بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-065-9
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٣٧٩

حاجته إلى كثير مما يحتاج إليه في الازمنة اللاحقة ، مما لا يكاد يحقق ويختار عادة إلا بالرجوع إلى ما دون فيه من الكتب الاصولية (١).

______________________________________________________

(١) حاصله : ان الحاجة الى علم الاصول مختلفة من نواح ثلاث : من حيث نفس المسائل ، ومن حيث الازمنة ، ومن حيث الاشخاص.

اما اختلاف الحاجة الى علم الاصول من ناحية نفس المسائل ، فلوضوح ان بعض المسائل واضحة لسهولة المدرك فيها ، كالمسائل التي فيها ـ مثلا ـ اخبار من دون معارض فانها لا تحتاج الى اكثر من حجية الظواهر وحجية الخبر الواحد ، وبعضها غامضة لصعوبة المدرك فيها كالمسائل الفرعية المبتنية على بعض المسائل الاصولية الدقيقة ، كالفروع المبتنية على مسألة جواز اجتماع الامر والنهي وعدم جوازه ، وعلى صحة الترتب وعدم صحته.

واما الاختلاف من حيث الازمنة فلان تطور البحث ـ مثلا ـ في بعض المسائل في الازمنة اللاحقة مما اوجب صعوبة الاجتهاد ، بخلافه في الازمنة السابقة حيث ان البحث فيها كان خفيفا في تلك الازمنة ، فان مثل مسألة الاستصحاب المدرك فيها في الزمن السابق كان اما بناء العقلاء او الظن ، اما في الازمنة اللاحقة فان المدرك فيها هي الاخبار ، ولذلك تشعبت الاقوال فيه ، مضافا الى تنقيح المتأخرين لمورد مجراه واختلافهم فيه. وكمسألة مقدمة الواجب فان الظاهر من صاحب المعالم كونها لفظية ، وعند المتأخرين من المسائل العقلية ، وان المدرك لوجوبها وعدم وجوبها هو حكم العقل بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، وعدم حكمه بالملازمة بينهما.

واما الاختلاف من حيث الاشخاص ، فلبداهة اختلاف الاشخاص من ناحية سرعة الالتفات وبطئه ، ومن ناحية سرعة الجزم بالشيء وعدمه ، ومن ناحية بعد النظر وعمقه وقصره وبساطته.

٢٨١

فصل

اتفقت الكلمة على التخطئة في العقليات ، واختلفت في الشرعيات ، فقال أصحابنا بالتخطئة فيها أيضا ، وأن له تبارك وتعالى في كل مسألة حكما يؤدي إليه الاجتهاد تارة وإلى غيره أخرى. وقال مخالفونا بالتصويب ، وأن له تعالى أحكاما بعدد آراء المجتهدين ، فما يؤدي إليه الاجتهاد هو حكمه تبارك وتعالى (١) ، ولا يخفى أنه لا يكاد يعقل

______________________________________________________

وقد اشار المصنف الى جهة الاختلاف في الحاجة الى الاصول من ناحية الموارد الثلاثة بقوله : «نعم يختلف الاحتياج اليها» أي ان ادلة الاحكام الفرعية وهي المسائل الاصولية «بحسب اختلاف المسائل والازمنة والاشخاص» كما عرفت. واشار الى الوجه في الحاجة الى الاصول من حيث الازمنة بقوله : «ضرورة خفة مئونة الاجتهاد في الصدر الاول ... الى آخر كلامه».

(١) هذا الفصل للبحث في التخطئة والتصويب. والمراد من التخطئة هو انه هناك واقع يصيبه من يصيبه ويخطئه من يخطئه ، والمراد من التصويب انه ليس هناك واقع غير ما ادى اليه النظر ، ولذلك وقع الاتفاق على التخطئة في العقليات ، لوضوح ان المسائل العقلية ككون الممكن محتاجا الى العلة فانها مسألة لها واقع يصيبه من يصيبه ويخطئه من يخطئه ، ومثلها كل المسائل العقلية ، ولم يتوهم احد التصويب فيها ، وإلّا لانسد باب البرهان من رأس ، وكانت العلوم العقلية المحضة لغوا ، وكذلك ساير العلوم المحتاجة الى البرهان كالرياضيات وغيرها من العلوم ، وعلى كل فالتخطئة فيها من المسلمات بل من البديهيات.

وانما الخلاف في خصوص الحكم الشرعي .. فذهب اصحابنا وهم علماء الشيعة قاطبة الى التخطئة ، وان هناك حكما شرعيا واحدا واقعيا يشترك فيه الجاهل والعالم ، يصيبه من يصيبه من المجتهدين ويخطئه من يخطئه منهم.

٢٨٢

الاجتهاد في حكم المسألة إلا إذا كان لها حكم واقعا ، حتى صار المجتهد بصدد استنباطه من أدلته ، وتعيينه بحسبها ظاهرا (١) ، فلو كان غرضهم

______________________________________________________

وقال علماء العامة بالتصويب (١) وانه ليس هناك حكم واحد مشترك في الواقع ، بل الحكم الواقعي هو ما ادى اليه نظر المجتهد ، وعليه فكل مجتهد مصيب ، اذ لا واقع هناك الا ما ادى اليه نظره ، ولازم ذلك ان يكون لله تعالى أحكام واقعية بقدر آراء المجتهدين متناقضة تارة ومتضادة اخرى.

وقد اشار الى الاتفاق على التخطئة في العقليات بقوله : «اتفقت الكلمة على التخطئة في العقليات» واشار الى ان محل الخلاف في التخطئة والتصويب هو الحكم الشرعي بقوله : «واختلفت في الشرعيات» واشار الى ان مذهب الشيعة هو التخطئة بقوله : «فقال اصحابنا بالتخطئة فيها» أي في الشرعيات «و» معناه هو «ان له تبارك وتعالى في كل مسألة حكما» واحدا واقعيا مشتركا بين الجاهل والعالم يصيبه «ويؤدي اليه الاجتهاد تارة» ويخطئه «و» يؤدي «الى غيره اخرى».

واشار الى مذهب العامة القائلين بالتصويب بقوله : «وقال مخالفونا بالتصويب». والى لازمه اشار بقوله : «وان له تعالى احكاما» واقعية متعددة «بعدد آراء المجتهدين فما يؤدي اليه الاجتهاد هو حكمه تبارك وتعالى» واقعا.

