بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-065-9
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٣٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الخاص الاول ، وانما كان ظهوره بالنسبة اليه خياليا ، وعليه فلا بد من انقلاب النسبة بينه وبين الخاص الثاني لعدم ظهور مستقر للعام بالنسبة الى الخاص الاول ، وحيث لا يكون له ظهور مستقر فهو كما لو لم يكن للعام ظهور في الاطلاق من الاول ، بل كان ظهوره الاولي هو العموم من وجه ، وعليه فلا بد من معاملة العموم من وجه بين العام والخاص الثاني ، لانكشاف كون العام ليس من العام المطلق بالنسبة اليه ، بل النسبة المستقرة بينهما هي العموم من وجه.

الثاني : ان التعارض بين الدليلين بنحو العموم والخصوص الذي هو مورد الجمع الدلالي انما هو بين العام بما هو حجة فعلا والخاص ، والمفروض ان العام بعد تخصيصه بالخاص الاول لا يكون العام ـ بما هو عام مطلقا ـ بحجة فعلا بالنسبة الى الخاص الثاني ، بل يكون ـ بما هو عام من وجه ـ فعلا حجة بالنسبة الى الخاص الثاني. وملاحظة الحجتين بنحو العموم والخصوص المطلق انما يقتضي حمل الظاهر الذي هو العام المطلق على الاظهر وهو الخاص ، وتخصيصه به حيث لا يكون مخصصا بالخاص الاول. اما بعد تخصيص العام بالخاص الاول فلا يكون الخاص اظهر من العام في مورد الخاص ، لعدم كون العام بعد تخصيصه بالاول عاما مطلقا بالنسبة الى هذا الخاص الثاني ، بل يكون حال العام بعد تخصيصه بالاول حال الخاص الثاني في الظهور ، لانه بالنسبة اليه عام من وجه ، فلا موجب لحمله على الخاص الثاني وتخصيصه به ، بل لا بد من ملاحظة نسبة العموم من وجه بينهما.

والى ما ذكرنا اشار بقوله : و «توهم انه اذا كان هناك عام وخصوصات وقد خصص» العام «ببعضها» كما لو كان احد الخاصين واردا قبل ورد الخاص الثاني فإنّه «كان اللازم» على هذا «ملاحظة النسبة بينه» أي بين العام «وبين سائر الخصوصات بعد تخصيصه به» أي بعد تخصيصه بذلك البعض السابق «فربما تنقلب النسبة» بين العام والخصوصات المتأخرة من العموم المطلق «الى عموم وخصوص من وجه فلا بد» حينئذ «من رعاية هذه النسبة» وهي نسبة العموم من وجه «و»

١٦١

وفيه : إن النسبة إنما هي بملاحظة الظهورات ، وتخصيص العام بمخصص منفصل ولو كان قطعيا لا ينثلم به ظهوره ، وإن انثلم به حجيته ، ولذلك يكون بعد التخصيص حجة في الباقي ، لاصالة عمومه بالنسبة إليه (١).

______________________________________________________

بناء على شمول ادلة العلاج للعامين من وجه يلزم «تقديم الراجح منه» أي من العام «ومنها» أي ومن الخصوصات المتأخرة «او التخيير بينه» أي بين العام «وبينها ...» أي وبين تلك الخصوصات «لا تقديمها» أي لا تقديم تلك الخصوصات عليه ، كما في المثال المتقدم وهو اكرم العلماء ، وورود يحرم اكرام فساق النحاة والصرفيين أولا ، ثم ورود يحرم اكرام فساق العلماء. فان النسبة بين اكرم العلماء ويحرم اكرام فساق العلماء تكون هي العموم من وجه ، بعد تخصيص اكرم العلماء بالخاص الاول وهو يحرم اكرام فساق النحاة والصرفيين.

نعم اذا كان العام بعد تخصيصه بالخاص الاول باقيا على عمومه المطلق بالنسبة الى الخاص الثاني ـ كما اذا ورد اكرم العلماء ، ثم ورد اولا يحرم اكرام النحاة من العلماء ، ثم ورد بعده يحرم اكرام العلماء الصرفيين ـ فانه لا مانع حينئذ من تخصيص اكرم العلماء بالخاص الثاني ، لبقائه على نسبة العموم المطلق بالنسبة اليه.

والى هذا اشار بقوله : «إلّا اذا كانت النسبة بعده» أي بعد تخصيص العام بالخاص الاول «على حالها» من العموم المطلق بالنسبة الى الخاص الثاني.

ولا يخفى ان المصنف لم يشر الى وجه القول بالانقلاب ، وقد اشرنا الى وجهين للانقلاب فلا تغفل ...

(١) وتوضيحه ـ بحيث يكون جوابا عن الوجهين ـ يتوقف على امور :

الاول : ان هنا أصلين عقلائيين : الاول منهما : ان اللفظ في مقام التخاطب عند العقلاء هو الوجه الفاني في المعنى للعلقة المتحققة بينه وبين المعنى اما للوضع او

١٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

للقرينة ، وهذا هو الظهور الاستعمالي ، وهذا الظهور محفوظ بين اللفظ والمعنى وان علمنا بعدم ارادته جدا.

الثاني منهما : بناء العقلاء على ان إلقاء اللفظ الذي له ظهور في المعنى ـ اما بالذات لاجل الوضع او بالعرض لاجل القرينة ـ كاشف عن كونه هو المراد بالارادة الجدية. وتقديم الخاص على العام انما يزاحم الاصل الثاني ، لكشفه ان العام لم يرد على عمومه بالارادة الجدية دون الاصل الاول ، لوضوح كون اللفظ وجها للمعنى اما بالذات او بالعرض محفوظا وان لم يكن هو المراد واقعا.

الامر الثاني : ان التعارض بسبب الدليلين هو تنافيهما في الاصل الاول ، لوضوح انه لو لم يكن بينهما في ظهورهما الاستعمالي تناف لا يكونان من المتعارضين حتى نحتاج الى الجمع الدلالي او للترجيح او التخيير.

