بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-064-0
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

نقض اليقين بالشك ، وتحقق نقض اليقين بالشك انما يكون حيث لا يكون خبر العادل ، وانما لا يكون خبر العادل حجة في المقام حيث يكون دليل الاستصحاب مخصصا له ، فتخصيص دليل الامارة بالاستصحاب يتوقف على عدم تحقق حجية دليل الامارة ، ولما كان موضوع الامارة هو خبر العادل فموضوعه متحقق ، فعدم حجية دليل الامارة انما هو لاجل تخصيص حجيتها بدليل الاستصحاب ، فتخصيص الامارة بالاستصحاب يتوقف على تحقق موضوع الاستصحاب ، وتحقق موضوع الاستصحاب متوقف على عدم حجية دليل الامارة ، وعدم حجية الامارة متوقف على تخصيصها بالاستصحاب ، ونتيجة ذلك توقف حجية دليل الاستصحاب على حجيته ، وهو الدور.

وقد اتضح مما ذكرنا : ان لزوم الدور انما هو لاجل ان موضوع دليل الاستصحاب متوقف على عدم حجية دليل الامارة ، بخلاف موضوع دليل الامارة فانه غير متوقف على عدم حجية دليل الاستصحاب ، لان موضوع دليل الامارة هو خبر العادل والمفروض تحققه ، وموضوع دليل الاستصحاب هو نقض اليقين بالشك وهو متوقف على عدم حجية دليل الامارة ، ولبداهة انه مع الاخذ بدليل الامارة لا يكون الاخذ بخلاف المتيقن من نقض اليقين بالشك ، بل هو من نقض اليقين باليقين.

ومما ذكرنا يظهر ايضا : انه لا ينبغي ان يتوهم بان يقال : ان الدور جار من جهة الاخذ بدليل الامارة ايضا ، لان حجية العام الذي هو دليل الامارة متوقفة على عدم تخصيصه ، وعدم تخصيص العام في المقام متوقف على عدم حجية دليل الاستصحاب ، وعدم حجية دليل الاستصحاب متوقف على حجية دليل الامارة ، فحجية دليل الامارة تتوقف على نفسها وهو الدور.

ووجه دفع هذا التوهم قد ظهر مما ذكرنا ، لوضوح الفرق بين توقف دليل الاستصحاب على عدم حجية دليل الامارة ، فان التوقف من جانب دليل الاستصحاب انما هو من جهة توقف موضوعه على عدم حجية دليل الامارة ، بخلاف

٣٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

توقف حجية الامارة فانها غير متوقفة على عدم حجية دليل المخصص ، لفرض تحقق موضوعها بخبر العادل. نعم لو كان الموضوع للمخصص متحققا لكان اللازم الاخذ بدليل المخصص من باب تقديم الاقوى حجة على الاضعف حجة ، وحينئذ فان الدور يكون من جانب الاخذ بدليل العام ، لان حجية العام تتوقف على عدم وجود حجة اخص منها وهو المخصص ، وحجية المخصص لا تتوقف على عدم حجية العام ، كما في مثل دليل لا تكرم زيدا العام بالنسبة الى دليل اكرم العلماء. ولما كان التوقف من جانب المخصص في المقام من جهة الموضوع كان الدور لازما من جهته لا من جهة الامارة ، لان تحقق موضوعه يتوقف على عدم حجية دليل الامارة ، بخلاف الموضوع في الامارة فانه لا يتوقف على عدم حجية المخصص ، لان موضوع الامارة هو خبر العادل وهو متحقق ، بخلاف موضوع دليل الاستصحاب فانه نقض اليقين بالشك وهو متوقف على عدم حجية دليل الامارة ، ولذلك كان الدور لازما من جانبه لا من جانب دليل الامارة.

والحاصل : ان موضوع الاستصحاب متقوم بان الاخذ بخلاف اليقين السابق من نقض اليقين بالشك ، ولما كان الاخذ بالامارة ليس اخذا بالشك ، بل اخذ باليقين فلا نقض لليقين بالشك. فموضوع الاستصحاب متوقف على عدم وجود الامارة في مورده بخلافه. وموضوع الامارة لا يتوقف على عدم الاخذ بالاستصحاب ، لان موضوعها خبر العادل وقد أخبر ، وبعد اخباره يتحقق موضوع الامارة.

فاتضح : ان الاخذ بالاستصحاب يتوقف على عدم وجود الامارة في مورده ، بخلاف الامارة فان الاخذ بها لا يتوقف على عدم جريان الاستصحاب ، فلذلك كان الدور من جانب الاستصحاب لا من جانب الامارة. بخلاف الخاص والعام فان الامر فيه بالعكس ، لان الموضوع في العام متقوم بعدم وجود حجة اقوى منه ، والخاص حجة اقوى منه ، والخاص بعد ان كان هو الاقوى فلا يتقوم بعدم وجود

٣٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

العام ، اذ لا يتقوم الاقوى بعدم وجود الاضعف ، نعم الاضعف متقوم بعدم وجود الاقوى.

وقد اشار المصنف (قدس‌سره) الى لزوم الدور من جهة الاخذ بدليل الاستصحاب في المقام دون دليل الامارة بقوله : ((فانه يقال ذلك انما هو لاجل انه لا محذور في الاخذ بدليلها)) أي دليل الامارة. وحاصله : انه لما كان الاخذ بدليل الامارة لا محذور فيه ، فلذلك كان اللازم الاخذ بدليل الامارة ((بخلاف الاخذ بدليله)) أي بخلاف الاخذ بدليل الاستصحاب فانه فيه محذور ، لانه يستلزم اما التخصيص بلا مخصص فيما اذا قدمنا دليل الاستصحاب على دليل الامارة من غير تخصيص لدليل الامارة ، او الدور فيما اذا خصصنا دليل الامارة بدليل الاستصحاب ، ولذا قال : ((فانه يستلزم تخصيص دليلها)) أي دليل الامارة ((بلا مخصص)) أو لا يكون التخصيص ((الا على وجه دائر)) وذلك فيما اذا خصصنا دليل الامارة بدليل الاستصحاب ((اذ التخصيص به)) أي بدليل الاستصحاب ((يتوقف على اعتباره معها)) أي مع الامارة ((واعتباره كذلك)) أي مع الامارة ((يتوقف على التخصيص به)) لان المفروض ان دليل الامارة عام وقد تحقق موضوعه ، ومع تحقق موضوع العام لا بد من الاخذ به إلّا ان يخصص ، فتخصيص دليل الامارة بدليل الاستصحاب يتوقف على عدم اعتبار دليل الامارة واعتبار دليل الاستصحاب الذي هو المخصص ، واعتبار دليل الاستصحاب كذلك يتوقف على تخصيص دليل الامارة بالاستصحاب ، فتخصيص دليل الامارة بالاستصحاب يتوقف على عدم اعتبار دليل الامارة ، وعدم اعتبار دليل الامارة يتوقف على تخصيصه بدليل الاستصحاب ، فيتوقف التخصيص بالاستصحاب على نفسه وهو الدور ((اذ لولاه لا مورد له معها)) أي اذ لو لا التخصيص لكان اللازم الاخذ بالعام ، ومع الاخذ بالعام الذي هو دليل الامارة لا يكون مورد للاستصحاب ، فكون المورد موردا للاستصحاب يتوقف على ان يكون الاستصحاب مخصصا للامارة ، وكونه

