بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-065-9
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٣٧٩

نعم لا بأس بدلالة الاخبار عليه بالمطابقة أو الملازمة ، حيث دل بعضها على وجوب اتباع قول العلماء ، وبعضها على أن للعوام تقليد العلماء ، وبعضها على جواز الافتاء مفهوما مثل ما دل على المنع عن الفتوى بغير علم ، أو منطوقا مثل ما دل على إظهاره عليه‌السلام المحبة لان يرى في أصحابه من يفتي الناس بالحلال والحرام (١).

______________________________________________________

والايراد الثاني : ان المراد من اهل الذكر هم الائمة عليهم‌السلام كما ورد بذلك روايات التفسير من طرقنا ، وعليه فالآية ايضا اجنبية عن الدلالة على جواز التقليد ، لان السؤال من الائمة عليهم‌السلام الذين هم لا ينطقون عن الهوى يوجب العلم بالجواب ، مضافا الى ان الائمة عليهم‌السلام ليسوا من اهل الرأي والاجتهاد ، بل هم اهل بيت الرسالة ومهبط الوحي والالهام. والى هذا اشار بقوله : «او اهل بيت العصمة الاطهار كما فسر به» أي كما فسر اهل الذكر بان المراد منه هم الائمة عليهم‌السلام «في الاخبار» المذكور في كتب التفسير.

(١) الاخبار الدالة على التقليد التي اشار اليها على نحوين : الاول : ما دل على جواز التقليد بالمطابقة ، مثل الخبر المروي في الاحتجاج عن تفسير العسكري عليه‌السلام لقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ)(١) ... الى آخر الآية الواردة في ذم عوام اليهود والنصارى ، وهي رواية طويلة وفيها تفصيل في التقليد وان تقليد غير الاهل مذموم غير صحيح ، وتقليد الاهل الجامع للشرائط صحيح جائز وهو قوله عليه‌السلام (فاما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لامر مولاه فللعوام ان يقلدوه) (٢) ولا يخفى ان هذه الفقرة من الرواية تدل على

__________________

(١) البقرة : الآية ٧٨.

(٢) الاحتجاج ص ٤٥٧.

٣٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

جواز التقليد بالمطابقة. ومثل التوقيع الشريف عن الحجة عجل الله فرجه ـ وجعل ارواحنا فداه ـ لإسحاق بن يعقوب المروي في الفقيه وكمال الدين وغيرهما ، واما نص التوقيع فهو قوله عجل الله فرجه : (واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم وانا حجة الله) (١) وهذا ايضا دال بالمطابقة على التقليد لدلالته على الارجاع الى رواة حديثهم عليهم‌السلام وليس التقليد الا الرجوع الى الغير.

الثاني : ما دل على جواز التقليد بالملازمة وهو ما دل على جواز الافتاء منطوقا ، مثل قول الباقر عليه‌السلام لأبان بن تغلب : (اجلس في مسجد المدينة وافت الناس فاني احب ان يرى في شيعتي مثلك) (٢) وهذا يدل على جواز الافتاء بالمطابقة وعلى التقليد الذي هو قبول قول المفتي بالالتزام ، لاستلزام جواز الافتاء جواز القبول لقول المفتي وإلّا لم يصح جواز الافتاء. ومثله ما دل على جواز الافتاء مفهوما ، مثل الاخبار الناهية عن الفتوى بغير علم فانها تدل بالمفهوم على جواز الافتاء عن علم ، وما دل على جواز الافتاء يدل بالملازمة على جواز قبول المفتي كما عرفت.

وقد اشار لما يدل بالمطابقة على جواز التقليد تارة لدلالته على وجوب اتباع قول العلماء مثل التوقيع الدال على الامر بالرجوع في الحوادث الواقعة الى رواتهم عليهم‌السلام بقوله : «حيث دل بعضها على وجوب اتباع قول العلماء» واخرى بدلالته على صحة تقليد العوام للعلماء وهو الخبر المروي عن تفسير العسكري عليه‌السلام بقوله : «وبعضها على ان للعوام تقليد العلماء». واشار الى ما دل على جواز التقليد بالملازمة وهو ما دل على جواز الافتاء مفهوما مثل الادلة الناهية عن الفتوى بغير علم بقوله : «وبعضها على جواز الافتاء مفهوما مثل ما دل على المنع عن الفتوى

__________________

(١) كمال الدين ، ص ٤٨٤ تحقيق علي اكبر الغفاري.

(٢) راجع ترجمة أبان من كتاب رجال النجاشي.

٣٢٢

لا يقال : إن مجرد إظهار الفتوى للغير لا يدل على جواز أخذه واتباعه (١).

فإنه يقال : إن الملازمة العرفية بين جواز الافتاء وجواز اتباعه واضحة ، وهذا غير وجوب إظهار الحق والواقع ، حيث لا ملازمة بينه وبين وجوب أخذه تعبدا ، فافهم وتأمل (٢).

______________________________________________________

بغير علم» وما دل على جواز الافتاء منطوقا مثل امر الباقر عليه‌السلام لأبان بالافتاء بقوله : «او منطوقا مثل ما دل على اظهاره عليه‌السلام المحبة لان يرى في اصحابه من يفتي بالحلال والحرام».

(١) حاصله : المنع من دلالة مثل قول الباقر عليه‌السلام ـ لأبان باني احب ان يرى في شيعتي مثلك على اكثر من انه يحب ان يكون في شيعته من يفتي. ولعل الوجه في حبه عليه‌السلام لذلك هو اظهار الحق للناس ، لان مثل ابان من شيعته لا يقول إلّا الحق ، وحيث ان يكون هذا الوجه محتملا فلا يكون للخبر دلالة على جواز التقليد الذي هو حكم جعلي شرعي ، لان وجوب اظهار الحق لا يستلزم ان هناك من يطلب الحق حتى يثبت وجوب القبول بالملازمة. والى هذا اشار بقوله : «لا يقال ان مجرد اظهار الفتوى للغير لا يدل على جواز اخذه واتباعه» أي على جواز اخذ قول الغير الذي هو التقليد للاحتمال الذي ذكرناه من ان المحبة لاظهار الفتوى لاجل اظهار الحق للناس ، لا لاجل قبول قول المفتي بما هو امر مجعول شرعي.