الامر الثالث : ان كون الدليل حجة بالفعل مورده الاصل الثاني ، وهو كشفه عن الارادة الجدية.

وبيان ذلك : ان المدار على الكشف عن الارادة الجدية في مقام الحجية الفعلية. فاذا لم يكن تخصيص للعام كشف ذلك عن ان العام هو المراد بالارادة الجدية ، واذا كان له مخصص كشف ذلك عن ان المراد بالارادة الجدية من العام هو ما عدا الخاص ، فتكون الحجة الفعلية للمراد بالارادة الجدية. ومن البين انه ليس كون الدليل بما هو حجة بالفعل هو مدار التعارض ، لبداهة انه بعد فرض التعارض بين الدليلين تكون الحجية الفعلية بعد تمامية الجمع بينهما او تقديم احدهما ، فلا بد وان يكون مورد التعارض ما قبل الحجية الفعلية وهو الظهور الاستعمالي ، وهو كون اللفظ له ظهور في معنى ينافي ظهور اللفظ الآخر بخلافه.

الامر الرابع : ان مبنى المتأخرين ـ تبعا لسلطان العلماء ـ ان تخصيص العام لا يستلزم مجازيته ، لان الخاص انما يتقدم على العام من جهة الارادة الجدية لا في

١٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

مقام الاستعمال ، لعدم المنافاة بين كون اللفظ العام مستعملا حقيقة في معناه العمومي ، وكون هذا المعنى الحقيقي غير مراد جدا وواقعا.

اذا عرفت هذه الامور ، تعرف فساد الوجهين : اما الوجه الاول ، فلأن ظهور اللفظ في المعنى ليس بظهور خيالي بعد التخصيص ، بل العام بعد تخصيصه لا يزال ظهوره الاستعمالي باقيا ، لبداهة ان كون اللفظ قالبا لمعناه لا يزول عنه وان لم يكن مرادا بالارادة الجدية ، بل كون اللفظ قالبا لمعناه لا ينقلب عما هو عليه ، لعدم معقولية انقلاب ما فرض كونه قالبا لمعنى عن كونه قالبا له ، وانما يكون مورد التخصيص في مقام الكشف عن الارادة الجدية ، وفي هذا المقام يتقدم الخاص على العام. فاتضح ان تقدم الخاص على العام في الارادة الجدية لا يزاحم استقرار ظهور العام في عمومه.

واما الوجه الثاني : فلما عرفت من ان مورد التعارض ليس هو الحجية الفعلية ، بل مورده هو الظهور الاستعمالي ، لما اشرنا اليه من ان الحجية الفعلية هي مقام كشف الدليل عن الارادة الجدية ، وهو انما يكون بعد التعارض وبعد الجمع الدلالي بين الدليلين او ترجيح احدهما او التخيير بينهما.

فاتضح مما ذكرنا : انه لا وجه لتوهم انقلاب النسبة ، لان العام لا يزال بحسب ظهوره الاستعمالي ـ الذي هو مورد التعارض بينه وبين الخاص الثاني ـ باقيا على حاله من كونه عاما مطلقا بالنسبة الى الخاص الثاني ، ولا ينقلب عن ظهوره الاستعمالي في الاطلاق ، وان خصص بالخاص الاول اما لوروده قبل الخاص الثاني او لكونه قطعيا ، لان الخاص الاول انما زاحم العام في الارادة الجدية ، لا في ظهوره الاستعمالي الذي هو مقام التعارض.

والحاصل : ان العام والخاص يتعارضان في الظهور الاستعمالي ، ويتقدم الخاص على العام في الارادة الجدية ، فلا ينثلم بتقديم الخاص على العام ظهور العام الاستعمالي في معناه اصلا. والى ما ذكرنا اشار بقوله : «وفيه ان النسبة» بين العام

١٦٤

لا يقال : إن العام بعد تخصيصه بالقطعي لا يكون مستعملا في العموم قطعا ، فكيف يكون ظاهرا فيه (١)؟

______________________________________________________

والخاص «انما هي بملاحظة الظهورات» وفي هذا المقام يكون التعارض «و» مقام «تخصيص العام بمخصص منفصل» وتقديم الخاص المنفصل على العام انما هو بملاحظة الارادة الجدية لا بملاحظة الظهور الاستعمالي ، فتخصيص العام بالخاص المنفصل «ولو كان» الخاص «قطعيا» من كل جهة «لا ينثلم به ظهوره» أي ظهور العام الاستعمالي «وان انثلم به حجيته» الفعلية وهي مقام الكشف عن الارادة الجدية «ولذلك يكون» العام «بعد التخصيص حجة في الباقي» لبقاء ظهوره الاستعمالي بحيث يكون شاملا للباقي ، وحيث لا تخصيص للعام بالنسبة الى الباقي فيكون كاشفا عن كون الباقي مرادا بالارادة الجدية «لاصالة عمومه بالنسبة اليه» أي الى الباقي في المقامين : في مقام الظهور الاستعمالي ، وفي مقام الكشف عن الارادة الجدية بالنسبة اليه.

(١) لا يخفى ان مبنى لا يقال على غير مذهب سلطان العلماء ، بل على ما ينسب الى المشهور : من كون العام بعد تخصيصه يكشف عن استعماله مجازا في غير العموم.

فحاصل لا يقال : ان العام بعد تخصيصه بالخاص ـ المقطوع تخصيصه به اما لكونه قطعيا او لكونه واردا قبل الخاص الثاني ـ يكون كاشفا عن استعماله مجازا في غير العموم ، ومع هذا الكشف يكون التخصيص كاشفا عن ان ظهور العام الاستعمالي هو غير العموم ، ومع عدم كون العام له ظهور في العموم .. كيف تكون النسبة بينه وبين الخاص الثاني هي العموم المطلق؟

واشار الى ان لا يقال مبني على مذهب المشهور بقوله : «ان العام بعد تخصيصه بالقطعي لا يكون مستعملا في العموم» وبقوله (قدس‌سره) : «فكيف يكون ظاهرا فيه» اشار الى انه يتفرع على كشف التخصيص عن استعمال العام في غير عمومه هو عدم ظهوره الاستعمالي في العموم.