(١) توضيحه : ان التصويب الذي ذهب اليه العامة فيه احتمالان ، وجامعهما ان يكون لله أحكام واقعية بقدر آراء المجتهدين :

الاول : ان لا يكون لله في الواقعة حكم قبل اداء نظر المجتهد ، وانما يكون له تعالى الحكم في الواقعة بعد أداء نظر المجتهد الى الحكم ، وهذا محال من جهات :

__________________

(١) وينبغي ان لا يخفى ان اصل مسألة التصويب للنصرانية اخترعوها خدمة للباباوات ، وهم قالوا ان يد الله مع الكنيسة ، واقتفى اثرهم علماء العامة وهي ـ ايضا ـ على ما اظن خدمة للخليفة وذوي السلطان ، وان كل ما يقولونه ويفعلونه وان كان متناقضا هو حق (منه قدس‌سره).

٢٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الاولى : انه مستلزم للدور ، لتوقف ظن المجتهد بالحكم او قطعه به على الحكم ، لبداهة توقف كل متعلق على ما يتعلق به ، فالظن بالحكم او القطع بالحكم مما يتوقف وجوده على الحكم لانه مما يتعلق بالحكم. فاذا فرض عدم تقدم الحكم على ما ادى اليه نظر المجتهد وانما يكون بعده متفرعا عليه ، فلازم ذلك توقف حكم الله على ظن المجتهد به او قطعه به ، لفرض كون وجوده بعد اداء نظر المجتهد الى الحكم ، ولا معنى لأداء نظر المجتهد الى الحكم الا ظنه او قطعه به. ونتيجة ذلك الدور لتوقف الظن بالحكم على الحكم ، من باب توقف كل متعلق على ما يتعلق به ، وتوقف الحكم على الظن به ، لفرض كونه متأخرا عنه ومتوقفا عليه لتفرعه عليه ، وعلى هذا فيكون الظن بالحكم متوقفا على نفسه ، لتوقفه على الحكم الذي فرض توقفه عليه.

ومما ذكرنا يظهر المحال من الجهة الثانية وهي الخلف ، فان كون الظن متعلقا بالحكم فرض تقدم الحكم عليه طبعا ، لان كل متعلق متقدم على ما تعلق به بالتقدم الطبعي ، وفرض كون الحكم متوقفا على الظن به او القطع به لتفرعه عليه فرض تأخر الحكم طبعا عما تفرع عليه ، وفرض كون الحكم متوقفا على الظن به فرض تأخر الحكم طبعا عنه ، فيكون لازم التصويب بالمعنى المذكور الخلف ، وهو فرض ما كان متقدما متأخرا.

الجهة الثالثة : لزوم التناقض ، وبيانه : انه كيف يعقل حصول الظن بالحكم او القطع به ممن يعلم انه لا حكم واقعي قبل الظن به او القطع به ، ففرض الظن بالحكم ممن يعلم انه لا حكم فرض وجود الحكم وعدم وجوده ، لان فرض الظن بالحكم فرض وجود الحكم قبل الظن به لانه متعلق للظن به ، وفرض العلم بعدم الحكم قبل الظن به فرض العلم بعدم وجود الحكم قبل الظن به.

فاتضح ان لازم التصويب المذكور فرض التنافي بنحو التناقض ، لما عرفت من ان فرض الظن بالحكم فرض وجود الحكم ، وفرض العلم بعدم الحكم قبل الظن فرض عدم وجود الحكم ، ولازم ذلك الجمع بين المتناقضين.

٢٨٤

من التصويب هو الالتزام بإنشاء أحكام في الواقع بعدد الآراء بأن تكون الاحكام المؤدي إليها الاجتهادات أحكاما واقعية كما هي ظاهرية فهو وإن كان خطأ من جهة تواتر الاخبار ، وإجماع أصحابنا الاخيار على أن له تبارك وتعالى في كل واقعة حكما يشترك فيه الكل ، إلا أنه غير محال ، ولو كان غرضهم منه الالتزام بإنشاء الاحكام على وفق آراء الاعلام بعد الاجتهاد ، فهو مما لا يكاد يعقل ، فكيف يتفحص عما لا يكون له عين ولا أثر ، أو يستظهر من الآية أو الخبر (١) ، إلا أن يراد التصويب بالنسبة

______________________________________________________

وقد اشار الى محالية التصويب بالمعنى المذكور اما من حيث الجهات الثلاث او من حيث بعضها بقوله : «ولا يخفى انه لا يكاد يعقل الاجتهاد» وهو حصول الظن للمجتهد او القطع «في حكم المسألة إلّا اذا كان لها حكم واقعا» متقدم على الظن به او القطع به ، لبداهة انه لا بد وان يكون هناك حكم واقعي معلوم اصل تحققه للمجتهد ، فيكون بصدد الوصول اليه واستنباطه حتى يمكن ان يحصل له الظن او القطع به ، وما ذكرنا هو معنى قوله (قدس‌سره) : «حتى صار المجتهد بصدد استنباطه من ادلته وتعيينه بحسبها» أي بحسب ادلته «ظاهرا» حيث يكون ظانا به وواقعا بحسب نظره حيث يكون قاطعا به.

(١) هذا هو الاحتمال الثاني للتصويب ، وحاصله : ان يكون المراد بالتصويب هو تقدم الحكم على الظن من المجتهد به ، وحينئذ يكون لازم قولهم كل مجتهد مصيب هو انشاء أحكام واقعية بعدد آراء المجتهدين. ولا يخفى ان التصويب بهذا المعنى لا يستلزم محالا من المحالات المتقدمة ، لانها انما تلزم حيث يفرض تأخر الحكم الواقعي عن رأي المجتهد. إلّا انه باطل لتواتر الاخبار وقيام الاجماع القطعي على ان الحكم الواقعي واحد وهو مشترك بين الكل.

