بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-064-0
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

أو انه في تسعة : الخمسة المذكورة ، مع زيادة الصحة والبطلان ، وامثلتهما واضحة ، والعزيمة والرخصة كما هو المحكي عن الآمدي.

ولا يخفى ان المراد من العزيمة والرخصة ليس الوجوب والاباحة ، فان المراد من العزيمة هو الاعتبار المقابل للرخصة.

والحاصل : ان الوجوب هو الطلب اللزومي المترتّب على اطاعته استحقاق الثواب وعلى معصيته العقاب ، والاباحة هو جعل ارخاء العنان من ناحية الفعل والترك. والعزيمة هي نفس اعتبار اللزوم من دون ان يكون بنحو البعث اليه وطلبه ، كما يقال في ان سقوط الاذان والاقامة لمن ادرك الجماعة من باب العزيمة ، فان المراد منها هو نفس اعتبار لزوم السقوط للاذان والاقامة ، او الرخصة وهو اعتبار عدم هذا اللزوم كما يقول به من يرى صحة الاذان والاقامة لمن ادرك الجماعة.

او ان الحكم الوضعي لا ينحصر في هذه التسعة ، كما هو المحكي عن صلاح الدين فانه اضاف اليها موردين :

الاول : تنزيل الموجود منزلة المعدوم كتنزيل الماء المحتاج اليه لحفظ النفس منزلة العدم في صحة التيمم مع وجوده ، وتنزيل المعدوم كالموجود كتنزيل المقتول كالحي الموجود في استحقاق الدّية ، ويطلق على هذا القسم التقديرات ، لانه قدّر فيها الموجود منزلة المعدوم ، والمعدوم منزلة الموجود.

الثاني : ما اطلق عليه لفظ الحجاج ، ومراده منه هو ما يستند اليه الحاكم من بيّنه او اقرار في مقام فصل الخصومات.

او ان الحكم الوضعي لا ينحصر في عدد خاص من المذكورات ، بل هو كل مجعول لم يكن حكما تكليفيا ، سواء كان له دخل في حدوث التكليف كسببية الدلوك لوجوب الصلاة ، او كان له دخل في عدمه كمانعية الحيض عن التكليف ، او كان له دخل في متعلق التكليف وموضوع التكليف ، كالجزئية الصادقة على ابعاض ما يتألف منه موضوع التكليف المركب كالصلاة والحج ، والشرطيّة لصحة التكليف

٦١

بها بعد كثرة إطلاق الحكم في الكلمات على غيرها ، مع أنه لا تكاد تظهر ثمرة مهمة علمية أو عملية للنزاع في ذلك (١) ، وإنما المهم في النزاع (٢) هو أن

______________________________________________________

كالطهارة من الحدث للصلاة ، أو لم يكن للحكم الوضعي دخل اصلا في التكليف ، كحجيّة الخبر فانها بنفسها مجعول شرعي يتعلق بالخبر ، وليس هو كسببية الدلوك ولا كجزئية الجزء.

ولا يخفى ان ما له دخل في الحكم حدوثا او منعا هو النحو الاول ، وما كان له دخل في متعلق التكليف هو النحو الثاني ، وما ليس له دخل في التكليف اصلا هو النحو الثالث ... وسيجيء التعرّض لها كلها.

(١) يشير الى وجهين لكون النزاع في الانحصار وعدمه لا وقع له : الاول : انه لا وجه للقول بالانحصار بعد وضوح اطلاق الحكم الوضعي على غير الموارد التي قالوا بانحصاره فيها ، واليه اشار بقوله : ((ضرورة انه لا وجه للتخصيص بها)) أي بتلك الموارد ((بعد كثرة اطلاق الحكم)) الوضعي ((في الكلمات على غيرها)).

الثاني : ان النزاع في الانحصار وعدمه لا ثمرة عمليّة مهمّة له ولا ثمرة علميّة له ايضا ، اما انه لا ثمرة عملية له فلأجل انه تترتب عليه آثاره سواء اطلق عليه الحكم او لم يطلق ، نعم لو تعلّق نذر ناذر بانه اذا اطلق عليه لفظ الحكم يتصدق كانت هناك ثمرة ، الّا انها نادرة اذا قلنا بصحة مثل هذا النذر ، واما عدم الثمرة العملية فلان صحة اطلاق الحكم عليه وعدم صحته ليست من الامور التي للبحث عنها اهميّة ، واليه اشار بقوله : ((مع انه لا تكاد تظهر ثمرة مهمّة ... الى آخر الجملة)).

(٢) لا يخفى انه انما كان المهمّ هو البحث عن كون الحكم الوضعي مجعولا بالاستقلال ، او انه منتزع عن المجعول بالاستقلال وهو الحكم التكليفي ويكون الحكم الوضعي مجعولا بالتبع ، او انه ليس بمجعول اصلا لا بالاستقلال ولا بالتبع ، لانه لا ثمرة عملية كصحة استصحابه فيما اذا كان مجعولا ولو بالتبع وعدم صحة استصحابه حيث لا يكون مجعولا اصلا كما سيأتي التنبيه من المصنف على ذلك.

٦٢

الوضع كالتكليف في أنه مجعول تشريعا بحيث يصح انتزاعه بمجرد إنشائه ، أو غير مجعول كذلك ، بل إنما هو منتزع عن التكليف ومجعول بتبعه وبجعله (١).

______________________________________________________

(١) توضيحه ببيان امور : الامر الاول : ما استشكل على المصنف من انه سيأتي منه تقسيم ما عدّ من الوضع الى مجعول بالاستقلال ، ومجعول بالتبع ، وما ليس بمجعول اصلا ، فكان عليه ان يشير الى التفصيل في الوضع وان منه ما ليس بمجعول اصلا.

ولعل عدم الاشارة اليه لانه كان في مقام بيان المجعول التشريعي ، وحيث ان ما عدّ من الوضع مما هو ليس بمجعول اصلا فلا يكون هو من التفصيل في المجعول التشريعي.