١٦٥

فإنه يقال : إن المعلوم عدم إرادة العموم ، لا عدم استعماله فيه لإفادة القاعدة الكلية ، فيعمل بعمومها ما لم يعلم بتخصيصها (١) ، وإلا لم يكن وجه في حجيته في تمام الباقي ، لجواز استعماله حينئذ فيه وفي غيره من المراتب التي يجوز أن ينتهي إليها التخصيص (٢) ، وأصالة عدم

______________________________________________________

(١) حاصله : ان المبنى الصحيح هو كون الخاص يتقدم على العام في مقام الارادة الجدية دون الارادة الاستعمالية ، فلا يكشف التخصيص عن استعمال العام في غير عمومه ، بل العام بعد التخصيص باق على ظهور في العموم في مقام الاستعمال ، وهو لا يزال مستعملا في عمومه ، ولذا قال (قدس‌سره) : «ان المعلوم» بعد تخصيص العام هو «عدم ارادة العموم» من العام جدا «لا عدم استعماله فيه» أي في العموم ، بل هو باق على حاله من استعماله في العموم «لإفادة القاعدة الكلية فيعمل بعمومها» وهو كون العام حجة في الباقي ، لتحقق كلا الاصلين بالنسبة الى الباقي : لاصالة ظهور العام في العموم في مقام الاستعمال ، واصالة كشف هذا الظهور عن الارادة الجدية بالنسبة الى الباقي فيعمل على طبقها «ما لم يعلم بتخصيصها».

(٢) يشير الى الاستدلال على كون العام بعد التخصيص باقيا على ظهوره الاستعمالي في العموم ، ولا يكون التخصيص موجبا لكونه مستعملا في غير العموم مجازا ... وتوضيح ذلك : ان الكلام فعلا بالنسبة الى ظهور العام بحسب الدلالة اللفظية دون الدلالة الاطلاقية فانه سيشير اليها بقوله : «نعم ربما يكون».

وحاصل الاستدلال : انه لو كان التخصيص كاشفا عن استعمال العام في غير العموم لاستلزم ذلك عدم حجية العام في الباقي ، لان الاستعمال المجازي يحتاج الى قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي وقرينة معينة في المعنى المجازي ، والتخصيص انما يفي بكونه قرينة صارفة ، لوضوح عدم كونه قرينة معينة لما استعمل فيه العام ، لبداهة ان الخاص لا يدل إلّا على خروجه عن العام ، من دون دلالة للخاص على المعنى

١٦٦

مخصص آخر لا توجب انعقاد ظهور له ، لا فيه ولا في غيره من المراتب ، لعدم الوضع ولا القرينة المعينة لمرتبة منها ، كما لا يخفى ، لجواز إرادتها وعدم نصب قرينة عليها (١).

______________________________________________________

المستعمل فيه العام ، ولازم ذلك هو كونه القرينة الصارفة عن استعمال العام في عمومه ، فتبقى جهة استعماله في أي معنى من المعاني غير العموم تحتاج الى القرينة الاخرى المعينة والمفروض عدمها. واحتمال كونه مستعملا في الباقي كاحتمال استعماله في غيره من المراتب الأخر ، عدا المرتبة التي لا يجوز ان ينتهي اليها استعمال العام فيها لمحذور الاستهجان.

والى هذا اشار بقوله : «وإلّا» أي وان لم يكن العام مستعملا في عمومه ، بان كان التخصيص كاشفا عن استعماله في غير العموم مجازا «لم يكن وجه في حجيته في تمام الباقي لجواز استعماله حينئذ» أي بعد قيام القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي «فيه» أي في تمام الباقي «وفي غيره من المراتب التي يجوز ان ينتهي اليها التخصيص» ولا قرينة معينة لاحد الاحتمالات كما عرفت.

(١) حاصله : الاشارة الى امكان ان يتوهم ان هناك أصلا يكون هو القرينة المعينة في كون العام مستعملا في تمام الباقي.

وبيانه : ان العام قبل ورود المخصص له كان حجة في العموم ، فلو شككنا في تخصيصه فاصالة عدم المخصص له توجب رفع هذا الشك عملا وبقاءه على الحجية بالنسبة الى جميع افراده ، وبعد ورود المخصص له ارتفعت حجية العام بالنسبة الى المخصص الوارد عليه ، ولا موجب لرفع حجيته بالنسبة الى بقية افراده ، واحتمال ورود مخصص له بالنسبة الى بقية الافراد منفي باصالة عدم مخصص آخر له. فحيث كان له اقتضاء الحجية بالنسبة الى الباقي ، ورفع احتمال المخصص الآخر باصالة عدمه ، يكون هذا هو القرينة المعينة لاستعماله في الباقي.

١٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

والجواب عنه أولا : ان كون العام كان له اقتضاء الحجية بالنسبة الى الباقي انما هو حيث يكون مستعملا في العموم ، وبعد انكشاف عدم استعماله في العموم بواسطة المخصص الوارد عليه فلا يكون له اقتضاء الحجية بالنسبة الى الباقي لكشف عدم استعماله في العموم ، ونفس رفع المانع باصالة عدم مخصص آخر لا يوجب له ظهورا في كونه حجة في الباقي لعدم احراز الاقتضاء ، واحتمال استعماله في الباقي وفي غيره من المراتب على حد سواء.

وثانيا : ان اصالة عدم المخصص الآخر ان كان المراد منه انه من الاصول العقلائية كاصالة عدم القرينة ، فقد عرفت انه انما ينفع بعد احراز الاقتضاء ، ولا اقتضاء لعدم الاستعمال في العموم كما هو مقتضى كشف الخاص عن عدم استعماله في العموم. وان كان المراد منه هو الاستصحاب ففيه أولا : انه مثبت لأن لازم جريان عدم المخصص هو استعماله في الباقي ، ولازم ذلك ظهوره فيه ، ولازم ظهوره هو كونه حجة في الباقي. وثانيا : ان الكلام فيما يكون موجبا للظهور اللفظي ، والاستصحاب من الاصول العملية لا يفيد ظهورا لفظيا.