٣٦٣

وأما حديث الحكومة فلا أصل له أصلا ، فإنه لا نظر لدليلها إلى مدلول دليله إثباتا وبما هو مدلول الدليل ، وإن كان دالا على إلغائه معها ثبوتا وواقعا ، لمنافاة لزوم العمل بها مع العمل به لو كان على خلافها ، كما أن قضية دليله إلغاؤها كذلك ، فإن كلا من الدليلين بصدد بيان ما هو الوظيفة للجاهل ، فيطرد كل منهما الآخر مع المخالفة (١) ، هذا مع لزوم

______________________________________________________

مخصصا لها لازمه توقف التخصيص به على نفسه ، لان الاستصحاب يتوقف على موضوعه وهو النقض ، ولا يتحقق النقض الا بعدم الامارة ، لانه مع الاخذ بالامارة لا نقض لليقين بالشك ((كما عرفت آنفا)).

(١) توضيحه يقتضي تقديم مقدمة : وهي ان الشيخ الاجل في رسائله يرى ان دليل الامارة حاكم على دليل الاستصحاب لا وارد عليه ، وكلام الشيخ مبني على كون الغاية في دليل الاستصحاب ـ وهي قوله ولكن تنقضه بيقين آخر ـ هي اليقين أي العلم الحقيقي ، لا أن الغاية للنقض هي الحجة ، فانه لو كانت الغاية هي الحجة فلا مناص عن الورود ، لان كون الغاية لدليل لا تنقض هي الحجة معناه عدم تحقق المغيى عند حصول ما هو الغاية له ، وارتفاع المغيى حقيقة بحصول غايته ، وعلى هذا تبتني الحكومة عند الشيخ.

فاذا عرفت هذا ... فنقول : ان الغاية لدليل لا تنقض لما كانت هي اليقين الحقيقي فدليل الامارة حاكم على دليل الاستصحاب ، لان الحكومة هي كون الحاكم شارحا للمحكوم : فتارة يكون الحاكم شارحا بدلالته المطابقية كقوله عليه‌السلام : لا شك لكثير الشك ، أو لا شك في النافلة ، فان هذا الدليل بدلالته المطابقية شارح لادلة الشكوك من البناء على الاكثر او للبناء على الفساد ، فنفي الحكم الدال عليه ادلة الشكوك بقوله لا شك لكثير الشك هو رفع الحكم بلسان رفع موضوعه ، ومعناه ان موضوع دليل الشكوك هو ما عدا شك كثير الشك وما عدا الشك في النافلة ، فانه لا يترتب

٣٦٤

.................................................................................................

______________________________________________________

على هذين الشكين الحكم المستفاد من ادلة الشكوك ، لا من ناحية البناء على الاكثر ولا من ناحية البناء على الفساد ، فيكون لا شك شارحا لادلة الشكوك بالادلة المطابقية.

واخرى : يكون الحاكم هو دليل الاعتبار لشيء والمحكوم دليل الاعتبار لشيء آخر ، كما في مقامنا فان خبر العادل ـ مثلا ـ الدال على لزوم البناء على الاكثر عند الشك في الركعات بعد الفراغ من سجدتي الركعة الثانية ليس شارحا لاستصحاب عدم الاتيان بالركعة المشكوك اتيانها ، ولكن دليل اعتبار الامارة شارح لدليل اعتبار الاستصحاب للدلالة الالتزامية الدال عليها دليل اعتبار الامارة ، فان المستفاد من دليل اعتبار الامارة كمثل قوله صدق العادل امران : المدلول المطابقي وهو لزوم تصديق العادل والبناء على صدقه ، والمدلول الالتزامي وهو الغاء احتمال الخلاف فيه ، وان ما اخبر به العادل وان كان مما يحتمل خلافه بدوا ، إلّا انه يجب الغاء هذا الاحتمال وعدم الاعتناء به. ولما كان الموضوع للاستصحاب هو الاعتناء بالشك ، لان دليل اعتبار الاستصحاب هو النهي عن نقض اليقين بالشك : أي ان دليل الاعتبار في الاستصحاب هو كون المنهي عنه هو الاعتناء بالشك وجعله ناقضا لليقين ، فاذا كان المتيقن ـ مثلا ـ هو الحلية ففي مورد الشك فيها لاحقا لا بد من الاخذ بالحلية المتيقنة ، لان الاخذ باحتمال الحرمة نقض لليقين بالشك ، فاذا قامت الامارة على الحرمة في حال الشك فدليل صدق العادل بدلالته الالتزامية يدل على الغاء احتمال الخلاف ، ومعناه كون الحكم هو الحرمة ، فهذا الحكم صدق به والغ احتمال ان لا يكون الحكم هو الحرمة ، ولازم هذا هو الشرح لدليل لا تنقض وبيان ان الحرمة التي تدل عليها الامارة ليست هي من الاحتمال الذي يكون الاخذ به من موارد نقض اليقين بالشك ، بل هو مورد يلزم البناء فيه على الحرمة ، فلا يكون احتمال الحرمة من موارد نقض اليقين بالاحتمال.

