بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-065-9
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٣٧٩

به (١) ، وأما لغيره فكذا لا إشكال فيه ، إذا كان المجتهد ممن كان باب العلم أو العلمي بالاحكام مفتوحا له ـ على ما يأتي من الادلة على جواز

______________________________________________________

والى ما ذكرنا اشار بقوله : «انما هو» أي ان عدم التمكن من تعيين الحكم والتردد فيه انما هو «بالنسبة الى حكمها الواقعي» لا حكم المسألة الظاهري الفعلي.

واشار الى الوجهين ـ لعدم التمكن من الحكم الواقعي او التردد فيه ـ بقوله : «لاجل عدم دليل مساعد في كل مسألة عليه» أي على الحكم الواقعي وهذا هو الوجه الاول. والى الوجه الثاني اشار بقوله : «او عدم الظفر به ... الى آخر الجملة». واشار الى قدرتهم على الاستنباط للحكم الفعلي الظاهري في كل مسألة بقوله : «واما بالنسبة الى حكمها» أي الى حكم المسألة الظاهري «الفعلي فلا تردد لهم اصلا» فيه.

(١) والوجه في عدم الاشكال في جواز عمل المجتهد في عمل نفسه بما ادى اليه اجتهاده واضح ، لانه بعد فرض كونه ذا ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم ، وبعد فرض اعمالها ووصوله الى الحكم عن الحجة التي قامت عليه عنده لا مناص عن كون ذلك الحكم هو الحكم الشرعي الفعلي في نظره ، وليس الحكم الشرعي الفعلي في نظره الا نفس ذلك الحكم. ومع فرض انحصار الحكم الفعلي الشرعي بما ادى اليه نظره لا ريب في جواز عمله على طبقه. بل الظاهر ان مراد المصنف من الجواز في المقام هو الجنس العام الشامل للوجوب ، لوضوح انه مع الفرض المذكور يجب على المجتهد العمل على طبق ما ادى اليه نظره ، او يحتاط ولا يجوز له العمل على غيره ، لان عمله على غيره حيث لا يكون موافقا لرأي غيره من المجتهدين هو من العمل على خلاف الحكم الفعلي عند الكل ، وحيث يكون غير ما ادى اليه نظره موافقا لرأي غيره ، بان يؤدي نظره ـ مثلا ـ الى كون الحكم الفعلي هو الوجوب ، ويكون رأي غيره قد ادى الى غير الوجوب فيعمل على طبق رأي غيره وهو لا يجوز قطعا ايضا ، لانه حيث كان عدم الوجوب في نظره مخالفا لما هو الحكم الفعلي ، ولازم ذلك كون

٢٤١

التقليد (١) ـ بخلاف ما إذا انسد عليه بابهما ، فجواز تقليد الغير عنه في غاية الاشكال ، فإن رجوعه إليه ليس من رجوع الجاهل إلى العالم بل إلى الجاهل ، وأدلة جواز التقليد إنما دلت على جواز رجوع غير العالم إلى العالم كما لا يخفى ، وقضية مقدمات الانسداد ليست إلا حجية الظن عليه

______________________________________________________

من يرى عدم الوجوب جاهلا بالحكم الفعلي في نظره ، فيكون رجوعه الى الغير من رجوع العالم الى الجاهل. واما عمله على طبق رأي غيره الموافق لرأيه فهو عمل على طبق رأي نفسه لا على طبق رأي غيره.

(١) بعد ما عرفت من صحة عمل المجتهد على طبق رأيه ، بل لزوم عمله على طبقه .. تعرض لعمل الغير على طبق رأي المجتهد. والمراد من الغير هو الجاهل المقلد ، والغرض هو التعرض للاشكال في جواز رجوع الغير الى المجتهد الذي يرى انسداد باب العلم والعلمي ، ويكون الظن بالحكم عنده حجة للانسداد حكومة او كشفا.

واما رجوع الغير الى المجتهد الذي يرى انفتاح باب العلم والعلمي فلا اشكال فيه ، لنهوض ادلة التقليد على جواز رجوع الجاهل بالحكم الى العالم به ، وحيث ان من يرى انفتاح باب العلم أو العلمي له علم بالحكم ـ اما واقعا او ظاهر ـ فلا محالة يجوز تقليده ورجوع الغير اليه.

وقد اشار الى جواز رجوع الغير الى المجتهد القائل بالانفتاح بقوله : «واما لغيره» أي جواز العمل على طبق الاجتهاد الذي ادى اليه رأي المجتهد بالنسبة الى غير المجتهد ممن كان له الرجوع الى الغير وهو المقلد غير المجتهد «فكذا لا اشكال فيه» أي انه ايضا لا اشكال في رجوع الغير الى المجتهد والعمل على طبق رأيه ، كما كان للمجتهد نفسه العمل على طبق ما ادى اليه نظره فيما «اذا كان المجتهد ممن كان باب العلم أو العلمي بالاحكام مفتوحا له». واشار الى دلالة ادلة التقليد على ذلك بقوله : «على ما يأتي من الادلة على جواز التقليد».

٢٤٢

لا على غيره (١) ، فلا بد في حجية اجتهاد مثله على غيره من التماس دليل آخر غير دليل التقليد وغير دليل الانسداد الجاري في حق

______________________________________________________

(١) حاصله : التعرض للاشكال في رجوع الغير الى المجتهد الذي انسد باب العلم والعلمي عليه .. وقد اشار في المتن الى اشكالين :

الاول مختص بمن يرى الانسداد من باب الحكومة. وبيانه : ان الانسداد من باب الحكومة هو حجية الظن عقلا ، وقد عرفت ان ادلة التقليد انما تدل على رجوع الجاهل بالحكم الى العالم به اما واقعا او ظاهرا ، فلا دلالة لها على رجوع الغير الى المجتهد الذي يرى الانسداد من باب الحكومة ، لعدم العلم له بالحكم لا واقعا وهو واضح ، ولا ظاهرا لعدم جعل حجية الظن شرعا ليستلزم ذلك جعل الحكم الظاهري على طبق ما ادى اليه الظن. وحيث لا علم للمجتهد الذي يرى الانسداد ـ من باب الحكومة ـ بالحكم لا واقعا ولا ظاهرا ، فلا يكون رجوع الغير اليه من رجوع الجاهل بالحكم الى العالم بالحكم ، بل يكون من رجوع الجاهل بالحكم الى الجاهل بالحكم ، لما عرفت من عدم علمه بالحكم لا واقعا ولا ظاهرا.