(٢) وحاصله : ان الامر بالافتاء انما هو لمن يستفتي ، وتوضيحه : ان عنوان الافتاء من المفتي بذكر الفتوى يستلزم ـ عرفا وعادة ـ ان هناك من يستفتي ، فعنوان الافتاء يستدعي عنوان الاستفتاء فهو كعناوين المطاوعة من المتلازمات ، وحيث يكون عنوان الافتاء مستلزما ـ عرفا وعادة ـ للاستفتاء فلا محالة يدل على جواز التقليد لاجل هذه الملازمة العرفية ، لان المحبة لاظهار الفتوى للغير تستلزم صحة قبول المستفتي لتلك

٣٢٣

وهذه الاخبار على اختلاف مضامينها وتعدد أسانيدها ، لا يبعد دعوى القطع بصدور بعضها ، فيكون دليلا قاطعا على جواز التقليد ، وإن لم يكن كل واحد منها بحجة (١) ، فيكون مخصصا لما دل على عدم

______________________________________________________

الفتوى ، وهذا بخلاف عنوان المحبة لاظهار مطلق الحق فانه لا يستلزم ان هناك من يسأل عن الحق.

فظهر مما ذكرنا : ان عنوان الافتاء هو اخص من عنوان اظهار الحق ، فان الفتوى وان كانت من جملة الحق إلّا ان الافتاء حيث كان مستلزما للاستفتاء فلذلك يدل بالملازمة العرفية على جواز قبول الفتوى الذي هو معنى التقليد. والى ما ذكرنا اشار بقوله : «ان الملازمة العرفية بين جواز الافتاء وجواز اتباعه واضحة». واشار الى أن وجوب اظهار الحق لا يستلزم ان هناك من يطلب الحق ـ بل يجب اظهار الحق وان لم يكن هناك من يسأل عن الحق ، فلا يدل وجوب اظهار الحق على لزوم قبوله تعبدا ، بل يمكن ان يقال انه يكفي في الدلالة عنوان حب الافتاء لانه : أولا يمكن ان يكون هناك من يستفتي وامكان ذلك كاف للدلالة على الملازمة المدعاة في المقام.

وثانيا : ان حب قول الحق يلازمه حب قبول الحق ولا سيما من المعصوم ، ومن البين ان قول المجتهد الجامع للشرائط هو قول الحق. ومما ذكرنا ظهر : ان الخبر اذا لم يدل الا على قول الحق فهو يدل على جواز التقليد فتامل ـ بقوله : «وهذا غير وجوب اظهار الحق والواقع ... الى آخر الجملة».

(١) حاصله : ان الاخبار التي تقدمت الاشارة اليها ـ الدالة على جواز التقليد بالمطابقة او بالملازمة ـ وان لم يكن كل نوع منها مقطوع الصدور ، إلّا انها متواترة اجمالا بمعنى القطع بصدور بعضها على نحو الاجمال وان كان بعضها ضعيفا غير واجد لشرائط الحجية ، وحيث ان ظهورها في جواز التقليد مما لا ريب فيه ، فيكون ذلك دليلا قاطعا على التقليد للقطع بالصدور والقطع بحجية الظهور ، وليس مراده من قوله دليلا قاطعا كونها مقطوعة السند مقطوعة الدلالة.

٣٢٤

جواز اتباع غير العلم والذم على التقليد ، من الآيات والروايات. قال الله تبارك وتعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) وقوله تعالى : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) مع احتمال أن الذم إنما كان على تقليدهم للجاهل ، أو في الاصول الاعتقادية التي لا بد فيها من اليقين (١) ، وأما قياس المسائل الفرعية على الاصول الاعتقادية ، في أنه كما لا يجوز التقليد فيها مع الغموض فيها كذلك لا يجوز فيها بالطريق

______________________________________________________

فظهر مما ذكرنا : ان المتحصل من الاخبار هو جواز التقليد وانه لا اشكال في ذلك. والى ما ذكرنا اشار بقوله : «وهذه الاخبار على اختلاف مضامينها» من حيث دلالة بعضها على الارجاع بالمطابقة ودلالة بعضها على التقليد بالمطابقة ودلالة بعضها مفهوما على الملازمة ودلالة بعضها على الملازمة منطوقا «وتعدد اسانيدها» مما يوجب انه «لا يبعد دعوى القطع بصدور بعضها» الذي هو معنى التواتر الاجمالي «ف» لازمه انه «يكون» ذلك «دليلا قاطعا على جواز التقليد» لمسلمية حجية الظهور وتواترها اجمالا «وان لم يكن كل واحد منها بحجة» لوجود الضعيف فيها.

(١) حاصله : انه بعد ان كانت الاخبار المذكورة بعضها مقطوع الصدور ودلالتها ظاهرة قطعا يحصل الدليل التام الحجية على جواز التقليد ، وبه يخصص ما يدعى دلالته من العمومات على حرمة التقليد ... وقد اشار الى عامين قد ادعيت دلالتهما على ذلك :

الاول : الآيات الدالة على حرمة اتباع غير العلم كقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) ومن الواضح ان المقلد لغيره لا علم له بالحكم الذي قلد فيه فهو من اتباع غير العلم ، ومثله قوله عزوجل : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(٢)

__________________

(١) الاسراء : الآية ٣٦.

(٢) يونس : الآية ٣٦.

٣٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

فان المقلد لما كان لا علم له فاما ان يكون ظانا بالحكم الذي قلد فيه او يكون شاكا فيه ، واذا كان الظن لا يغني عن الحق شيئا فالشك بطريق اولى.

الثاني : الآيات الدالة على حرمة التقليد وهي قوله تعالى : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ)(١) فان المستفاد من الآية الكريمة ذم المقتدين بآبائهم ، وليس التقليد الا الاقتداء بالغير.

