بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-065-9
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٣٧٩

الفصول (١) ، وأن المتعلّقات لا تتحمّل اجتهادين بخلاف الاحكام ، إلّا حسبان أن الاحكام قابلة للتغيير والتبدّل ، بخلاف المتعلقات

______________________________________________________

والى هذا اشار بقوله : «ضرورة ان كيفية اعتبارها» أي كيفية اعتبار الامارة على الطريقية «فيهما» أي في الاحكام في متعلقاتها «على نهج واحد».

(١) لقد ذكر صاحب الفصول تفصيلا في المقام ، واستظهر المصنف من كلامه انه تفصيل بين كون التبدّل في الرأي في نفس الحكم وبين كونه في متعلّق الحكم ، فقال بالبطلان في الاول دون الثاني. واستظهر منه بعض الاعلام التفصيل بين الواجبات والعقود والايقاعات ، وبين الاحكام التي هي القسم الرابع من ابواب الفقه ، مثل طهارة عرق الجنب من الحرام وكون حيوان قابلا للتذكية ، وبنى على البطلان في الثاني دون الاول.

ولا يخفى ان عنوان صاحب الفصول ظاهره كون التفصيل كما استظهره المصنف ، والامثلة التي ذكرها لطرفي التفصيل ظاهرها ما استظهره بعض الاعلام ، لان العنوان المذكور في كلام صاحب الفصول في بيان التفصيل هو الفرق بين ما يتعيّن في وقوعه شرعا اخذه بمقتضى الفتوى ، وبين ما لا يتعيّن في وقوعه شرعا اخذه بمقتضى الفتوى.

وذكر الوجه في عدم معاملة البطلان في الاجتهاد السابق بعد تبدّل الرأي في الاول ، بان الواقعة الواحدة لا تتحمل اجتهادين ولو في زمانين. والوجه في بطلان الاجتهاد في الثاني بعد تبدّل الرأي : هو ان رجوع المجتهد عن رأيه هو رجوع عن حكم الموضوع.

ومثّل للاول بما اذا بنى على عدم جزئية شيء او عدم شرطيته للعبادة ، ثم رجع وبنى على جزئيته او شرطيته للعبادة ، وبما اذا بنى على صحة الصلاة في وبر الارانب والثعالب ثم رجع ، وبما اذا بنى على طهارة شيء ثم صلى في ملاقيه ثم رجع ، وبما

٣٠١

والموضوعات (١) ، وأنت خبير أن الواقع واحد فيهما ، وقد عيّن أولا بما

______________________________________________________

اذا تطهر بما يراه طاهرا او طهورا ثم رجع ، وبما اذا عقد عقدا او أوقع ايقاعا بصيغة يرى صحتها ثم رجع.

ومثل للثاني بما اذا بنى على حلية حيوان ثم ذكّاه ثم رجع وبنى على تحريم المذكى منه وغير المذكى منه ، وبما اذا بنى على طهارة العرق من المجنب بالحرام فلاقاه ثم رجع وبنى على نجاسته او نجاسة ملاقيه ، وبما اذا بنى على عدم تحريم الرضعات العشر فتزوج من ارضعته ، ثم رجع وبنى على تحريم الرضعات العشر وانها تنشر الحرمة.

ومما ذكرنا اتضح : ان العنوان في كلام صاحب الفصول يساعد على استظهار المصنف ، لظهور قوله في مقام التعليل للبطلان في الثاني بانه رجوع عن حكم الموضوع في ذلك ، ولكن الأمثلة التي ذكرها تنافي ذلك ، فان الرجوع عن طهارة عرق الجنب هو من الرجوع عن حكم الموضوع ، مع انه جعله مثالا للقسم الاول الذي هو الحكم بحسب استظهار المصنف ، وما ذكره بعض الاعلام مستظهرا له من كلام الفصول تساعده الامثلة ، لان أمثلة القسم الاول بعضها واجبات عبادية ، وصرّح بان العقود والايقاع بالصيغة منه ، وامثلة القسم الثاني من الاحكام التي هي القسم الرابع من ابواب الفقه.

ولكن العنوان قد استظهر منه شيخنا الاجل ـ اعلى الله مقامه ـ في حاشيته على هذا الكتاب في المقام معنى آخر غير الاستظهارين المذكورين ، وبه يرتفع التدافع بين عنوان صاحب الفصول وامثلته فراجع ...

(١) بعد ان استظهر المصنف من كلام الفصول هو التفصيل بين المتعلقات والاحكام ، وانه يقول بان تبدّل الرأي في المتعلّقات لا يقتضي بطلان الاعمال السابقة ، بخلاف تبدّل الرأي في الاحكام فانه يقتضي البطلان في الاعمال السابقة ، وحمل قول الفصول على ان المتعلقات لا تتحمل اجتهادين بخلاف الاحكام ، لاجل ان المتعلقات

٣٠٢

ظهر خطؤه ثانيا (١) ، ولزوم العسر والحرج والهرج والمرج المخلّ بالنظام والموجب للمخاصمة بين الانام ، لو قيل بعدم صحة العقود والايقاعات والعبادات الواقعة على طبق الاجتهاد الاول الفاسدة بحسب الاجتهاد الثاني ، ووجوب العمل على طبق الثاني ، من عدم ترتيب الاثر على المعاملة وإعادة العبادة ، لا يكون إلا أحيانا (٢) ، وأدلة نفي العسر لا تنفي

______________________________________________________

امور خارجية فهي لا تقبل التغيير بخلاف الاحكام فانها قابلة للتغيير ، ولذلك كان لا بد من صحة الاعمال السابقة بالنسبة الى المتعلقات والموضوعات ، لانها حيث لا تقبل التغيير فهي لا تتحمل اجتهادين ، فلا يكون تبدّل الرأي موجبا لفساد الاعمال السابقة في المتعلقات. واما الاحكام فلانها تقبل التغيير وحيث انكشف الخلاف وتبدّل الرأي بالاجتهاد اللاحق ، فلا بد من تغيير احكامها وفساد الاعمال السابقة بالنسبة اليها. وقد اشار الى هذا بقوله : «الّا حسبان ان الكلام قابلة للتغيير ... الى آخر الجملة».