وقد اشار الى هذا الاشكال المختص بالحكومة بقوله : «فان رجوعه اليه ليس من رجوع الجاهل الى العالم» واشار الى ان الوجه في ذلك هو ان ادلة التقليد لا تشمله لانه من رجوع الجاهل بالحكم الى الجاهل بالحكم ، لا الى العالم بالحكم بقوله : «وادلة جواز التقليد انما دلت ... الى آخر الجملة».

الاشكال الثاني : وهو ما يشمل الانسداد من باب الحكومة ومن باب الكشف.

وحاصله : ان ادلة التقليد انما تدل على رجوع الغير الى المجتهد حيث لا يختص موضوع الحجية بخصوص المجتهد ، اما في ما اختص بخصوص المجتهد بحيث لا تتعداه الى غيره فلا يجوز رجوع الغير اليه.

وبيان ذلك : ان المجتهد الذي يرى الانفتاح قد قام الدليل عنده على حكم لا يختص موضوعه به ، فان من يرى حجية الخبر الواحد فاذا ادى خبر الواحد الى

٢٤٣

المجتهد (١) ، من إجماع أو جريان مقدمات دليل الانسداد في حقه ، بحيث تكون منتجة بحجية الظن الثابت حجيته بمقدماته له أيضا ، ولا مجال

______________________________________________________

حكم فقد ادى الى حكم لا يختص موضوعه به ، بل موضوعه هو الذي قد ترتب عليه الحكم في الخبر. بخلاف المجتهد الذي يرى الانسداد ، فان الانسداد مبني على مقدمات خمس : وهي العلم الاجمالي بالاحكام ، وانسداد باب العلم والعلمي اليها ، وانه لا يجوز الاهمال ، ولا يجوز الاحتياط لاستلزامه الخلل بالنظام أو لا يجب لادلة رفع العسر والحرج ، ولا يجوز الرجوع الى الاصول ولا الى الغير .. فلذلك يتعين الظن اما حكومة او كشفا.

ومن الواضح ان جل هذه المقدمات مفقودة بالنسبة الى المقلد ، لعدم معرفة العامي بانسداد باب العلم والعلمي ، وعدم التفاته الى عدم جواز الاهمال ، ولانه يجوز له الرجوع الى الغير اذ المفروض ان هناك من المجتهدين ممن يرى انفتاح باب العلم او العلمي ، وكذا فيما اذا كان العامي ممن يمكنه الاحتياط ولا خلل في النظام يلزم من احتياطه ، أو لا يكون الاحتياط عسرا بالنسبة اليه ، او كان الاحتياط عسرا عليه إلّا انه حيث لا معرفة له بما يرفع العسر فيجب عليه الاحتياط وان كان عسرا.

وعلى كل فلا تتم مقدمات الانسداد فيه.

وعليه فلا محالة يختص الانسداد بمن تمت عنده مقدماته ، وهو المجتهد الذي يرى الانسداد ولا يجوز تقليد الغير له ، لعدم تمامية مقدمات الانسداد في حق غيره ، بل تكون المقدمات مما تختص بالمجتهد الذي يرى الانسداد لا غير. وقد اشار الى هذا الاشكال الثاني بقوله : «وقضية مقدمات الانسداد الى آخر الجملة».

(١) هذا اجمال للاشكالين ، وحاصله : انه بعد ما عرفت ـ من ان ادلة التقليد تختص برجوع الجاهل بالحكم الى العالم به ، وان رجوع الغير لمن يرى الانسداد من رجوع الجاهل الى الجاهل لا الى العالم ، وان دليل الانسداد مختص موضوعا بالمجتهد الذي يرى الانسداد ولا يشمل غيره ـ تعرف ان رجوع الغير لمن يرى الانسداد لا بد له من

٢٤٤

لدعوى الاجماع ، ومقدماته كذلك غير جارية في حقه ، لعدم انحصار المجتهد به ، أو عدم لزوم محذور عقلي من عمله بالاحتياط وان لزم منه العسر ، إذا لم يكن له سبيل إلى إثبات عدم وجوبه مع عسره (١).

______________________________________________________

التماس دليل آخر يدل عليه بالخصوص غير ادلة التقليد ، لعدم شمولها له ، وغير دليل الانسداد لعدم تمامية مقدماته في حق غير المجتهد الذي يرى الانسداد. ولذا قال (قدس‌سره) : «فلا بد في حجية اجتهاد مثله» أي مثل من يرى الانسداد «غير دليل التقليد» لما عرفت من عدم شمول أدلة التقليد لمن يرى الانسداد «على غيره» وهو العامي «من التماس دليل آخر» يدل على جواز تقليد العامي لمن يرى الانسداد «وغير دليل الانسداد الجاري في حق المجتهد» لاختصاصه بخصوص المجتهد الذي يرى الانسداد ولا يشمل غيره من العوام كما عرفت.

(١) ولا وجه لكلا الدعويين : اما دعوى الاجماع فبان يدعى انه قد قام الاجماع على جواز تقليد الجاهل حتى لمن يرى الانسداد ، فلبداهة بطلان هذه الدعوى ، لان مسألة الانسداد من المسائل المستحدثة الواقعة في الغيبة الكبرى ، بل هي بعد انقضاء زمن طويل في هذه الغيبة ، لوضوح انه الى زمان علم الهدى (قدس‌سره) لا اثر لها ، لانه (قدس‌سره) ممن يرى وصول جل الاحكام بما يوجب العلم كالتواتر ، أو الظن الاطمئناني المتاخم للعلم بواسطة دلالة الاخبار على ما يوجب الاطمئنان المتاخم للعلم ، وليس للانسداد عند المتقدمين عين ولا اثر.

واما دعوى جريان انسداد آخر في حق المقلد نفسه ـ غير دليل الانسداد الجاري في حق المجتهد ـ فبطلانه يظهر مما مر.