والجواب عن العموم الاول انه مخصص بما دل على جواز التقليد للعامي في الاحكام الفرعية ، فان الاقتفاء لغير العلم يشمل الاقتفاء في اصول الدين وفي الاحكام الاصولية وفي الاحكام الفرعية ، وقد خرج عنه التقليد في الاحكام الفرعية بما دل على جواز التقليد فيها.

والجواب عن الثاني وهو ذم المقلدين لابائهم فانه لما كان عاما لجميع انحاء التقليد في اصول الدين وفي الاحكام الاصولية وفي الاحكام الفرعية فهو مخصص بما دل على جواز التقليد في الاحكام الفرعية ، هذا اولا.

وثانيا انه لا ظهور له في العموم بحيث يشمل التقليد في الفروع ، لان المشاهد من تقليد الابناء للآباء تقليدهم لهم بما هم آباء لا بما هم علماء ، فلا ظهور له في الاطلاق بحيث يشمل تقليد الآباء العلماء مع ان مورد النهي هو الذم على تقليد الآباء في اصول الدين ولا اشكال في عدم جواز التقليد فيها ، فلا ظهور للآية في العموم للتقليد في الفروع حتى نحتاج الى التخصيص بما دل على جواز التقليد فيها.

وقد اشار الى الجواب المشترك وهو التخصيص بما دل على جواز التقليد في الفروع بقوله : «فيكون» أي فيكون ما دل على جواز التقليد في الفروع «مخصصا لما دل» على العموم مثل الآية الدالة «على عدم جواز اتباع غير العلم و» الآية التي كانت دلالتها «الذم على التقليد من الآيات والروايات» وقد ذكر الآيتين

__________________

(١) الزخرف : الآية ٢٣.

٣٢٦

الاولى لسهولتها ، فباطل ، مع أنه مع الفارق ، ضرورة أن الاصول الاعتقادية مسائل معدودة ، بخلافها فإنه مما لا تعد ولا تحصى ، ولا يكاد يتيسر من الاجتهاد فيها فعلا طول العمر إلا للاوحدي في كلياتها ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

بقوله : «قال الله تبارك وتعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) وقوله تعالى : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ)». واشار الى الجواب الخاص بالآية الثانية بقوله : «مع احتمال ان الذم انما كان على تقليدهم للجاهل» لما اشرنا من ان تقليد الابناء للآباء لانهم آباء لا لأنهم علماء «او» لان تقليدهم كان «في الاصول الاعتقادية التي لا بد فيها من اليقين» ولا مجال للتقليد فيها.

(١) هذا هو الدليل الثالث على عدم جواز التقليد في الفروع بطريق الاولوية.

وحاصله : انه بعد مسلمية عدم جواز التقليد في الاصول الاعتقادية ، مع انها غامضة تحتاج الى مزيد النظر في البراهين الدقيقة المقامة عليها ، وهذا مما يعجز عنه غير العامي ممن له إلمام ببعض العلم ، فكيف بالعامي المحض الذي لا يكاد يعقل شيئا ولا يستطيع تعقل شيء من العلم ، ومع هذا كله لا يجوز التقليد فيها ـ فعدم جواز التقليد في المسائل الفرعية يكون بطريق اولى ، لان المسائل الفرعية اسهل تناولا واقل غموضا.

وقد اشار الى وجه الاولوية بقوله : «مع الغموض فيها» أي في الاصول الاعتقادية «كذلك لا يجوز فيها» أي كذلك لا يجوز التقليد في المسائل الفرعية «بالطريق الاولى لسهولتها» بالنسبة الى الاصول الاعتقادية ، واذا لم يجز التقليد في الامور الغامضة كان عدم جواز التقليد في الامور السهلة بطريق اولى.

وقد اجاب عن هذا الدليل بجوابين :

الاول : ان هذه الاولوية ظنية لا قطعية ، لعدم القطع بان النهي عن التقليد في اصول الدين يستلزم بنحو اولى النهي عن التقليد في فروع الدين ، وحيث لا تكون

٣٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الاولوية قطعية فهي قياس ظني والقياس باطل. والى هذا اشار بقوله : «فباطل» فانه خبر لقوله واما قياس المسائل الفرعية ، والتقدير : واما قياس المسائل الفرعية على الاصول الاعتقادية فباطل.

الثاني : ان القياس غير صحيح لانه قياس مع الفارق ، لان الاصول الاعتقادية مسائل قليلة معدودة ، فهي وان كانت غامضة إلّا انها لقلتها يستطيع كل احد الاحاطة بها ، بخلاف المسائل الفرعية فانها وان كانت اسهل إلّا انها كثيرة جدا ، وكثرتها هي السبب في عجز العامي عنها ، بل الاحاطة بالمسائل الفرعية احاطة فعلية بجزئياتها لكثرتها يعجز عنه كل مجتهد فضلا عن المقلد ، وانما يقدر بعض المجتهدين الاوحديين المتضلعين على الاحاطة الفعلية بكليات تلك المسائل الفرعية ، واما ساير المجتهدين فليس لهم الا الملكة والقوة على الاحاطة بكلياتها وليس لهم بها احاطة فعلية. ومع هذا الفرق بين المسائل الاعتقادية والمسائل الفرعية لا وجه للقياس ، لانه من القياس مع الفارق.

ويمكن ان يقال ثالثا : ان ادلة الاصول الاعتقادية مختلفة بعضها واضحة بل وجدانية ، كدولاب العجوز فانها بمجرد ان رفعت يدها عن تحريكه وقف عن الحركة ، وهذا دليل على امتناع تحقق المعلول من دون علة وهو سهل وجداني ، وكذلك دليل النبوة فان اتيان مدعي النبوة بالمعجزة التي لا يقدر عليها غيره دليل على نبوته وصدق دعواه ، وكذلك الامامة فان من خلف نفرين من صغار اهله يحتاجون الى رعاية لا يتركهم بغير وصي ، فكيف يترك النبي هذه الامة التي فيها من هو اقل عقلا من عقول بعض الاطفال من غير وصي وامام يرشدهم الى الحق؟ والى هذا اشار بقوله : «مع انه مع الفارق ضرورة ان الاصول الاعتقادية مسائل معدودة بخلافها» أي بخلاف المسائل الفرعية «فانها لا تعد ولا تحصى» لكثرتها «ولا يكاد يتيسر من الاجتهاد فيها» بحيث يكون اجتهاد «فعلا في طول العمر» لاحد من المجتهدين «الا للاوحدي» من المجتهدين وذلك «في كلياتها» لا في جزئياتها «كما لا يخفى» على من له إلمام بالفقه وكثرة الفروع كثرة تفوق الاحصاء.