(١) حاصله : انه لا وجه للفرق بين الاحكام والموضوعات فان التبدّل يكون دائما في الحكم ، لوضوح ان التبدّل في الموضوعات هو التبدل في احكامها لا في نفسها فانه لا معنى له ، وعلى كلّ فقد ظهر ان الواقع واحد فيهما معا فلا وجه للفرق بينهما ، ولم يظهر محصل لقوله ان الواقعة الواحدة لا تتحمل اجتهادين بعد ما عرفت من ان التبدّل فيهما في الحكم من دون فرق بينهما ، وحيث انكشف خلافه فلا بد من معاملة البطلان مع الاعمال السابقة سواء كان التبدّل في الحكم أو في الموضوع.

وقد اشار الى ما ذكرنا بقوله : «وانت خبير بان الواقع واحد فيهما» أي في الاحكام والمتعلّقات «وقد عيّن» الحال فيه «اولا بما ظهر خطؤه ثانيا» كما هو المفروض باضمحلال الاجتهاد الاول وتبدله ثانيا بالاجتهاد الثاني على خلافه.

(٢) لقد استدل صاحب الفصول على لزوم عدم البطلان في المتعلقات : بان الالتزام ببطلان الاعمال السابقة فيها موجب للعسر والحرج والهرج والمرج المخل بالنظام

٣٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وموجب لعود المخاصمات التي قد انتهى فصلها بالاجتهاد الاول ، فان تبدل الرأي في العقود والايقاعات السابقة لو قيل ببطلان الاعمال فيها لاستلزم ذلك من الفساد ما يوجب العسر والحرج ، فانه ـ مثلا ـ لو عقد أو أوقع بالفارسية ثم بنى على فساد العقد والايقاع بها وكان المجتهد أو مقلدوه قد عقد عقودا كثيرة وحصلت معاوضات متعددة بالاموال ووقع نكاحات كثيرة ، فان الالتزام بالبطلان فيها موجب للعسر والحرج ، بل قد يوجب الهرج والمرج المخل بالنظام. ومثله الحال فيما لو حكم الحاكم وفصل الخصومة بالبناء على صحة العقد والايقاع الواقع بالصيغة الفارسية ، فان رجوعه عنه ثانيا يوجب عود المخاصمات ، وهو ما يوجب العسر والحرج بل قد يوجب الهرج والمرج. والى هذا اشار بقوله : «ولزوم العسر والحرج» ... الى آخر الجملة ، وهي لفظ الايقاعات.

واستدل في الفصول بان تبدل الرأي في الاحكام لا يوجب شيئا من ذلك لو كان التبدل في الاحكام ، فان العبادات الواقعة على طبق الاجتهاد الاول كما لو بنى أولا على عدم مانعية شيء او على عدم جزئيته فصلى في وبر الارانب ـ مثلا ـ او صلى من غير سورة ثم بنى على مانعيته وكون السورة جزءا من الصلاة ، وكذا لو بنى على ان بعض الحيوان يقبل التذكية فذكاه ثم بنى على عدم قبوله للتذكية ، فان اعادة الصلاة الواقعة بلا سورة والبناء على نجاسة الحيوان الذي ذكاه لا يوجب شيئا لا من العسر والحرج ولا الهرج والمرج ، ولا وجه لعود الخصومة لعدم تعقل الخصومة في الاحكام. وقد اشار الى ما ذكرنا بقوله : «والعبادات الواقعة على طبق الاجتهاد الاول الفاسدة بحسب الاجتهاد الثاني» كما هو المفروض «و» لازمه «وجوب العمل على طبق الثاني» ومعاملة البطلان مع الاعمال السابقة ، وعليه لا بد «من عدم ترتيب الاثر على المعاملة» والمراد بالمعاملة هو مثل حرمة الحيوان الذي لا يقبل التذكية بحسب الاجتهاد الثاني «و» لزوم «اعادة العبادة» التي كانت بلا سورة ، ومثل هذه الامور لا يكون إلّا احيانا.

٣٠٤

إلا خصوص ما لزم منه العسر فعلا ، مع عدم اختصاص ذلك بالمتعلقات ، ولزوم العسر في الاحكام كذلك أيضا لو قيل بلزوم ترتيب الاثر على طبق الاجتهاد الثاني في الاعمال السابقة ، وباب الهرج والمرج ينسد بالحكومة وفصل الخصومة.

وبالجملة لا يكون التفاوت بين الاحكام ومتعلقاتها ، بتحمل الاجتهادين وعدم التحمل بينا ولا مبينا ، بما يرجع إلى محصل في كلامه زيد في علو مقامه فراجع وتأمل (١).

______________________________________________________

(١) هذا هو الجواب عن استدلال صاحب الفصول ، وقد اجاب عنه باجوبة اربعة :

الاول : ان ما يستلزم العسر والحرج وان كان منفيا بادلة نفي العسر والحرج ، إلّا ان اللازم استثناء ما لا يلزم منه ذلك في المتعلقات ، لا صحة الاعمال بالنسبة الى المتعلقات مطلقا. والى هذا اشار بقوله : «وادلة نفي العسر لا تنفي الا خصوص ما لزم منه العسر فعلا» لا مطلق الاعمال بالنسبة الى الموضوعات مطلقا.

الثاني : ان لزوم العسر والحرج لا يختص بالمتعلقات والموضوعات ، فانه يكون في الاحكام ايضا ، فان من صلى مدة من السنين هو ومقلدوه بلا سورة ـ مثلا ـ لازمه العسر والحرج في قضاء هذه الصلاة كلها. والى هذا اشار بقوله : «مع عدم اختصاص ذلك» أي لزوم العسر والحرج لا يختص «بالمتعلقات و» ان «لزوم العسر» يكون «في الاحكام كذلك ايضا لو قيل بلزوم ترتيب الاثر على طبق الاجتهاد الثاني في الاعمال السابقة».

الثالث : ان ما ذكره من لزوم الهرج والمرج لو قيل بمعاملة البطلان مع الاعمال السابقة انما يلزم لاجل عود الخصومات ، ولكنه مع فصل الخصومة على طبق الاجتهاد الثاني لا يكون هرج ومرج. والى هذا اشار بقوله : «وباب الهرج والمرج ينسد بالحكومة وفصل الخصومة» على ما يقتضيه الاجتهاد الثاني.