فاتضح مما ذكرنا : ان اصالة عدم المخصص الآخر لا توجب ظهورا لفظيا ، سواء كانت من الاصول العقلائية او كانت هي الاستصحاب. هذا بالنسبة الى حجية العام بالنسبة الى تمام الباقي.

واما بالنسبة الى حجيته بالنسبة الى اقل المراتب التي يجوز ان ينتهي اليها التخصيص : بدعوى انها هي القدر المتيقن .. ففيه : ان كونها قدرا متيقنا لا توجب ظهورا في مقام الاستعمال ، وانما توجب كونها مراده ، والكلام فيما يوجب الظهور الاستعمالي. ولذا قال (قدس‌سره) : «واصالة عدم مخصص آخر لا توجب انعقاد ظهور له» أي للعام «لا فيه» أي لا في تمام الباقي «ولا في غيره من المراتب لعدم الوضع» وهو واضح لكون العام لم يوضع الا للعموم «ولا القرينة المعينة لمرتبة منها» أي وليس هناك قرينة معينة توجب كون العام ظاهرا في استعماله فيها «كما

١٦٨

نعم ربما يكون عدم نصب قرينة مع كون العام في مقام البيان قرينة على إرادة التمام ، وهو غير ظهور العام فيه في كل مقام (١).

______________________________________________________

لا يخفى» وحيث لا تكون هناك قرينة معينة فلا مانع من احتمال ارادة تمام الباقي وارادة غيره من المراتب ، ولا معين لاستعماله مجازا في احدها. والى هذا اشار بقوله : «لجواز ارادتها وعدم نصب قرينة عليها» كما عرفت من عدم وجود القرينة المعينة.

(١) بعد ما فرغ من ان العام حيث لا يكون مستعملا في العموم لا وجه لدعوى ظهوره الاستعمالي لا في تمام الباقي ولا في غيره من المراتب .. اشار الى انه ربما يكون للعام ظهور بواسطة مقدمات الحكمة بالنسبة الى تمام الباقي ، ولكن احراز تمام الباقي بواسطة الاطلاق المستفاد من مقدمات الحكمة لا يوجب كون العام ظاهرا في استعماله فيه دائما ، لانه انما يكون له هذا الظهور حيث تتم مقدمات الحكمة.

وبعبارة اخرى : ان دعوى كون العام بمجرد تخصيصه يكون ظاهرا في تمام الباقي دائما للقرينة المعينة غير دعوى احراز ظهوره في الباقي بواسطة مقدمات الحكمة ، فانه انما يكون ذلك حيث تتم مقدمات الحكمة ، وذلك بان يحرز أن المتكلم في مقام بيان الحكم لهذه الافراد ، وقد جرى ديدنه على ان يذكر عاما ثم يخرج منه بعض الافراد بنحو التخصيص ، فانه حينئذ يكون المتكلم بحيث لو لم يرد تمام الباقي للزم نقض غرضه ، اذ لو كانت غير افراد هذا المخصص خارجة أيضا للزم عليه بيانها ، وإلّا كان ناقضا لغرضه ، ففي مثل هذا المقام يكون للعام ظهور ببركة مقدمات الحكمة في تمام الباقي ، ولا يكون للعام ظهور في تمام الباقي دائما وان لم يحرز ذلك.

والى ما ذكرنا أشار بقوله : «نعم ربما يكون عدم نصب قرينة» اخرى على التخصيص «مع كون العام» قد سيق «في مقام البيان» لحكم هذه الافراد «قرينة على ارادة التمام» أي ان نفس عدم نصب القرينة على تخصيص آخر مع احراز البيان المذكور يكون قرينة على إرادة تمام الباقي ، وإلّا لزم نقض الغرض. وأشار الى

١٦٩

فانقدح بذلك أنه لا بد من تخصيص العام بكل واحد من الخصوصات مطلقا ، ولو كان بعضها مقدما أو قطعيا (١) ، ما لم يلزم منه محذور انتهائه إلى ما لا يجوز الانتهاء إليه عرفا ، ولو لم تكن مستوعبة لافراده ، فضلا عما إذا كانت مستوعبة لها ، فلا بد حينئذ من معاملة التباين بينه وبين مجموعها (٢) ومن ملاحظة الترجيح بينهما وعدمه ، فلو رجح جانبها أو

______________________________________________________

ان دعوى ظهور العام في بعض المقامات في تمام الباقي غير دعوى ظهوره مطلقا فيه بقوله : «وهو غير» دعوى «ظهور العام فيه في كل مقام».

(١) حاصله : انه بعد ما عرفت من كون العام مستعملا في العموم وان كان مخصصا ، وان التعارض انما يكون في مقام الظهور الاستعمالي ... تعرف انه لا وجه لدعوى انقلاب النسبة في العام بعد تخصيصه باحد المخصصات اما لكونه قطعيا دون غيره من بقية المخصصات ، او لكونه واردا قبل زمان ورود بقية المخصصات ، ولا بد من تخصيصه بكل مخصص يرد عليه ، من دون فرق بين المخصص القطعي او الاول وبقية المخصصات ، لان نسبته الى جميعها نسبة العموم المطلق. وقد اشار الى ذلك بقوله : «فانقدح بذلك» أي مما مر بيانه «انه لا بد من تخصيص العام بكل واحد من الخصوصات مطلقا ولو كان بعضها مقدما» في الزمان «او قطعيا» لان نسبة العام الى جميعها نسبة العموم المطلق.

(٢) لما فرغ من عدم صحة انقلاب النسبة ، وانه لا بد من تخصيص العام بكل واحد من الخصوصات ، ولا فرق بين القطعي او الاول ورودا منها وبين سائر الخصوصات غير القطعية او المتأخرة ... اشار الى ما مرت الاشارة اليه : من ان ذلك حيث لا يكون تخصيص العام موجبا لاستيعابه أو انتهائه الى ما يستهجن عرفا سوق العام اليه.