٣٢٨

فصل

إذا علم المقلّد اختلاف الاحياء في الفتوى مع اختلافهم في العلم والفقاهة ، فلا بد من الرجوع إلى الافضل إذا احتمل تعيّنه ، للقطع بحجيته والشك في حجية غيره ، ولا وجه لرجوعه إلى الغير في تقليده ، إلّا على نحو دائر. نعم لا بأس برجوعه إليه إذا استقل عقله بالتساوي ، وجواز الرجوع إليه أيضا (١) ، أو جوز له الافضل بعد رجوعه

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان الصور في المقام كثيرة ولكن المهم منها هذه الصورة لرجوع حكم بعض الصور اليها ، وهو كما اذا علم اجمالا بالاختلاف في الفتوى وباختلافهم في العلم ايضا ، فان حكم هذه الصورة حكم الصورة المذكورة من العلم التفصيلي بالاختلاف في الفتوى والعلم التفصيلي بمن هو الاعلم ، فانه بناء على وجوب الرجوع الى الاعلم تزيد صورة العلم الاجمالي على هذه الصورة في وجوب الفحص عن الاعلم. ومثل صورة العلم الاجمالي بالامرين صورة العلم الاجمالي بالاختلاف في الفتوى واحتمل وجود الاعلم بينهم ، فانه ايضا يجب الفحص عن الاعلم ، فان كان موجودا وجب الرجوع اليه ، والّا فيتخيّر بينهما. وتفرق هذه الصورة عن صورة العلم الاجمالي بالاعلم : ان الفحص في هذه عن اصل وجود الاعلم ، وفي العلم الاجمالي عن من هو الاعلم.

وعلى كل فالمهمّ التعرّض للصورة المذكورة التي ذكرها المصنف ، وهي العلم التفصيلي باختلاف المجتهدين في الفتوى ، والعلم التفصيلي بمن هو الاعلم منهم ... والكلام فيها في مقامين :

المقام الاول : في حكم العامي العاجز عن الاجتهاد وما يقتضيه الدليل من تعيّن الرجوع الى الاعلم وعدم تعيّن الرجوع اليه.

والمقام الثاني : فيما يقتضيه الاجتهاد والدليل في تعيّن الرجوع الى الاعلم وعدمه.

٣٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

اما المقام الاول : فحيث عرفت ان التقليد البدوي لا يعقل ان يكون بالتقليد للزوم الدور أو التسلسل ، وحيث ان المفروض ايضا عجز العامي عن معرفة ما يقتضيه الدليل ، فلا بد وان يكون مرجعه في لزوم رجوعه الى الاعلم وعدمه الى ما يحكم به عقله.

وعلى هذا فنقول : اما ان يحتمل العامي تعيّن رجوعه الى الاعلم ، أو لا يحتمل ذلك بان يحكم عقله بالتساوي بين الرجوع الى الاعلم وبين الرجوع الى غير الاعلم. فاذا احتمل تعيّن الرجوع الى الاعلم فلا محالة يحكم العقل بلزوم الرجوع اليه ، لان رجوع العامي الى المجتهد انما هو للخروج عن تبعة العقاب على مخالفة الاحكام المعلومة عنده اجمالا : أي ليكون معذورا لو خالفها في رجوعه الى ما هو حجة معذّرة. وحيث ان الحجة المنجّزة والمعذّرة لا بد من وصولها ، لبداهة عدم التنجيز وعدم التعذير للحجة غير الواصلة ، ولما كان العامي يقطع بان الرجوع الى الاعلم حجة معذرة قطعا ، بخلاف الرجوع الى غير الاعلم لفرض احتمال تعيّن الرجوع الى الاعلم ، وفرض هذا الاحتمال لازمه احتمال عدم معذرية الرجوع الى غير الاعلم ، والمتحصّل من ذلك : هو وصول معذرية الرجوع الى الاعلم وعدم وصول معذرية الرجوع لغير الاعلم ـ فلا محالة يتعيّن بحكم العقل عند العامي رجوعه الى الاعلم. ومثل هذا من موارد دوران الامر بين التعيين والتخيير الذي يحكم العقل فيه بتعيين الطرف الذي يحتمل ان يكون هو المعيّن للقطع بوصوله ، لانه اما ان يكون هو المعيّن بخصوصه ، او يكون هو احد طرفي التخيير ، فلذا كان وصوله متيقنا ، بخلاف الطرف الثاني فانه لا يقين بوصوله ، لاحتمال التعيين لطرفه. والضابط في دوران الامر بين التعيين والتخيير الذي يحكم العقل فيه بالتعيين : هو كون احد الطرفين متيقن المدرك ، بخلاف الطرف الآخر فانه لا يكون المدرك فيه متيقنا بل محتملا.

اما اذا لم يحتمل العامي تعيين الاعلم : بان يحكم عقله بتساويهما من حيث الرجوع اليهما ، ولا يكون الاعلم بحسب عقله محتمل التعيين ، وعلى هذا فلا بد من

٣٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

حكم العقل بالتخيير بينهما ، لانه بعد العلم باختلافهما وعدم معقولية الرجوع اليهما معا لاستلزامه كون الشيء الواحد ربما يكون واجبا ومحرما ، بل لا بد من الرجوع الى احدهما ، وحيث فرض حكم عقله بتساويهما ، فلا محالة لازم ذلك حكم العقل ايضا بالتخيير بينهما. الّا ان فرض عدم احتمال العامي تعيين الاعلم محض الفرض ، لان كون الاعلم أوصل الى الحكم ان لم يكن واضحا فلا اقل من احتماله. وفرض كون ادلّة التقليد تحكم بالتساوي فرض الخلف ، لفرض كون العامي غير عارف بذلك ، وانه عاجز عن معرفة ذلك.