٣٠٥

وأما بناء على اعتبارها من باب السببية والموضوعية ، فلا محيص عن القول بصحة العمل على طبق الاجتهاد الاول ، عبادة كان أو معاملة ، وكون مؤداه ـ ما لم يضمحل ـ حكما حقيقة (١) ، وكذلك الحال إذا كان

______________________________________________________

الرابع : ان ما ذكره من عدم تحمل الواقعة لاجتهادين في زمانين بالنسبة الى خصوص المتعلقات دون الاحكام لا محصل له ، بعد ما عرفت من ان التبدل في المتعلقات انما هو في حكمها ايضا. وقد اشار الى ذلك بقوله : «وبالجملة لا يكون التفاوت بين الاحكام ومتعلقاتها بتحمل الاجتهادين» في الاحكام «وعدم التحمل» في المتعلقات «بينا ولا مبينا بما يرجع الى» وجه «محصل في كلامه زيد في علو مقامه».

ولا يخفى ان كلام صاحب الفصول في غاية الاغلاق ، وقد نقل عن الشيخ الاعظم انه لم يحصل على وجه واضح لكلام الفصول في هذا التفصيل ، فبعث اليه احد اجلاء تلامذته وسأل صاحب الفصول عن معنى كلامه ، فذكر ايضا في تفسيره بما لم يرتفع به اجمال كلامه (قدس‌سره). ولكنه قد اشرنا الى ان شيخنا الاجل في حاشيته على الكتاب في كتابه نهاية الدراية قد ذكر وجها محصلا لكلام الفصول ، فراجع (١).

(١) حاصله : ان ما ذكرناه من لزوم معاملة البطلان مع الاعمال السابقة عند تبدل الرأي انما هو بناء على ان الجعل في الطرق والامارات من باب الطريقية.

واما بناء على القول بالجعل في الطرق والامارات بنحو السببية والموضوعية ، بان يكون قيام الطريق على حكم واقعي موجبا لجعل حكم فعلي على طبق مؤدى الطريق ، فان الحكم الفعلي المجعول على طبق المؤدى هو حكم واقعي ثانوي ، وان اطلق عليه لفظ الحكم الظاهري لاجل كونه حكما في مورد الشك في الحكم الواقعي ،

__________________

(١) نهاية الدراية : ج ٣ ، ص ٢٠٦ (ط. حجري).

٣٠٦

بحسب الاجتهاد الاول مجرى الاستصحاب أو البراءة النقلية ، وقد ظفر في الاجتهاد الثاني بدليل على الخلاف ، فإنه عمل بما هو وظيفته على تلك الحال ، وقد مر في مبحث الاجزاء تحقيق المقال ، فراجع هناك (١).

______________________________________________________

واذا كان حكما واقعيا ثانويا لا انكشاف للخلاف فيه مع تبدل الرأي ، لانه مع تبدل الرأي يحصل حكم آخر ثانوي ، ومع عدم انكشاف الخلاف لا وجه لكون تبدل الرأي موجبا لفساد الاعمال السابقة ، فان تبدل الرأي بناء على السببية يكون من باب ارتفاع الموضوع ، فالاعمال السابقة كانت مطابقة للواقع الثانوي ، ومع مطابقتها للواقع الثانوي لا وجه لفسادها بعد تبدل الراي ، لما عرفت من ان تبدل الرأي يكون ـ بناء على السببية ـ من باب ارتفاع الموضوع وحدوث حكم واقعي آخر.

والى ما ذكرنا اشار بقوله : «واما بناء على اعتبارها من باب السببية والموضوعية» ايضا لا وجه للتفصيل ، بل لا بد من صحة الاعمال السابقة سواء كان التبدل في عبادة او معاملة ، ولذا قال (قدس‌سره) : «فلا محيص عن القول بصحة العمل» الواقع «على طبق الاجتهاد الاول عبادة كان أو معاملة». واشار الى انه بناء على السببية يكون مؤدى الطريق حكما واقعيا حقيقيا ، ولذا كان لا وجه للفساد والبطلان بقوله : «وكون مؤداه ما لم يضمحل» ويتبدل بالاجتهاد الثاني يكون «حكما حقيقة» ومع كون الاجتهاد الاول حكما حقيقة لا وجه لمعاملة البطلان مع الاعمال الموافقة للاجتهاد الاول.

(١) قد مر في مبحث الاجزاء ان مثل قاعدة الطهارة وقاعدة الاستصحاب الجارية في احراز الطهارة تقتضي الاجزاء ، لدلالة قاعدة الطهارة على ان الشرطية الواقعية للصلاة اعم من الطهارة الواقعية والظاهرية ، وقاعدة الطهارة تدل على جعل الحكم الظاهري النفسي في ظرف الشك. واما الاستصحاب فبناء على جعل الحكم النفسي على طبق اليقين السابق للمستصحب ـ لا جعل المنجزية لليقين السابق في ظرف الشك ـ فان الحال فيه يكون حال السببية في الامارات.

٣٠٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد مر من المصنف ان اضمحلال الاجتهاد السابق من تبدل الموضوع لازمه كون الاجتهاد الاول واجدا للصحة حقيقة في حال عدم انكشاف الخلاف ، وحيث يكون واجدا للصحة حقيقة فلا بد من الاجزاء فيها ومعاملة الصحة معها بعد الانكشاف ، ومن الواضح ان الاجزاء ـ بناء على السببية ـ هو من خصائص جعل الحكم النفسي على طبق مؤدى الطرق ، وحيث كان المجعول في الاستصحاب هو الحكم الظاهري النفسي للمستصحب فلازمه الاجزاء في الاعمال السابقة ، ولا بد من معاملة الصحة مع الاعمال السابقة بعد الظفر بالدليل على ان الحكم على خلاف الاستصحاب.