وقد اشار الى بطلان دعوى الاجماع بقوله : «ولا مجال لدعوى الاجماع». واشار الى عدم جريان انسداد في حق المقلد ـ غير الانسداد الجاري في حق المجتهد ـ بقوله : «ومقدماته» أي ومقدمات الانسداد «كذلك غير جارية في حقه» أي في حق المقلد «لعدم انحصار المجتهد به» أي بمن يرى الانسداد ، وعليه فلا ينحصر امر

٢٤٥

نعم ، لو جرت المقدمات كذلك ، بأن انحصر المجتهد ، ولزم من الاحتياط المحذور ، أو لزم منه العسر مع التمكن من إبطال وجوبه حينئذ ، كانت منتجة لحجيته في حقه أيضا (١) ، لكن دونه خرط القتاد ، هذا على

______________________________________________________

المقلد بتقليد من يرى الانسداد ، وحيث لا ينحصر امره بذلك فلا يتم دليل الانسداد في حقه ، لشمول ادلة التقليد له في رجوعه الى من يرى الانفتاح «او عدم لزوم محذور عقلي من عمله بالاحتياط» بان لا يلزم من احتياط هذا العامي الخلل بالنظام حتى يدل العقل على المنع عن احتياطه. اما اذا لزم من احتياطه العسر فلا مانع منه لان رفع العسر يحتاج الى معرفة الدليل الدال على رفعه ، وحيث فرض انه جاهل لا معرفة له بمثل ذلك فيجب عليه الاحتياط وان كان عسرا ، وحيث يجب عليه الاحتياط فلا تتم مقدمات الانسداد في حقه. واشار الى هذا بقوله : «وان لزم منه العسر ... الى آخر الجملة».

(١) حاصله : لو جرى دليل انسداد آخر عند المقلد ـ غير دليل الانسداد الجاري عند المجتهد ـ لكان دليلا على جواز رجوع الجاهل الى المجتهد الذي يرى الانسداد ، وذلك بان لا يكون هناك مجتهد يرى الانفتاح وينحصر المجتهد بمن يرى الانسداد ، وحينئذ لا يمكن للجاهل امتثال الحكم لا بالعلم ولا بالعلمي ، لعدم علمه بنفسه بالحكم ولا معرفة له بالعلمي المؤدى الى الحكم. وليس هناك ايضا ـ على الفرض من عدم وجود المجتهد الذي يرى الانفتاح ـ من له معرفة بالحكم لا بالعلم ولا بالعلمي ، وعلى هذا ينسد على الجاهل باب الرجوع الى الغير في الحكم الواقعي والظاهري. وايضا لا بد في تمامية دليل الانسداد عند الجاهل من عدم تمامية الاحتياط بالنسبة اليه ، بان يلزم من احتياطه اما الخلل في النظام او العسر ، ويكون الجاهل ملتفتا الى حكم العقل بعدم صحة الاحتياط المستلزم للخلل في النظام ، ويكون الجاهل ايضا قادرا على نفي العسر بالادلة النافية له ، وحينئذ يتم دليل الانسداد في حق العامي ،

٢٤٦

تقدير الحكومة (١).

وأما على تقدير الكشف وصحته ، فجواز الرجوع إليه في غاية الاشكال لعدم مساعدة أدلة التقليد على جواز الرجوع إلى من اختص حجية ظنه به ، وقضية مقدمات الانسداد اختصاص حجية الظن بمن جرت في حقه دون غيره ، ولو سلم أن قضيتها كون الظن المطلق معتبرا شرعا ، كالظنون الخاصة التي دل الدليل على اعتبارها بالخصوص (٢) ،

______________________________________________________

وينحصر امره مع العلم بالاحكام وعدم جواز الاهمال وعدم تمكنه من الاحتياط بانحصار امره في الرجوع الى من يرى الانسداد.

والى ما ذكرنا اشار بقوله : «نعم لو جرت المقدمات» المتوقف عليها الانسداد «كذلك» أي في حق الجاهل كما فرض جريانها في حق المجتهد. ثم اشار الى كيفية جريان مقدمات الانسداد بالنسبة الى الجاهل بقوله : «بان انحصر المجتهد» في من يرى الانسداد «و» ان يحصل للعامي الجاهل المعرفة بعدم وجوب الاحتياط عليه وذلك بان «لزم من الاحتياط» اما «المحذور» العقلي وهو الخلل في النظام «او لزم منه» أي من الاحتياط «العسر مع» فرض «التمكن» للعامي الجاهل «من ابطال وجوبه» أي ابطال وجوب الاحتياط بأدلة نفي العسر و «حينئذ كانت» تلك المقدمات «منتجة لحجيته» أي منتجة لحجية رأي المجتهد الذي يرى الانسداد «في حقه» أي في حق الجاهل.

(١) توضيحه : ان قد اشكل على الرجوع الى من يرى الانسداد على نحو الحكومة باشكالين : اشكال يخصه ، واشكال مشترك بينه وبين الانسداد على الكشف ، وقد اشار اليهما معا.

(٢) يشير الى الاشكال الثاني المشترك الورود بين الانسداد على الحكومة وعلى الكشف ، وهو اختصاص حجية الظن ـ سواء كانت بحكم العقل او كانت بنحو الكشف عن حجية الظن شرعا عند الانسداد ـ بخصوص المجتهد الذي يرى الانسداد ،

٢٤٧

فتأمل (١).

______________________________________________________

ولا يصح للجاهل الرجوع اليه ، لعدم جريان الانسداد في حق المقلد ، وعدم شمول ادلة التقليد له. اما عدم تمامية مقدمات الانسداد في حقه على الكشف فواضح ايضا. واما عدم شمول ادلة التقليد له وان كان نتيجة دليل الانسداد هي جعل الشارع الظن حجة عند الانسداد كما هو مبنى القول بالكشف ، فلان الظاهر من ادلة التقليد هو رجوع المقلد الى المجتهد ، مع اشتراك المقلد مع المجتهد في ان كلا منهما موضوع للحكم. اما اذا كان الموضوع للحكم مما يختص بالمجتهد فغير مشمول لظاهر ادلة التقليد ، مع ان الظاهر من ادلة التقليد كمقبولة ابن حنظلة وغيرها هو معرفة احكامهم مما ورد عنهم من الأحاديث ، لا مطلق معرفة الحكم ولو بالانسداد ، لظهور قوله عليه‌السلام ـ من نظر في حلالنا وعرف احكامنا ـ في النظر فيما ورد عنهم ، ومعرفة الحكم من ذلك الذي ورد عنهم دون مطلق معرفة الحكم ولو بالانسداد ، وعليه فمعرفة الحكم بالانسداد مما تختص بخصوص من يرى الانسداد ، ولا يكون رأيه حجة في حق المقلد ، لعدم شمول ادلة التقليد لمثل ذلك.