١٧٠

اختير فيما لم يكن هناك ترجيح فلا مجال للعمل به أصلا ، بخلاف ما لو رجح طرفه أو قدم تخييرا ، فلا يطرح منها إلا خصوص ما لا يلزم مع طرحه المحذور من التخصيص بغيره (١) ، فإن التباين إنما كان بينه وبين

______________________________________________________

والاول كما مر ان يرد يجب اكرام العلماء ، ثم يرد استحباب اكرام العلماء العدول وحرمة اكرام فساق العلماء. فان العام بعد اخراج العدول والفساق منه لا يبقى له مصداق اصلا ، ولازم ذلك لغوية الحكم بوجوب اكرام العلماء.

الثاني : كما لو ورد يجب اكرام العلماء ، ثم ورد يستحب اكرام العدول منهم عدا زيد العالم العادل ، ثم ورد يحرم اكرام فساق العلماء. فان لازم ذلك كون وجوب اكرام العلماء مسوقا الى اكرام زيد العالم العادل ، وذلك مما يستهجن عرفا.

ففي مقام استيعاب التخصيص او لزوم انتهاء العموم الى ما يستهجن سوقه اليه ـ بناء على عدم الانقلاب ـ يقع التعارض بين العام ومجموع الخاصين ، لانه مع عدم الانقلاب يكون الخاصان في رتبة واحدة بالنسبة الى العام فيقع التعارض بينه وبين المجموع منهما.

وقد اشار الى ان محذور الانتهاء الى ما يستهجن عرفا كمحذور الاستيعاب بقوله : «ما لم يلزم منه محذور انتهائه الى ما لا يجوز الانتهاء اليه عرفا ولو لم يكن مستوعبة ... الى آخر الجملة». واشار الى انه في هذين المقامين يقع التعارض بنحو التباين بين العام ومجموع الخصوصات بقوله : «فلا بد من معاملة التباين بينه» أي بين العام «ومجموعها».

(١) حاصله : انه لما كانت القاعدة الثانوية في المتعارضين بنحو التباين هو الترجيح او التخيير ، فلا بد من ملاحظة الترجيح او التخيير بين العام ومجموع الخصوصات. والى هذا اشار بقوله : «ومن ملاحظة الترجيح بينهما وعدمه» وهو التخيير.

والصور التي اشار اليها والى احكامها في المتن أربع :

١٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

الاولى : ان يترجح الخصوصات سندا على العام بحيث يستلزم طرح العام سندا ولا اشكال في هذه الصورة في الاخذ بالخصوصات ، ولا يكون تعارض بين الخصوصات بالذات ، لفرض كون الموضوع في كل منهما غير الموضوع في الآخر ولا منافاة بينهما اصلا ، لوضوح عدم المنافاة بين استحباب اكرام العدول من العلماء وحرمة اكرام فساق العلماء ، ولا تعارض بينهما بالعرض ، لانه انما يكون مجال للتعارض بينهما بالعرض حيث يؤخذ بالعام كما سيأتي بيانه.

الصورة الثانية : ان يتساوى العام والخصوصات سندا ، ولكنه يختار جانب الخصوصات. وفي هذه الصورة يكون العام بحكم العدم ، فالحكم فيها هو الحكم في الصورة الاولى ، لعدم التعارض بين الخصوصات لا بالذات ولا بالعرض.

الصورة الثالثة : ان يترجح العام سندا على الخصوصات.

الصورة الرابعة : ان يتساويا ولكن يختار العام.

والحكم في هاتين الصورتين ايضا واحد كما كان واحدا في الصورة الاولى والثانية.

وتوضيح الحال فيهما : انه لما كان السبب في وقوع التعارض بنحو التباين بين العام والخصوصات انما هو لاستلزام التخصيص الانتهاء الى ما لا يجوز الانتهاء اليه عرفا ، ففيما قبل هذه المرتبة لا تعارض بين العام والخصوصات بنحو التباين ، بل لا بد من تقديم الخصوصات جميعها عليه للجمع العرفي وعدم صحة الانقلاب. ولما كان الفرض في هاتين الصورتين تقديم العام عند التعارض بينه وبينها ، فهو انما يتقدم عليها في مورد المعارضة التباينية بينه وبينها ، والمعارضة التباينية انما هي بين العام وخصوص المرتبة التي لا يجوز انتهاء التخصيص اليها ، لا في ما قبلها مما لا مانع من تقديم الخصوصات عليه للجمع العرفي ، وفي خصوص هذه المرتبة يتقدم العام وتطرح الخصوصات. اما فيما قبلها فلا بد من تخصيص العام لاقتضاء الجمع العرفي وعدم الانقلاب ذلك.

١٧٢

مجموعها لا جميعها ، وحينئذ فربما يقع التعارض بين الخصوصات فيخصص ببعضها ترجيحا أو تخييرا ، فلا تغفل.

هذا فيما كانت النسبة بين المتعارضات متحدة (١) ، وقد ظهر منه حالها فيما كانت النسبة بينها متعددة ، كما إذا ورد هناك عامان من وجه مع ما

______________________________________________________

والحاصل : ان لزم تقديم العام للترجيح او للاختيار في فرض التخيير انما هو في خصوص المرتبة التي لا يجوز ان ينتهي اليها التخصيص ، لان التعارض بنحو التباين بين العام والخصوصات انما هو فيها لا في غيرها ، ففي غيرها حيث لا تعارض بينهما بنحو التباين فلا بد من التخصيص للعام بها.

وقد اشار الى الصورتين الاوليين بقوله : «فلو رجح جانبها» أي جانب الخصوصات وهي الصورة الاولى «او اختير» وهي الصورة الثانية «فيما لم يكن هناك ترجيح» بان كانا متساويين ولكن اختيرت الخصوصات «فلا مجال» في كلتا هاتين الصورتين «للعمل به» أي للعمل بالعام «اصلا» اما في الاولى فلطرحه سندا ، واما في الثانية فلفرض العام بحكم العدم كما عرفت. واشار الى الصورة الثالثة بقوله : «بخلاف ما لو رجح طرفه» أي طرف العام بان كان ارجح منها سندا. والى الرابعة اشار بقوله : «او قدم» العام «تخييرا» لفرض تساويهما.