ولازم التصويب بهذا المعنى تعدد الحكم وعدم اشتراكه بين الكل ، بل لكل واحد حكم واقعي. ولا يخفى ان لازمه جعل أحكام واقعية متضادة تارة كما اذا

٢٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ادى رأي احد المجتهدين الى الوجوب والآخر الى الحرمة والثالث الى الاستحباب والرابع الى الكراهة والخامس الى الاباحة ، ومتناقضة اخرى بان يؤدي رأي احد المجتهدين الى الوجوب والآخر لمحض عدم الوجوب من دون تعيين منه لاحد الاحكام الأخر. ومثله الحال في الحكم الوضعي كما اذا ادى رأي احدهم الى طهارة شيء والآخر الى نجاسته ، أو أدى رأي احدهم الى صحة عقد والآخر الى عدم صحته.

وقد اشار الى بطلان التصويب بهذا المعنى ـ وانه باطل لقيام الاجماع القطعي وتواتر الاخبار بخلافه ـ بقوله : «فلو كان غرضهم من التصويب هو الالتزام بانشاء أحكام في الواقع بعدد الآراء» وبقوله بانشاء أحكام في الواقع اشار الى تقدم الحكم على الاجتهاد كما سيشير الى ذلك في ذيل عبارته ايضا ، وعلى كل اذا كان غرضهم من التصويب هذا المعنى الثاني «بان تكون الاحكام المؤدي اليها الاجتهادات» كلها «أحكاما واقعية كما هي ظاهرية». ولا يخفى ان مراده من كونها ظاهرية هو كون المفروض تعلق الظن بها ، وهو غير خال عن الاشكال ، لان لازم التصويب بهذا المعنى هو قطع المجتهد بالحكم ، لفرض قوله بانه هناك أحكام واقعية بعدد ما يؤدي اليها آراء المجتهدين ، فلازم تعلق الظن بالحكم مع القطع بان هناك أحكاما واقعية بعدد آراء المجتهدين هو اجتماع الظن بالشيء والقطع به ، ولا بد من الالتزام بكون متعلق ظن المجتهد ليس هو الحكم بل هو ظاهر الكلام ، مثلا بان نظن بان الظاهر من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم افعل كذا هو الوجوب ، فهو بما هو مستعمل في الوجوب متعلق الظن ، وبعد تعلق الظن بان المستعمل فيه هو الوجوب يكون الوجوب مقطوعا به.

وعلى كل فالوجه في بطلان هذا التصويب ما اشار اليه بقوله : «فهو وان كان خطأ من جهة تواتر الاخبار ... الى آخر الجملة». واشار الى عدم محاليته بقوله : «إلّا انه غير محال» كما عرفت. واشار الى ان الوجه محالية التصويب بالمعنى الاول هو تأخر الحكم الواقعي عن ظن المجتهد ، بخلاف التصويب بالمعنى الثاني بقوله : «ولو كان غرضهم منه» أي من التصويب هو «الالتزام بانشاء الاحكام على وفق

٢٨٦

إلى الحكم الفعلي ، وأن المجتهد وإن كان يتفحص عما هو الحكم واقعا وإنشاء ، إلا أن ما أدى إليه اجتهاده يكون هو حكمه الفعلي حقيقة ، وهو مما يختلف باختلاف الآراء ضرورة ، ولا يشترك فيه الجاهل والعالم بداهة ، وما يشتركان فيه ليس بحكم حقيقة بل إنشاء ، فلا استحالة في التصويب بهذا المعنى ، بل لا محيص عنه في الجملة بناء على اعتبار الاخبار من باب السبية والموضوعية كما لا يخفى (١) ، وربما يشير إليه ما

______________________________________________________

آراء الاعلام بعد الاجتهاد» كما عرفت في الاحتمال الاول «فهو مما لا يكاد يعقل ... الى آخر الجملة».

(١) هذا المعنى الثالث من التصويب ، وهو ليس في الحكم الواقعي بل هو في الحكم الظاهري الفعلي. وبيانه : انه هناك حكم واقعي واحد منبعث عن المصلحة الواقعية الداعية له وهو الذي يشترك فيه الجاهل والعالم ، وبعد التفحص عنه واداء نظر المجتهد اليه بحسب الطريق الذي يراه فيؤدي اجتهاده الى الظن بالحكم الواقعي.

وينسب الى المشهور ان المستفاد من ادلة اعتبار بعض الظنون هو جعل الشارع لحكم ظاهري على طبق ما أدى اليه ظن المجتهد ، وكون هذا تصويبا انما هو لاجل ان في مرحلة الظاهر احكاما متعددة على قدر آراء المجتهدين لا في مرحلة الواقع ، بل في مرحلة الواقع ليس هناك إلّا حكم واحد مشترك. نعم الاحكام الظاهرية ليست احكاما مشتركة لفرض تعددها بتعدد آراء المجتهدين. وحيث كان الالتزام بالحكم الظاهري المتعدد والحكم الواقعي الواحد المشترك يلزمه ان يكون لكل واقعة حكمان حكم واقعي وحكم ظاهري ، واجتماع الحكمين في موضوع واحد لازمه اجتماع المثلين ان كانا من طبيعة واحدة كوجوبين ، واجتماع الضدين ان كانا من طبيعتين كوجوب وحرمة .. فلذا كان لهم مسلكان في دفع هذا المحذور ، وهو محذور الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ، وقد تقدم الكلام فيه في مبحث الظن ايضا :

٢٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

أولهما : ما هو ظاهر المصنف هنا وفي مبحث الاجزاء ، وهو الالتزام بكون الحكم الواقعي انشائيا والحكم الظاهري فعليا ، وحيث ان الحكم بمرتبته الانشائية لا يترتب عليه الاثر المترقب منه ـ وهو كونه باعثا وزاجرا وجاعلا للداعي بالفعل ، وانما يترتب عليه الاثر في مرتبته الفعلية ـ اشار في طي عبارته هناك الى ان الحكم بمرتبته الانشائية ليس بحكم حقيقة بل هو انشاء حكم ، فلا يكون تناف بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري ، فلا يكون بينهما كسر وانكسار ، والحكم الواقعي محفوظ في مرتبته الانشائية وهو المشترك بين العالم والجاهل.