الامر الثاني : بيان كون الحكم التكليفي من المجعولات التشريعية وانه ليس هو الارادة والكراهة او منتزعا عنها. وتوضيح ذلك : ان الجعل هو الايجاد فالموجد هو الجاعل والموجود هو المجعول ، فاذا كان المجعول من موجودات عالم التكوين كان الموجود مجعولا تكوينيا وكان جعله هو الجعل التكويني ، كالعالم كلّه الموهوب له الوجود من الله بجميع ما فيه من مجرده ومادّيه. ولا يخفى ان الغرض من هذا الجعل راجع الى ما يتعلّق بعالم التكوين.

واذا كان الجعل منه تبارك وتعالى لا بما هو جاعل الكون ، بل بما هو ناظر الى مصالح العباد مما يتعلق بافعالهم ، وحيث انهم لا يهتدون الى مصالحهم بانفسهم وكانت تلك المصالح مما تترتب على افعال العباد بانفسهم تفضّل الشارع على عباده فأمرهم باشياء ونهاهم عن اشياء ورخّص لهم في اشياء ، ليكون ذلك داعيا لهم لان يفعلوا بعض الافعال ولان يتركوا بعضها. فظهر من هذا ان الجعل في المقام منه ـ تبارك وتعالى ـ بما هو شارع وناظر الى مصالح عباده لا بما هو مكوّن وموجد.

٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وظهر مما ذكرنا : ان نفس الإرادة ليست جعلا تشريعيا ، لان الجعل التشريعي هو جعل ما يكون داعيا للعباد لان يفعلوا ولان يتركوا ، والذي يكون داعيا للمكلف هو امر المولى ونهيه لا ارادته وكراهته.

لا يقال : ان الامر والنهي حيث انه يكون كاشفا عن الارادة والكراهة يكون داعيا فالداعي في الحقيقة هو الارادة والكراهة.

فانه يقال : ان الارادة والكراهة هي الشوق الى الفعل والى الترك ، فاذا كان الفعل مما ترجع مصلحته ومفسدته الى المولى فان كان الشوق المتعلّق به بما هو فعل مباشري للمولى كان هو المتولي للفعل والترك ، وان كان الشوق قد تعلق به بما هو صادر من غيره دعاه ذلك الى ان يأمر عبده بالفعل والترك.

واما اذا كانت المصلحة والمفسدة مما ترجع الى العبد نفسه من دون تعلق لها بالمولى اصلا ، فلا يعقل ان يتعلّق شوق من المولى الى ايجاد الفعل ولا الى تركه ، لان الشوق من النفس انما يتعلق بما يعود اليها لا الى غيرها ، ولما كان الله عزوجل وشانه مما لا يعقل ان يعود الغرض من المامور به اليه ، فلا يكون امره ونهيه مما يكشف عن ارادته وكراهته للفعل بما هو راجع اليه.

فان قلت : على هذا تكون أوامره ونواهيه ارشادية لا مولوية ، لان الداعي الى الامر والنهي اذا كان مما يتعلق بالغير فيكون أمره ونهيه لبّا لبيان المصلحة والمفسدة ، والامر والنهي اذا كان بداعي ان في الفعل مصلحة أو مفسدة كان الامر والنهي للإرشاد اليهما لا أمرا ونهيا مولويا بداعي كونه مولى آمرا وناهيا.

قلت : لما كان الداعي الى الامر والنهي هو اللطف لان يصل العباد الى ما فيه مصالحهم ، كان ذلك اللطف داعيا ايضا لان يأمر وينهى بما هو مولى يترتب على اطاعة امره الثواب وعلى معصيته العقاب ، لان نوع المكلفين انما يتحركون بداعي الخوف والرجاء ، لا بداعي كون الفعل ذا مصلحة او مفسدة ، ولا سيما فيما اذا

٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

كانت المصالح والمفاسد نوعية ، فان اللطف يدعو الى الامر بما هو مولوي يترتب على اطاعته وعصيانه الثواب والعقاب.

فظهر مما ذكرنا : ان الحكم التكليفي هو نفس الامر والنهي ، وليس هو الارادة ولا منتزعا عنها ، لان امره ونهيه هو المجعول للشارع بما هو شارع لا بما هو موجد ومكون ، وهو الذي يكون داعيا للمكلف الى ان يفعل ويترك.

الامر الثالث : ان المجعول التشريعي : تارة يكون مجعولا بالاستقلال ليس بتابع لجعل آخر كوجوب الصلاة وحرمة الزنا مثلا. واخرى يكون مجعولا يتبع في جعله جعلا آخر كوجوب مقدمة الواجب وهو مجعول بالاستقلال ايضا. وثالثة : يكون جعلا لشيء أولا وبالذات ، ولآخر ثانيا وبالعرض ، بان لا يكون هناك الّا جعل واحد يكون ذلك الجعل بالنسبة لشيء جعلا تشريعيا بالذات وللآخر بالعرض ، كحرمة ترك الواجب ووجوب ترك الحرام فانه ليس هناك الّا جعل واحد وهو جعل الوجوب والحرمة ، ولكنه لازم الوجوب المتعلّق بالفعل عدم الرضا بالترك ، لزوما لا لمفسدة في نفس الترك ، بل للمصلحة اللزومية في نفس الفعل كان ترك الواجب حراما بهذا اللحاظ ، ففي الحقيقة ليس هناك الّا جعل الوجوب وهو جعل استقلالي للزوم الاتيان بالفعل أولا وبالذات للمصلحة اللزومية التي هي في نفس الفعل وهو جعل بالعرض لحرمة الترك وليس هناك جعلان استقلاليان ولو بالتبع كجعل المقدمة التابع لجعل وجوب ذيها. ولا يخفى ان مراد المصنف من المجعول بالتبع في المقام الذي به فسر انتزاع التكليف هو هذا القسم الثالث ، لما سيأتي من تصريحه بكون الحكم الوضعي المجعول بالتبع عنده ليس له جعل استقلالي ولو بالتبع لجعل آخر كجعل وجوب المقدمة ، بل ليس هناك الّا جعل واحد يكون متعلقه هو المجعول بالاستقلال والحكم الوضعي منتزع عنه ولا جعل له بالذات اصلا.