وقد اشار الى عدم مساعدة ادلة التقليد على جواز رجوع الغير الى من يرى الانسداد ولو كان بنحو الكشف بقوله : «لعدم مساعدة ادلة التقليد ... الى آخر كلامه». وقوله : «ولو سلم» اشارة الى ان رأيه كون نتيجة الانسداد هي الحكومة دون الكشف.

(١) لعله اشارة الى ان مقدمات الانسداد وان اقتضت ان حجية الظن ـ على الحكومة وعلى الكشف ـ مختصة بخصوص المجتهد الذي يرى الانسداد ـ إلّا ان ادلة التقليد وأدلة جواز الافتاء والاستفتاء تشمل تقليد من يرى الانسداد كما تشمل تقليد من يرى الانفتاح.

وتوضيح ذلك : ان المتحصل من ادلة التقليد وجواز الافتاء والاستفتاء. اما على الانفتاح فبناء على جعل الحكم المماثل هو جعل الحكم الذي ينتهي اليه رأي المجتهد

٢٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

من الخبر ، وجعل الحكم الذي ينتهي اليه في مورد الاصول العملية كالاستصحاب والبراءة الشرعية للمقلد ايضا ، لدلالة ادلة التقليد وادلة الافتاء والاستفتاء على تنزيل المجتهد منزلة المقلد ، فالحكم الذي ينتهي اليه رأي المجتهد هو حكم المقلد ايضا.

واما بناء على جعل الحجية فما كان منجزا عند المجتهد لو اصاب ومعذرا له لو خالف هو منجز ايضا عند المقلد ومعذر له.

ومنه يظهر انه لا مانع من تقليد من يرى الانسداد على الحكومة فضلا عن الكشف ، لدلالة ادلة التقليد على التنزيل ، فالظن سواء كان حجة بحكم العقل او كان حجة بجعل الشارع كان منجزا للمقلد ومعذرا له كما هو كذلك بالنسبة الى المجتهد.

والحاصل : ان تنزيل رأي المجتهد بمنزلة رأي المقلد بواسطة ادلة التقليد وجواز الافتاء ، لازمه كون رأي المجتهد رأي المقلد ، سواء كان الدال على حجية رأي المجتهد هو العقل بناء على الحكومة او الشرع كما هو مبنى الكشف ، فكل ما كان حجة على الحكم عند المجتهد ـ سواء كان غير مجعول شرعا كالقطع والظن على الحكومة ، او كان مجعولا شرعا بناء على الظن على الكشف ـ هو حجة عند المقلد.

وبعبارة اوضح : ان المستفاد من ادلة جواز التقليد هو رجوع المقلد الى المجتهد فيما هو الحجة عند المجتهد ، سواء كانت حجيته بحكم العقل او بحكم الشرع ، والمستفاد منها ايضا هو تنزيل رأي المجتهد منزلة رأي المقلد بالنسبة الى ما كان حجة عند المجتهد.

ومنه يظهر عدم ورود الاشكال الاول على الحكومة ، لعدم انحصار ادلة التقليد في رجوع الجاهل بالحكم الى العالم بالحكم ، بل المستفاد منها هو كون رأي المجتهد رأي المقلد تنزيلا. وعدم ورود الاشكال الثاني على الحكومة ، لان دليل الانسداد وان لم يجر في حق المقلد ، إلّا ان ادلة التقليد تثبت حجية رأي المجتهد للمقلد للتنزيل المستفاد من ادلة التقليد. وعدم ورود الاشكال ـ ايضا ـ على الكشف ، لان المراد من

٢٤٩

إن قلت : حجية الشيء شرعا مطلقا لا توجب القطع بما أدى إليه من الحكم ولو ظاهرا ، كما مر تحقيقه ، وأنه ليس أثره إلا تنجز الواقع مع الاصابة ، والعذر مع عدمها ، فيكون رجوعه إليه مع انفتاح باب العلمي عليه أيضا رجوعا إلى الجاهل ، فضلا عما إذا انسد عليه (١).

______________________________________________________

معرفة الحكم هو معرفته المطلقة لا خصوص معرفته مما ورد عنهم من الاحاديث كما هو معرفة من يرى الانفتاح ، بل المراد معرفة حكمهم من الحجة. ولعل النكتة في ذكر النظر في احاديثهم ومعرفة احكامهم كونها في قبال المعرفة من طريق القياس. والله العالم.

(١) حاصله : ان ما تقدم في وجه عدم شمول ادلة التقليد لتقليد من يرى الانسداد على نحو الحكومة هو كون الظاهر منها رجوع الجاهل بالحكم الى العالم بالحكم ، ولذا كان تقليد من يرى الانسداد على نحو الحكومة غير مشمول لأدلة التقليد ، لأن الانسداد على نحو الحكومة هو حجية الظن عقلا ، وليس هناك حكم شرعي لا واقعي ولا ظاهري ، بخلاف من يرى الانفتاح فانه له علم بالحكم اما واقعا كما فيما اذا كان الحكم مستفادا من مثل التواتر او قلنا بالموضوعية في الامارات ، او ظاهرا كما فيما اذا استفاد الحكم من مثل خبر الواحد ، إلّا ان هذا انما يتم حيث نقول بجعل الحكم الظاهري في موارد الامارات ... اما على القول بان المجعول فيها هو الحجية ـ كما هو رأي المصنف ـ فليس هناك حكم ظاهري مجعول ، وعليه فلا ينبغي ان يكون تقليد من يرى الانفتاح مشمولا لادلة التقليد ايضا في جل الفقه ، لأن جل الفقه مما قام عليه الخبر الواحد والمجعول فيه هو الحجية دون الحكم الظاهري ، فلا قطع للمجتهد في موارد الامارات بالحكم لا واقعا وهو ظاهر ، ولا ظاهرا لعدم كون المجعول فيها هو الحكم الظاهري ، بل المجعول فيها نفس الحجية واثرها تنجيز الواقع لو اصابت والعذر لو خالفت. وحيث لا حكم مقطوعا به لا واقعا ولا ظاهرا للمجتهد ـ الذي يرى الانفتاح في موارد الامارات ـ فيكون رجوع

٢٥٠

قلت : نعم ، إلا أنه عالم بموارد قيام الحجة الشرعية على الاحكام ، فيكون من رجوع الجاهل إلى العالم (١).