ثانيهما : ما سلكه المصنف (قدس‌سره) في مبحث الظن ، بالالتزام بان الحكم الواقعي فعلي من جهة لا من جميع الجهات ، وهو الفعلي من قبل المولى ، ومع ذلك لا تنافي بين الحكم الواقعي والظاهري ولا كسر ولا انكسار. ومعنى كونه فعليا من قبل المولى هو اكتساب الحكم كل ما يكون به حكما من جهة المولى عدا كونه باعثا وزاجرا ومحركا للعبد بالفعل ، فان هذه الخصوصيات للحكم منوطة ـ عقلا ـ بوصوله لا بكونه حكما من قبل المولى ، فالفعلية من قبل المولى قد اكتسبها ، إلّا ان الفعلية من جهة كونه محركا وباعثا وزاجرا بالفعل لا ترجع الى المولى ، بل هي منوطة بالوصول ، وحيث المفروض عدم وصوله فلا يكون محركا بالفعل ، والتنافي بين الحكمين انما هو من حيث المحركية والباعثية الفعلية ، وحيث كان المفروض انه لا محركية ولا باعثية بالفعل للحكم الواقعي حيث لا وصول له ، فلا تنافي بين فعلية الحكم الواقعي بهذا المقدار من الفعلية وبين فعلية الحكم الظاهري من جميع الجهات ، لفرض وصوله دون الحكم الواقعي ، فالمحركية والباعثية الفعلية إنما هي للحكم الظاهري فقط ، وحيث لا تنافي بينهما فلا كسر ولا انكسار بينهما ايضا ، لان الكسر والانكسار فرع المزاحمة بينهما ، ولما كان التأثير لاحدهما وهو الحكم الظاهري دون الواقعي فلا مزاحمة بينهما فلا كسر ولا انكسار. هذا كله بناء على ما نسب الى المشهور من المستفاد من ادلة اعتبار الطرق هو السببية والموضوعية لجعل الحكم الظاهري على

٢٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

طبق ما أدى اليه الطريق كرأي المجتهد بالنسبة الى المقلد ، او على طبق الخبر الواحد بالنسبة الى المجتهد.

ومن الواضح انه لا محالية في هذا التصويب للالتزام بالحكم الواقعي ، فلا دور ولا خلف ولا لزوم اجتماع النقيضين ، وليس ايضا مما قام الاجماع والاخبار المتواترة على بطلانه للالتزام بالحكم الواحد المشترك بين العالم والجاهل ، غايته انه على مسلك انشائي ، وعلى مسلك فعلي لكن من بعض الجهات.

وقد اشار الى التصويب بهذا المعنى الثالث ـ وهو تعدد الحكم الظاهري بعدد آراء المجتهدين ـ بقوله : «إلّا ان يراد بالتصويب بالنسبة الى الحكم الفعلي» وهو الحكم الظاهري لانه لما كان ـ هنا ـ مسلكه هو الجمع بحمل الحكم الواقعي على الانشائية ، لذا كان الحكم الفعلي هو الحكم الظاهري. ولما كان التصويب بهذا المعنى لا بد من الالتزام فيه بالحكم الواقعي المشترك فلا ترد المحاذير التي اوردت على التصويب بالمعنى الاول ، والى ذلك اشار بقوله : «وان المجتهد وان كان يتفحص عما هو الحكم واقعا وإنشاء». واشار الى ان هذا المعنى الثالث تصويب بمعنى انه التزام بتعدد الحكم بتعدد آراء المجتهدين ، وانه ليس من الحكم المشترك بين العالم والجاهل بقوله : «إلّا ان ما ادى اليه اجتهاده يكون هو حكمه الفعلي» الظاهري «حقيقة». والوجه في تعدده ما اشار اليه بقوله : «وهو مما يختلف باختلاف الآراء ضرورة». والى عدم كونه من الحكم المشترك بقوله : «ولا يشترك فيه الجاهل والعالم بداهة». واشار الى ان الحكم المشترك حيث كان هو الحكم الواقعي الانشائي فلا منافاة بينه وبين الحكم الفعلي الظاهري بقوله : «وما يشتركان فيه» وهو الحكم الواقعي «ليس بحكم حقيقة» كما عرفت «بل» حكم «إنشاء».

واشار الى ان الالتزام بهذا المعنى ليس من التصويب المحال عقلا بقوله : «فلا استحالة في التصويب بهذا المعنى» كما مر بيانه. واشار الى انه ايضا ليس هو مما قام الاجماع والاخبار على بطلانه بقوله : «بل لا محيص عنه في الجملة». واشار الى

٢٨٩

اشتهرت بيننا أن ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم (١).

______________________________________________________

الوجه في قوله في الجملة ـ هو انه بناء على ما نسب الى المشهور من السببية والموضوعية في الطرق لا مناص من الالتزام بكون الحكم الواقعي الإنشائي هو الحكم الواحد المشترك ، وبتعدد الحكم الفعلي غير المشترك بتعدد آراء المجتهدين ـ بقوله : «بناء على اعتبار الاخبار من باب السببية والموضوعية».

(١) توضيحه : ان العبارة المعروفة عنهم ـ وهي ان ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم ـ يحتمل فيها معنيان :

الاول : ما ينسب الى المشهور من جعل الحكم الفعلي على طبق ما ادى اليه الطريق ، بان يكون المراد من الحكم ظاهره ، وعلى هذا يكون معنى العبارة : ان كون الظن المتعلق بالحكم الواقعي ظنيا لا ينافي القطع بالحكم ، وهو الحكم الفعلي المجعول على طبق ما ادى اليه الطريق ، ولازمه ما ذكرنا من تعدد الاحكام الفعلية الظاهرية بعدد الطرق وآراء المجتهدين.

الثاني : ان يكون المراد بالحكم هو الحجة والوظيفة الفعلية ، ويكون المراد من العبارة المذكورة هو ان ظنية الطريق المتعلق بالحكم الواقعي لا ينافي القطع بان الوظيفة الفعلية هو العمل على طبق الطريق ورأي المجتهد.