والحاصل : ان دليل اعتبار الامارة بواسطة دلالته على الغاء احتمال الخلاف يكون شارحا لدليل اعتبار الاستصحاب الذي كان دالا على النهي عن الاعتناء

٣٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

بالاحتمال ، وان مورده هو في غير ما قامت عليه الامارة ، فالنهي عن هذا الاعتناء هو في غير مورد الامارة ، لانه في ما قامت عليه الامارة لا يكون الاخذ بالاحتمال اخذا باحتمال لا ينبغي الاعتناء به ، لدلالة دليل اعتبار الامارة على ان احتمال كونه مما لا اعتناء به الغه وابن على انه مما ينبغي الاعتناء به. وحيث ان الاحتمال لا يرتفع حقيقة بالبناء على الغائه فلا بد وان يكون ارتفاعه ارتفاعا تعبديا بالبناء تعبدا على ارتفاعه.

والمتحصل من جميع ما ذكرنا هو : ان دليل اعتبار الامارة بدلالته الالتزامية على الغاء احتمال الخلاف يكون شارحا لدليل الاستصحاب بكون احتمال الخلاف في مورد الامارة مرتفعا تعبدا ، لان موضوع دليل الاستصحاب الذي هو متعلق النهي هو احتمال الخلاف للمتيقن ، فان هذا هو المنهي عنه في دليل لا تنقض. والحاصل : ان الاخذ بخلاف المتيقن هو المنهي عنه في الاستصحاب ، ولكن لما كان احتمال خلاف المتيقن مما يلزم الاخذ به لاجل اعتبار الامارة والغاء احتمال عدم مطابقته تعبدا ، فلا يكون احتمال الخلاف للمتيقن مما يشمله مورد النقض بسبب شارحية دليل اعتبار الامارة لاحتمال الخلاف الذي يكون موردا للنهي عن نقض المتيقن به ، فدليل اعتبار الامارة يكون رافعا تعبدا لموضوع النهي في دليل الاستصحاب ، وانما كان رفعا تعبدا لا واقعا لان البناء على تصديق العادل والغاء احتمال عدم مطابقته للواقع لا يرتفع حقيقة ، لشهادة الوجدان ببقاء احتمال عدم المطابقة ، فلا بد وان يكون ذلك رفعا للموضوع تعبدا لا حقيقة ، وهذا هو معنى الحكومة ... هذا غاية ما يمكن تقريب الحكومة برأي الشيخ الاجل (قدس‌سره).

وقد اورد عليه المصنف بايرادين : الاول : ان مبنى ما ذكره الشيخ من الحكومة هو كون دليل اعتبار الامارة دالا بالدلالة الالتزامية على الغاء احتمال الخلاف ، لوضوح ان الحكومة هي كون لسان دليل الحاكم شارحا لدليل المحكوم ورافعا لموضوعه ، فلا بد وان يكون ذلك مما يختص بالدلالة اللفظية المطابقية او الالتزامية.

٣٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

واما اذا كان الدليل لا دلالة له لفظية لا بالمطابقة ولا بالالتزام ، بل كان لازم دلالته عقلا ذلك ، فلا يكون شارحا وحاكما بحسب ما يستفاد منه ، ودليل صدق العادل ليس له إلّا الدلالة المطابقية وهو لزوم تصديق العادل والاخذ بمؤدى قوله ، واما دلالته على الغاء احتمال الخلاف فليست هي من الدلالات الالتزامية ، بل هي دلالة عقلية ، لان لازم الاخذ به عقلا عدم الاعتناء بخلافه والغائه ، وهذه الدلالة العقلية لازمة لكل دليل دل على الاخذ بشيء ، فكما ان دليل اعتبار الامارة لازمه عقلا الغاء احتمال الخلاف فيه ، فان دليل الاستصحاب ايضا كذلك ، فان الدليل الدال على الاخذ بالمتيقن لازمه ايضا الغاء احتمال الخلاف في البناء على المتيقن.

والحاصل : انه يلزم عقلا لكل دليل دل على العمل بمفاده ان يكون احتمال خلاف ما ادى اليه مفاده ملغيا ، وحينئذ فكما ان لازم مفاد الامارة عقلا الغاء احتمال خلافها ، فان لازم دليل الاستصحاب ايضا هو الغاء احتمال خلافه عقلا والاخذ بغيره ، وعلى هذا فيكون كل من دليل اعتبار الامارة ودليل اعتبار الاستصحاب طاردا للآخر ، لدلالة كل منهما عقلا على الغاء احتمال خلافه ، فدليل الاعتبار في الامارة لازمه الغاء العمل بالاستصحاب المؤدى الى خلاف الامارة ، ودليل الاعتبار في الاستصحاب ايضا لازمه الغاء العمل بالامارة القائمة على خلاف. والى هذا اشار بقوله : ((واما حديث الحكومة)) بان يكون دليل اعتبار الامارة حاكما على دليل اعتبار الاستصحاب ((فلا اصل له اصلا)) فان أساسه مبني على كون دليل الاعتبار في الامارة ناظرا بدلالته اللفظية ولو التزاما الى دليل الاعتبار في الاستصحاب ، وقد عرفت عدم بلوغ دليل الاعتبار في الامارة الى ان يدل بالدلالة اللفظية الالتزامية على الغاء احتمال خلافه ، بحيث يكون في مرحلة الاثبات الدلالي دالا على ذلك ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((فانه لا نظر لدليلها)) أي لا نظر لدليل اعتبار الامارة ((الى مدلول دليله)) أي الى مدلول دليل الاستصحاب ((اثباتا وبما هو مدلول الدليل)) ومراده من الاثبات هو مرحلة الدلالة الالتزامية ، نعم لدليل اعتبار

٣٦٧

اعتباره معها في صورة الموافقة ، ولا أظن أن يلتزم به القائل بالحكومة (١) ،

______________________________________________________

الامارة دلالة عقلية على ذلك ، والحاكمية منوطة بالشرح المنحصر في الدلالة اللفظية دون الدلالة العقلية ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((وان كان)) دليل الاعتبار في الامارة ((دالا على الغائه)) أي على الغاء الاستصحاب ((معها)) أي مع الامارة في مرحلة الدلالة العقلية ، وهي مراده من قوله : ((ثبوتا وواقعا)). ثم اشار الى الوجه في هذه الدلالة العقلية بقوله : ((لمنافاة لزوم العمل بها)) أي بالامارة ((مع العمل به)) أي بالاستصحاب ((لو كان على خلافها)). ثم اشار الى ان هذه الدلالة العقلية موجودة ايضا في دليل اعتبار الاستصحاب بقوله : ((كما ان قضية)) أي كما ان قضية دليل الاستصحاب ((هو الغاؤها كذلك)) أي الغاء الامارة ايضا فيما لو كانت قائمة على خلافه ((فان كلا من الدليلين بصدد بيان ما هو الوظيفة للجاهل)) وان مدلوله هو الوظيفة له ، ولازم هذا البيان عقلا هو الغاء اعتبار ما قام على خلافه ((فيطرد كل منهما الآخر مع المخالفة)) له بحسب هذه الدلالة العقلية.