ولا يخفى ان المصنف هنا اضاف الى الاستصحاب البراءة النقلية ، بناء على دلالتها على جعل الحكم الظاهري الترخيصي في موردها ، لا محض دلالتها على عدم المؤاخذة. والحاصل : ان دليل الاصل حيث يدل على جعل الحكم الظاهري فحاله حال السببية والموضوعية في الطرق ، ولازمه الاجزاء لأن تبدل الرأي من تبدل الموضوع.

والحاصل : ان المصنف في مبحث الاجزاء ذكر قاعدة الطهارة وقال بالاجزاء فيها ، ثم قال بما حاصله ان الاستصحاب كقاعدة الطهارة في وجه قوي. ومراده من الوجه القوي هو مختاره في كون المستفاد من دليل الاستصحاب هو جعل الحكم الظاهري ، كما مر منه ذلك في مبحث الاستصحاب ، وهنا لم يذكر قاعدة الطهارة لان المقام من الشبهة الحكمية ، ولكنه اضاف هنا الى الاستصحاب البراءة النقلية.

وعلى كل فجعل الحكم الظاهري لازمه الاجزاء ، ولذا قال (قدس‌سره) : «وكذلك الحال» أي ومثل البناء على السببية في الطرق ـ من كون لازمها الاجزاء وصحة الاعمال السابقة بعد انكشاف الخلاف ـ هو الحال في ما «اذا كان العمل» في السابق «بحسب الاجتهاد الاول» لاجل «مجرى الاستصحاب او البراءة النقلية وقد ظفر في الاجتهاد الثاني بدليل على الخلاف» مما يقتضيه الاستصحاب او البراءة النقلية «فانه» لا بد من الالتزام بصحة الاعمال السابقة لانه «عمل بما هو وظيفته

٣٠٨

فصل

في التقليد وهو أخذ قول الغير ورأيه للعمل به في الفرعيات ، أو للالتزام به في الاعتقاديات تعبدا ، بلا مطالبة دليل على رأيه ، ولا يخفى أنه لا وجه لتفسيره بنفس العمل ، ضرورة سبقه عليه ، وإلا كان بلا تقليد (١) ،

______________________________________________________

على تلك الحال وقد مر في مبحث الاجزاء تحقيق المقال» والذي مر هناك هو الالتزام بصحة الاعمال السابقة بعد انكشاف الخلاف.

(١) الكلام في التقليد في مقامين : الاول : في معنى التقليد ـ الذي هو رجوع الجاهل الى العالم ـ من حيث مناسبته لمعنى التقليد لغة وعرفا ... وانه هل هو نفس العمل المطابق لرأي المجتهد مع الاستناد الى رأيه؟ ومرجعه الى كون التقليد من الجاهل للمجتهد العالم هو عمل المقلد مستندا في عمله الى رأي المجتهد.

او انه نفس الالتزام والبناء على اتباع قول المجتهد ورأيه؟ ولو من دون ان يعرف ما هو رأي المجتهد في المسائل الفرعية فضلا عن ان يعمل على طبق رأيه.

او انه اخذ قول الغير ورأيه للعمل به في المسائل؟ ومرجعه الى كون التقليد تعلم فتوى المجتهد بقصد العمل على طبقه.

والحاصل : انه هل هو العمل بما انه مستند الى رأي الغير؟ او انه نفس البناء والنية على الاخذ بقول الغير؟ او انه تعلم رأي الغير والبناء على الاخذ به؟

فالفرق بين الثاني والثالث هو ان الثاني محض النية من دون تعلم ومعرفة لرأي الغير ، بخلاف الثالث فانه تعلم رأي الغير مع النية.

المقام الثاني في الدليل على التقليد.

والكلام الآن في المقام الاول. ولا يخفى ان التقليد في اللغة هو جعل القلادة في عنق الغير ، ومنه قلد الهدى. وفي الاصطلاح هو اخذ قول الغير واتباع رأيه لاجل العمل به في الفرعيات ، او لاجل الالتزام به في الاعتقاديات تعبدا بمعنى انه اتباع لرأيه من دون مطالبته ببرهان : أي ان التقليد هو الاخذ بقول الغير من دون مطالبته

٣٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

بالبرهان على رأيه ، وليس معناه هو نفس الاخذ بلا برهان ، بل معناه ان ما فيه الاخذ وهو رأي المجتهد في المسائل الفرعية والاعتقادية يكون بلا برهان.

وبيان ذلك وتوضيحه : ان نفس اخذ قول الغير ربما يكون عن دليل كما في تقليد الجاهل للمجتهد فانه قد قام الدليل عليه كما سيأتي بيانه ، وربما يكون بلا دليل كما في اخذ قول الغير في الاعتقاديات فانه لم يقم دليل على جواز التقليد في الاعتقاديات ، بل قام الدليل على عدم جوازه في بعض الامور الاعتقادية كمعرفة الواجب والنبوة. وحيث كان معناه في الاصطلاح لا بد وان يكون مما ينطبق على التقليد الذي قام الدليل عليه ، فيتعين ان يكون قيد عدم المطالبة بالبرهان راجعا لمتعلق الاخذ لا لنفس الاخذ ، كما بيناه من ان المراد به هو اخذ رأي الغير من غير مطالبة له بالبرهان على رأيه.

اذا عرفت هذا ... فنقول : ان مختار المصنف ان التقليد هو بالمعنى الثالث وهو تعلم رأي المجتهد للعمل لا نفس العمل ، كما صرح به بقوله انه لا وجه لتفسيره بنفس العمل ، ولا نفس الالتزام من دون دخل للعمل ، لقوله هو اخذ قول الغير للعمل.

اما انه ليس هو نفس الالتزام من دون دخل للعمل فيه ، فلوضوح ان التقليد في الاصطلاح هو بمناسبة المعنى اللغوي ، ونفس الالتزام من دون دخل فيه للعمل لا يناسب معناه اللغوي ، لان نفس الالتزام برأي الغير لا يكون قلادة في عنقه ، فنفس الالتزام برأي المجتهد لا يجعل المجتهد ذا قلادة ، وانما يكون المجتهد ذا قلادة حيث يعرف المقلد ويتعلم رأي المجتهد لاجل العمل به ، وهو المراد من الاخذ في قوله اخذ قول الغير ورأيه للعمل به في الفرعيات.