وربما يكون المعنى الاول اظهر من الثاني ، لظهور لفظ الحكم في الحكم لا في الوظيفة والحجية ، ولان لازم التفسير الثاني هو القطع بجعل الطريق ، ولا مجال لتوهم المنافاة بين كون الطريق ظنيا وكونه مقطوعا بجعله واعتبار طريقيته ، بل لا بد من القطع بجعله واعتباره ، لان الظن بما هو ظن ليس بحجة ما لم يقطع باعتباره ، ولا يعقل ثبوت اعتباره بالظن للزوم التسلسل لان حكم الامثال على السواء ، بخلافه على المعنى الاول فان وجه التوهم هو كون الطريق المتعلق بالحكم ظنيا فكيف يكون الحكم قطعيا؟

٢٩٠

نعم بناء على اعتبارها من باب الطريقية ، كما هو كذلك ، فمؤديات الطرق والامارات المعتبرة ليست بأحكام حقيقة نفسية ، ولو قيل بكونها أحكاما طريقية ، وقد مر غير مرة إمكان منع كونها أحكاما كذلك أيضا ، وأن قضية حجيتها ليس إلا تنجيز مؤدياتها عند إصابتها ، والعذر عند خطئها ، فلا يكون حكم أصلا إلا الحكم الواقعي ، فيصير منجزا فيما قام عليه حجة من علم أو طريق معتبر ، ويكون غير منجز بل غير فعلي فيما لم تكن هناك حجة مصيبة ، فتأمل جيدا (١).

______________________________________________________

والجواب عنه : ان ظنية الطريق المتعلق بالحكم الواقعي لا تنافي قطعية الحكم المجعول على طبق مؤدى الطريق. والله العالم.

وعلى كل فحيث لا صراحة في العبارة المذكورة في احد المعنيين ، لذا قال (قدس‌سره) : «ربما يشير اليه» أي ربما يشير الى ما ذكره من المعنى الثالث للتصويب الذي لا بد منه بناء على السببية والموضوعية في الطرق «ما اشتهرت بيننا» وهي العبارة المعروفة المشهورة «ان ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم».

(١) قد عرفت التصويب بالمعنى الثالث ، وانه لا بد من الالتزام به بناء على الجعل في الطرق من باب السببية ، وانه مع الحكم الواقعي الانشائي تكون هناك أحكام فعلية ظاهرية متعددة بعدد آراء المجتهدين.

ولكنه لما كان المختار للمصنف في جعل الطرق هو جعل الحجية ـ لا جعل الحكم النفسي الثانوي الموضوعي على طبق مؤدى الطريق كما نسب الى المشهور ، ولا جعل الحكم الطريقي ـ فلا يكون هناك حكم غير الحكم الواقعي الواحد المشترك بين العالم والجاهل لا نفسي ولا طريقي ، فلا يكون مجال للتصويب بالمعنى الثالث ، وان كان ليس بمحال ولا باطل ، لكنه حيث لا حكم في مرحلة الظاهر وليس هناك غير الحكم الواقعي حكم اصلا فلا وجه للالتزام بالتصويب المذكور ، لعدم الحكم المتعدد لا في الواقع ولا في الظاهر ، بل ليس هناك ـ بناء على ان المجعول هو الحجية ـ

٢٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

إلّا جعل المنجزية عند الاصابة والمعذرية عند المخالفة ، وهذا معنى قولهم ان الجعل في الطرق والامارات من باب الطريقية ، لان المجعول ـ كما صرح به في مبحث الظن وهنا ـ هو آثار القطع وهو المنجزية والمعذرية ، وعليه فليس هناك غرض الا الطريقية الى الحكم الواقعي ، غايته انه عند المخالفة وعدم الاصابة يكون الجاري في عمله على طبق الطريق معذورا ، فبناء على هذا المبنى لا حكم غير الحكم الواقعي اصلا ، فلا موجب للالتزام بالتصويب بالمعنى الثالث ، وان كان ليس بمحال ولا باطل كما عرفت.

وقد عرفت ـ ايضا ـ انه بناء على السببية لا محيص من الالتزام به. واما بناء على جعل الحكم الطريقي وهو ايصال الواقع بعنوان غير عنوانه كعنوان ما قامت عليه الطرق ، كمن اراد اكرام زيد فقال لعبده اكرم جاري ، فانه ايضا لا حكم هناك غير الحكم الواقعي ، لانه عند الاصابة فالواصل هو الحكم الواقعي ، غايته انه بعنوان آخر ، وعند الخطأ لا حكم طريقي ، فلا داعي للالتزام بالتصويب ايضا لعدم تعدد الحكم الفعلي في مرحلة الظاهر.

فاتضح : انه بناء على الطريقية لا حكم في مرحلة الظاهر سواء كان المجعول هو الحكم الطريقي او كان المجعول نفس الحجية.

والى ما ذكرنا اشار بقوله : «نعم بناء على اعتبارها» أي اعتبار الامارات «من باب الطريقية كما هو كذلك» لان مختاره (قدس‌سره) ان جعل الامارات من باب الطريقية ، وعليه «فمؤديات الطرق والامارات المعتبرة ليست باحكام حقيقية نفسية ولو قيل بكونها احكاما طريقية» كما عرفت من انه لا يكون هناك حكم غير الحكم الواقعي بناء على جعل الحكم الطريقي.

ثم اشار الى رأيه في جعل الطريقية للامارات ـ وان المجعول فيها هو الحجية ولا حكم هناك حتى الحكم الطريقي ـ بقوله : «وقد مر غير مرة امكان منع كونها احكاما كذلك ايضا» أي احكاما طريقية «وان قضية حجيتها» أي قضية حجية

٢٩٢

فصل

إذا اضمحل الاجتهاد السابق بتبدل الرأي الاول بالآخر أو بزواله بدونه ، فلا شبهة في عدم العبرة به في الاعمال اللاحقة ، ولزوم اتباع الاجتهاد اللاحق مطلقا أو الاحتياط فيها (١) ، وأما الاعمال السابقة

______________________________________________________

الامارات «ليست إلّا تنجيز مؤدّياتها عند اصابتها والعذر عند خطئها فلا يكون» هناك «حكم اصلا الا الحكم الواقعي فيصير» الحكم الواقعي «منجزا فيما قام عليه حجة من علم او طريق معتبر» لان المجعول في الطريق المعتبر هو آثار العلم «ويكون» الحكم الواقعي «غير منجز بل غير فعلي» لقوله هنا بكون الحكم الواقعي انشائيا «فيما» اذا اخطأه الطريق و «لم تكن هناك حجية مصيبة» للواقع.

(١) لا يخفى انه قد توهم عدم الفرق بين هذه المسألة ومسألة الاجزاء ، وان الكلام في هذه المسألة بعد الكلام في مسألة الاجزاء هو من التكرار.

ولعل منشأ التوهم ان اضمحلال الرأي السابق مع تبدله برأي آخر او مع عدم تبدله بل بمجرد زوال الرأي السابق مرجعه الى انكشاف الخلاف ، فانه في الاجزاء في الامر الظاهري بعد انكشاف الخلاف واضمحلال الرأي السابق هما متفقان ، لان في كل منهما انكشاف الخلاف.