وقد اشار الى ان فرض الكلام في صورة العلم باختلاف المجتهدين في الفتوى ، والعلم باختلافهما ـ ايضا ـ من حيث العلم ، بان علم ان احدهما اعلم بقوله : «اذا علم المقلّد» المراد من المقلد من كان حكمه التقليد والرجوع الى الغير ، لا المقلد بما هو مقلد لفرض كون ذلك قبل تقليده بالفعل. فالحاصل : انه اذا علم من كان حكمه التقليد «اختلاف» المجتهدين «الاحياء في الفتوى مع» علمه ايضا ب «اختلافهم في العلم والفقاهة».

واشار الى الصورة الاولى ـ وهي ما اذا احتمل المقلّد تعين رجوعه الى الاعلم انه في هذه الصورة لا بد من حكم العقل برجوعه الى الاعلم ، للقطع بكون الرجوع اليه حجة معذرة ، دون الرجوع الى غير الاعلم ـ بقوله : «فلا بد من الرجوع الى الافضل اذا احتمل تعيّنه» والى الوجه في ذلك بقوله : «للقطع بحجيته» أي للقطع بحجية الاعلم ومعذرية الرجوع اليه «والشك في حجية غيره» وهو غير الاعلم كما عرفت من الشك في معذريته. واشار الى ان التقليد حيث انه بدوي فلا يعقل التقليد في نفس التقليد ـ كما مرّ بيانه في المسألة المتقدمة ـ لاستلزامه الدور او التسلسل بقوله :

«ولا وجه لرجوعه الى الغير في» نفس «تقليده الّا على نحو دائر» او متسلسل.

واشار الى الصورة الثانية ـ وهي ما اذا حكم عقل المقلّد بالتساوي بين الاعلم وغير الاعلم ، ولم يحتمل تعيّن الاعلم ، وانه لا مانع من الرجوع الى غير الاعلم ـ

٣٣١

إليه (١) ، هذا حال العاجز عن الاجتهاد في تعيين ما هو قضية

______________________________________________________

بقوله : «نعم لا بأس برجوعه» أي لا باس برجوع المقلد «اليه» أي الى غير الافضل «اذا استقل عقله» أي اذا استقل عقل المقلد «بالتساوي» بينهما «وجواز الرجوع اليه ايضا» لان لازم حكم عقل المقلد بالتساوي بينهما هو جواز الرجوع الى غير الافضل كما يجوز الرجوع الى الافضل.

(١) يظهر من المصنف مسلمية جواز الرجوع الى غير الافضل بواسطة تقليد الافضل : بان يقلد الافضل ويجوز له الافضل الرجوع الى غير الافضل ، فيكون تقليده لغير الافضل بواسطة تقليده للأفضل.

والظاهر انه لم ينقل الخلاف فيه ، الا ما ذكره الشيخ الاعظم ـ في رسالته في تقليد الاعلم ـ حاكيا له عن بعض معاصريه : انه لا يجوز الرجوع الى الاعلم في جواز تقليد غير الاعلم. ولم يذكر مستنده في ذلك.

ولعل مستنده في المنع ان تقليد الاعلم انما هو لاجل انه أوصل من غير الاعلم ، فاذا اختلف الاعلم وغير الاعلم في الفتوى ، لانه اذا توافقا في الفتوى فالاخذ بفتوى غير الاعلم اخذ ايضا بفتوى الاعلم أيضا ، ولكنه اذا اختلفا بقى احتمال عدم الوصول الى الواقع بحاله ، فالرجوع الى الاعلم في جواز تقليد غير الاعلم يلزم منه الخلف ، وهو احتمال عدم الوصول الذي انما ينتفي احتماله في الاحكام الفرعية بتقليد الاعلم دون غير الاعلم.

والجواب عنه ـ كما سيأتي ايضا بيانه ـ ان الوجه في لزوم تقليد الاعلم ابتداء للعامي هو الدوران بين التعيين والتخيير. واما الاوصلية فهي انما تصح مدركا للمجتهد الذي يرى عدم جواز تقليد غير الاعلم مطلقا وان رجع فيه الى غير الاعلم.

ولا يخفى ان الشيخ في مقام رده بترديد احتمال المنع قد ذكر نحو ما اشرنا اليه من المنع.

٣٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وانما اورد عليه ـ في ضمن الوجهين يظهر المستند ـ بما حاصله : ان وجه المنع عند المعاصر ان كان في جواز فتوى الاعلم في تقليد غير الاعلم فليس بصحيح ، لانه بعد فرض كون الاعلم قد ادّى اجتهاده الى جواز تقليد غير الاعلم فلا وجه لمنعه ، لان مرجع منع المانع له انه هو يرى عدم جوازه ، ورأيه حجة عليه لا على الاعلم.

وان كان وجه المنع انه لا يصح تقليد الاعلم في جواز تقليد غير الاعلم. وبعبارة اخرى : انه لا يصلح عمل المقلّد بفتوى الاعلم في جواز تقليد غير الاعلم فهذا الوجه ايضا باطل ، لقيام ادلّة التقليد على الرجوع الى الاعلم. ولا اشكال في كون تقليد غير الاعلم من الاحكام الشرعية التي يصح التقليد فيها بعد تقليد الاعلم ، وانما لا يصح التقليد فيها ابتداء.

وبعبارة أوضح : انه اذا فرض ان الاخبار الجاعلة للتقليد تدل على التساوي بينهما فجواز الرجوع الى غير الاعلم حكم مجعول من الشارع ، وانما هو لانه لا سبيل له اليه ابتداء لا لقصور في الجعل ، بل لانه عاجز عن الوصول اليه ... هذا ملخّص ما افاده الشيخ الاعظم في مقام الجواب.