اذا عرفت ما ذكرنا اتضح مراد المصنف من قوله : ((هو ان الوضع كالتكليف)) في كون التكليف مفروغا عن مجعوليته التشريعية وانه ليس هو الارادة والكراهة

٦٥

والتحقيق أن ما عدّ من الوضع على أنحاء :

منها : ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل تشريعا أصلا ، لا استقلالا ولا تبعا ، وإن كان مجعولا تكوينا عرضا بعين جعل موضوعه كذلك.

ومنها : ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل التشريعي إلّا تبعا للتكليف.

ومنها : ما يمكن فيه الجعل استقلالا بإنشائه ، وتبعا للتكليف بكونه منشأ لانتزاعه ، وإن كان الصحيح انتزاعه من إنشائه وجعله ، وكون التكليف من آثاره وأحكامه (١) ، على ما يأتي الاشارة إليه.

______________________________________________________

ولا منتزعا عنهما. واتضح ايضا ما اشار به الى المجعول التشريعي الاستقلالي وهو قوله : ((في انه مجعول تشريعا بحيث يصح انتزاعه)) أي يصح انتزاع عنوان التكليف الاستقلالي عنه ((بمجرد انشائه)) فانه بمجرد انشائه بقوله : افعل الصلاة او الصلاة واجبة ينتزع من هذا الجعل الاستقلالي عنوان التكليف. واتضح ايضا ان قوله : ((او غير مجعول كذلك)) أي غير مجعول بالاستقلال ((بل إنما هو منتزع عن التكليف ومجعول بتبعه وبجعله)) لا يتمّ الّا بان يكون هو المجعول بالعرض دون المجعول بالتبع ، مثل وجوب المقدمة المجعول بتبع جعل وجوب ذي المقدمة.

(١) حاصله : ان المستفاد من القوم اطلاق الحكم الوضعي على ثلاثة اقسام : الاول : مثل السببيّة والشرطية للتكليف وامثالهما ، وسيأتي ان هذا القسم ليس بمجعول لا استقلالا ولا تبعا بالجعل التشريعي بل هو من المجعولات التكوينيّة ، ولازم ذلك ان عدّ من الحكم الوضعي في غير محله ، لان الحكم لا بد من ان يكون مجعولا تشريعيا ولو بنحو الجعل بالعرض.

الثاني : ما يكون مجعولا بالتبع أي بالعرض ولا يكون مجعولا بالاستقلال ، وهو كالجزئية والشرطية للمأمور به وامثالها فانها من المجعول بالتبع وليست من المجعولات بالاستقلال.

الثالث : هو المجعول بالاستقلال كالملكية والزوجية.

٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

واشار الى القسم الاول بقوله : ((منها ما لا يكاد يتطرق اليه الجعل ... الى آخر الجملة)) ومراده من قوله : ((بعين جعل موضوعه كذلك)) هو ان مثل عنوان السببية والشرطية للتكليف ليس بمجعول تشريعي اصلا وانما هو من المجعول التكويني ، ولما لم يكن الجعل التكويني متعلقا بنفس عنوان السببية وعنوان الشرطية وانما كان متعلق الايجاد ، والجعل التكويني متعلق بنفس الدلوك الذي هو السبب وهو الموضوع الذي ينتزع منه عنوان السببية ، اشار الى ذلك بقوله : ((وان كان مجعولا تكوينا عرضا)) فان عنوان السببية من المجعول بالعرض الذي يكون جعله ((بعين جعل موضوعه)) وهو ذات السبب كالدلوك ((كذلك)) أي بالجعل التكويني. واشار الى القسم الثاني بقوله : ((ومنها ما لا يكاد يتطرق اليه الجعل التشريعي الّا تبعا للتكليف)) كالجزئية والشرطية للمأمور به. واشار الى القسم الثالث بقوله : ((ومنها ما يمكن فيه الجعل استقلالا بانشائه وتبعا للتكليف بكونه منشأ لانتزاعه)) أي يكون التكليف منشأ لانتزاع الحكم الوضعي ، وعليه فيكون الحكم الوضعي المجعول بالتبع لا بالاستقلال. وانما جعل هذا القسم مما يمكن فيه الجعل الاستقلالي والجعل التبعي للخلاف بين مختار المصنف من ان هذا القسم من المجعول بالاستقلال وهو ظاهر المشهور ايضا ، وبين الشيخ الاعظم المنكر لجعل الحكم الوضعي استقلالا مطلقا حتى في هذا القسم ، وحتى مثل الملكية والزوجية ليستا من المجعول بالاستقلال وانما هما منتزعان عن التكليف بجواز التصرّف وجواز الوطء وامثال هذه التكاليف المترتبة على عقد البيع وعقد النكاح. وبعد ان اشار الى الخلاف اشار الى مختاره بقوله : ((وان كان الصحيح انتزاعه)) أي انتزاع مثل عنوان الملكية والزوجية ((من)) نفس ((انشائه)) أي انشاء الشارع لهذا الحكم الوضعي ((و)) من نفس ((جعله)) له تشريعا بمثل قوله احلّ الله البيع ((و)) لازم ذلك ((كون التكليف)) مثل جواز التصرّف وجواز الوطء ((من آثاره)) أي من آثار هذا الجعل التشريعي لنفس هذا الحكم الوضعي استقلالا

٦٧

أما النحو الاول : فهو كالسببية والشرطيّة والمانعيّة والرافعيّة لما هو سبب التكليف وشرطه ومانعة ورافعه (١) ، حيث أنه لا يكاد يعقل انتزاع

______________________________________________________

((و)) تكون تلك من ((احكامه)) المترتبة عليه لا ان المجعول بالاستقلال هي نفس تلك التكاليف والحكم الوضعي منتزع عنها كما هو مختار الشيخ الاعظم.

(١) توضيحه ببيان امور ثلاثة : الاول : ان هذا النحو الاول هو الذي عدّه القوم من الحكم الوضعي المجعول تشريعا ، وهو ليس كذلك لانه ليس بمجعول اصلا لا بالاستقلال ولا بالتبع.