ولكنه توهم فاسد ، لوضوح ان الكلام في مسألة الاجزاء في بعض مقاماته بفرض عدم اضمحلال الرأي السابق ، كما في اجزاء الامر الاضطراري بعد ارتفاع الاضطرار في الوقت او في خارجه. هذا أولا.

وثانيا : ان النسبة بين العنوانين عموم من وجه ، لصدق مسألة الاجزاء في مسألة اجزاء الامر الاضطراري عن الامر الواقعي من دون اضمحلال الرأي بل من جهة ارتفاع الاضطرار ، وصدق هذه المسألة في العقود والايقاعات لان موضوع مسألة الاجزاء في الامر التكليفي لا فيما يعم الوضع ، وتصادقهما في الامر الظاهري بعد انكشاف الخلاف ، فان انكشاف الخلاف في الامر الظاهري لازمه تبدل

٢٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الرأي السابق. ومن فرض عنوان التبدل يظهر ان الكلام مختص بما لا يعم انكشاف الخلاف من ناحية الامور الخارجية ، لانه ليس من التبدل وهو واضح.

وبعبارة اخرى : ان مفروض الكلام هو الشبهة الحكمية دون الموضوعية. فظهر ان محل الكلام هو ما اذا ادى نظر المجتهد الى حكم ثم تبدل رأيه ، سواء كان مع اداء نظره الى حكم آخر كما لو كان رأيه السابق وجوب شيء ـ مثلا ـ ثم تبدل رأيه الى استحبابه ، او مع عدم اداء نظره الى حكم آخر بل كان محض عدم الحكم السابق ، كما لو كان رأيه السابق وجوب الجمعة تعيينا ثم تبدل الى محض عدم وجوب الجمعة تعيينا ، من دون اداء نظره الى وجوبها تخييرا او حرمتها او استحبابها ، بان يكون من المتوقفين في ذلك.

وعلى كل حال فاذا زال رأيه السابق فلا اشكال في عدم العبرة به في العمل اللاحق ، لوضوح ارتفاع الحجة بالنسبة الى العمل في الزمان اللاحق ، فالعمل في اللاحق على طبق رأيه السابق من العمل من دون حجة ، لانه اذا تبدل الى القطع بعدم ما كان عليه رأيه السابق فمع القطع ببطلان الرأي السابق ومخالفته للواقع قطعا لا مجال لاحتمال العبرة به في اللاحق ، سواء كان رأيه السابق قطعا او ظنا. واذا تبدل رأيه الى قيام الحجة تعبدا على خلافه ، كما اذا كان تبدل رأيه ـ مثلا ـ الى الظن المعتبر على خلاف رأيه السابق ، فان كان رأيه السابق قطعا فمع فرض انتقاضه بالظن لا بقاء له حتى يكون حجة في اللاحق ، واذا كان رأيه السابق ظنا فلا مجال لحجيته بعد انتقاضه بالظن المعتبر على خلافه. هذا اذا تبدل رأيه الى القطع او الظن بالحكم المخالف للحكم الذي كان في السابق.

واما اذا تبدل رأيه الى محض عدم الحكم السابق فهو وان لم يكن له حجة على الحكم في اللاحق ، إلّا انه لا وجه لحجية الرأي السابق بعد ارتفاعه ، فقد يكون حكمه بعد تبدل الرأي هو الاحتياط ، كما لو كان رأيه سابقا حرمة الجمعة ثم تبدل رأيه الى عدم حرمتها وكان متوقفا لاحقا من حيث وجوبها التعييني او التخييري ،

٢٩٤

الواقعة على وفقه المختل فيها ما اعتبر في صحتها بحسب هذا الاجتهاد ، فلا بد من معاملة البطلان معها (١) فيما لم ينهض دليل على صحة العمل

______________________________________________________

فانه مع فرض التوقف فعلا في التعيينية والتخييرية لا بد من الاحتياط باتيان الجمعة لاحتمال وجوبها التعييني ، بناء على لزوم الاحتياط فيما اذا دار الامر بين التعيين والتخيير.

وقد اشار الى عدم الاشكال ـ في عدم الاعتناء بالرأي السابق بعد التبدل بالنسبة الى الاعمال اللاحقة ـ بقوله : «فلا شبهة في عدم العبرة به» أي بعدم العبرة بالرأي السابق بعد التبدل «في الاعمال اللاحقة» وهو واضح كما عرفت. واشار الى لزوم اتباع الرأي اللاحق ـ فيما اذا تبدل رأيه الى حكم في اللاحق مخالف للحكم السابق سواء كان الرأي قطعيا او ظنيا ، وسواء كان الرأي اللاحق ايضا قطعيا أو ظنيا ـ بقوله : «ولزوم اتباع الاجتهاد اللاحق مطلقا» وقد عرفت وجه الاطلاق. واشار الى عدم اتباع الرأي السابق ـ فيما اذا تبدل رأيه الى محض ارتفاع الحكم السابق مع التوقف في اللاحق بحيث حكمه الاحتياط لاحقا فلا بد من العمل بالاحتياط في اللاحق ـ بقوله : «او الاحتياط فيها» أي في الاعمال اللاحقة.

(١) قد عرفت عدم العبرة بالرأي السابق بالنسبة الى الاعمال اللاحقة بعد تبدل الرأي. ولكن في الاعمال السابقة بعد تبدل رأي المجتهد فيها فهل يحكم ببطلانها ولزوم الاعادة او القضاء في العبادات؟ او يحكم بصحتها ومضيها وان تبدل الرأي فيها؟ ومثلها المعاملات فهل يحكم ببطلانها وعدم ترتب الاثر ام لا؟

ففيما اذا كان رأيه السابق ـ مثلا ـ عدم وجوب السورة فصلى من غير سورة هو او مقلدوه ، ثم تبدل رأيه الى وجوبها ، فهل تجب الاعادة في الوقت والقضاء في خارجة ام لا؟ وفيما اذا كان رأيه صحة العقد بالفارسية ، فعقد عقدا بالفارسية بان زوج او تزوج بالعقد الفارسي ثم تبدل رأيه الى بطلان العقد بالفارسي ولزوم كونه

٢٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

بالعربية ، فهل اللازم بطلان الزوجية التي كان عقدها سابقا بالفارسية؟ او صحتها وعدم بطلانها؟ وانما اللازم كون العقد في المعاملات اللاحقة بالعربية.

