بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 964-497-064-0
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٢١

الرابع : إنه لا فرق في المتيقن بين أن يكون من الامور القارة أو التدريجية غير القارة ، فإن الامور غير القارة وإن كان وجودها ينصرم ولا يتحقق منه جزء إلا بعد ما انصرم منه جزء وانعدم ، إلّا أنه ما لم يتخلّل في البين العدم ، بل وإن تخلّل بما لم يخلّ بالاتصال عرفا وإن انفصل حقيقة ، كانت باقية مطلقا أو عرفا ، ويكون رفع اليد عنها ـ مع الشك في استمرارها وانقطاعها ـ نقضا.

ولا يعتبر في الاستصحاب ـ بحسب تعريفه وأخبار الباب وغيرها من أدلته ـ غير صدق النقض والبقاء كذلك قطعا (١) ، هذا مع أن الانصرام

______________________________________________________

ومرة اخرى يكون الموضوع المرتب عليه الحكم موضوعا خارجيا عرفيا كالخمر والخل مثلا ، وفيه يكون المدار في جريان الاستصحاب وعدمه من جهة بقاء الموضوع وعدمه موكولا الى نظر العرف ، لان المدار في جريان الاستصحاب وعدمه على نظر العرف ، والموضوع لما كان عرفيا فالمدار في كون رفع اليد عنه من نقض اليقين بالشك على نظره. هذا بعض الكلام على وجه الاجمال ، ولا مجال للتفصيل هنا لان بناء الكتاب على الاختصار.

(١) هذا التنبيه الرابع لبيان الاشكال في استصحاب الامور غير القارة التدريجيّة الوجود ... وانه هل يجري الاستصحاب فيها كما يجري في الامور القارة ام لا؟

وتوضيح الاشكال في جريان الاستصحاب في الامور غير القارة وهي التدريجية الوجود كالزمان والحركة ، هو ان الاستصحاب متقوّم باليقين السابق والشك اللاحق المتعلّق بما تعلق به اليقين ، فاتحاد القضية المتيقنة والقضية المشكوكة في جريان الاستصحاب مما لا بد منه ، وعلى هذا وقع الاشكال بانه لا مجال لجريان الاستصحاب الّا في الامور القارة غير التدريجية ، واما الامور التدريجية التي حقيقة ذاتها متقوّمة بالاخذ والترك ، وانه لا وجود للتالي الّا بعد انصرام السابق ، فلا وجه لجريان الاستصحاب فيها ، لان الشك دائما في مرحلة البقاء يكون مسببا عن وجود التالي

١٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

وعدمه ، مثلا النهار المشكوك في بقائه الذي هو عبارة عن سير الشمس بين افق الطلوع وافق المغيب ، فان الشك في بقائه انما هو للشك في تحقق النقطة الاخيرة لسير الشمس في افق المغيب وعدم تحققها ، فاليقين السابق في هذه الامور غير القارة قد تعلّق بما وجد وانعدم ، والشك اللاحق قد تسبب عن احتمال وجود آخر لم يكن متعلّقا لليقين ، ولا بد في الاستصحاب من اتحاد متعلق اليقين والشك ، اما اذا كان متعلق اليقين غير متعلق الشك فلا وجه لجريان الاستصحاب ، وفي الامور غير القارة دائما يكون متعلق اليقين الوجود الزائل ومتعلّق الشك وجودا آخر محتمل الحدوث .. هذا حاصل الاشكال في جريان الاستصحاب في الامور غير القارة التدريجية الوجود.

وتوضيح الجواب عنه : هو ان الامور التدريجية غير القارة وان كانت عبارة عن التدرّج في الوجود بحيث يوجد اللاحق فيها بانعدام السابق ، الّا ان هذه الاعدام التي هي مقوّمة للتدرّج الوجودي غير موجبة لتعدّد الموجود ، لان الموجود الذي حقيقته متقوّمة بوجود بعضه المتأخر بانعدام بعضه السابق لو كانت موجبة لتعدّد الوجود لكان غير القار لا وحدة وجودية له ، بل كان عبارة عن وجودات متعدّدة ، ولازم ذلك تحقق الجزء الذي لا يتجزأ ، وقد برهن في محلّه على عدم امكان تركّب الموجود من الاجزاء التي لا تتجزأ ، فهذه الاعدام لا تضرّ بوحدة الموجود عقلا ما دام متصلا ، وان الاتصال مساوق للوحدة في الامور التدريجية كما هو مساوق لها في الامور غير التدريجية ، وكما ان الخط الذي طوله يقدر بعشرات الفراسخ اذا لم يتخلل بين ابعاضه العدم هو واحد ، كالخط القصير الذي يكون مقدار طوله عقدة واحدة أو اقل من ذلك ، فكذلك الحال في الامور التدريجيّة ، فان النهار الذي هو مقدار سير الشمس بين الطلوع والمغيب هو واحد ، وان كان هو عبارة عمّا يزول ويوجد لكنه ما دام متصلا هو واحد حقيقة ، والّا لزم تركّب الزمان من الآنات غير المتناهية المحصورة بين حاصرين ، وهو محال كما حقّق في محله ، واذا كان الموجود

١٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

واحدا له وحدة اتصالية فكون حقيقته عبارة عن زائل وحادث لا تمنع عن جريان الاستصحاب ، لان متعلق اليقين دائما هو هذا الموجود الواحد المتصل ، فاليقين متعلق بوجود النهار وهو هذا الواحد المتصل ، والشك متعلق في بقاء هذا الواحد واستمراره ، ولا فرق بين الامور التدريجية غير القارة وغيرها من الامور القارة ، ومتعلق اليقين والشك فيهما واحد. نعم لو انتهت وحدة هذا الموجود غير القار ، بان علمنا بارتفاع النهار وتخلل العدم بين هذا الوجود المحدود وبين غيره من وحدات الزمان الاخرى المحدودة لم يكن حينئذ مجال للاستصحاب ، اما اذا لم يتخلل العدم فمتعلق اليقين هو متعلق الشك ، هذا بحسب البرهان والدّقة العقليّة. واما بحسب العرف فقد يتخلل العدم ولا يضر بحسب نظره في تحقق الاتصال العرفي وان انفصل حقيقة بحسب الدقة العقليّة. وقد اشار الى ما ذكرنا بقوله : ((لا فرق في المتيقن بين ان يكون من الامور القارة او التدريجية غير القارّة)) في جريان الاستصحاب وكون متعلق الشك هو متعلق اليقين في الامور التدريجية كما هو في الامور القارّة ((وان كان)) الامور التدريجية ((وجودها)) بنحو التصرّم والتدرّج بحيث ((ينصرم)) جزؤها السابق ويتلوه وجود الجزء اللاحق ((ولا يتحقق منه)) أي لا يتحقق من الوجود التدريجي ((جزء الّا بعد ما انصرم منه جزء وانعدم إلّا انه)) وجود واحد عقلا ((ما لم يتخلل في البين العدم)) البديل لهذا الموجود الواحد ، وليست هذه الاعدام اللازمة لحقيقته ـ حيث انه تدريجي الوجود يوجد لاحقه بانعدام سابقة ـ هي عدم بديل لهذا الموجود الواحد ، ولا يعقل ان تكون عدما بديلا ، لان المفروض كون هذا الامر التدريجي المركبة حقيقته من الاخذ والترك هو موجود واحد ، ومع كونه موجودا واحدا لا يعقل ان تكون هذه الاعدام هي العدم البديل ، والّا لزم تركّب الموجود الواحد من الشيء ونقيضه ، والعدم البديل هو العدم الذي يخلف هذا الموجود الواحد المحدود بالحدين ، فما لم يتخلل في البين العدم البديل لهذا الموجود الواحد فهو موجود واحد عقلا ودقّة ، واما بحسب العرف فقد يتخلل

١٤٣

والتدرج في الوجود في الحركة ـ في الأين وغيره ـ إنما هو في الحركة القطعية ، وهي كون الشيء في كل آن في حد أو مكان ، لا التوسطية وهي كونه بين المبدأ والمنتهى ، فإنه بهذا المعنى يكون قارا مستمرا (١).

______________________________________________________

العدم البديل ولكنه يكون بحيث لا يضر بالاتصال العرفي ، فيكون هذا الموجود متصلا واحدا عرفا لا حقيقة ، لانه حيث تحقق العدم البديل لهذا الموجود المحدود بالحدين فقد تحقق الانفصال حقيقة عقلا ، إلّا انه بحسب نظر العرف يكون الاتصال باقيا لعدم اعتنائه بهذا المقدار من الانفصال. والى هذا اشار بقوله : ((بل وان تخلل بما لم يخل بالاتصال عرفا)) وان كان هذا المقدار موجبا لتعدد الموجود عقلا لتحقق الانفصال عقلا بالعدم البديل ، إلّا ان العرف لما لم يكن هذا المقدار من الانفصال مضرا في رأيه بالاتصال فالموجود الواحد يكون باقيا بنظره.