ولكن يمكن ان يختار الشق الثاني ويقال ان تقليد غير الاعلم كما لا يصح ابتداء لا يصح ايضا بواسطة تقليد الاعلم. والوجه في ذلك : ان المفروض ان تقليد الاعلم بالخصوص كان بحكم العقل على وجه التعيين ، فاذا جاز تقليد غير الاعلم بواسطة فتوى الاعلم لزم الخلف ، لاستلزامه في النهاية عدم كون تقليد الاعلم امرا معيّنا بالخصوص ، الّا انه باطل ايضا ، لان العقل انما حكم بتعيين الاعلم لا من حيث ادراكه انحصار التقليد به ، وان عقل العامي قد استقل بلزوم خصوصية الاعلمية ، بل انما حكم العقل بتعيينه لكونه قدرا متيقنا ولم تصل اليه الحجة على تقليد غير الاعلم. فتعيين الرجوع الى الاعلم بحكم العقل هو من باب الاحتياط لعدم وصول الحجة الى العامي في جواز تقليد غير الاعلم. فاذا قلّد العامي ابتداء الاعلم وكان

٣٣٣

الادلة في هذه المسألة (١). وأما غيره ، فقد اختلفوا في جواز تقليد المفضول وعدم جوازه ، ذهب بعضهم إلى الجواز ، والمعروف بين الاصحاب على ما قيل عدمه وهو الاقوى (٢) للاصل ، وعدم دليل على

______________________________________________________

رأي الاعلم على جواز تقليد غير الاعلم فقد وصلت الحجة للعامي على تقليد غير الاعلم.

وعلى كل فظهر انه لا ينبغي الاشكال في جواز الرجوع الى غير الاعلم بواسطة تقليد الاعلم ، واليه اشار بقوله : «او جوّز له الافضل» الرجوع الى غير الافضل «بعد رجوعه اليه» أي بعد رجوع العامي الى الافضل ابتداء وبواسطته يجوز الرجوع الى غير الافضل كما عرفت.

(١) يشير الى ما ذكرنا من ان الكلام في مقامين : الاول : ما عرفت الكلام فيه ، وهو ما تقتضيه القاعدة بالنسبة الى العامي ، فيما اذا علم باختلاف الفتاوى وباختلافهم في الافضلية ، وقد عرفت ان حكمه في تقليد الاعلم اذا احتمل تعيينه هو لزوم تقليد الاعلم لانه قدر متيقن في المعذرية ، بخلاف ما اذا حكم عقله بتساويهما او كان تقليد غير الاعلم بواسطة تقليد الاعلم ابتداء فانه لا مانع منه.

(٢) هذا هو الكلام في المقام الثاني وهو ما يقتضيه الدليل الذي يكون للمجتهدين بالنسبة الى تقليد غير الاعلم. فالمراد من غيره هو المجتهد.

وقد اختلف العلماء فيه ، فذهب بعضهم الى جوازه. ونسب الى المشهور عدم جوازه وهو المختار للمصنف ، ولذا قال (قدس‌سره) : «اختلفوا في جواز تقليد المفضول» في مقام التقليد «وعدم جوازه ذهب بعضهم الى الجواز والمعروف بين الاصحاب على ما قيل عدمه وهو الاقوى».

ويظهر من قول المصنف على ما قيل ان كون عدم الجواز هو المعروف بين الاصحاب لا يخلو عن اشكال ، ولعلّه لكثرة من نقل عنهم الجواز ، أو لان المنسوب

٣٣٤

خلافه (١) ، ولا إطلاق في أدلة التقليد بعد الغض عن نهوضها على

______________________________________________________

الى المشهور هو الموضوعية ، والاقوى على الموضوعية هو التخيير بين الاعلم وغيره. ةوالله العالم.

(١) توضيحه : ان الكلام في الاصل تارة على الطريقية ، واخرى على الموضوعية.

اما على الطريقية فحيث لا يعقل حجية كلا الرأيين على وجه التعيينية لان الحكم الواقعي واحد ، ولا يعقل حجية طريقين فعليين متنافيين على وجه التعيين بالنسبة الى الحكم الواحد ، نعم يمكن حجية الطريقين المتنافيين على وجه التخيير بالنسبة اليه ، فرأي الاعلم اما ان يكون حجة معينا واما ان يكون حجة بنحو التخيير. ولا يحتمل في رأي غير الاعلم ان يكون حجة معينا وانما المحتمل ان يكون حجة بنحو التخيير بينه وبين الاعلم. وعلى هذا فمعذرية رأي الاعلم واصلة قطعا ، بخلاف معذرية رأي غير الاعلم فليست واصلة ، لفرض احتمال اختصاص التعيين برأي الاعلم ، فلا محالة من حكم العقل بلزوم تقليد الاعلم.

ومما ذكرنا ظهر : ان الاصل عند المجتهد هو الاصل الذي مر عند المقلد بالنسبة الى لزوم تقليد الاعلم ، وهو من موارد الدوران بين التعيين والتخيير الذي يحكم العقل فيه بتعيين محتمل التعيينية. نعم اذا كان هناك عام او اطلاق يمكن الرجوع اليه ، وفي هذا الفرض يقال انه يمكن ان ينفي التعيينية بالبراءة ، اما اذا لم يكن هناك عام ولا اطلاق فالدوران بين التعيين والتخيير مورد الاحتياط. ولا اشكال في عدم ورود الدليل اللفظي الخاص في مورد التقليد على خلاف هذا الاصل ، بل غاية ما يدعى الاطلاق او الاجماع او لزوم العسر والحرج في لزوم تقليد الاعلم ، وسيأتي الكلام في هذه الثلاثة. هذا كله في الاصل بناء على الطريقية كما هو مختار المصنف.

واما بناء على الموضوعية ، ومعناها جعل الحكم النفسي على طبق رأي المجتهد ، فقد يدعى انه ايضا من موارد الدوران بين التعيين والتخيير وانه مما يحكم العقل فيه كسابقه بلزوم تقليد الاعلم ، بتقريب انه على الموضوعية وان كان مقتضاها جعل

٣٣٥

مشروعية أصله (١) ، لوضوح أنها إنما تكون بصدد بيان أصل جواز الاخذ بقول العالم لا في كل حال ، من غير تعرض أصلا لصورة معارضته

______________________________________________________

الحكم النفسي على طبق رأي كل مجتهد من المجتهدين الّا انه ايضا من المعلوم عدم جعل الحكمين الفعليين المتنافيين في حقّ المقلّد ، فالحكم الفعلي لا بد وان يكون احدهما ، والحكم على طبق رأي الاعلم هو المتيقن الفعلية دون الطرف الآخر ، فيكون المورد من موارد الدوران بين التعيين والتخيير ايضا ، ومما يحكم العقل فيه بلزوم تقديم المتيقن وهو رأي الاعلم.