______________________________________________________

الجاهل اليه في هذه الموارد من رجوع الجاهل بالحكم الى الجاهل بالحكم ، لا من رجوع الجاهل بالحكم الى العالم بالحكم اما واقعا او ظاهرا.

ومما ذكرنا يظهر الاشكال ايضا في تقليد من يرى الانسداد من باب الكشف من هذه الناحية ، لا من ناحية اختصاص موضوع الانسداد بمن يرى الانسداد ـ كما هو مبنى الاشكال المشترك بين الحكومة والكشف ـ لأن المجعول شرعا بناء على الكشف هو حجية الظن شرعا بمعنى كونه منجزا عند الشارع لو اصاب ومعذرا لو خالف ، لا جعل الحكم الظاهري على طبق ما ادى اليه الظن.

والى ما ذكرنا اشار بقوله : «ان قلت حجية الشيء شرعا مطلقا» أي سواء بناء على الانسداد من باب الكشف او بناء على الانفتاح «لا توجب القطع بما ادى اليه من الحكم ولو ظاهرا» لان المجعول هو الحجية لا الحكم الظاهري «كما مر تحقيقه» في مبحث الظن «وانه ليس اثره» أي ليس اثر الجعل في المقامين بناء على كون المجعول فيهما هو الحجية «الا تنجز الواقع مع الاصابة والعذر مع عدمها» أي مع عدم الاصابة وليس المجعول هو الحكم الظاهري ، وعلى هذا «فيكون رجوعه اليه» أي رجوع الغير الى المجتهد غير مشمول لادلة التقليد حتى «مع انفتاح باب العلمي عليه ايضا» ويكون رجوع الغير حتى الى المجتهد الذي يرى الانفتاح «رجوعا الى الجاهل فضلا عما اذا انسد عليه» باب العلمي.

(١) توضيح الجواب : ان المستفاد من ادلة التقليد ليس هو خصوص رجوع الجاهل بالحكم الى العالم به ، بل رجوع الجاهل بالحجة شرعا الى العالم بها شرعا في ما ورد عنهم ، وحيث ان في موارد الامارات والاخبار الواردة عنهم عليهم‌السلام جعلا شرعيا غايته انه للحجية فهناك مجعول شرعي لمن يرى الانفتاح. واما الانسداد فعلى الحكومة لا جعل شرعي ولكن هناك حجة بدليل العقل ، وعلى الكشف فهناك جعل

٢٥١

إن قلت : رجوعه إليه في موارد فقد الامارة المعتبرة عنده التي يكون المرجع فيها الاصول العقلية ، ليس إلا الرجوع إلى الجاهل (١).

قلت : رجوعه إليه فيها إنما هو لاجل اطلاعه على عدم الامارة الشرعية فيها ، وهو عاجز عن الاطلاع على ذلك ، وأما تعيين ما هو

______________________________________________________

شرعي لحجية الظن. والمستفاد من ادلة التقليد هو معرفة الحجة المجعولة في احاديثهم وجعل مطلق الحجة ولو بنحو الانسداد ، كما يدل على ذلك قوله عليه‌السلام في المقبولة : (من نظر في حلالنا وحرامنا وعرف احكامنا) فان المراد من معرفة احكامهم هو معرفة الحجة في موارد احاديثهم لا معرفة الحكم الظاهري. والى هذا اشار بقوله : «قلت نعم إلّا انه عالم بموارد قيام الحجة الشرعية على الاحكام» وعلى هذا تشمله ادلة التقليد «فيكون» رجوع الغير اليه «من رجوع الجاهل الى العالم».

(١) حاصله الاشكال في رجوع الجاهل الى المجتهد في مورد الاصول العقلية كقبح العقاب بلا بيان ومورد الاحتياط في الشبهة الحاكم به العقل.

وبيان الاشكال : ان في هذه الموارد انه لا علم للمجتهد بالحكم الشرعي لا واقعا ولا ظاهرا ، اما واقعا فلأنه فرض الشك في الحكم الواقعي ، واما ظاهرا فلأن المفروض ان لا جعل من الشارع في مورد الاصول العقلية لا للحكم الظاهري في موردها ، ولا جعل الشارع ايضا لحجية نفس هذه الاصول العقلية ، بل الحاكم بها هو العقل ، ولازم ذلك عدم علم المجتهد في موارد هذه الاصول بالحكم لا واقعا ولا ظاهرا ، وحيث لا علم له بالحكم كذلك فيكون رجوع الغير اليه من رجوع الجاهل بالحكم الى الجاهل بالحكم ، لا من رجوعه الى العالم بالحكم.

وقد اشار الى كون الاشكال في موارد الاصول العقلية بقوله : «التي يكون المرجع فيها» أي في هذه الموارد التي لا امارة شرعية معتبرة فيها بحيث يكون المرجع فيها هي «الاصول العقلية». واشار الى ان هذا الرجوع هو من رجوع الجاهل الى الجاهل لا الى العالم بقوله : «ليس إلّا الرجوع الى الجاهل».

٢٥٢

حكم العقل وأنه مع عدمها هو البراءة أو الاحتياط ، فهو إنما يرجع إليه ، فالمتبع ما استقل به عقله ولو على خلاف ما ذهب إليه مجتهده (١) ،

______________________________________________________

(١) توضيحه : انه ان قلنا انه يجوز التقليد في المسألة الاصولية كما يجوز في المسألة الفرعية ، وقلنا بانه لا فرق في التقليد في الرجوع الى الغير بين مورد ثبوت الحكم ومورد ثبوت عدم الحكم في المسألة الاصولية ، فلا مانع من التقليد هنا لأنه تقليد في المسألة الاصولية ، وموردها ثبوت عدم الحكم الفعلي بحكم العقل.