(١) هذا هو الامر الثاني الذي اورده على الحكومة. وحاصله : ان الحكومة اذا كانت مستفادة من الدلالة الالتزامية على الغاء احتمال الخلاف ، فان لازم ذلك ان لا يكون دليل الامارة حاكما على دليل الاستصحاب فيما اذا كان الاستصحاب موافقا لما قامت عليه الامارة ، لوضوح ان الدلالة الالتزامية هي الغاء احتمال الخلاف ، فالدليل القائم على خلاف الامارة يجب الغاؤه ، واذا كان الاستصحاب موافقا للامارة فلا يكون من مصاديق ما قام على خلاف الامارة حتى يكون دليل الامارة حاكما عليه ، واذا لم يكن دليل الامارة حاكما عليه ، وقد عرفت تحقق موضوعه باليقين السابق والشك اللاحق ، فلازم ذلك ان يكون قائما مع قيام الامارة ، ومن البعيد ان يلتزم به من يقول بحكومة الامارة على الاستصحاب ، بل القائل بالحكومة يقول بها فيما اذا كان الاستصحاب موافقا للامارة او مخالفا لها. والى هذا اشار بقوله : ((هذا مع لزوم اعتباره)) أي يرد على الحكومة ـ مع ذكرنا من الايراد الاول ـ

٣٦٨

فافهم (١) فإن المقام لا يخلو من دقة.

______________________________________________________

ان لازم الحكومة المنوطة بالدلالة الالتزامية على الغاء احتمال الخلاف هو جريان الاستصحاب واعتباره ((معها في صورة الموافقة)) لانه لم يكن قائما على خلافها حتى يدل على رفعه تعبد الغاء احتمال الخلاف ((ولا اظن ان يلتزم به القائل بالحكومة)) بل ظاهر من يقول بالحكومة هي حكومة الامارة على الاستصحاب في صورة المخالفة والموافقة من غير فرق بينهما اصلا.

(١) الظاهر من قوله فافهم المتعقب بمثل قوله فان المقام لا يخلو من دقة هو عدم الاشارة بها الى شيء. وعلى فرض كونها اشارة في المقام ، فيمكن ان يكون مراده من الامر بالفهم هو عدم ورود الايراد الثاني على القائل بالحكومة ، لان موضوع الاستصحاب هو الشك والشك متقوم بطرفين ، ففيما لو كان المتيقن هو الحلية ، ففي مقام الاستصحاب فان لازم الشك في كون الحلية هي الباقية في حال الشك هو كون الحلية محتملة والحرمة محتملة ايضا ، فالامارة القائمة على الحلية والغاء احتمال الخلاف ـ وهي الحرمة ـ تكون رافعة تعبدا لموضوع الاستصحاب المتقوم بالشك في الحرمة ، فانه حيث لا يكون شك في الحرمة تعبدا لا موضوع للاستصحاب المتقوم بالشك في الحرمة.

ويحتمل ان يكون مراده من الامر بالفهم : هو ان مبنى الحكومة على كون المراد من اليقين في قوله ولكن تنقضه بيقين آخر هو خصوص اليقين ، وعلى هذا فالمراد من الغاء احتمال الخلاف المستفاد من دليل اعتبار الامارة هو تنزيل الامارة منزلة اليقين تعبدا ، فدلالته على الغاء احتمال الخلاف وان كانت عقلية ، إلّا ان لازمها الحكومة لتنزيل الامارة منزلة اليقين تعبدا ، بخلاف الاستصحاب فانه قاعدة يرجع اليها في مقام الشك في بقاء المتيقن ، فما كان منزلا منزلة اليقين تعبدا لا بد من كونه رافعا للشك تعبدا ، وليست الحكومة الا الرفع لموضوع المحكوم تعبدا لا واقعا.

٣٦٩

وأما التوفيق ، فإن كان بما ذكرنا فنعم الاتفاق ، وإن كان بتخصيص دليله بدليلها فلا وجه له ، لما عرفت من أنه لا يكون مع الاخذ به نقض يقين بشك ، لا أنه غير منهي عنه مع كونه من نقض اليقين بالشك (١).

______________________________________________________

والحاصل او بعبارة اخرى : ان حصر الشارحية في انها لا بد وان تكون بالدلالة اللفظية مما لا دليل عليه ، فان المدار على كون احد الدليلين شارحا للآخر ولو عقلا. هذا مضافا الى ان دعوى الدلالة الالتزامية على الغاء احتمال الخلاف ليست من الجزاف ، فانه بعد ان كان لسان الامارة ان ما قامت عليه هو الواقع ، فانه يدل بالدلالة الالتزامية الواضحة على ان غير ما قامت عليه الامارة لا بد من الغائه ، لانه مخالف للواقع الذي قامت عليه الامارة.

ومنه يظهر : ان الغاء احتمال الخلاف في الاستصحاب ليس لانه هو الواقع ، بل لانه ليس هنا غيره من القواعد الجارية عند الشك : أي ان المتيقن هو الذي يؤخذ به عند الشك لا غيره مما تقتضيه القواعد ، بخلاف الغاء احتمال الخلاف في الامارة فانه لان الامارة هي الواقع ، وبين هذين الالغاءين فرق واضح نتيجته حكومة الامارة على الاستصحاب. والله العالم.