الّا انه لا يخلو عن الاشكال لان مورد الدوران بين التعيين والتخيير الذي يحكم العقل فيه بتعيين محتمل التعينية هو ما اذا كان المدرك في احدهما محرزا دون الآخر ، كما مرّ في الطريقية : من كون معذرية رأي الاعلم مقطوعة دون رأي غير الاعلم. اما اذا كان المدرك في كل واحد منهما محرزا كما هو بناء على الموضوعية لفرض كون كل واحد منهما مجتهدا ، وكونه مجتهدا هو تمام الموضوع لجعل الحكم على طبق رأيه ، وانما لا يمكن الاخذ بهما معا لعدم امكان الجمع بينهما ، ومرجع هذا الى التزاحم بينهما ، واحتمال الاقوائية لاحد المتزاحمين واقعا لا تنفع لان الاقوائية الواقعية ما لم تكن واصلة بحجة عليها لا توجب احراز التأثير لمحتمل الاقوائية بالخصوص ـ فلا يكون المورد من موارد حكم العقل بالتعيين ، فلا يتعيّن تقليد الاعلم بالأصل كما مرّ تعيينه بناء على الطريقية. والله العالم.

(١) لا يخفى انه ناقش المصنف في ادلّة التقليد بحيث تشمل مورد الاختلاف في الفتوى بمناقشتين : الاولى : منع وجود الاطلاق فيها بقوله : «ولا اطلاق في ادلّة التقليد» وأشار الى الوجه في منع الاطلاق بقوله : «لوضوح ... الى آخره».

الثانية : منع دلالة الادلة اللفظية على اصل مشروعية التقليد من رأس.

وهذا خلاف ما تقدّم منه من وجود الادلة اللفظية على اصل التقليد ، وانه يقطع بصدور بعضها. وربما قد اشار هناك الى المناقشة في اصل الدلالة بقوله : «فتأمل».

٣٣٦

بقول الفاضل ، كما هو شأن سائر الطرق والامارات على ما لا يخفى (١).

______________________________________________________

ولعل الوجه في منع اصل دلالتها على التقليد هو ان التقليد بالمعنى المصطلح هو العمل برأي المجتهد بما هو اعمال منه في استخراج الفتوى لا بنقله للرواية ، ومورد روايات التقليد هي نقل الرواية حتى في فصل الحكومة بان يفصلها بما ينقله من الرواية عنهم عليهم‌السلام ، واقوى ما يدعى في ظهوره في التقليد بالمعنى المصطلح هي الرواية عن تفسير العسكري حيث ان فيها (فللعوام ان يقلّدوه) والتأمل في الحديث بطوله يظهر منه ان مورده ايضا نقل الرواية ، وان المراد من قوله عليه‌السلام ان يقلّدوه هو ان يرجعوا اليه في مقام النقل وياخذوا بنقله. واما روايات الافتاء فلأن المتعارف من الافتاء في الصدر الاول هو نقل الروايات ، لا ذكر رأيه بما هو مستند في فتواه الى الرواية. بل التأمّل في روايات التقليد يقتضي حجية الرأي ، ولا أقل من ان قوله لأبان افت الناس ، فان الظاهر من قوله أفت هو بيان الرأي لا نقل الفتوى ، مضافا الى انه لا خصوصية لأبان تميّزه عن غيره الّا بيان رأيه لا بيان نقله ، لان النقل يتأتى من كل عدل. فقول الامام عليه‌السلام : احب ان يرى مثلك ، انما هو لقوة رأيه لا لنقله. والله العالم.

(١) حاصله : ان المنع عن اطلاق روايات التقليد في شمولها لمورد اختلاف المفتين وتعارض فتاويهم لان الروايات واردة في بيان اصل مشروعية التقليد والرجوع الى فتوى المجتهد ، كالروايات الواردة في اصل حجية خبر الواحد فانها لا اطلاق لها في شمولها لتعارض الخبرين ، فان ظاهر قوله عليه‌السلام ـ مثلا : واما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام ان يقلّدوه ـ انه في مقام بيان من يشرع تقليده ، لا في مقام بيان تقليده مطلقا وان كان مخالفا في فتواه لغيره ، ولا اقل من الشك في كونه في مقام البيان مطلقا حتى لتعارض آراء المفتين.

لا يقال : ان الشك في كونه في مقام البيان لا يمنع عن التمسك بالاطلاق لاحراز كونه في مقام البيان ببناء العقلاء على كون المتكلم في مقام البيان ، كما تقدّم بيان ذلك

٣٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

في مبحث الاطلاق ، وان احراز كون المتكلم في مقام البيان : تارة يكون بالقطع ، واخرى يكون ببناء العقلاء.

فانه يقال : ان الشك في كون المتكلم في مقام البيان : تارة يكون لا منشأ له الا محض احتمال كونه في غير مقام البيان ، وهذا هو مقام احراز كونه في مقام البيان ببناء العقلاء. واخرى يكون المنشأ لاحتمال كونه في غير مقام البيان هو مناسبة الحكم والموضوع ، كما في مثل قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ) فان مناسبة الحكم والموضوع تقتضي انه في مقام بيان حلية ما يمسكه الكلب ، لا في مقام البيان من ناحية طهارة موضع عضة الكلب. أو يكون مناسبة السؤال والجواب هو المنشأ للشك ، كما لو سأل السائل عن ذبح الغاصب للذبيحة هل تحصل به التذكية ام لا؟ فأجاب الامام عليه‌السلام بحصول التذكية مع الغصب وان حرم اكل اللحم من ناحية الغصب ، فان مقام البيان من جهة الحلية لاجل كون الذابح غاصبا ـ كما يقتضيه السؤال ـ لا يوجب كون المتكلم في مقام البيان من ناحية كون الذابح مسلما او كافرا. ولا بناء من العقلاء على احراز كون المتكلم في مقام البيان مطلقا ، في امثال ما ذكرنا من الموردين ، كما يظهر ذلك في كثير من موارد الفقه من التمسك بالاطلاق من جهة وعدم التمسك بالاطلاق من جهة اخرى.