وتفصيل الكلام في ذلك : انه لا ينبغي الاشكال في الحكم بالبطلان ولزوم الاعادة او القضاء في العبادات ، والحكم بالبطلان في المعاملات ، فيما اذا كان رأيه اللاحق قطعيا حتى ولو كان رأيه السابق قطعيا ايضا ، فضلا عما اذا كان رأيه السابق رأيه ظنيا ، لبداهة ان القطع اللاحق بالخلاف معناه انه لم يكن في السابق حكم قطعا ، ومع القطع بعدم الحكم وان اعماله السابقة لم تكن على وفق الحكم لا تكليفا ولا وضعا ، فلا مناص عن بطلان الاعمال السابقة عبادة كانت او معاملة. واما اذا كان رأيه اللاحق ظنيا فسواء كان رأيه السابق قطعيا او ظنيا فقد يتوهم مضي الاعمال السابقة وعدم تأتي النقض فيها ، لعدم انكشاف الخلاف فيها انكشافا حقيقيا. لكنه لا وجه له ، لفرض زوال القطع السابق وتبدله بالظن المعتبر على خلافه المقتضي لكون الحكم السابق لم يكن هو الحكم ، بل الحكم في السابق بموجب قيام الحجة المعتبرة هو الحكم اللاحق ، فلا وجه لتوهم عدم نقض الحكم السابق من حيث كون الحجة اللاحقة ظنية تعبدية .. هذا بالنسبة الى ما تقتضيه القاعدة في تبدل الرأي.

واما بالنسبة الى ما يقتضي الدليل فالكلام فيه في مقامات ثلاثة :

الاول : فيما يقتضيه جعل الامارات.

الثاني : فيما يقتضيه جعل الاصول.

الثالث : فيما يقتضيه الدليل الخارجي ، وقد ذكر المصنف ما يقتضيه الدليل الخارجي في ضمن كلامه في المقام الاول ، وهو ما يقتضيه الجعل في الامارات.

اذا عرفت هذا ... فنقول : ان جعل الامارات بناء على الطريقية ـ سواء كان بناء على جعل الحكم الطريقي ، او بناء على جعل المنجزية والمعذرية ـ فانه بعد تبدل الرأي وانكشاف خلاف الحكم السابق لا بد من معاملة البطلان مع الحكم السابق ، فان جعل الامارات من باب الطريقية حتى بناء على جعل الحكم الطريقي

٢٩٦

فيما إذا اختل فيه لعذر ، كما نهض في الصلاة وغيرها ، مثل لا تعاد ،

______________________________________________________

فان الحكم الطريقي معناه اما انشاء الطلب بداعي تنجيز الواقع ، او انه انشاء الطلب بداعي جعل الحكم بعنوان انه ايصال الواقع ، فان اصاب الطريق الواقع فهناك حكم وان اخطأ الطريق الواقع فلا حكم ، وحيث ان المفروض قيام الامارة المعتبرة على خلاف الحكم السابق فلازمه انه لا حكم في السابق تعبدا ، وحيث لا حكم للعمل السابق فلا بد من بطلانه والاعادة او القضاء في العبادات ، ولا بد من ترتيب عدم الاثر في المعاملات.

لا يقال : ان الامارة انما قامت في الزمان اللاحق وحيث لم تكن الامارة قطعا فالعمل السابق محتمل الصحة ، فكيف يحكم ببطلانه؟

فانه يقال : ان لسان الامارة على الطريقية كون الحكم الواقعي هو ما قامت عليه الامارة ، ولا فرق فيه بين الزمان السابق واللاحق ، فالامارة وان كان قيامها في الزمان اللاحق إلّا ان لسانها كون ما قامت عليه هو الحكم الواقعي ، ولا فرق في الحكم الواقعي بين الزمان السابق واللاحق. ومثله الحال بناء على جعل الحجية ، فان لازمه كون الحجة المنجزة والمعذرة هي الحجة اللاحقة ، واما السابقة فقد انكشف خلافها وانها لا منجزة ولا معذرة ، ولازم ذلك البطلان في الاعمال السابقة عبادة او معاملة. هذا فيما كان تبدل الرأي لقيام الامارة المعتبرة. واما اذا كان تبدل الرأي بالقطع في اللاحق فقد عرفت ان لازمه القطع بعدم الحكم السابق ، وحيث لا حكم للعمل السابق فلا بد من البطلان ، ولذا قال (قدس‌سره) : «فلا بد من معاملة البطلان معها» أي مع الاعمال السابقة بعد اضمحلال الاجتهاد الاول وتبدل الاجتهاد بما يقتضي الاختلال في الاعمال السابقة ، وسيأتي منه الاشارة الى الوجه في البطلان حيث يكون تبدل الرأي بالقطع او قيام الامارة المعتبرة على اختلال الاعمال السابقة على الطريقية سواء على الحكم الطريقي او جعل الحجية.

٢٩٧

وحديث الرفع ، بل الاجماع على الاجزاء في العبادات على ما ادعي (١). وذلك فيما كان بحسب الاجتهاد الاول قد حصل القطع بالحكم وقد اضمحل واضح ، بداهة أنه لا حكم معه شرعا ، غايته المعذورية في المخالفة عقلا ، وكذلك فيما كان هناك طريق معتبر شرعا عليه بحسبه ، وقد ظهر خلافه بالظفر بالمقيد أو المخصص أو قرينة المجاز أو المعارض ، بناء على ما هو التحقيق من اعتبار الامارة من باب الطريقية ، قيل بأن قضية اعتبارها إنشاء أحكام طريقية ، أم لا على ما مر منا غير مرة (٢) ،

______________________________________________________

(١) هذا هو المقام الثالث وهو قيام الدليل الخارجي على صحة العمل السابق الواقع لعذر اما لقيام الاجتهاد عليه او للنسيان.

واما الادلة الخارجية التي اشار اليها فهي ثلاثة :

دليل لا تعاد الصلاة الا من خمس ، بناء على اطلاقه وشموله للجهل لا اختصاصه بالنسيان ، فانه يدل على مضي الصلاة السابقة وان كانت مختلفة من غير الركوع والسجود والقبلة والوقت والطهور جهلا او نسيانا.