واشار الى ان تقديم العام على الخصوصات وطرحها للتعارض بنحو التباين انما هو في خصوص المرتبة التي لا يجوز انتهاء التخصيص اليها. واما فيما قبلها من المراتب فحيث لا تعارض بين العام وبينها بنحو التباين ، فلا بد من تقديمها عليه للجمع العرفي بقوله : «فلا يطرح منها» أي من الخصوصات «الا خصوص ما» يرتفع بسبب طرحه محذور الانتهاء الى ما لا يجوز الانتهاء اليه و «لا يلزم مع طرحه المحذور» المذكور فلا مانع «من التخصيص بغيره».

(١) توضيحه : انه لما كان التعارض بنحو التباين هو في خصوص المرتبة التي لا يجوز انتهاء التخصيص اليها ، وفي هذه المرتبة لا بد من طرح ما يستلزم التخصيص وتقديم

١٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

العام ، فالمتحصل من ذلك ان تقديم العام في خصوص هذه المرتبة لازم. فاذا كان ـ مثلا ـ يلزم حفظ خمسين فردا من مجموع الخاصين ليتقدم العام فيها ، فلازم ذلك وقوع التعارض العرضي بين الخاصين فيما اذا كان مجموع افراد العام مائة ، وكان كل واحد من الخاصين خمسين ، فلا محالة يقع التعارض بالعرض بين الخاصين ، وان أيهما يخصص به العام ، لعدم المانع من تخصيص العام به ، وأيهما يطرح حفظا لئلا ينتهي التخصيص الى ما لا يجوز الانتهاء اليه ، وحينئذ لا بد من ملاحظة التعارض بين هذين الخاصين ، فان كان احدهما ارجح سندا من الآخر اخذ الراجح وخصص به العام وطرح الخاص المرجوح ، وان كانا متساويين اختير احدهما وخصص به العام وطرح الآخر.

لا يقال : انه لا بد من ابقاء خمسين ، فلم لا يقسط الخمسون على الخاصين؟ فيطرح من كل واحد خمس وعشرون ، ويعمل بكل واحد من الخاصين في خمس وعشرين.

فانه يقال : لا وجه للتقسيط حيث ان افراد كل واحد من الخاصين بالنسبة الى عنوان الخاص متساوية ، فاخذ بعضها دون البعض الآخر ترجيح بلا مرجح ، فلا بد من التخصيص باحدهما اما ترجيحا او تخييرا ، ولا وجه للتخيير في نفس افراد كل من الخاصين ، لعدم الدليل على التخيير في افراد الخاص ، وانما دل الدليل على التخيير بين الدليلين المتعارضين لا التخيير بين افراد الدليل الواحد.

ومما ذكرنا يظهر : ان التعارض بين الخاصين عرضا انما يكون في الفرض المذكور ، وهو كون كل واحد منها مساويا للآخر من حيث العدد. اما لو كان عدد احد الخاصين ستين وعدد الآخر اربعين فلا بد من تقديم ما كان عدده اربعين ، لعدم المانع من تخصيص العام به ، ولا يعارضه الخاص الآخر ، لانه بعد كون عدده ستين ولا وجه للتقسيط في افراده فيكون الانتهاء الى ما لا يجوز الانتهاء اليه مختصا به

١٧٤

هو أخص مطلقا من احدهما ، وأنه لا بد من تقديم الخاص على العام ومعاملة العموم من وجه بين العامين من الترجيح والتخيير بينهما (١) ، وإن

______________________________________________________

ويتعين طرحه فظهر ان التعارض بين الخاصين ليس دائما ، بل ربما يكون وربما لا يكون.

والى ما ذكرنا اشار بقوله : «فان التباين انما كان بينه» أي بين العام «وبين مجموعها» أي مجموع الخاصين لان مجموع الخاصين ما لا يجوز انتهاء التخصيص اليه «لا جميعها» أي لا كل واحد منها ، فلا مانع من تخصيصه ببعضها ، فلا محالة يقع التعارض بالعرض بينها فيما اذا تساويا في العدد ، لا فيما اذا لم يتساويا كما عرفت. والى هذا اشار بقوله : «وحينئذ فربما يقع التعارض بين الخصوصات فيخصص ببعضها ترجيحا» حيث يكون هناك ما هو ارجح «او تخييرا» حيث لا يكون احدهما ارجح.

(١) بعد ما ذكر حكم النسبة المتحدة ـ وانه لا وجه فيها لدعوى انقلاب النسبة ، بل لا بد من تخصيص العام بكل الخصوصات الا فيما يلزم منه الاستغراق او الاستهجان فيقدم العام لا لانقلاب النسبة ، بل لمحذور اللغوية او الاستهجان للانتهاء الى ما لا يجوز الانتهاء اليه ـ تعرض لحكم النسبة غير المتحدة وهي النسبة المتعددة ، كما اشار اليه في المتن : بان يرد عامان من وجه ولاحدهما مخصص ، فان النسبة هنا متعددة ، لفرض كون النسبة بين العامين هي العموم من وجه ، وبين العام والخاص هي العموم المطلق ، فالنسبة متعددة غير متحدة ، ومثال ذلك ـ بخلاف ما مر فان النسبة بين العام وكل واحد من الخاصين واحدة وهي العموم المطلق ـ كما اذا ورد اكرم العلماء ثم ورد لا تكرم الفساق ، فان بين هذين العامين عموما من وجه ، لصدق اكرم العلماء في العدول منهم من دون لا تكرم الفساق ، وصدق لا تكرم الفساق في الفساق غير العلماء من دون اكرم العلماء ، واجتماعهما متعارضين في العلماء الفساق ، فان اكرم العلماء يقتضي وجوب اكرامهم ولا تكرم الفساق يقتضي

١٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

حرمة اكرامهم. فاذا كان هناك خاص لأكرم العلماء ، بان كان قد ورد يستحب اكرام العدول من العلماء ، فاذا خصص وجوب اكرم العلماء باخراج العلماء العدول منهم تكون نسبته الى لا تكرم الفساق نسبة العموم المطلق ، لاختصاص اكرم العلماء بعد اخراج العدول منه بالفساق من العلماء ، وهو اخص مطلقا من لا تكرم الفساق ، لصدقه على الفساق من العلماء والفساق من غير العلماء .. فهل تنقلب النسبة بان يقدم اكرم العلماء على لا تكرم الفساق لانه اخص منه؟ او لا تنقلب النسبة بينهما؟ بل تلاحظ النسبة بين اكرم العلماء ولا تكرم الفساق كما لو لم يكن اكرم العلماء مخصصا ـ باستحباب اكرام عدول العلماء ـ وهي العموم من وجه. وبناء على شمول ادلة العلاج للعموم من وجه لا بد من ملاحظة الترجيح بينهما او التخيير.

وقد عرفت مما مر انه لا وجه لدعوى الانقلاب كما مر تفصيل الاستدلال عليه ، فلا بد من تقديم دليل استحباب اكرام العدول من العلماء على اكرم العلماء الدال على وجوب اكرام العلماء لانه اخص منه ، وملاحظة التعارض بين اكرم العلماء ولا تكرم الفساق في مادة الاجتماع وهم العلماء الفساق.

لا يقال : انه لا يمكن معاملتهما معاملة العامين من وجه ، لانه في فرض تقديم لا تكرم الفساق اما ترجيحا او تخييرا يبقى عموم اكرم العلماء من غير مورد ، لفرض خروج العلماء العدول عن وجوب الاكرام باستحباب اكرامهم وتقديم لا تكرم الفساق على وجوب اكرم العلماء في العلماء الفساق ، فلا يبقى مورد لوجوب اكرم العلماء.

فانه يقال : لا مانع من بقاء اكرم العلماء من غير مورد ، فان ذلك لازم التعارض في هذا الفرض ، وطرح احد المتعارضين عند تقديم الآخر عليه لا مانع منه ، وليكن حال العام في هذا الفرض حال العام الذي له خاصان مستغرقان ، فقد مر انه يقع التعارض بينه وبينهما ، ومع كونهما ارجح منه سندا لا مانع من طرحه.

١٧٦

انقلبت النسبة بينهما إلى العموم المطلق بعد تخصيص أحدهما ، لما عرفت من أنه لا وجه إلا لملاحظة النسبة قبل العلاج (١).

______________________________________________________

والحاصل : ان بقاء العام بلا مورد معناه طرحه ، ولا مانع من طرحه لاجل التعارض. نعم التخصيص بحيث يبقى العام بلا مورد لا معنى له لانه جمع دلالي وترجيح في مقام الدلالة ، بخلاف الطرح لاجل التعارض فانه ترجيح سندي لا دلالي. إلّا ان يكون العام بعد تخصيصه يكون نصا فيما بقى تحته وحينئذ يتقدم لكونه نصا ، لا لبقائه من غير مورد. والى ما ذكرنا اشار بقوله : «وانه لا بد من تقديم الخاص على العام ومعاملة العموم من وجه بين العامين من الترجيح او التخيير بينهما».

(١) لا يخفى ان العامين من وجه اذا كان لاحدهما مخصص قد يكون مما تنقلب النسبة بينهما الى العموم المطلق بعد تخصيص احدهما كما مر مثاله ، وقد لا تنقلب النسبة بينهما بعد تخصيص احدهما كما اذا ورد اكرم العلماء ، ولا تكرم الفساق ، ولا تكرم زيدا العالم الفاسق. فانه بعد تخصيص اكرم العلماء بلا تكرم زيدا العالم الفاسق تبقى النسبة بين اكرم العلماء ولا تكرم الفساق على حالها من العموم من وجه. والى هذا اشار بقوله : «وان انقلبت النسبة بينهما الى العموم المطلق بعد تخصيص احدهما» كما في المثال المذكور.

واشار الى الوجه في كون النسبة الملحوظة بينهما هي العموم من وجه ، وهي النسبة بينهما من دون ملاحظة التخصيص ، وانه لا وجه لملاحظة النسبة بينهما مع ملاحظة التخصيص لان المعارضة بينهما في الظهور الاستعمالي لا في الحجية الفعلية ، ولذا قال (قدس‌سره) : «لما عرفت من انه لا وجه الا لملاحظة النسبة قبل العلاج» مراده من العلاج هو الجمع الدلالي بين العام والخاص ، فانه لو كان المدار على ملاحظة النسبة بعد العلاج وتخصيص احدهما ـ كما هو مبنى الانقلاب ـ لكانت

١٧٧

نعم لو لم يكن الباقي تحته بعد تخصيصه إلا ما لا يجوز أن يجوز عنه التخصيص أو كان بعيدا جدا ، لقدم على العام الآخر ، لا لانقلاب النسبة بينهما ، بل لكونه كالنص فيه ، فيقدم على الآخر الظاهر فيه بعمومه ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

النسبة بينهما هي العموم المطلق ، ولا بد من تقديم العام المخصص لانه يكون حينئذ اخص مطلقا ، ولا وجه لملاحظة الترجيح بينهما او التخيير.