هذا بالنسبة الى حكم الشك في الحكم الفعلي في مورد الاصول العقلية.

واما بالنسبة الى حكم العقل في هذه الموارد هل هو ان الاصل عند العقل هو البراءة او الاحتياط؟ .. فلا رجوع للمقلد في ذلك الى المجتهد ، بل يرجع الى ما يحكم به عقله من انه هو البراءة او الاحتياط.

والحاصل : ان هنا مقامين : مقام تعيين كون المورد من موارد الاصول العقلية ، ومقام كون الاصل في المقام أي شيء هو؟ وفي المقام الاول لا مانع من جواز التقليد لأنه تقليد في الحكم الاصولي ، وفي المقام الثاني لا وجه للتقليد بل المقلد يرجع الى حكم عقله.

واما اذا قلنا بانه لا دلالة لادلة التقليد على جوازه في المسألة الاصولية ...

فنقول : ان المناط في جواز التقليد هو عجز المقلد عن معرفة وظيفته في مقام الشك في الحكم الفعلي ، وحيث انه شاك في الحكم الفعلي وعاجز عن رفع شكه فله الرجوع الى القادر على رفع شكه ، ولذلك كان له الرجوع الى المجتهد بهذا المقدار وهو انه لا حكم فعلي في المقام ، واما حكم العقل حيث لا تكون للحكم فعلية هل هو البراءة او الاحتياط فلا رجوع فيه من المقلد الى المجتهد ، بل اللازم على المقلد رجوعه الى ما يحكم به عقله في المقام وانه هل هو البراءة او الاحتياط؟

وقد اشار المصنف الى تقليد الغير للمجتهد في موارد الاصول العقلية في المقام الاول بقوله : «رجوعه اليه» أي رجوع المقلد الى المجتهد «فيها» أي في موارد

٢٥٣

فافهم (١).

______________________________________________________

الاصول العقلية «انما هو لاجل اطلاعه» أي لاجل اطلاع المجتهد «على عدم الامارة الشرعية فيها» وانه من موارد الاصول العقلية «وهو عاجز عن الاطلاع على ذلك» أي ان المقلد عاجز عن معرفة انه لا امارة شرعية في المقام وانه من موارد الاصول العقلية.

واشار الى انه لا وجه للتقليد في تعيين ما هو الاصل العقلي الجاري في تلك الموارد وانه هل هو البراءة او الاحتياط ، وانه لا بد من رجوع المقلد الى ما يراه عقله بقوله : «واما تعيين ما هو حكم العقل وانه مع عدمها» أي مع عدم الامارة الشرعية ما ذا يحكم العقل به من حيث ان الاصل عنده هل «هو البراءة او الاحتياط فهو انما يرجع اليه» أي انما يرجع الى نفس المقلد «فالمتبع ما استقل به عقله» أي عقل المقلد «ولو» كان «على خلاف ما ذهب اليه مجتهده».

(١) لعله اشارة الى أنه انما يصح للمقلد الرجوع الى ما يحكم به عقله من البراءة او الاحتياط حيث يكون المقلد ممن يعرف قبح العقاب بلا بيان ، ويعرف العلم الاجمالي ، او شغل الذمة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، ويعرف مواردهما. وفرض المقلد كذلك فرض كونه مجتهدا بهذا المقدار وهو خلف. واما العامي الذي لا يعرف شيئا ولم يقرأ ولم يكتب فكيف يعقل له ان يرجع الى ما يحكم به عقله؟

او انه اشارة الى انه بناء على عدم صحة التقليد في المسألة الاصولية ، بدعوى ان اثر المسألة الاصولية هو التمكن من الاستنباط ، وحيث المفروض عدم قدرة المقلد على الاستنباط فلا اثر للتقليد في المسائل الاصولية.

واما رجوع المقلد الى المجتهد لعجزه عن رفع شكه في وجود الامارة او الحجة الشرعية وعدمهما فله الرجوع الى المجتهد بمناط ان للمقلد الرجوع الى المجتهد في كل ما يعجز عنه.

٢٥٤

وكذلك لا خلاف ولا إشكال في نفوذ حكم المجتهد المطلق إذا كان باب العلم أو العلمي له مفتوحا ، وأما إذا انسد عليه بابهما ففيه إشكال على الصحيح من تقرير المقدمات على نحو الحكومة (١) ، فإن مثله كما

______________________________________________________

فيرد عليه : ان هذا انما يتم حيث يلتفت المقلد فيشك ، اما اذا لم يلتفت فلا شك عنده حتى يحصل له العجز فيرجع الى المجتهد.

فالحق في الجواب ان يقال : ان ادلة التقليد وادلة جواز الافتاء والاستفتاء مرجعها الى تنزيل علم المجتهد وظنه وشكه منزلة علم المقلد وظنه وشكه ، ونتيجة ذلك جواز رجوع المقلد الى المجتهد في كل ما يراه ، سواء كان انفتاحيا او انسداديا ، وسواء كان في الاصول العقلية او في الاصول الشرعية ، من غير فرق اصلا ، كما تقدمت الاشارة الى ذلك في شرح قوله فتأمل السابق. والله العالم.

(١) لا يخفى انه يريد ان يتكلم في ثبوت منصب القضاء ، هل هو للمجتهد المطلق او يشمل المتجزى؟ ولما كان دليل ذلك هو الاخبار لا غير ... فلذا لا بد من التكلم فيها وانها هل لها دلالة على الشمول ام لا؟

واما التقليد فحيث انه لا ينحصر دليله بالاخبار فلذا كان خارجا عن المقام.