ودليل الرفع وهي فقرة رفع ما لا يعلمون ، بناء على ان المرفوع الاثر في حال الجهل لا المؤاخذة فقط ، فان الاثر للعمل العبادي المختل هو الاعادة والقضاء. فبواسطة دليل الرفع لا قضاء ولا اعادة اذا اضمحل الاجتهاد السابق مع قيام الاجتهاد اللاحق على خلافه ، لانه قد تبين ان الاجتهاد السابق كان جهلا.

والاجماع المدعى على الاجزاء في خصوص العبادات فيما اذا كان اختلالها لاجل الاجتهاد السابق.

(٢) هذا هو الوجه لقوله فلا بد من معاملة البطلان معها ، وقد مر ان الوجه في بطلان الاعمال السابقة فيما اذا كان السبب في الاجتهاد السابق هو القطع بالحكم السابق ، ثم اضمحل وتبدل في اللاحق ، سواء تبدل الى محض عدم القطع السابق أو تبدل بالقطع ايضا على خلاف السابق او بالظن المعتبر على خلافه ، وان الوجه في بطلان

٢٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

العمل السابق هو انه حيث كان بالقطع والقطع حجة عقلا بمعنى كونه منجزا لو اصاب ومعذرا لو خالف عقلا ، وحيث ان المفروض اضمحلال القطع السابق فقد انكشف انه لا منجزية ولا معذرية. اما فيما لو كان التبدل بالقطع ايضا فقد انكشف عدم الحكم السابق. واما لو تبدل بالظن المعتبر القائم على خلاف الحكم السابق فقد اضمحلت الحجة العقلية السابقة وقامت الامارة الشرعية على خلافها. ومثله ما لو اضمحل القطع السابق فقط من دون حصول القطع في اللاحق ولا الامارة الشرعية ، بل كان رأيه التوقف وعمله في اللاحق على الاحتياط ، لما عرفت من ان العمل السابق حيث كان بحجة عقلا وقد انكشف ان العمل السابق لم يكن عن الحجة.

وقد اشار الى ما ذكرنا بقوله : «وذلك» أي ما قلنا من انه لا بد من معاملة البطلان مع الاعمال السابقة «فيما كان» العمل السابق «بحسب الاجتهاد الاول قد حصل» ب «القطع بالحكم وقد اضمحل واضح» أي ان الوجه في البطلان واضح «بداهة انه لا حكم معه» أي لا حكم مع القطع «شرعا» لان حجيته ليست بجعل جاعل وانما «غايته» أي غاية القطع هي «المعذورية في المخالفة عقلا» ولا اقتضاء للمعذرية العقلية لا جزاء الاعمال السابقة.

واما الوجه في معاملة البطلان مع الاعمال السابقة التي كانت عن اجتهاد ظني ، بان كان الاجتهاد السابق لقيام امارة معتبرة في نظر المجتهد على الحكم السابق ، وبعد ذلك ظهر خلافها في رأيه وتبدل رأيه الى الخلاف ، كما لو كان الحكم السابق لاجل عموم معتبر ، ثم ظفر المجتهد بما يدل على تقييده او تخصيصه فتبدل رأيه في اللاحق على خلاف الحكم العمومي السابق. ومن الواضح انه بناء على جعل الطريقية لازمه بطلان الاعمال السابقة لان حجتها هي الامارة ، وحجية الامارة لانها طريق الى الواقع اما بجعل الحكم الطريقي او بجعل نفس الحجية ، وبعد انكشاف الخلاف ظهر انه لم يكن هناك حكم طريقي على طبق الامارة أو لا حجية لها ، وعليه فلا بد من معاملة البطلان مع الاعمال السابقة حيث انكشف انها كانت من غير حجة.

٢٩٩

من غير فرق بين تعلقه بالاحكام أو بمتعلقاتها ، ضرورة أن كيفية اعتبارها فيهما على نهج واحد (١) ، ولم يعلم وجه للتفصيل بينهما ، كما في

______________________________________________________

وقد اشار الى ما ذكرنا ـ من البطلان حيث يكون الاجتهاد السابق عن امارة ـ بقوله : «وكذلك فيما كان هناك» أي في الاجتهاد السابق «طريق معتبر شرعا عليه» أي على الحكم السابق «بحسبه» أي بحسب الطريق المعتبر «وقد» اضمحل لانه «ظهر خلافه بالظفر بالمقيد او المخصص او قرينة المجاز او» لاجل الظفر ب «المعارض» الاقوى في الحجية. واشار الى ان الوجه في البطلان هو لاجل كون الجعل في الامارات من باب الطريقية سواء كان بجعل الحكم الطريقي او جعل الحجية بقوله : «بناء على ما هو التحقيق من اعتبار الامارة من باب الطريقية» سواء «قيل بان قضية اعتبارها انشاء أحكام طريقية ام لا على ما مر منا غير مرة» من ان المجعول فيها هي الحجية.

(١) حاصله : ان الامارة : تارة تقوم على الحكم ، كقيام الامارة على وجوب شيء مثلا ، واخرى على متعلق الحكم ، كقيامها على ان الصلاة ـ مثلا ـ التي هي متعلق الوجوب ليس جزؤها السورة ، او ان الارانب والثعالب مما يجوز تذكيتها واثرها طهارة لحمها وجلدها بعد التذكية دون حلية أكلها. وعلى كل فلا فرق في لزوم معاملة البطلان مع الاعمال السابقة عند انكشاف الخلاف ، سواء كان الاجتهاد السابق كان في الحكم او في متعلقه ، فلو صلى الجمعة ثم انكشف عدم وجوبها فالقاعدة تقتضي الاتيان بالظهر مثلا في الوقت ، وقضاءه في خارجه ما لم يقم دليل على الاجزاء. وكذا لو صلى مع ملامسته للحم الارنب المذكى او صلى في جلد الارنب المذكى ثم انكشف الخلاف وانه لا يقبل التذكية مثلا ، فانه ايضا لا بد من الاعادة او القضاء. والسبب في عدم الفرق واضح ، وهو ان جعل الامارة على الطريقية لا فرق فيه بين كون الامارة قائمة على الحكم او على متعلقه.

٣٠٠