(١) توضيحه : انه بعد ما عرفت من ان العام اذا خصص تارة يكون الباقي تحت العام افرادا كثيرة ، واخرى يكون الباقي تحت العام افرادا قليلة بحيث لا يجوز تخصيص العام فيها ، وفي هذه الحالة يكون العام نصا فيها ، كما اذا ورد اكرم العلماء ولا تكرم الفساق ولا تكرم العالم غير الهاشمي ، وكان افراد الهاشمي قليلة بحيث لا يجوز ان يخصص العام فيها ، لاستلزامه الاستهجان فيما اذا خرج من العام بعض افراد العالم الهاشمي ، او البعد عرفا بان يكون العام مسوقا اليها ، وفي مثل هذا الفرض يكون العام نصا في اكرام العالم الهاشمي ، وحينئذ يجب تقديمه على لا تكرم الفساق وان كانت النسبة بينهما هي العموم من وجه ، لفرض كون العام نصا بحسب الدلالة فيما بقى تحته من افراده ، ولا بد من تقديم النص على الظاهر ، فيتقدم اكرم العلماء هنا لاجل النصوصية في مقام الدلالة ، لا لاجل انقلاب النسبة ، لوضوح عدم انقلاب النسبة بينهما ، لان العالم الهاشمي فيه فاسق وعادل ، ولكن حيث كان العام نصا فيما تحته فلا بد من تقديمه لهذه الجهة ، لا لاجل انقلاب النسبة.

ومثله ما اذا كانت النسبة منقلبة ، كما اذا ورد اكرم العلماء ولا تكرم فساق العلماء ، وكان العدول من العلماء من القلة بحيث لا يجوز فيه التخصيص للعام ، فانه ايضا يتقدم اكرم العلماء على لا تكرم الفساق ، لكن لا لاجل انقلاب النسبة ، فانه بناء على انقلاب النسبة لا يكون تناف بين اكرم العلماء المختص بالعدول ـ بعد تخصيصه بلا تكرم فساق العلماء ـ وبين لا تكرم الفساق ، وهو واضح.

١٧٨

فصل

لا يخفي أن المزايا المرجحة لاحد المتعارضين الموجبة للاخذ به وطرح الآخر ـ بناء على وجوب الترجيح ـ وإن كانت على أنحاء مختلفة ومواردها متعددة ، من راوي الخبر ونفسه ووجه صدوره ومتنه ومضمونه مثل : الوثاقة والفقاهة والشهرة ومخالفة العامة والفصاحة وموافقة الكتاب والموافقة لفتوى الاصحاب ، إلى غير ذلك مما يوجب مزية في طرف من أطرافه ، خصوصا لو قيل بالتعدي من المزايا المنصوصة ، إلا أنها موجبة لتقديم أحد السندين وترجيحه وطرح الآخر ، فإن أخبار العلاج دلت على تقديم رواية ذات مزية في أحد أطرافها ونواحيها فجميع هذه من مرجحات السند حتى موافقة الخبر للتقية ، فإنها أيضا مما يوجب ترجيح أحد السندين وحجيته فعلا وطرح الآخر رأسا (١) ، وكونها في مقطوعي

______________________________________________________

والى ما ذكرنا اشار بقوله : «نعم لو لم يكن الباقي تحته» أي تحت العام «بعد تخصيصه الا ما» كان بقدر «لا يجوز ان يجوز عنه» أي ان يتعدى عنه «التخصيص» لاستلزامه الاستهجان «او كان» تخصيصه «بعيدا جدا» عند العرف ، فلو كان الفرض كذلك «لقدم» العام المخصص «على العام الآخر» لكنه «لا لانقلاب النسبة بينهما بل لكونه» أي العام المخصص «كالنص فيه» أي فيما بقى تحته من الافراد «فيقدم على» العام «الآخر» لانه من «الظاهر فيه بعمومه» أي لان العام الآخر بالنسبة الى ما بقى تحت العام المخصص من قبيل الظاهر فيه ، لفرض كونه عاما يشمله وغيره.

(١) توضيحه : ان الكلام في مقامين : الاول : في ان المزايا المرجحة لاحد الخبرين ـ من حيث جهة الصدور ومن حيث المضمون مثلا ـ هل ترجع الى المرجح السندي فيه وهو نفس الصدور؟ وانه لا يعقل كون المرجح من حيث جهة الصدور في قبال المرجح من حيث نفس الصدور ، بل لا بد من رجوع المرجح من حيث جهة الصدور الى نفس

١٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الصدور ، بمعنى ان مرجع لزوم الاخذ بما خالف العامة وترجيحه على الخبر الموافق للعامة هو ترجيح صدور الخبر المخالف للعامة على صدور الخبر الموافق للعامة. وترجيح الخبر من حيث مضمونه كموافقة الخبر للشهرة الفتوائية ـ مثلا ـ ترجع الى المرجّح السندي وهو نفس الصدور ، وانه لا يعقل كون المرجّح من حيث المضمون في قبال المرجّح السندي ، بل لا بد من رجوع المرجّح من حيث المضمون الى المرجّح من حيث السند.

أو لا يرجع المرجّح من حيث جهة الصدور ومن حيث المضمون الى المرجّح من حيث نفس الصدور بل هما في قباله؟

ومختار المصنف هو رجوع المرجحات من غير الصدور كالجهة والمضمون الى المرجّح من حيث الصدور.

وبيان ذلك يتوقف على امور : الاول : ان الترجيح من حيث جهات الخبر ثلاث :

جهة نفس الصدور ككون الراوي اعدل ، فان معنى الترجيح بكون الراوي اعدل مرجعها الى ان الوثاقة بصدوره اقوى من الوثاقة بصدور غير الاعدل.

وجهة المضمون كموافقة ما يؤدّي اليه الخبر الى الشهرة الفتوائيّة ، فان مرجعها الى كون الحكم في الخبر الموافق الى الشهرة الفتوائية اقرب الى الواقع من الحكم في الخبر غير الموافق للشهرة الفتوائية.

وجهة جهة الصدور ككون الخبر المخالف للعامة صدوره لبيان الواقع اقوى من الخبر الموافق للعامة ، لاحتمال صدوره للتقية لا لبيان الواقع.

الامر الثاني : ان موارد هذه الترجيحات اكثر من ثلاثة ، فان مواردها : قد تكون نفس الخبر كالشهرة في الرواية ، وقد تكون نفس الراوي للخبر كالاعدلية ، وقد تكون متنه كفصاحة كلمات الخبر ، وقد تكون مضمونه وهو الحكم المؤدّى اليه كموافقته للشهرة الفتوائية او للكتاب ، وقد تكون جهة صدوره كمخالفة العامة.

١٨٠