واما انه ليس نفس العمل ، فعبارة المصنف يمكن ان تشير الى وجهين :

الاول : ان التقليد بازاء الاجتهاد ، ومن الواضح ان الاجتهاد سابق على العمل ، فان المجتهد يجتهد أولا في الحكم ثم يعمل ، فلا بد وان يكون التقليد مثله بان يحصل

٣١٠

فافهم (١).

______________________________________________________

التقليد أولا ثم يكون العمل ، وحيث ان التقليد ليس هو نفس الالتزام فيتعين ان يكون هو اخذ قول الغير وتعلمه لاجل العمل.

الثاني : ان الاجتهاد والتقليد متضادان والمتضادان لا بد من اتحادهما في الرتبة ، وحيث ان الاجتهاد سابق على العمل فلا بد وان يكون التقليد سابقا على العمل ايضا.

ومما ذكر يظهر : ان نفس العمل من دون سبقه بالاخذ ليس من التقليد ، ولازمه كونه عملا من غير تقليد. والى ما ذكرنا اشار بقوله : «ولا يخفى انه لا وجه لتفسيره» أي لا وجه لتفسير التقليد «بنفس العمل ضرورة سبقه عليه» أي سبق التقليد على العمل «وإلّا كان» العمل ـ غير المسبوق بما يتحقق به التقليد ـ عملا «بلا تقليد».

(١) يمكن ان يكون اشارة الى ان المناسب للمعنى اللغوي هو العمل ، لان المجتهد انما يكون ذا قلادة بجعل عمل المقلد على طبق رأيه كقلادة في عنقه. واما بالالتزام برأيه فقط فلا يكون ذا قلادة ، لبداهة ان المجتهد انما يتقلد بما كان مطابقا للحكم الذي أدى اليه رأيه ، ونفس الالتزام من الغير ليس هو المطابق لما ادى اليه رأيه من الحكم ، وانما المطابق له هو العمل الذي يعمله الغير مستندا فيه الى رأي المجتهد. واما انه ليس هو نفس تعلم رأي المجتهد لاجل العمل ، فلانه ايضا ليس نفس التعلم لراي المجتهد هو قلادة ، وليس هو المطابق للحكم الذي أدى اليه ، بل المطابق لراي المجتهد هو العمل الذي يكون من المقلد على طبق رأي المجتهد.

واما ما ذكره من الوجهين .. فيرد على الوجه الاول : انه لا موجب لكون التقليد كالاجتهاد في السبق على العمل ، لان السبب في تقدم الاجتهاد في اجتهاد المجتهد على عمل نفسه انما هو لاجل كون عمله لا بد وان يكون مطابقا للحجة ، لذا كان معرفة المجتهد للحجة متقدمة على عمله ، وحيث ان التقليد هو جعل المجتهد ذا قلادة

٣١١

ثم إنه لا يذهب عليك أن جواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم في الجملة ، يكون بديهيا جبليا فطريا لا يحتاج إلى دليل ، وإلا لزم سد باب العلم به على العامي مطلقا غالبا ، لعجزه عن معرفة ما دل عليه كتابا وسنة (١) ، ولا يجوز التقليد فيه أيضا ، وإلا لدار أو

______________________________________________________

فلذا كان نفس عمل المقلد ـ بما انه مستند فيه لرأي المجتهد ـ هو تقليده له ، فلا يلزم في التقليد الالتزام بسبق التقليد على العمل.

واما الوجه الثاني .. فيرد عليه : ان التقليد من المقلد ليس ضدا للاجتهاد الذي هو معرفة الحجة ، وانما هو ضد لعمل المجتهد ، ويدل على ذلك ان التقليد ضد ايضا للاحتياط والاحتياط انما هو في العمل لا في غيره.

وبعبارة اخرى : ان العمل المبرئ للذمة : اما ان يكون عن اجتهاد ، واما ان يكون عن تقليد ، واما ان يكون للاحتياط.

فاتضح ان الاجتهاد والتقليد متقابلان بتقابل التضاد في نفس العمل لا في المعرفة ، كما هو الحال في تقابله للاحتياط فانه من البديهي ان تقابلهما في نفس العمل. والله العالم.

(١) هذا هو الكلام في المقام الثاني ، وهو الدليل على جواز التقليد ورجوع الجاهل الى العالم ، وقول المصنف : «في الجملة» للاشارة الى ان التقليد الصحيح المبرئ للذمة هو خصوص رجوع الجاهل الى العالم الجامع للشرائط ، وليس هو مطلق رجوع الجاهل الى العالم ، لبداهة ان رجوع الجاهل الى العالم غير الجامع للشرائط غير مبرئ للذمة فلا يكون تقليدا صحيحا.

وقد استدل عليه بأدلة : الاول : كون التقليد بديهيا جبليا فطريا ، وهو عمدة الادلة على جواز التقليد عند المصنف.

وتوضيحه : ان الفطري بحسب الاصطلاح هي الامور التي قياساتها معها ككون الاربعة زوجا ، والجبلي هو الذي تدعو اليه جبلة ذي الادراك كهرب الحيوان من

٣١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

المخيف. ومن الواضح ان التقليد ليس هو مثل كون الاربعة زوجا ، وليس هو من الامور التي تدعو اليه جبلة الحيوان ، بل ينبغي ان يكون مراده من الفطري والجبلي بمناسبة كونه ايضا من البديهي هو كونه وجدانيا ، والمراد من كون التقليد امرا وجدانيا هو ان الجاهل بعد التفاته الى انه عليه أحكام منجزة لا بد له من امتثالها ، وامتثالها مما يتوقف على العلم بها ، وهو عاجز عن تحصيل العلم بها نفسه ولا يقدر على الاحتياط فيها ـ يكون انحصار العلم بها ومعرفتها في الرجوع بها الى العالم بها امرا وجدانيا له ، لبداهة انه لو لا ذلك لانسد عليه باب العلم بها ، ومن الضروري توقف امتثالها على معرفتها.