الثاني : ان قوله : ((لما هو سبب التكليف وشرطه ومانعة ورافعه)) هو من النشر المرتّب ، لان السبب هو المنتزع منه عنوان السببية ، والشرط هو المنتزع منه عنوان الشرطية ، والمانع هو المنتزع منه عنوان المانعية ، والرافع هو المنتزع منه عنوان الرافعيّة. ومثال السبب للتكليف هو مثل اذا زالت الشمس فصلّ ، ومثال الشرط للتكليف هو مثل قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(١) ومثال المانعية للتكليف هو مثل الجنون الحادث قبل البلوغ ، المستمر الى ما بعد البلوغ ومثال الرافعيّة للتكليف هو مثل حدث الحيض الرافع للتكليف بالصلاة.

الثالث : ان الفرق بين المانع والرافع واضح ، لان المانع ما يمنع عن الحدوث للتكليف كالجنون في حال البلوغ فانه مانع عن حدوث التكليف ، والرافع ما يرفع التكليف بعد حدوثه فيكون رافعا لما هو الحادث ، كالحيض فانه يرفع التكليف بعد حدوثه ... ومنه يظهر ان الرافع هو المانع عن استمرار التكليف وبقائه فالرافع هو المانع عن التكليف لكنه مانع عنه بقاء لا حدوثا ، بخلاف المانع فانه الذي يمنع عن اصل حدوثه.

__________________

(١) آل عمران : الآية ٩٧.

٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

واما الفرق بين السبب والشرط فلا يخلو عن اشكال ، لان السبب للموجود الممكن الذي هو العلّة له منحصر في أربع : العلّة الصورية : وهي التي منها يسري فيض الوجود الى المادة كالصور المتعاقبة على المادة المنوية ، من كونها علقة ومضغة ولحما حتى تكون انسانا.

والعلّة المادية : وهي نفس المادة المتحصلة فعلا بالصورة ، فان المادة هي التي تتحصّل بالصورة المائية مثلا فيكون ماء بالفعل ، وتتحصّل بالصورة البخارية فتكون بخارا بالفعل ، أو تتحصّل بالصورة الكلبية فتكون كلبا بالفعل ، وتتحصل بالصورة الملحية فتكون ملحا .. وهذان هما علل القوام ، لان ما يتقوّم منه الجوهر المركب هو صورته ومادته.

والعلّة الفاعلية : وهو الفاعل الموجد للشيء ككون الشخص فاعلا لحركاته كمشيه وجلوسه وساير افعاله الاختيارية ، ومثل الله تبارك وتعالى المفيض للوجود على كل الموجودات فانه عزّ شانه هو الفاعل للوجود.

والعلّة الغائية : وهي الغرض الداعي للفاعل لان يفعل ، كالمعرفة الداعية له جلّ جلاله ان يخلق الخلق ، كما في الحديث : (كنت كنزا مخفيا فأحببت ان اعرف فخلقت الخلق لكي أعرف) (١).

ومن الواضح ان التكليف ليس من الموجودات المادية حتى تكون له علّة صورية ومادية ، ومن الواضح ايضا ان فاعل التكليف هو الشارع لا الزوال. وبعد ما مرّ عليك من ان الغاية للتكليف هي المصالح والمفاسد ، تعرف ان الزوال ليس هو العلّة الغائية ايضا ، وغاية ما يمكن ان يقال هو دخالة الزوال في ترتب المصلحة ، فهو دخيل في العلّة الغائية.

__________________

(١) بحار الانوار ج ٨٤ ، ص ١٩٩ (الطبعة الثانية المصححة ١٤٠٣).

٦٩

هذه العناوين لها من التكليف المتأخر عنها ذاتا ، حدوثا أو ارتفاعا (١) ، كما أن اتصافها بها ليس إلا لاجل ما عليها من الخصوصية المستدعية

______________________________________________________

ومما ذكرنا يتضح الاشكال في الفرق بين السبب والشرط لانحصارهما في الدخالة في العلة الغائية ، فما هو الفارق الموجب لان يكون السبب غير الشرط؟

ويمكن ان يقال : ان الدخالة في ترتّب المصلحة : تارة تكون بنحو ان يكون ذلك الشيء بالنسبة اليها له دخالة بنحو الاقتضاء ، بان تكون الصلاة الخاصة المقيدة بالوقت الخاص هي الموجبة لترتّب المصلحة بنحو ان يكون ذات الصلاة من دون تقيّدها بالوقت الخاص لا اقتضاء فيها لترتب المصلحة. واخرى تكون ذات الصلاة مما لها الاقتضاء ولكن تأثيرها في فعلية المصلحة يكون مشروطا بالوقت الخاص.

او ان يقال : ان التعبير بالسببية والشرطية لا لاجل الفرق بينهما حقيقة ، بل انما هو لان لسان الدليل ولو بحسب مناسبة الحكم والموضوع ، تارة يكون له ظهور في كون ذلك الشيء سببا ، واخرى يكون لسان الدليل ظهوره بان يكون ذلك الشيء شرطا ، فان مثل قول القائل ان كان زيد عالما فاكرمه ظاهر في كون العلم هو السبب للاكرام ، ومثل قوله ان جاءك زيد العالم فاكرمه ظاهر في كون المجيء شرطا لا سببا. والله العالم.

(١) لا يخفى ان ظاهر الشيخ الاعظم كون السببية والشرطيّة وامثالهما امورا منتزعة عن التكليف ، وينسب الى المشهور كونها امورا مجعولة بالاستقلال ، ومختار المصنف انها امور تكوينية لا منتزعة عن التكليف لتكون من المجعول بالعرض كما هو ظاهر الشيخ ، ولا مجعولة بالاستقلال كما ينسب الى المشهور.

وقد اورد المصنف على دعوى كونها منتزعة عن التكليف بما حاصله : انه لا يعقل ان تكون هذه الامور منتزعة عن التكليف ، لان مراد الشيخ من كونها منتزعة عن التكليف هو ان السببية منتزعة عن انشاء الشارع ايجاب الصلاة عند الدلوك .. والوجه في عدم معقولية هذه الدعوى هو ان السببية هي عنوان السبب

٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

وهو الدلوك لاجل ما فيه من الخصوصية الداعية لايجاب الصلاة عند الدلوك ، فالسبب لما فيه من الخصوصية كان هو الداعي للايجاب ، ومن الواضح ان الداعي للايجاب متقدم على الايجاب المنشأ بقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)(١) واذا كان السبب متقدّما على الايجاب المنشأ فعنوان السببية المنتزعة منه تكون مقدّمة ايضا على الايجاب المنشأ.

