط بالعلة حدوثا منوط بها بقاء ، فيكون هذا هو السبب في الشك ، فيجري الاستصحاب في الاحكام لليقين بها في حال الحياة والشك في ارتفاعها بعد الموت.

والى ما ذكرنا اشار بقوله : «واما الاستمراري فربما يقال بانه قضية استصحاب الاحكام التي قلده فيها» في حال حياته فانها متيقنة سابقا مشكوكة لاحقا لاحتمال دخالة الحياة فيها. ولا يتأتى فيها الاشكال الذي مر في استصحاب حجية نفس الرأي «فان رأيه» أي ان رأي المجتهد بالنسبة الى الاحكام «وان كان مناطا لعروضها وحدوثها إلّا انه عرفا» أي بحسب نظر العرف رأي المجتهد بالنسبة اليها «من اسباب العروض لا من مقومات الموضوع والمعروض» كما عرفت بيانه.

٣٦٠