ومما ذكرنا ظهر : ان المورد في الاخبار حيث كان في مقام بيان اصل التشريع لجواز التقليد ، فلا اطلاق له من ناحية حجية آراء المجتهدين حتى من جهة تعارض آراء المفتين. إلّا ان يقال : انه حيث كان الغالب في آراء المفتين عدم التوافق في الفتوى ، والاجوبة تدل على جواز العمل على طبق آراء المفتين ـ فتكون الادلة الدالة على التشريع لجواز التقليد لها اطلاق يشمل مورد التعارض.

والحاصل : ان تشريع صحة عمل المقلد على طبق رأي المجتهد بعد ان كان الغالب في مورد العمل على طبق فتوى المجتهد هو وجود المخالف له ، يقتضي ان يكون الدليل الدال على مشروعية التقليد له اطلاق يشمل مورد المعارضة. ومثل ما

٣٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

ذكرنا يأتي في الاختلاف في الاعلمية ، بان يقال : انه حيث كان الغالب هو الاختلاف في الاعلمية فتشريع صحة العمل على طبق رأي المجتهد الذي يكون الغالب وجود من هو اعلم منه يقتضي ان يكون الدليل الدال على مشروعية تقليده له اطلاق يشمل مورد مخالفة الاعلم له.

وعلى كل فان الوجه عند المصنف في منع اطلاق الادلة الدالة على مشروعية اصل التقليد في شمولها لمورد اختلاف المفتين في الفتوى وفي الاعلمية : هو كونها واردة في اصل المشروعية ، ولا اطلاق لها ولا نظر الى مقام اختلاف المفتين في الفتوى ولا في الاعلمية. والى هذا اشار بقوله : «لوضوح انها» أي لوضوح ان ادلة التقليد «انما تكون بصدد بيان اصل جواز» التقليد و «الاخذ بقول العالم» وليس لها اطلاق من الجهتين المذكورتين لانها ليست بصدد البيان من كل جهة فهي «لا» بيان لها لحجية رأي المجتهد «في كل حال» ، بل هي واردة لبيان اصل المشروعية «من غير تعرض لها اصلا لصورة معارضة» قول المفضول «بقول الفاضل كما هو شأن ساير الطرق والامارات على ما لا يخفى» أي ان الشأن في الادلة الدالة على مشروعية اصل التقليد وحجية رأي المجتهد في حق المقلد بما هو طريق له الى الواقع هو الشأن في الادلة الدالة على اصل جعل حجية الطرق كالخبر الواحد مثلا فانها لا اطلاق لها تشمل صورة تعارض الخبرين ... هذا حاصل ما اراده المصنف في المناقشة في اطلاق ادلة جواز التقليد.

ويمكن منع الاطلاق بطريق آخر .. وتوضيح ذلك : ان دلالة الاطلاق على الشمول لمورد المعارضة او للاختلاف في الاعلمية غير دلالة الادلة الخاصة على التخيير في مورد المعارضة او في مورد الاختلاف في الاعلمية ، فان لازم شمول الاطلاق لمورد المعارضة او الاختلاف في الاعلمية كون رأي المجتهد حجة وان خالفه قول غيره الاعلم منه ، وهذه الدلالة غير دلالة الدليل الخاص على الاخذ برأي المجتهدين المختلفين فتوى وعلما على نحو التخيير ، فان المتحصل من دلالة الاطلاق

٣٣٩

ودعوى السيرة على الاخذ بفتوى أحد المخالفين في الفتوى من دون فحص عن أعلميته مع العلم بأعلمية أحدهما ، ممنوعة (١). ولا عسر في

______________________________________________________

هو كون كل واحد منهم حجة سواء كان هناك غيره حجة ام لا ، وجواز الاخذ برأي كل منهم سواء جاز الاخذ برأي غيره ام لا. بخلاف الدليل الدال على التخيير فانه انما يدل على الاخذ بقول احدهما على نحو التخيير ، ولا مانع عقلا من حجية كل واحد منهما بنحو التخيير بناء على الطريقية. واما حجية كل واحد منهما تعيينا فلا يصح بناء على الطريقية ، لمحالية جعل الطريقين المتخالفين معا لحكم واحد واقعي ، فشمول الاطلاق لكل واحد من المجتهدين المتخالفين في الفتوى غير معقول ، فلا بد من رفع اليد عن الاطلاق.

وبعبارة اوضح : ان لازم شمول الاطلاق هو جعل كل واحد من الرأيين تعيينا ، لان معنى ان هذا حجة ـ سواء كان غيره حجة ام لا ـ هو جعل الحجية له مع غض النظر عن غيره ، وهذا غير معقول على الطريقية.

إلّا ان يقال : ان دلالة الدليل على حجية كل واحد منهم مع ان الغالب في المورد هو الاختلاف كاف في جواز تقليد غير الاعلم مع وجود الاعلم ، مضافا الى ان لسان الدليل هو تجويز التقليد لا حجية رأي المجتهد ـ فلا مانع من دعوى الاطلاق. ولا تخلو هذه الاضافة من نظر ، لان لازم جواز التقليد حجية رأي المقلد. ولكن لا يخفى ان دلالة الدليل على حجية كل واحد منهم ـ بناء على الموضوعية ـ لا مانع منه ، واما بناء على الطريقية فلا مناص من ان يكون المراد جعل كل واحد منهما حجة على نحو التخيير.

(١) هذا الدليل الثاني الذي استدل به لنفي الاصل المذكور المقتضي لتعين الاعلم عند اختلاف المجتهدين في الفتوى. كما ان الدليل الاول هو اطلاق ادلة التقليد ، وقد عرفت منعه عند المصنف.

٣٤٠