فاتضح : ان الجاهل يحس ببداهة وجدانه جواز رجوعه الى الغير في معرفة الاحكام المنجزة عليه ، واذا ثبت كونه وجدانيا ثبت عدم احتياجه الى الدليل ، لان الامور الوجدانية من الاوليات ، والاوليات لا تحتاج الى دليل ، لان غاية الدليل هو ان ينتهي الى الاوليات.

هذا غاية ما يمكن تقريب كون رجوع الجاهل الى العالم امرا وجدانيا.

ولكنه يمكن ان يقال : بانه ـ ايضا ـ ليس من الامور الوجدانية ، لان الوجدانيات هي الامور التي تكون حاضرة للمدرك بنفسها ككون الشخص له علم او شوق ، وليس التقليد كذلك ، بل لا بد وان يكون الدليل على التقليد هو الدليل العقلي على انحصار امر الجاهل بالتقليد والرجوع الى الغير ، لان العقل بعد ادراكه كون الجاهل عليه أحكام منجزة لا بد له من معرفتها ليتمكن من امتثالها ، وبعد فرض كونه عاجزا عن تحصيلها بنفسه ، وكونه عاجزا ايضا عن الاحتياط فيها ـ يحكم العقل بانحصار امره في رجوعه الى العالم.

وعلى كل فقد اشار الى ما ذكرنا ـ من تقريب كون التقليد فطريا جبليا بقوله : «يكون بديهيا جبليا فطريا» كما مر تقريبه ، واذا كان فطريا جبليا فلا بد وانه «لا يحتاج الى دليل» لما مر من ان الامور البديهية لا تحتاج الى الدليل «وإلّا لزم سد

٣١٣

تسلسل (١) ، بل هذه هي العمدة في أدلته ، وأغلب ما عداه قابل

______________________________________________________

باب العلم به على العامي مطلقا غالبا» والمراد من الاطلاق هو عدم اختصاصه بالجاهل المحض ، بل يشمل حتى من له علم ولكنه كان عاجزا عن تحصيل معرفة الحكم بنفسه بان كان لم يبلغ درجة الاجتهاد ، والمراد من قوله غالبا هو غالب الاحكام ، لان بعضها معلوم بالضرورة لكل واحد من المسلمين. واشار الى الوجه في استلزامه سد باب العلم بالحكم على الجاهل بقوله : «لعجزه عن معرفة ما دل عليه» أي ما دل على الحكم «كتابا وسنة» ومع فرض عجزه ايضا عن الاحتياط يلزم سد باب العلم بالحكم على الجاهل المتوقف عليه امتثاله له المفروض تنجزه عليه.

(١) حاصله : ان جواز التقليد للجاهل لا بد وان يكون ثبوته للجاهل اما بجبلته ووجدانه او بالدليل العقلي الذي يحصله ، ولا يعقل ان يكون المثبت لجواز التقليد هو التقليد : أي لا يعقل ان يكون الدليل على التقليد نفس التقليد ، بان يقلد الجاهل العالم ودليله عليه نفس التقليد لانه مستلزم للدور او التسلسل ، لان تقليده للغير ان كان الدليل عليه هو نفس تقليد الغير فنفس تقليد الغير يحتاج الى دليل ، فان كان نفس التقليد هو دليله لزم الدور ، وان كان تقليدا آخر لزم التسلسل ، لوضوح ان نفس تقليده في جواز التقليد امر يحتاج الى الدليل ، وحيث ان المفروض لا دليل عليه الا التقليد ، فيكون موجبا لتوقف الشيء على نفسه ، لتوقف نفس التقليد في جواز التقليد على الدليل ، وحيث كان الدليل هو نفسه ، لانه من حيث كونه مما يتوقف على الدليل يكون متأخرا لبداهة تأخره عن الدليل ، ومن حيث فرض كونه هو الدليل على نفسه يكون متقدما ، وليست محالية الدور الا لزوم تقدم الشيء على نفسه.

والحاصل : انه اما ان يكون هو الدور او مستلزما لمفسدة الدور ، حيث نقول بانه لا بد في الدور من فرض اثنين يكون احدهما متوقفا على الآخر ويكون الآخر متوقفا

٣١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

عليه ، وهنا امر واحد وهو نفس التقليد للغير ، لان المفروض ان نفس التقليد هذا موقوف وموقوف عليه ، ولكن مفسدة الدور وهي لزوم كون الشيء الواحد متقدما ومتأخرا موجودة. هذا اذا كان تقليد الغير في جواز التقليد شاملا لنفسه.

واما اذا لم يكن شاملا لنفسه فلا بد من ثبوته بدليل آخر ، وحيث المفروض ان لا دليل الا التقليد فلا بد من كون دليل التقليد في الاحكام هو تقليد آخر ، وحيث ان التقليد الآخر ـ ايضا ـ هو تقليد فيحتاج الى دليل ولا دليل الا التقليد ، فننتقل الى تقليد آخر وهلم جرا ... فيلزم التسلسل.

والحاصل : ان تقليد الغير ان كان دليله نفس التقليد بان يقلد الغير في جواز التقليد ، فنقول : ان نفس تقليد الغير في جواز التقليد حيث انه بنفسه يحتاج الى الدليل فان كان الدليل عليه هو نفسه لزم الدور ، وان كان الدليل عليه تقليد آخر ننقل الكلام اليه من حيث احتياجه الى الدليل ايضا وهلم جرا ... فيلزم التسلسل.

والى ما ذكرنا اشار بقوله : «ولا يجوز التقليد فيه ايضا» أي ولا يجوز التقليد في نفس التقليد بان يكون الدليل على التقليد نفس التقليد فانه غير معقول «وإلّا لدار او تسلسل» وذلك بان يكون الدليل على تقليد الغير في جواز التقليد نفس تقليد الغير في جواز التقليد ، لانه بما هو دليل لنفسه يكون موقوفا عليه وبما هو مدلول للدليل يكون متوقفا ، فيلزم توقف الشيء على نفسه.