ويتكلم ايضا بعد ثبوت الجعل لمنصب القضاء لمن يرى الانفتاح ، فهل يشمل الجعل من يرى الانسداد ام لا؟

ثم لا يخفى ان الاصل عدم ثبوت منصب القضاء للمجتهد ، والاصل عدم نفوذ رأيه على غيره في القضاء. والاصل وان كان كذلك في التقليد : أي ان الاصل عدم صحة رجوع الجاهل الى المجتهد المطلق ، والاصل عدم نفوذ رأي المجتهد المطلق على الجاهل ، إلّا ان أدلة جواز التقليد غير منحصرة في الاخبار كما سيأتي الاشارة اليها ان شاء الله تعالى. بخلاف ثبوت منصب القضاء للمجتهد فانه منحصر في الاخبار ، كصحيح ابي خديجة الذي ورد فيه : (انظروا الى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا

٢٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

فاجعلوه بينكم فاني قد جعلته قاضيا) (١) وروايته الاخرى ـ وهي حسنة ـ وفيها (اجعلوا بينكم رجلا قد عرف حلالنا وحرامنا فاني قد جعلته عليكم قاضيا) (٢) ومقبولة عمر بن حنظلة وفيها (ينظر الى رجل منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف احكامنا فليرضوا به حكما ، فاني قد جعلته عليكم حاكما ، فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل فانما بحكم الله استخف ...) الى آخر الحديث.

ولا اشكال بحسب هذه الروايات في ثبوت منصب القضاء ونفوذ حكم المجتهد المطلق الذي يرى الانفتاح. اما المجتهد المطلق فلوضوح ان المراد من معرفة احكامهم هو معرفتها بالقوة لتحقق الملكة عنده القادر بها على معرفة كل حكم اراد استنباطه واراد معرفته بالفعل ، فجعل منصب القضاء للمجتهد المطلق الذي يرى الانفتاح مما لا اشكال فيه ، لصراحة قوله عليه‌السلام ـ (فلينظر الى رجل منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا) ـ على جعل الحاكم الذي اخذ حكمه من النظر فيما ورد عنهم من الحلال والحرام وهو المجتهد المطلق .. واما المتجزئ فسيأتي الكلام فيه ان شاء الله تعالى.

ولكن الاشكال في ثبوت منصب القضاء للمجتهد المطلق الذي يرى الانسداد من باب الحكومة.

واما من يراه على نحو الكشف ، فان قلنا ان الظاهر من قوله عليه‌السلام من عرف احكامنا هو معرفة الحكم المجعول منهم مطلقا ـ سواء الحكم الفرعي او الاصولي ـ فلا اشكال في شمول الروايات له وثبوت منصب القضاء له ونفوذ حكمه. وان قلنا بان المنصرف من قوله عليه‌السلام من عرف احكامنا هو معرفة خصوص الحكم الفرعي

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ج ٣ ـ ح ٣٢١٦.

(٢) وسائل الشيعة ج ١٨ ، باب ١١ من ابواب صفات القاضي حديث ٦.

٢٥٦

أشرت آنفا ليس ممن يعرف الاحكام ، مع أن معرفتها معتبرة في الحاكم ، كما في المقبولة (١) ، إلا أن يدعى عدم القول بالفصل ، وهو وإن كان غير

______________________________________________________

ففي ثبوت منصب القضاء له ونفوذ حكمه اشكال ، كالاشكال في ثبوت المنصب لمن يرى الانسداد على نحو الحكومة. وحيث كان الانسداد على نحو الحكومة هو القدر المتيقن في الاشكال لذلك خصه بالذكر.

وقد اشار الى ثبوت المنصب للمجتهد المطلق الذي يرى الانفتاح بقوله : «وكذلك لا خلاف ولا اشكال في نفوذ حكم المجتهد المطلق اذا كان باب العلم والعلمي له مفتوحا». واشار الى الاشكال في ثبوت المنصب لمن يرى الانسداد على نحو الحكومة بقوله : «واما اذا انسد عليه بابهما» أي باب العلم والعلمي «ففيه اشكال» أي ان الاشكال في ثبوت المنصب لمن يرى الانسداد «على الصحيح من تقرير المقدمات على نحو الحكومة» والوجه في قوله على الصحيح ظاهر ، لان رأيه (قدس‌سره) هو كون نتيجة مقدمات الانسداد هي الحكومة دون الكشف.

(١) حاصل الاشكال في ثبوت منصب القضاء لمن يرى الانسداد على نحو الحكومة : ان الظاهر من المقبولة وغيرها من الروايات الدالة على جعل منصب القضاء للمجتهد هو معرفة احكامهم ، اما بجعل الحكم على طبق ما ورد عنهم من الروايات الحاكية لكلامهم ، او بجعل الحجية المنجزة والمعذرة ، ولا جعل من الشارع في مورد الانسداد على نحو الحكومة لا للحكم على طبق الظن ولا للظن في التنجيز والتعذير ، لأن حجية الظن الانسدادي من باب الحكومة انما هو لحكم العقل بحجيته ولا دخل للشارع في جعله اصلا ، وعلى هذا فلا يكون مشمولا للروايات الدالة على جعل منصب القضاء لمن يرى الانسداد من باب الحكومة.

والى هذا اشار بقوله : «فان مثله» أي ان مثل من يرى الانسداد من باب الحكومة «كما اشرت آنفا» أي في مقام الاشكال في تقليده من حيث عدم شمول الروايات له لانه «ليس ممن يعرف الاحكام» كما عرفت «مع ان معرفتها» أي مع

٢٥٧

بعيد ، إلا أنه ليس بمثابة يكون حجة على عدم الفصل (١) ، إلا أن يقال بكفاية انفتاح باب العلم في موارد الاجماعات والضروريات من الدين

______________________________________________________

ان معرفة الاحكام ـ اما بنحو التنجيز ، او بنحو جعل الحكم على طبق الامارة مما قد دل عليها الروايات ، كظاهر قوله عليه‌السلام في المقبولة ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف احكامنا ومثل ذلك في غير المقبولة ـ يدل على جعل المنصب لمن عرف الاحكام باحد النحوين على الخلاف في الحجية. وعلى كل فالمعرفة المذكورة «معتبرة في الحاكم كما في المقبولة» وغيرها من الروايات.