ومنه يتضح : ان السببية لا يعقل ان تكون منتزعة عن ايجاب الصلاة عند الدلوك ، للزوم تقدّم منشأ الانتزاع على ما ينتزع منه ، واذا كان منشأ انتزاع السببية هو انشاء ايجاب الصلاة عند الدلوك فلا بد وان تكون السببية متأخرة عن هذا الانشاء ، وقد عرفت ان السببية حيث انها منتزعة عن السبب الداعي لهذا الجعل والانشاء ، فلا بد وان تكون متقدّمة عليه ، فالالتزام بكونها منتزعة عن هذا الانشاء لازمه فرض كون ما هو متقدّم بالذات متأخرا بالذات ، فكون السببية منتزعة عن الانشاء لازمه كونها متأخرة بالذات عن هذا الانشاء التي هي متقدّمة عليه بالذات ، لما عرفت من انها منتزعة عن السبب المتقدّم بالذات على هذا الانشاء والجعل. والى ذلك اشار بقوله : ((حيث انه لا يكاد يعقل انتزاع هذه العناوين لها)) وهي السببية والشرطية والمانعية والرافعية ((من التكليف)) الذي هو انشاء الايجاب عندها او انشاء عدمه عندها ((المتأخر)) ذلك الانشاء ((عنها)) أي عن هذه العناوين ((ذاتا)) لان هذه العناوين منتزعة عما هو متقدّم بالذات على التكليف المنشأ فتكون متقدمة عليه ايضا ذاتا وهو متأخر عنها ذاتا ((حدوثا)).

لا يخفى ان صريح بعض المحشين ان قوله : ((حدوثا)) اشارة الى السببية والشرطية ، وقوله : ((ارتفاعا)) اشارة الى المانعية والرافعية ، ولكن اطلاق الارتفاع على المانعية لا يخلو عن شيء ، لان الرفع هو اعدام الموجود والمنع هو الدفع عن الوجود.

__________________

(١) الاسراء : الآية ٧٨.

٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

وصريح البعض الآخر ان قوله : ((حدوثا)) اشارة الى السببية والشرطية والمانعية ، وقوله : ((ارتفاعا)) اشارة الى خصوص الرافعية ، واطلاق الحدوث على السببية والشرطية واضح لان السبب والشرط متقدم بالذات على المسبب والمشروط ، وحدوث المسبب والمشروط متأخر عن حدوث السبب والشرط.

واما تأخر التكليف المنشأ حدوثا عن المانعية فلان المانع هو ما يمنع عن وجود التكليف وحدوثه ، ومن البيّن تقدّم المانع بالذات على الممنوع ، لتقدم حدوث المانع على عدم الممنوع وحدوث الممنوع في رتبة عدمه. فهذه الثلاثة اشار اليها بقوله : ((حدوثا)) أي ان التكليف المنشأ حدوثه عند حدوثها كما في السببية والشرطية او المنشأ عدم حدوثه عند حدوث ما يمنع عنه هو متأخر عنها لتأخر حدوثه عن حدوثها ، وتأخر عدم حدوثه عن حدوث مانعة ، واذا كان عدم حدوث التكليف متأخرا عن حدوث المانع فلا بد وان يكون حدوث الممنوع متأخرا ايضا ، لان الحدوث نقيض لعدم الحدوث ، والنقيضان في مرتبة واحدة ، والمتقدّم رتبة على احد النقيضين متقدّم ايضا على النقيض الآخر ، ولما كان حدوث المانع متقدما على عدم حدوث الممنوع فيكون متقدما ايضا على حدوث الممنوع ، لان حدوث الممنوع وعدم حدوثه من النقيضين وهما في رتبة واحدة ، فحدوث المانع المتقدّم رتبة على عدم حدوث الممنوع هو متقدّم رتبة ايضا على حدوث الممنوع.

وقد اشار الى تقدّم الرافعية على التكليف بقوله : ((او ارتفاعا)) لا يخفى ان تقدّم الرافع على المرفوع انما هو في مرحلة البقاء دون الحدوث ، لفرض كون الرافع رافعا لما حدث ، ولما كان الرافع مانعا عن استمرار التكليف في مرحلة البقاء كان وجود الرافع متقدّما على ارتفاع التكليف في مقام البقاء ، فارتفاع التكليف متأخر رتبة عن وجود الرافع ، والرافعية حيث انها منتزعة من وجود الرافع فتكون متقدّمة على ارتفاع التكليف ايضا ، واذا كانت منتزعة عن انشاء ارتفاع التكليف كانت متأخرة عن ارتفاع التكليف ، للزوم تقدّم منشأ الانتزاع على ما ينتزع منه ، وقد

٧٢

لذلك تكوينا ، للزوم أن يكون في العلة بأجزائها من ربط خاص ، به كانت مؤثرة في معلولها ، لا في غيره ، ولا غيرها فيه ، وإلّا لزم أن يكون كل شيء مؤثرا في كل شيء ، وتلك الخصوصية لا تكاد توجد فيها بمجرد إنشاء مفاهيم العناوين ، ومثل قول : دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة إنشاء لا إخبارا ، ضرورة بقاء الدلوك على ما هو عليه قبل إنشاء السببيّة له ، من كونه واجدا لخصوصية مقتضية لوجوبها أو فاقدا لها ، وإن الصلاة لا تكاد تكون واجبة عند الدلوك ما لم يكن هناك ما يدعو إلى وجوبها ، ومعه تكون واجبة لا محالة وإن لم ينشأ السببية للدلوك أصلا.

ومنه انقدح أيضا ، عدم صحة انتزاع السببية له حقيقة من إيجاب الصلاة عنده ، لعدم اتصافه بها بذلك ضرورة (١).

______________________________________________________

عرفت انها منتزعة عما هو متقدم بالذات على ارتفاع التكليف ، فكونها منتزعة عن انشاء ارتفاع التكليف لازمه فرض ما هو متقدم بالرتبة متأخر بالرتبة.

ولا يخفى ايضا ان هذا الايراد مختص بما ادعاه الشيخ : من كون هذه العناوين احكاما مجعولة بالعرض وهي منتزعة عن التكليف المنشأ عند تحقق ما هو سبب او شرط او انها منتزعة عن عدم التكليف المنشأ عند تحقق المانع او الرافع.