واذا قلنا بانه لا بد في الدور الحقيقي من فرض اثنين يكون احدهما متوقفا على الآخر المتوقف ذلك الآخر عليه ، وفي المقام المتوقف والمتوقف عليه واحد لا اثنان فلا دور حقيقي في المقام ، إلّا ان مفسدة الدور وهي لزوم تقدم الشيء على نفسه موجودة ، للزوم كون ذلك الواحد بما هو دليل متقدما وبما هو بنفسه مدلول عليه متأخرا وهو محال ، هذا اذا كان دليل جواز التقليد نفس هذا التقليد ، وان كان الدليل لتقليد الغير في جواز التقليد تقليدا آخر ننقل الكلام ، لانه حيث كان هو تقليدا ايضا ـ وحكم الامثال سواء ـ فهو يحتاج الى دليل ايضا وهلم جرا ... فيلزم التسلسل.

٣١٥

للمناقشة (١) ، لبعد تحصيل الاجماع في مثل هذه المسألة ، مما يمكن أن يكون القول فيه لاجل كونه من الامور الفطرية الارتكازية ، والمنقول منه غير حجة في مثلها ، ولو قيل بحجيتها في غيرها ، لوهنه بذلك (٢).

______________________________________________________

(١) بعد ما مر من ان دليل التقليد هو كونه امرا بديهيا جبليا فطريا ـ على رأي المصنف ـ او حكم العقل كما مر تقريبه ، وعلى كل حال فالمحصل للدليل على جواز التقليد هو المقلد نفسه لا غيره اما وجدانه او حكم عقله ، وانه لا يعقل ان يكون دليل التقليد نفس التقليد كما عرفت ، اما الادلة الأخر لجواز التقليد فستأتي المناقشة فيها ـ فلا محالة يكون عمدة ادلة التقليد هو ما ذكره ، ولذا قال (قدس‌سره) : «بل هذه» أي الامور الثلاثة وهي كونه بديهيا جبليا فطريا «هي العمدة في ادلته و» الوجه في كونه هو العمدة هو ان «اغلب ما عداه قابل للمناقشة» كما سيأتي.

(٢) ينبغي ان لا يخفى ان هذا الدليل وما يأتي من الأدلة انما هي للمجتهد لا للجاهل العاجز عن معرفتها ، فلا تنفع هذه الادلة على فرض صحتها للمقلد.

وعلى كل فقد ادعي الاجماع على جواز التقليد ..

وفيه : ان هذا الاجماع المدعى ان كان هو المحصل ... فيرد عليه : ان تحصيل الاجماع ـ بما هو اجماع ـ دليل لجواز التقليد بعيد جدا ، لاحتمال ان مدرك المجمعين كلهم او بعضهم هو ما مر ذكره من كون التقليد امرا بديهيا فطريا جبليا ارتكازيا ، ومع احتمال كون مدرك فتوى المجمعين ذلك لا يكون الدليل الاجماع بما هو اجماع.

وان كان الاجماع المدعى هو المنقول ... فيرد عليه : أولا : ما ذكرناه من احتمال المدرك ، وثانيا : ان الاجماع المنقول غير حجة كما مر بطلانه في مبحث الاجماع.

وقد اشار الى الايراد على دعوى الاجماع المحصل بقوله : «لبعد تحصيل الاجماع في مثل هذه المسألة مما يمكن القول ... الى آخر الجملة». واشار الى الايراد الاول على دعوى الاجماع المنقول بقوله : «والمنقول منه غير حجة في مثلها» أي في مثل هذه المسألة المحتملة المدرك ، واشار الى الايراد الثاني بقوله : «ولو قيل

٣١٦

ومنه قد انقدح إمكان القدح في دعوى كونه من ضروريات الدين ، لاحتمال أن يكون من ضروريات العقل وفطرياته لا من ضرورياته (١) ، وكذا القدح في دعوى سيرة المتدينين (٢).

______________________________________________________

بحجيتها» أي ولو قيل بحجية الاجماعات المنقولة «في غيرها» أي في غير هذه المسألة المحتملة المدرك ، فان قوله لو قيل اشارة الى عدم حجية المنقول من الاجماع ، ولكن لو سلمنا حجية الاجماع فهو ليس بحجة في مثل هذه المسألة «لوهنه بذلك» أي لوهنه في هذه المسألة باحتمال المدرك.

(١) هذا هو دليل آخر لجواز التقليد ، وهو دعوى كون جواز التقليد من ضروريات الدين. ووجه القدح في هذه الدعوى ان ضرورية الحكم في الدين على نحوين لانه : تارة يكون ثبوته لقيام ضرورة الدين عليه كالصلاة والصوم والزكاة والحج ، واخرى يكون ثبوته لكونه ضروري الثبوت عند العقل كالتكليف بغير المقدور وكلزوم اطاعة الله. والقدر المتيقن من التقليد هو كونه ضروريا ، اما كونه ضروريا دينيا او عقليا فغير معلوم ، وحيث انه من الامور البديهية النظرية الجبلية فمن المحتمل كونه ضروريا لانه من الضروريات عند العقل ، لا انه من ضروريات الدين. ومن هذه الجهة يظهر وجه الانقداح لانه مما ذكرنا من كونه بديهيا جبليا فطريا ينقدح انه من المحتمل كونه من ضروريات العقل لا من ضروريات الدين : أي بعد ما مر من ثبوت كونه وجدانيا يتضح انه ليس من ضروريات الدين ، لا انه ليس من الضروريات لان الوجدانيات من الامور الضرورية. والى ذلك اشار بقوله : «ومنه قد انقدح» وقد عرفت وجه الانقداح ، واشار الى نفس القدح بقوله : «امكان القدح في دعوى كونه من ضروريات الدين ل» أجل احتمال ان يكون من ضروريات العقل وفطرياته لا من ضرورياته» أي لا من ضروريات الدين.

(٢) وهذا دليل آخر ايضا ، وهو سيرة المتدينين على التقليد ورجوع الجاهل الى العالم.

٣١٧

وأما الآيات ، فلعدم دلالة آية النفر والسؤال على جوازه ، لقوة احتمال أن يكون الارجاع لتحصيل العلم لا الأخذ تعبدا ، مع أن المسئول في آية السؤال هم أهل الكتاب كما هو ظاهرها ، أو أهل بيت العصمة الاطهار كما فسر به في الاخبار (١).