(١) حاصله : ان دعوى عدم القول بالفصل عندهم بين المجتهد الذي يرى الانفتاح والمجتهد الذي يرى الانسداد ـ ولو بنحو الحكومة ـ غير بعيدة ، لانه لم يظهر من احد استثناء المجتهد الذي يرى الانسداد بنحو الحكومة عن منصب القضاء. إلّا ان دعوى عدم القول بالفصل لا تفيد ، لان عدم القول بالفصل ليس من دعوى الاجماع ، بل المفيد هو دعوى القول بعدم الفصل التي مرجعها الى دعوى الاجماع على عدم الفصل ، والفرق بينهما واضح. ومن الواضح ايضا ان عدم القول ليس هو قولا بالعدم ولا يستلزمه.

وينبغي ان لا يخفى انه انما لم يستبعد في المقام دعوى الاجماع كما استبعده في مقام التقليد لمن يرى الانسداد على نحو الحكومة ، هو ان الموضوع في التقليد هو العالم بالحكم ، والانسدادي على الحكومة لا علم له بالحكم لا واقعا ولا ظاهرا لا في الحكم الفرعي ولا في الحكم الاصولي ، لان حجيته من باب حكم العقل ، وحيث ان المسألة مستحدثة فلا وجه لدعوى الاجماع فيها. وهذا بخلاف المقام وهو القضاء فان موضوعه من عرف احكامهم أي جملة منها ، وهذا المقدار هو الموضوع لنفوذ قضاء المجتهد وان كان الحكم الذي يحكم به لم يستنبطه من حجة مجعولة ، بل كان مستنبطا مما قام العقل على حجيته كالقطع. فدعوى الاجماع في المقام ترجع الى الاجماع على ان الموضوع لنفوذ حكم المجتهد هو معرفة جملة من الاحكام ، وان لم يكن الحكم

٢٥٨

أو المذهب ، والمتواترات إذا كانت جملة يعتد بها ، وإن انسد باب العلم بمعظم الفقه ، فإنه يصدق عليه حينئذ أنه ممن روى حديثهم (عليهم‌السلام) ونظر في حلالهم (عليهم‌السلام) وحرامهم (عليهم‌السلام) : وعرف أحكامهم عرفا حقيقة (١).

______________________________________________________

الذي يحكم به مستنبطا عن حجة مجعولة. فكون المسألة من المسائل المستحدثة لا تضر بعد ان كان مرجع الاجماع هو ان الموضوع للنفوذ هو معرفة جملة من الاحكام ، ولذلك لم يستبعد دعوى الاجماع في المقام كما نفاها في مقام التقليد .. والحاصل : ان التقليد رجوع الجاهل بالحكم الى العالم بالحكم ، والقاضي هو جعله قاضيا لقيام الحجة عنده بالحكم. وسيأتي التنظر منا في ما قاله (قدس‌سره).

وقد اشار (قدس‌سره) الى عدم البعد في دعوى عدم القول بالفصل بقوله : «وهو» أي ادعاء عدم القول بالفصل «وان كان غير بعيد». واشار الى انه غير مقيد لعدم كونه اجماعا بقوله : «إلّا انه ليس بمثابة يكون حجة على عدم الفصل» أي انه ليس هو قولا بعدم الفصل ، والنافع هو القول بعدم الفصل ، لا عدم القول بالفصل.

إلّا ان يقال : ان دعوى كون الموضوع للقضاء هو معرفة جملة من الاحكام ، وان لم يكن الحكم الذي يحكم به مستنبطا عن حجة ، لا تخلو عن اشكال ، لان السبب في الارجاع الى الناظر هو كونه ممن يعرف الحجة الواردة عنهم على الحكم لا انه له الموضوعية.

(١) حاصله : ان من يرى الانسداد انما يراه في معظم الاحكام ، وإلّا فجملة من الاحكام لا انسداد فيها قطعا ، كالاحكام التي دلت عليها الاخبار المتواترة ، والاحكام التي كانت من ضروريات الدين كوجوب الصلاة والصوم ، او من ضروريات المذهب كمتعة النكاح والحج ، والاحكام التي قامت عليها الاجماعات القطعية. وهذه الاحكام المستفادة من الادلة الثلاثة المذكورة بها يحصل الموضوع في

٢٥٩

وأما قوله (عليه‌السلام) في المقبولة فإذا حكم بحكمنا فالمراد أن مثله إذا حكم كان بحكمهم حكم ، حيث كان منصوبا منهم ، كيف وحكمه غالبا يكون في الموضوعات الخارجية ، وليس مثل ملكية دار لزيد أو زوجية

______________________________________________________

جعل منصب القضاء لمن يرى الانسداد ، لانه بمعرفته لهذه الاحكام يصدق عليه انه عرف احكامنا ، لوضوح ان المراد من معرفة احكامهم ليس معرفة جميع احكامهم ، لعدم حصول ذلك لاحد اصلا لا من المجتهدين الذين يرون الانفتاح ولا غيرهم من اهل الانسداد ، فلا بد وان يكون المراد بمعرفة احكامهم معرفة جملة منها. واذا تحقق الموضوع لمن يرى الانسداد كان حاكما بجعل الشارع ، وكان حكمه نافذا لشمول الروايات له بعد تحقق موضوعها فيه ، فله الحكم والقضاء وان كان حكمه في مورد القضاء مستندا الى الظن الانسدادي.

والحاصل : ان الموضوع في الروايات لجعل منصب القضاء للمجتهد هو ان يصدق عليه انه ممن روى حديثهم كما في بعض الروايات ، وان يصدق عليه انه ممن نظر في حلالهم وحرامهم ، وان يصدق عليه انه ممن عرف احكامهم. ولا اشكال ان من حصل جملة من احكامهم من الطرق الثلاثة المذكورة يصدق عليه العناوين المزبورة صدقا حقيقيا عند العرف ، فيكون مشمولا للروايات وان كان يرى الانسداد في معظم الفقه.

إلّا ان يدعى ان الظاهر من الجعل انه يعرف احكامهم وحلالهم وحرامهم مما ورد عنهم لا من الانسداد ، فليست معرفة احكامهم من باب الموضوعية. واما ان معرفة جميع احكامهم لا تحصل لاحد حتى المجتهدين الذين يرون الانفتاح لا يوجب الموضوعية ، لقدرة المجتهد الانفتاحي على معرفة الحكم من ما ورد عنهم عليهم‌السلام متى اراده بخلاف الانسدادي. وعبارة المتن واضحة.

٢٦٠