واما ما هو منسوب الى المشهور : من دعوى كونها مجعولة بالاستقلال ومنتزعة من نفس جعل السبب والشرط المانع والرافع ، فلا يرد عليه ما ذكر ، لعدم استلزام هذه الدعوى لتأخر المتقدّم كما هو واضح ، ولكن يرد عليه ما اشار اليه بقوله : ((كما ان اتصافها بها ... الى آخره)) كما سيأتي بيانه.

(١) هذا هو الايراد على ما ينسب الى المشهور : من كون هذه العناوين مجعولة بالاستقلال وانها منتزعة من نفس جعل السبب والشرط والمانع والرافع. ولا يخفى ان هذا الايراد كما يدل على بطلان جعلها بالاستقلال يدل ايضا على بطلان كونها منتزعة عن التكليف المنشأ عند احد هذه الامور.

٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

والحاصل : ان هذا الايراد يتكفّل عدم صحة ما ذهب اليه الشيخ ايضا فهو مشترك الورود على كلا الدعويين.

وتوضيحه : ان دخالة شيء في وجود شيء او في عدمه ليس جزافا ، بل هو لاجل كون تلك الدخالة لاجل خصوصية ذاتية موجبة لذلك ، ولا فرق في تلك الدخالة بين ان تكون بنحو التأثير في وجود الشيء او في علّته الغائية كما في المقام ، لوضوح انه لو لم تكن الدخالة لاجل تلك الخصوصية الذاتية لجاز ان يكون كل شيء دخيلا في كل شيء ، وهو واضح البطلان لعدم امكان ان تصدر البرودة من النار والحرارة من الماء ، ومن البيّن ان تلك الخصوصية الموجبة لانتزاع عنوان السببية من السبب والشرطية من الشرط هي في نفس السبب والشرط وهي خصوصية ذاتية فيهما تكوينا ، فان كون الدلوك سببا لوجوب الصلاة انما هو للخصوصية الذاتية الموجودة فيه الموجبة لكونه سببا لذلك ، وهذه الخصوصية متحققة في السبب سواء انشأ الشارع ذلك او لم ينشأ ، لوضوح ان قول الشارع الدلوك سبب لوجوب الصلاة ـ انما هو لخصوصية في الدلوك اقتضت كونه سببا ـ لا يجعل الدلوك سببا وان لم تكن فيه الخصوصية الموجبة لكونه سببا ، ويدل على ذلك انه اذا لم ينشأ الشارع وكان في الدلوك تلك الخصوصية فهو سبب حقيقة وواقعا وان لم يقل الشارع الدلوك سبب.

فاتضح انه لا دخل لجعل الشارع ـ بما هو شارع ـ في كون السبب سببا وانما هو لخصوصيّة ذاتية تكوينية فيه ، نعم السبب مرتبط بالشارع بما هو مكوّن وجاعل للتكوين لا بما هو شارع وجاعل للتشريع ، ومن الواضح ان الكلام في الحكم الوضعي التشريعي المرتبط بالشارع بما هو شارع لا بما هو مكوّن.

واتضح مما ذكرنا : ان الخصوصية الذاتية الموجبة لكون السبب سببا هي تكوينية لا تشريعية ، وعلى هذا فلا يكون انشاء الشارع بما هو شارع موجبا لانتزاع عنوان السببية من السبب ، ولا يكون انتزاعها منوطا بقول الشارع ـ إنشاء ـ الدلوك سبب ، لما عرفت من انها من التكوينيات لا التشريعيات. نعم الشارع المطّلع على الحقائق

٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

يخبر عن تلك الخصوصية ، فقوله الدلوك سبب يكون من الاخبار لا الانشاء ، فلا يكون انشاؤه هو الموجب لانتزاع تلك المفاهيم من منشأ انتزاعها ، فالسببية والشرطية والمانعية والرافعية مفاهيم تنتزع من السبب والشرط والمانع والرافع لخصوصيات ذاتية تكوينية موجودة فيها ولا ربط لانتزاع تلك المفاهيم بعالم التشريع.

ومما ذكرنا ظهر : انه لا وجه لما ينسب الى المشهور من كون هذه الامور من المجعولات الاستقلالية التشريعية ، بل هي تكوينية وليست من المجعولات التشريعية اصلا ... وظهر ايضا انه لا وجه لما عن الشيخ الاعظم من كونها من المجعولات التشريعية بالعرض ، لانها لما كانت تكوينية تكون خارجة عن عالم التشريع وعن قابليتها للجعل التشريعي من رأس ، فلا هي مجعولات بالاستقلال ولا مجعولات بالعرض. وقد اشار المصنف الى كونها من الامور التكوينية بقوله : ((كما ان اتصافها)) أي كما ان اتصاف تلك الامور وهي السبب والشرط والمانع والرافع ((بها)) أي بعنوان السببية والشرطية والمانعية والرافعية ((ليس الّا لاجل ما عليها)) أي ليس الّا لاجل ما على تلك الامور ((من الخصوصية)) الذاتية ((المستدعية لذلك)) أي لانتزاع تلك المفاهيم منها ((تكوينا)) لا تشريعا. واشار الى البرهان على ذلك بقوله : ((للزوم ان يكون في العلة باجزائها)) ولو بنحو دخالة الاجزاء في الغاية ((ربط خاص)) ذاتي ((به كانت مؤثرة)) أي بذلك الربط الخاص الذاتي كانت العلة مؤثرة ((في معلولها)) الخاص ((لا في غيره)) من المعاليل الآخر ((ولا)) يكون ((غيرها)) أي غير هذه العلة مؤثرة ((فيه)) أي في هذا المعلول الخاص ((وإلّا لزم ان يكون كل شيء مؤثرا في كل شيء)). واشار الى ان تلك الخصوصية لما كانت تكوينية ذاتية لا تكون مربوطة بانشاء الشارع وجعله التشريعي بقوله : ((وتلك الخصوصية)) الذاتية الموجبة لانتزاع عنوان السببية واخواتها ((لا تكاد توجد فيها)) أي في تلك الامور من السبب واخوته ((بمجرد انشاء)) الشارع ((مفاهيم العناوين)) المذكورة ((و)) ان ((مثل قول)) الشارع ((دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة

٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

إنشاء لا اخبارا)) لا يكون موجبا لتلك الخصوصية اذا لم تكن موجودة واقعا ، واذا كانت موجودة واقعا فلا اثر لانشاء الشارع فيها ((ضرورة بقاء الدلوك على ما هو عليه قبل انشاء السببية له من كونه واجدا لخصوصية مقتضية لوجوبها)) أي لوجوب الصلاة مثلا ((او)) بقاء الدلوك على ما هو قبل الانشاء من كونه ((فاقدا لها)) أي فاقدا لتلك الخصوصية. واشار الى ان وجوب الصلاة منوط بالخصوصية الواقعية التكوينية في الدلوك لا في الانشاء والجعل التشريعي بقوله : ((وان الصلاة لا تكاد تكون واجبة عند الدلوك ما لم يكن هناك)) شيء واقعي في الدلوك من ((ما يدعو الى وجوبها)) أي الى وجوب الصلاة عند الدلوك ((ومعه)) أي ومع وجود ذلك الشيء الواقعي في الدلوك الموجب لوجوب الصلاة ((تكون)) الصلاة ((واجبة لا محالة وان لم ينشأ)) الشارع ((السببية للدلوك اصلا)) وانما اخبر بها اخبارا لا إنشاء.

ولما اتضح مما ذكره عدم كون هذه الامور من المجعولات الاستقلالية اشار الى ورود هذا الايراد على مسلك الشيخ ايضا بقوله : ((ومنه انقدح ايضا عدم صحة)) كونها من المجعولات بالعرض بان يكون ((انتزاع السببية له)) أي للسبب ((حقيقة)) حاصلة ((من)) انشاء الشارع ((ايجاب الصلاة عنده)) أي عند الدلوك بمثل قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) لما عرفت من كون السبب الواجد للخصوصية الذاتية يتصف بالسببية سواء انشأ الشارع ايجاب الصلاة عنده او لم ينشأ ، والى هذا اشار بقوله : ((لعدم اتصافه بذلك ضرورة)) أي ان الضرورة قائمة على ان السبب الواجد للخصوصية غير منوط اتصافه بالسببية بايجاب الشارع وجوب الصلاة عند الدلوك ، بل هو متصف بالسببية لوجدانه لتلك الخصوصية الذاتية واقعا لا لانشاء الشارع ايجاب الصلاة عند الدلوك.

٧٦

نعم لا بأس باتصافه بها عناية ، واطلاق السبب عليه مجازا ، كما لا بأس بأن يعبر عن إنشاء وجوب الصلاة عند الدلوك ـ مثلا ـ بأنه سبب لوجوبها فكني به عن الوجوب عنده (١).

______________________________________________________

(١) لما مرّ منه محالية الجعل الاستقلالي والجعل العرضي لهذه الامور نبّه على أمرين :

الاول : انه يصح اطلاق السبب التشريعي والشرط التشريعي واخوانهما على هذه الامور مجازا ، ويصح ايضا انتزاع عنوان السببية والشرطية التشريعي واخواتهما عنهما بنحو المجاز ايضا.

وتوضيحه : ان الشارع اذا انشأ الوجوب عند السبب مثلا كما في قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) فهذا السبب كونه سببا واقعا وان كان غير منوط بهذا الانشاء ، الّا انه لا اشكال في كون الوجوب عنده ـ الذي هو المسبب ـ أمرا مجعولا تشريعيا ، وفي حال هذا الجعل التشريعي للوجوب فان السبب ثابت ايضا لإناطة وجوب الصلاة به ، فالجعل التشريعي ثابت لوجوب الصلاة حقيقة وهو المسبب ، ولعلاقة السببية يصح اطلاق وصف المسبب على سببه مجازا فيصح اطلاق الجعل التشريعي والسبب التشريعي على السبب الحقيقي بنحو المجاز ، ويصح ايضا اطلاق السببية التشريعية مجازا على عنوان السببية المنتزعة من ذات السبب بملاحظة العلاقة المذكورة. والى ما ذكرنا اشار بقوله : ((نعم لا بأس باتصافه)) أي لا باس باتصاف السبب ((بها)) أي بعنوان السببية التشريعية ((عناية)) ومجازا عند انشاء الشارع وجعله لوجوب الصلاة عند الدلوك ((و)) يصح ايضا ((اطلاق السبب)) التشريعي ((عليه مجازا)) في تلك الحال.

الامر الثاني : ان انشاء الجعل الاستقلالي او العرضي التبعي حقيقة لهذه الامور محال كما عرفت ، الّا انه لا مانع من انشاء الجعل بنحو الكناية لها ، بان ينشأ وجوب الصلاة عند الدلوك مثلا ، لان يكنى بهذا الانشاء عن كون الدلوك هو السبب واقعا لوجوب الصلاة فيقول اقم الصلاة لدلوك الشمس ، فيكون هذا الانشاء الدال بظاهره

٧٧

فظهر بذلك أنه لا منشأ لانتزاع السببيّة وسائر ما لاجزاء العلة للتكليف ، إلّا عمّا هي عليها من الخصوصية الموجبة لدخل كلّ فيه على نحو غير دخل الآخر ، فتدبر جيدا (١).

وأما النحو الثاني : فهو كالجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية ، لما هو جزء المكلف به وشرطه ومانعة وقاطعه ، حيث أن اتصاف شيء بجزئية المأمور به أو شرطيته أو غيرهما لا يكاد يكون إلا بالامر بجملة أمور مقيدة بأمر وجودي أو عدمي ، ولا يكاد يتصف شيء بذلك ـ أي كونه جزءا أو شرطا للمأمور به ـ إلّا بتبع ملاحظة الامر بما يشتمل عليه مقيدا

______________________________________________________

على انشاء السببية للدلوك هو بنحو الكناية عن كون الدلوك سببا واقعيا لوجوب الصلاة. والى هذا اشار بقوله : ((كما لا بأس بان يعبر عن انشاء وجوب الصلاة ... الى آخر الجملة)).