(١) توضيحه : ان المستفاد من كلمات القوم ان هناك جمعا عرفيا وتوفيقا عرفيا ، والجمع العرفي يشمل الجمع بين الدليلين بنحو الورود والحكومة والتوفيق العرفي ، واما التوفيق العرفي في اصطلاحهم فهو غير الورود وغير الحكومة ، وهو فيما اذا كان بين الدليلين عموم وخصوص من وجه ، وحينئذ لا وجه للتخصيص الاصطلاحي لانه منوط بكون احد الدليلين اخص من الآخر ، ولكنه في التوفيق العرفي يكون العرف بحسب ارتكازه مقدما لاحد الدليلين على الآخر مع انه لا ورود له ولا حكومة على الآخر ، فالتوفيق العرفي بحسب الاصطلاح ـ كما سيأتي التعرض له في باب التعارض ـ هو تقديم احد الدليلين مع كون النسبة بينهما هي العموم من وجه ، لا للورود او الحكومة بل لانهم يرونه ـ بحسب ارتكازهم ـ مقدما.

٣٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا يخفى ان التوفيق العرفي حيث لا بد فيه من تحقق الموضوع لكل من الدليلين فلا مجال له في المقام ، لما عرفت من كون الامارة اما واردة على الاستصحاب لارتفاع الموضوع حقيقة ، او حاكمة وانه لا بقاء للموضوع تعبدا في الاستصحاب مع قيام الامارة ، فلا مجال للتوفيق العرفي الاصطلاحي. هذا كله في التخصيص الاصطلاحي والتوفيق العرفي.

واما التخصيص الاعم من التخصيص الاصطلاحي ، بان يقال ان المدار في تقديم الخاص على العام هو كون الخاص اظهر من العام ، وهذا المناط موجود في المقام ، لان الامارة والاستصحاب وان كان بينهما عموم من وجه لصدق الامارة في مورد لا يقين سابق فيه ، وصدق الاستصحاب دون الامارة في مورد اليقين السابق الذي لم تقم امارة فيه في حال الشك ، وصدقهما معا في المتيقن السابق الذي قامت الامارة فيه في حال الشك ... إلّا ان دليل اعتبار الامارة مقدم على دليل الاستصحاب لانه اظهر منه ، فيكون دليل الامارة مخصصا لدليل الاستصحاب وان كان بينهما عموم من وجه ... او يدعى التقديم للامارة للاجماع على تقديمها على الاستصحاب ... او يدعى تقديم الامارة عليه لعدم القول بالفصل بين تقديمها عليه في باب القضاء وبين غيره ، وتقديمها على الاستصحاب في باب القضاء مما لا اشكال فيه ، فانه في باب التداعي يقدم قول المدعي مع قيام الامارة عليه على قول المنكر الذي تكون له أمارة ايضا مع كون قوله موافقا للاستصحاب.

ويرد على هذه الدعوى وهي تقديم الامارة من باب التخصيص :

أولا : ان التخصيص منوط بحفظ الموضوع في كلا الدليلين ، وبعد قيام البرهان على الورود او الحكومة لا موضوع للاستصحاب مع الامارة اما حقيقة او تعبدا ، فلا وجه لدعوى التخصيص.

وثانيا : ان التخصيص الاصطلاحي لا مجال له في المقام ، لانه لا بد فيه من كون الخاص اخص من العام والمفروض هنا العموم من وجه ، واما التخصيص الاعم

٣٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

فمرجعه الى التوفيق العرفي او الى الحكومة ، وليس هناك شيء يسمى بالتخصيص الاعم في قبال التخصيص الاصطلاحي الخاص وفي قبال التوفيق العرفي والحكومة ، واذا كان في المقام فمرجعه الى التوفيق العرفي او الحكومة ، وقد عرفت ما يرد عليهما بناء على الورود. نعم بناء على ما قربناه في الحكومة المنفي هو التوفيق العرفي.

والحاصل : انه ان بنينا على ان المراد باليقين هو الحجة فالمتحصل هو الورود ، وان بنينا على ان المراد به هو اليقين الحقيقي فالحكومة.

واما الاجماع فهو اولا منقول ولا حجية للمنقول من الاجماع ، كما مر في باب الاجماع.

وثانيا : انه محتمل المدرك لاحتمال كون مدرك المجمعين هو الورود او الحكومة او التوفيق العرفي ، ومع احتمال المدرك لا يكون الاجماع دليلا بما هو اجماع.

واما عدم القول بالفصل ففيه : أولا : انه ان رجع الى القول بعدم الفصل فمرجعه الى الاجماع ، وإلّا فلا حجية لنفس عدم القول بالفصل ، لوضوح ان عدم القول لا يستلزم القول بالعدم ، والذي يمنع هو الاتفاق على القول بالعدم ، لا الاتفاق على عدم القول.

وثانيا : ان سبب التقديم للامارة على الاستصحاب هو ما ذكرناه : من كونها اما واردة على الاستصحاب او حاكمة. واما المصنف حيث يرى الورود قال (قدس‌سره) : ((واما التوفيق)) العرفي ((فان كان)) مرادهم به الجمع العرفي بحيث يشمل الورود فيكون المراد ((ب)) التوفيق بين دليل الامارة ودليل الاستصحاب هو ((ما ذكرنا)) من ان الجمع بينهما يقتضي تقديم الامارة لان دليل اعتبارها وارد على دليل اعتبار الاستصحاب ((فنعم الاتفاق)) بين مرادهم ومرادنا ((وان كان)) مرادهم ((ب)) التوفيق هو ((تخصيص دليله)) أي دليل الاستصحاب ((بدليلها)) أي بدليل الامارة ((فلا وجه له)) لانه لا بد في التخصيص من حفظ الموضوع لكل من الدليلين ولا موضوع للاستصحاب مع الامارة ((لما عرفت من انه لا يكون مع الاخذ

٣٧٢

خاتمة لا بأس ببيان النسبة بين الاستصحاب وسائر الاصول العملية ، وبيان التعارض بين الاستصحابين (١).

أما الاول : فالنسبة بينه وبينها هي بعينها النسبة بين الامارة وبينه ، فيقدّم عليها ولا مورد معه لها ، للزوم محذور التخصيص إلا بوجه دائر في العكس وعدم محذور فيه أصلا ، هذا في النقلية منها (٢).

______________________________________________________

به نقض يقين بشك لا انه غير منهي عنه)) لاجل الامارة ((مع كونه من نقض اليقين بالشك)).