______________________________________________________

وتوضيحه : ان السيرة : تارة سيرة العرف والعقلاء وهي التي تحتاج الى امضاء ، واخرى سيرة المتدينين وهي سيرة المتشرعة ـ بما هم متشرعون ـ وهي كاشفة عن رأي الشارع وهي الاجماع العملي ولا تحتاج الى امضاء ، ولا اشكال في قيامها على التقليد ، إلّا ان الاشكال في كونها دليلا برأسه ، فان كونها دليلا برأسه لا بد وان تكون بما هي كاشفة عن رأي الامام عليه‌السلام لتكون اجماعا عمليا ، والاجماع سواء كان قوليا او عمليا لا بد وان لا يكون محتمل المدرك ، لانه مع احتمال المدرك لا يقطع بكشفها عن رأي الامام عليه‌السلام ، لاحتمال كون سببها هو المدرك المحتمل. وفي المقام يحتمل كون مدرك السيرة هو كون التقليد بديهيا جبليا فطريا ، ولذا عطف القدح فيها على ما مر من القدح في دعوى الاجماع وفي دعوى كونه من ضروريات الدين ، فقال (قدس‌سره) : «وكذا القدح في دعوى سيرة المتدينين» فانه يظهر من القدح المذكور في دعوى الاجماع وضرورة الدين.

(١) وهذا هو دليل آخر على جواز التقليد ، وهو رابع الادلة القابلة للمناقشة وحاصله : دعوى دلالة آية النفر وهي قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(١) وآية السؤال وهي قوله عزوجل : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٢) ومر الاستدلال بهما على حجية خبر الواحد والمناقشة في دلالتهما على ذلك ايضا.

__________________

(١) التوبة : الآية ١٢٢.

(٢) النحل : الآية ٤٣.

٣١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وتقريب الاستدلال بآية النفر على جواز التقليد : هو ان الآية قد دلت على وجوب الحذر عند إنذار المنذرين ، وبالملازمة تدل على وجوب القبول عند الانذار ، وحيث ان انذار المنذرين لا يكون بمحض النقل لما سمعوه ، بل يكون ايضا بما فهموه وادى اليه رأيهم من ما سمعوه ، فالآية تدل على لزوم قبول قول المنذرين وان كان عن اجتهاد ، ولازم ذلك شرعية التقليد وجعله شرعا.

وتقريب الاستدلال بآية السؤال على التقليد : ان الآية قد دلت على شرعية السؤال من اهل الذكر ـ وهم العلماء ـ لتحصيل الجواب ، وصحة السؤال وتشريعه لتحصيل الجواب لازمه صحة اخذ الجواب وتشريعه ، ومن الواضح ان اهل الذكر حيث يكون شاملا للعلماء تكون الآية دالة على مشروعية التقليد ، لان جواب اهل الذكر لا يلزم ان يكون بنقل الرواية بل يكون ايضا باعمال الرأي والاجتهاد.

فظهر مما ذكرنا تقريب دلالة الآية على مشروعية التقليد لمشروعية اخذ الجواب من المسئول وان كان جوابه عن رأي واجتهاد.

وقد أورد المصنف على دلالة الآيتين على التقليد بايراد مشترك بينهما.

وحاصله : انه لا دلالة للآيتين على مشروعية التقليد ، لعدم ظهورهما في حجية قول المنذر وجواب المسئول تعبدا وان لم يفد قولهما العلم.

اما في آية النفر ، فأولا : ان الامر بالنفر كان للطائفة وهي الجماعة ، والجماعة النافرة هي المامورة بالانذار ، وانذار الجماعة مما يفيد العلم غالبا ، فلا يكون هناك امر شرعي بالحذر عند الانذار ، بل الحذر عند انذار الجماعة لانه من لوازم العلم. وثانيا : ان انذار المنذرين في الصدر الاول لم يكن برأي المنذر ، بل كان بنقل الرواية وما يسمعه من النبي والامام ، فالآية انما تدل على حجية خبر المنذر لا على حجية رأيه وفتواه.

٣١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

واما آية السؤال فلان الامر بالسؤال من اهل الذكر لاجل تحصيل العلم من قولهم ، لان الأمر بالسؤال حيث يكون مورده او السبب فيه عدم العلم ـ كما هو صريح الآية ـ تكون الغاية منه هو العلم.

والحاصل : ان الآية تدل على ان الامر بالسؤال من اهل العلم حيث لا تعلمون لاجل ان تعلموا ، وهذا المعنى ان لم يكن هو ظاهر الآية فلا اقل من كونه محتملا قويا فيها ، وعلى كل فلا يكون لها ظهور في حجية قول المسئول على السائل تعبدا ولا دلالة لها ايضا على صحة اخذ الجواب تعبدا.

والى هذا الايراد المشترك اشار بقوله : «فلعدم دلالة آية النفر والسؤال على جوازه» اي على جواز التقليد «لقوة احتمال ان يكون الارجاع» فيهما لغير العالم الى العالم «لتحصيل العلم لا الاخذ» بقول المنذر والمسئول «تعبدا» لتكونا دالتين على جواز التقليد.

ولو قلنا ان ظاهر آية السؤال هو العلم بالجواب لا العلم بالواقع فتشمل بدلالتها حجية جواب المسئول اذا كان عن رأي كما تشمل ما كان عن رواية ايضا ، فهي تدل على حجية خبر الواحد وعلى حجية فتوى المفتي ... إلّا انه يرد عليها ما يأتي من ان سياقها سؤال اهل الكتاب او الائمة عليهم‌السلام ، فتكون اجنبية عن الدلالة على حجية خبر الواحد وعن حجية رأي المفتي.

وقد اورد على آية السؤال بالخصوص بايرادين : الاول : ان ظاهر السياق والنظام في الآية هو كون اهل الذكر هم علماء اهل الكتاب ، وعليه فلا ربط للآية بالتقليد ، لوضوح عدم جواز تقليد علماء اهل الكتاب ، بل المراد من سؤالهم هو حصول العلم من جوابهم. مضافا الى ان مورد السؤال هو نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يصح التقليد في اصول الدين. والى هذا الايراد اشار بقوله : «مع ان المسئول في آية السؤال هم اهل الكتاب كما هو ظاهرها» لمناسبة مورد الآية.

٣٢٠