(١) هذا اجمال لما مرّ تفصيله من ان انتزاع السببية ـ واقعا ـ واخواتها لا يعقل ان يتطرقه الجعل التشريعي لا استقلالا ولا بالتبع ، بل انتزاع تلك العناوين والمفاهيم عنها منوط بالخصوصيات الذاتية الموجودة فيها تكوينا لا تشريعا ، فللسبب خصوصية توجب انتزاع عنوان السببية له ، وللشرط خصوصية اخرى توجب انتزاع عنوان الشرطية ، وللمانع خصوصية غير خصوصية السببية والشرطية توجب انتزاع عنوان المانعية له ، وللرافع ايضا خصوصية غير تلك الخصوصيات توجب انتزاع عنوان الرافعية له. والى ذلك اشار بقوله : ((فظهر بذلك)) أي فظهر بواسطة ما ذكرناه من البرهانين ((انه لا منشأ لانتزاع السببية)) حقيقة ((وسائر ما لأجزاء العلة للتكليف)) من العناوين كالشرطية والمانعية والرافعية الحقيقية الّا تلك الخصوصيات الذاتية الموجودة فيها تكوينا ، ولا يصح انتزاع هذه العناوين المختلفة ((الّا عمّا هي عليها من الخصوصية)) المختلفة ((الموجبة لدخل كل)) جزء من اجزاء العلّة ((فيه)) أي في انتزاع ذلك العنوان الخاص منه ((على نحو)) يكون دخل كلّ ((غير دخل الآخر)).

٧٨

بأمر آخر ، وما لم يتعلّق بها الامر كذلك لما كاد اتصف بالجزئية أو الشرطية ، وإن أنشأ الشارع له الجزئية أو الشرطية ، وجعل الماهية واجزائها ليس إلّا تصوير ما فيه المصلحة المهمّة الموجبة للأمر بها ، فتصوّرها بأجزائها وقيودها لا يوجب اتصاف شيء منها بجزئية المأمور به أو شرطه قبل الامر بها بالجزئية للمأمور به أو الشرطية له إنما ينتزع لجزئه أو شرطه بملاحظة الامر به ، بلا حاجة إلى جعلها له ، وبدون الامر به لا اتصاف بها أصلا ، وإن اتصف بالجزئية أو الشرطية للمتصوّر أو لذي المصلحة ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

(١) هذا النحو الثاني هو الذي لا يتطرق اليه الجعل التشريعي الاستقلالي ، وانما هو من المجعول التشريعي بالتبع ... وتوضيحه ببيان امور :

الاول : ان الجزئية والشرطية لها ثلاث مراتب :

الاولى : كون الشيء جزءا او شرطا في المرتبة الماهويّة ، فانه اذا كان مجموع امور يترتب عليها غرض واحد أو مصلحة واحدة يكون مجموع تلك الامور هو كل ما يترتب عليه ذلك الغرض ، وبعض تلك الامور هو بعض ما يترتب عليه ذلك الغرض او تلك المصلحة ، ومن هذا البعض ينتزع عنوان الجزئية الماهويّة ، واذا كان تأثير هذا المركب منوطا بشيء كان ذلك الشيء هو الشرط ومنه ينتزع عنوان الشرطية الماهويّة ، ولما كانت الماهية في مرتبة ماهويتها غير مجعولة : لا بالجعل التكويني ، لوضوح ان مجعوليتها تكوينا انما هي لها بحيث تترتب عليها الآثار بالفعل بناء على انها هي المجعولة بالاصالة ، او لوجودها بناء على اصالة الوجود واعتبارية الماهية ، ولا بالجعل التشريعي لما سيأتي من كون الجعل انما هو للماهية في مقام تعلق الامر والطلب بها.

٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

مضافا الى ان الجعل التشريعي هو الايجاد للماهية في مرحلة التشريع ، وحيث ان هذه الجزئية منتزعة من نفس الماهية في نفس الواقع في حال ما قبل الايجاد فلا يعقل ان تكون من المجعول التشريعي.

الثانية : هي الجزئية والشرطية في مقام اللحاظ والتصوّر ، فان كلّ ما تعلق به الامر والطلب لا بد وان يكون مسبوقا بتصوّر الطالب ولحاظه لذلك الشيء قبل تعلق طلبه به ، ومقام اللحاظ والتصوّر ليس من الجعل التشريعي ، بل هو جعل تكويني ذهني للشيء ، فالآمر في مرحلة التصوّر قد جعل ما تصوّره ذهنا لانه أوجده في عالم الذهن ، فهو في هذا المقام موجد ومكوّن ، لا انه جاعل ومشرّع ، وفي هذا المقام عند تصوّر الشيء المركب الذي يترتب عليه غرض واحد ومصلحة واحدة يكون مجموع ذلك المركب المتصوّر هو كلّ ذلك الشيء الذي يتعلق به الغرض ، وبعضه بعض ما يتعلق به الغرض ، واذا كان لذلك الشيء شيء آخر غير نفس المركب مما يتوقف عليه تأثيره في ترتب الغرض كان ذلك هو الشرط للمركب ، ومن هذا المقام ينتزع عنوان الجزئية لما هو جزء من المركب المتصوّر ، وعنوان الشرطية للشرط المتصوّر ، وقد عرفت ان الماهية في هذه المرحلة مجعولة بالجعل التكويني الذهني لا التشريعي.

لا يقال : ان الماهية المخترعة للشارع مقام تصورها للشارع هو مقام اختراعها بما هو شارع مخترع ، واذا كان هذا المقام مما هو للشارع بما هو شارع كان ذلك هو الجعل التشريعي ، اذ ليس الجعل التشريعي الّا الجعل الذي يكون للشارع بما هو شارع.

فانه يقال : فرق واضح بين تصوّر الشارع للشيء بما هو شارع وبين جعله له تشريعا بما هو شارع ، وتصوّر الشارع للشيء ليس هو الّا ايجاد تكويني ذهني لذلك الشيء في مقام تصوّره له ، لوضوح ان مقام التصور ليس هو مقام امر الشارع ونهيه ، وانما مقام امره ونهيه هو مقام تعلّق طلبه ، فهو مقام جعله وتشريعه على المكلفين دون مقام تصوّره له.

٨٠