(١) هذه الخاتمة تشتمل على امرين : الاول : بيان النسبة بين الاستصحاب وساير الاصول كالبراءة والاحتياط والتخيير.

الثاني : بيان التعارض بين الاستصحابين ، كما في الاستصحاب السببي والمسببي.

(٢) توضيحه : ان نسبة دليل الاستصحاب الى ادلة الاصول النقلية هو الورود ، وهي البراءة الشرعية في الشبهة البدوية الثابتة بدليل ما لا يعلمون ، والاحتياط النقلي وهو مختار الاخباريين في الشبهة البدوية بدليل التثليث او غيره من الاخبار المذكورة في مبحث البراءة.

والوجه في كونه هو الورود ما ذكره المصنف في حاشيته على الرسائل.

وحاصله : ان الموضوع في البراءة او الاحتياط هو الشك في حكم الشيء من كل جهة ، والغاية لاصل البراءة هو العلم بالحكم باي وجه وعنوان. ولعل الوجه في كون الموضوع فيما هو الشك من كل جهة هو اطلاق ما لا يعلمون ، فيكون المتحصّل منها ان ما لا يعلمون حكمه بكل وجه هو مرفوع حتى يعلموا بحكمه بوجه من الوجوه.

ويحتمل ان يكون الوجه في كون الموضوع في ساير الاصول هو الشك من كل جهة ، ان المرفوع فيها هو المؤاخذة ، والمؤاخذة كما تكون على الحكم الواقعي كذلك تكون على الحكم الظاهري ، فموضوع ساير الاصول هو الشك في الحكم من كل

٣٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

جهة ، بخلاف الاستصحاب فان الموضوع في الاستصحاب هو الشك في الحكم الذي كان متيقنا لا من كل وجه.

ولا يخفى ان الذي يظهر من الاساتذة المحشين في المقام : هو ان المراد من كون الشك في ساير الاصول هو الشك من كل جهة ، هو ان الشك في الاصول ـ غير الاستصحاب ـ هو الشك في الحكم اعم من الحكم الواقعي والظاهري ، بخلاف الاستصحاب فان الشك فيه من جهة الشك في الحكم الواقعي. ولعل الوجه فيه هو ان الاستصحاب لما كان هو الشك اللاحق المسبوق باليقين بالحكم ، والظاهر من اليقين بالحكم هو الحكم الواقعي ، وحيث كان متعلق الشك هو متعلق اليقين ـ فلا بد من ان يكون متعلق الشك هو الحكم الواقعي ، فلا يكون الشك في الاستصحاب هو الشك من كل جهة ، فتأمّل.

ويحتمل ان يكون مراده من ان الشك في الاستصحاب ليس هو الشك في الحكم من كل جهة ، هو ان الموضوع في الاستصحاب هو الشك في الحكم لا من كل وجه ، هو ان الاستصحاب لما كان متقوّما باليقين السابق والشك اللاحق ، وان متعلق الشك هو متعلق اليقين ، فلازم ذلك كون الموضوع في الاستصحاب هو الشك في الحكم الذي كان لا الشك في الحكم من كل جهة ، لان الحكم او الموضوع ذا الحكم لما كان متعلق اليقين السابق فالمتيقن السابق هو حكم معلوم ، وحيث انه لا بد من كون الشك اللاحق متعلقا بما تعلق به اليقين السابق ، فلا محالة يكون الشك اللاحق متعلقا بالحكم الذي كان لا بالحكم من كل جهة. وبعد تمامية هذا فلا بد من كون دليل الاستصحاب واردا على دليل البراءة ، لان موضوع البراءة هو المشكوك حكمه من كل جهة ، والغاية لها هو العلم بالحكم ولو بجهة من الجهات ، والموضوع في الاستصحاب حيث لم يكن هو المشكوك من كل جهة بل كان هو خصوص المشكوك في الحكم الذي كان ، وبعد تحقق موضوع الاستصحاب يكون المشكوك مما علم الحكم فيه بعنوان نقض اليقين بالشك ، ولازم هذا ارتفاع الموضوع حقيقة في البراءة ،

٣٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

لانها حكم ما لم يعلم حكمه اصلا ، فما علم حكمه بوجه من الوجوه هو الغاية لها ، وبعد تحقق موضوع الاستصحاب تكون الغاية قد تحققت به ، ويكون المشكوك مما علم حكمه حقيقة بوجه من الوجوه ، ومع تحقق الغاية في البراءة لا بد من ارتفاع المغيّى بحصول الغاية حقيقة.

وينبغي ان لا يخفى ان كون موضوع الاستصحاب هو الشك في الحكم الذي كان لا ينافي ان يكون الشك في الحكم شكا فيه من كل جهة ، فانه بعد انقلاب اليقين السابق الى الشك ففي حال الشك يشك في الحكم من كل جهة. ثم انه لو كان اليقين السابق متعلقه الحكم الظاهري يكون الشك شكا من كل جهة ، لفرض الشك في الحكم الواقعي في مورد الحكم الظاهري ، والشك في الحكم الظاهري لانقلاب اليقين الى الشك في الحالة اللاحقة ، وعلى هذا يكون الموضوع في الاستصحاب كالبراءة وهو المشكوك من كل جهة ، فكون حكم هذا المشكوك من كل جهة هو حرمة نقضه لا يكون رافعا للموضوع في البراءة ، لدلالتها على ان حكم المشكوك من كل جهة هو الحلية والاذن فيتعارضان ، وكون حكمه معلوما بعنوان نقض اليقين يعارضه كون حكم هذا المشكوك ايضا معلوما بواسطة عنوان كونه مما لا يعلم حكمه ، وكما ان الغاية للبراءة هي العلم بالحكم بوجه من الوجوه ، كذلك الغاية للاستصحاب هو اليقين بالحكم بوجه من الوجوه ، فدليل البراءة يقول ان حكم هذا المشكوك هو الترخيص ، ودليل الاستصحاب يقول ان حكمه هو حرمة نقض اليقين السابق فيه.

ومما ذكرنا يظهر ايضا انهما يتعارضان حيث يكون الموضوع في كل منهما هو الشك في الحكم من كل جهة ، فانه ايضا بمقتضى البراءة هو ان حكم هذا المشكوك هو الاذن والترخيص ، وحكمه بمقتضى الاستصحاب هو حرمة النقض لليقين السابق والاخذ به.

واتضح ـ ايضا ـ مما ذكرنا : ان دليل الاستصحاب انما يكون واردا على دليل البراءة فيما اذا كان الموضوع في البراءة هو المشكوك من كل جهة ، والموضوع في

٣٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الاستصحاب هو المشكوك في حكمه لا من كل جهة ، وعلى التعارض فلا بد ايضا من تقديم دليل الاستصحاب على بقية الاصول النقلية ، للتوفيق العرفي ، وهو دعوى ان دليل الاستصحاب اظهر من ادلة بقية الاصول النقلية ، لان الاستصحاب حيث انه الجري على طبق اليقين السابق فاليقين لوثاقته حدوثا كانه لا يؤثر فيه الشك ، فهو باق على حاله ووثاقته ، وليس في مورد ساير الاصول وثيق ، بل ليس فيه غير الشك وعدم العلم ، وهذه الدعوى لتقديم الاستصحاب لا باس بها.

وعلى كل حال فبناء على رأي المصنف من كون الموضوع في ساير الاصول هو المشكوك من كل جهة ، وفي الاستصحاب هو المشكوك لا من كل جهة ـ فلا بد من ورود دليل الاستصحاب على البراءة ، لان تحقق الحكم في البراءة يتوقف على تحقق موضوعه ، وهو كون موردها مشكوكا من كل جهة ، وتحقق موضوعها يتوقف على تخصيص دليل الاستصحاب في المورد الذي يكون هناك يقين سابق وشك لاحق ، لانه لو جرى دليل الاستصحاب لكان المورد مما علم حكمه بوجه من الوجوه ، وتخصيص دليل الاستصحاب اما بلا مخصّص وهو باطل قطعا لانه التزام بتحقق المعلول بلا علة ، واما ان يكون المخصّص هو نفس دليل البراءة وهو دوري ، لان تخصيص الاستصحاب بالبراءة متوقف على تحقق موضوعها ، وتحقق موضوعها يتوقف على رفع حكم دليل الاستصحاب ، ورفع حكم الاستصحاب متوقف على تخصيصه بدليل البراءة ، فتخصيص الاستصحاب بالبراءة يتوقف على نفسه. وهذا بخلاف رفع البراءة بالاستصحاب فانه يكون بالتخصيص لا بالتخصيص ، لان موضوع الاستصحاب هو الشك في الحكم الذي كان وهو متحقق ، ولا يرتفع بحكم البراءة لوضوح ان الشك في الحكم الذي كان موجودا في حال البراءة ، ومع تحقق الموضوع في الاستصحاب يجري الاستصحاب ، وبجريانه يكون المورد مما علم حكمه بوجه من الوجوه لتحقق الحكم فيه بعنوان حرمة نقض اليقين بالشك ، ومع تحقق الحكم فيه بالوجه الذي دلّ عليه دليل الاستصحاب يكون المورد مما يخرج عن البراءة

٣٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

تخصّصا لان موضوع البراءة هو ما لا يعلم حكمه بوجه من الوجوه ، فما علم حكمه بوجه من الوجوه خارج تخصّصا عن البراءة ، وهذا هو معنى الورود فان الورود هو التخصّص الذي يكون بسبب جعل الشارع لا بذاته ، كخروج الجاهل بالذات عن موضوع العالم في اكرام العالم.

واما بناء على التعارض وان التقديم للاستصحاب لاجل اظهرية دليله لوثاقة اليقين فيه فلا دور في المقام ، لتحقق الموضوع في كل منها ويكون التقديم للاستصحاب لاجل الاظهرية.

الآن ان يقال : ان الاظهرية توجب ان يكون الاظهر اقوى حجة من الظاهر ، ولذا يتقدّم الخاص على العام لانه اقوى حجة ، وقد عرفت ان تقديم العام على الخاص يتوقف على عدم وجود حجة في مورده اقوى منه ، بخلاف تقديم الخاص على العام فانه بعد ان كان الموضوع في الخاص متحققا ، وهو كونه اقوى حجة من العام ، فتقديمه على العام لا يتوقف على شيء ، بخلاف تقديم العام على الخاص فانه يتوقف على ان لا يكون هناك حجة اقوى منه ، وعدم وجود ما هو الاقوى يتوقف على تقديم العام فيلزم الدور ، وهذا بعينه جار في الاظهرية.

والمصنف حيث يرى ان الاستصحاب يتقدّم على ساير الاصول للورود ، وحاله حال الامارة بالنسبة الى الاستصحاب ... اشار الى ذلك بقوله : ((فالنسبة بينه)) أي بين الاستصحاب ((وبينها)) أي بين الاصول النقلية كالبراءة الشرعية والاحتياط النقلي على رأي الاخباريين ((هي بعينها النسبة بين)) دليل ((الامارة وبينه)) أي وبين دليل الاستصحاب ، وقد عرفت ان النسبة بينهما هي الورود فالنسبة بين الاستصحاب والبراءة النقلية هي الورود ((فيقدّم عليها)) أي فيقدم الاستصحاب عليها لانه وارد عليها ((ولا)) يكون لها ((مورد معه)) لان ثبوت البراءة في مورد الاستصحاب لازمه اما التخصيص بلا مخصص وهو باطل ، او كون التخصيص بنفس دليل البراءة وهو دوري ، واليه اشار بقوله : ((للزوم محذور التخصيص الّا

٣٧٧

وأما العقلية فلا يكاد يشتبه وجه تقديمه عليها ، بداهة عدم الموضوع معه لها ، ضرورة أنه إتمام حجة وبيان ومؤمن من العقوبة وبه الامان ، ولا شبهة في أن الترجيح به عقلا صحيح (١).

______________________________________________________

بوجه دائر في العكس)) ومراده من العكس هو الاخذ بدليل البراءة دون الاستصحاب ، لوضوح عدم امكان جريانهما معا ، حيث لا يعقل ان يكون متيقن الحرمة سابقا في حال الشك محكوما بالحرمة ومحكوما بالبراءة في البراءة ، فالاخذ لا بد وان يكون باحدهما ، والاخذ بالبراءة لازمه ما عرفت من المحذور ، وهو اما التخصيص بلا مخصص او التخصيص على وجه دائر ، وهذا بخلاف الاخذ بدليل الاستصحاب فان الاخذ به لا محذور فيه لتحقق موضوعه ، وعدم توقف تحقق موضوعه على عدم حكم البراءة ، ومع تحقق موضوعه يجري وبجريانه يرتفع موضوع البراءة كما عرفت ، والى هذا اشار بقوله : ((وعدم محذور فيه اصلا)) ، واشار الى كون هذا الكلام في الاصول الشرعية بقوله : ((هذا في النقلية)).

(١) لا يخفى ان الاصول العقلية هي البراءة العقلية ـ وهي قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ والاحتياط العقلي والتخيير العقلي ، ولا ريب في ورود دليل الاستصحاب عليها جميعا.

اما على البراءة العقلية فلأن موضوعها اللابيان والاستصحاب بيان.

واما الاحتياط العقلي فموضوعه احتمال العقوبة في الاخذ بأحد المحتملين بخصوصه ، ومع جريان الاستصحاب في احد المحتملين يحصل الامان من العقوبة فيما اذا كان مخالفا للواقع.

واما التخيير فموضوعه عدم تحقق الترجيح لاحد المحتملين ، ودليل الاستصحاب مرجح لاحد المحتملين.

فاتضح : انه بدليل الاستصحاب يحصل البيان فيرتفع موضوع البراءة العقلية ويحصل المؤمّن من العقوبة ، ويرتفع به موضوع الاحتياط العقلي ويحصل به

٣٧٨

وأما الثاني : فالتعارض بين الاستصحابين (١) ، إن كان لعدم إمكان العمل بهما بدون علم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما ، كاستصحاب وجوب أمرين حدث بينهما التّضاد في زمان الاستصحاب ، فهو من باب تزاحم الواجبين (٢) وإن كان مع العلم بانتقاض الحالة السابقة في

______________________________________________________

الترجيح ، ويرتفع به موضوع التخيير العقلي. وقد اشار الى ما ذكرنا بقوله : ((واما العقلية)) أي واما نسبة الاستصحاب الى الاصول العقلية ((فلا يكاد يشتبه وجه تقديمه عليها)) وانه هو الورود ((بداهة عدم الموضوع معه لها)) أي مع تحقق الاستصحاب يرتفع الموضوع فيها ((ضرورة انه)) أي ضرورة ان الاستصحاب ((اتمام حجة)) شرعية ((وبيان)) شرعي ، وبه يرتفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ((و)) هو ايضا ((مؤمن من العقوبة وبه)) يحصل ((الامان)) من تبعة التكليف الواقعي وبه يرتفع موضوع الاحتياط ((ولا شبهة في ان الترجيح به)) أي بالاستصحاب ((عقلا صحيح)) أي ان الاستصحاب بعد ان دلّ الدليل من الشارع عليه فالترجيح به لاحد المحتملين على الآخر صحيح عند العقل ، وبهذا يرتفع موضوع التخيير.

فاتضح ورود الاستصحاب على الاصول العقلية كلها ايضا.

(١) قد عرفت ان المقام الاول كان الكلام فيه من ناحية حال الاستصحاب والنسبة بينه وبين الامارة ، وبينه وبين الاصول الأخر النقلية العقلية.

واما المقام الثاني فالكلام فيه من جهة الاستصحابين من ناحية التعارض بينهما. والمراد من التعارض ليس ما كان نتيجته تساقط المتعارضين في الحجية اما في ذاتها او في فعليتها ، بل المراد من التعارض ما يعمّ ما كان نتيجته تساقطهما او الاخذ باحدهما تعيينا او تخييرا كما سيظهر ذلك.

(٢) توضيحه : بعد ما عرفت ان المراد من التعارض بين الاستصحابين ما يشمل ما كان نتيجته التساقط او الاخذ باحدهما تعيينا او تخييرا ، فالمراد من التعارض على

٣٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

هذا هو عدم امكان الاخذ بكلا الاستصحابين ، وعدم الاخذ بكلا الاستصحابين الذي اشار اليه المصنف في عبارته في مقامين : الاول : ما كان ذلك لعدم القدرة على الاخذ بهما. الثاني : ما كان التعارض للعلم بانتقاض الحالة السابقة في احدهما ، وسيأتي الكلام فيه.

واما الاول وهو ما كان التعارض في الاستصحابين لاجل عدم القدرة ، فهو كما اذا علم بوجوب الانفاق على احد الاقارب ثم شك في بقاء هذا الوجوب في الزمان اللاحق ولو لاحتمال غناه وعدم حاجته ، وعلم ايضا بوجوب التصدق بدرهم ثم شك في بقائه ولو لاحتمال عدم حياة من نذران يتصدق عليه بالدرهم ، فالاستصحاب في كلا المشكوكين جار ، ولكنه كان في حال جريان الاستصحابين لا يملك الّا درهما واحدا ، فاما ان يصرف الدرهم في نفقة القريب او في التصدق ، فالاستصحابان في المقام من جهة عدم القدرة على الاخذ بهما معا متعارضان.

ولا يخفى ان التعارض من ناحية عدم القدرة على الجمع يرجع الى التزاحم لاحراز الملاك في كليهما. وقد ذكر المصنف في حاشية الكتاب (١) ان الحكم التخيير بينهما ان لم يحرز اهمية احدهما ، والّا فيقدّم الاهم ... ثم اشكل على نفسه بما حاصله : ان الاهمية والمهميّة في الحكمين الواقعيين باعتبار ملاك الحكم فيهما ، لا في استصحابهما ، فان الملاك في استصحابهما هو نقض اليقين بالشك ، وهو فيهما على حدّ سواء فلا وجه لتقديم الاهم ، بل لا بد من الحكم بالتخيير في مقام الاستصحاب مطلقا ، وان كان في مقام اليقين بهما لا بد من تقديم الاهم منهما. ثم اجاب عنه بما نصه : وذلك أي ان لزوم تقديم الاهم ـ لان الاستصحاب انما يتبع المستصحب ، فكما ثبت به الوجوب يثبت به كل مرتبة منهما فيستصحب. ولعل الوجه في ذلك هو ان الاستصحاب لما كان بلسان ابقاء المتيقن فالمتيقن لما كان في

__________________

(١) كفاية الاصول بحاشية المحقق المشكيني (قدس‌سره) : ج ٢ ، ص ٣٥٥ (ط ، حجري).

٣٨٠