وعلى كل فان لم يتحقق العدم البديل ((كانت)) الامور غير القارة ((باقية مطلقا)) عقلا وعرفا ((او)) تكون باقية ((عرفا)) لا عقلا ((ويكون رفع اليد عنها)) حيث تكون متعلقة لليقين ((مع)) فرض ((الشك في استمرارها وانقطاعها نقضا)) لليقين بالشك سواء لم يتخلل العدم البديل فتكون باقية عقلا وعرفا ، او تخلل العدم البديل وكان غير معتنى به في نظر العرف. ثم اشار الى الوجه في ذلك : أي الوجه في جريان الاستصحاب فيها بقوله : ((ولا يعتبر في الاستصحاب بحسب تعريفه)) المستفاد من ((اخبار الباب وغيرها)) كالسيرة مثلا ((من ادلته)) أي من ادلة الاستصحاب ((غير صدق النقض والبقاء كذلك)) أي بحسب نظر العرف الذي عليه المدار ((قطعا)) في جريان الاستصحاب وكون القضية المتيقنة بحسب نظره متحدة مع القضية المشكوكة.

(١) توضيحه : ان للحركة بين الحدين ـ سواء في مقولة الأين او غيرها من المقولات التي تقع فيها الحركة حتى الجوهر بناء على الحركة الجوهرية ـ ملاحظتين ، لان الاكوان المتجددة بين الحدين من المبدأ الى المنتهى : تارة تلاحظ تلك الاكوان التي

١٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

مجموعها ما يقع بين المبدأ والمنتهى ، فهذه الاكوان هي التي يتألف منها مجموع ما بين الحدين الذي هو عبارة عن مجموع تلك الاكوان التي يوجد اللاحق منها بانعدام السابق ، فلا وجود لهذا المحدود بين الحدين بحيث تجتمع فيه جميع اجزائه ، اذ بعد فرض كون اكوانه لا يوجد اللاحق منها الا بعد انعدام السابق فلا اجتماع لها في الوجود وهو واضح ، وانما هي مجتمعة في الخيال الراسم لهذه الاكوان الواقعة بين الحدين ... ومنه يتضح : ان نسبة هذه الاكوان الى الخط الراسم لها في الخيال الذي هو مجموع هذه الاكوان الواقعة بين الحدين هي نسبة الاجزاء الى الكل ، لوضوح ان الخط الممتد المتصل الواقع بين الحدين هو مجموع هذه الاكوان ، فهي بالنسبة اليه اجزاء يتكون منها ذلك الخط الممتد المتصل الموجود في عالم الخيال ، وهذه هي الحركة القطعية المصطلح عليها في فنها.

واخرى : يلاحظ نفس الكون بين المبدأ والمنتهى كعنوان ثابت تكون تلك الاكوان محققاته ومصاديقه ، فنسبة تلك الاكوان الى نفس الكون الملحوظ بهذا اللحاظ نسبة الجزئيات والافراد الى هذا الكون ، وتكون نسبة الكون الى هذه الاكوان المتجددة نسبة الكلي الى افراده ، وهذه الحركة التوسطية المصطلح عليها في فنها.

فاذا عرفت هذا ... نقول : ان الاشكال في جريان الاستصحاب في الامور التدريجية من حيث عدم اتحاد متعلق اليقين والشك ، انما يتوهم حيث يكون مجرى الاستصحاب هو الحركة القطعية التي تكون الاكوان فيها كاجزاء للكل ، وقد عرفت اندفاعه بما مر من ان العدم غير المتخلل لا يضر بوحدة المستصحب عقلا لان الاتصال مساوق للوحدة ، وانما يضر هو العدم المتخلل ، لا هذه الاعدام التي بها قوام حقيقة الحركة ، لان حقيقتها عبارة عن الاخذ والترك ، واما اذا كان المستصحب هو الكلي وهو نفس الكون بين المبدأ والمنتهى بحيث تكون الاكوان المتجددة افرادا له لا اجزاء فلا مجال للتوهم المذكور ، لان المستصحب هو الكلي الثابت ولا تجدد فيه.

١٤٥

فانقدح بذلك أنه لا مجال للاشكال في استصحاب مثل الليل والنهار وترتيب ما لهما من الآثار ، وكذا كلما إذا كان الشك في الامر التدريجي من جهة الشك في انتهاء حركته ووصوله إلى المنتهى ، أو أنه بعد في البين (١) ، وأما إذا كان من جهة الشك في كميته ومقداره ، كما في نبع الماء وجريانه ، وخروج الدم وسيلانه ، فيما كان سبب الشك في الجريان والسيلان الشك في أنه بقي في المنبع والرحم فعلا شيء من الماء والدم غير ما سال وجرى منهما ، فربما يشكل في استصحابهما حينئذ ، فإن الشك ليس في بقاء جريان شخص ما كان جاريا ، بل في حدوث جريان جزء آخر شك في جريانه من جهة الشك في حدوثه (٢) ، ولكنه يتخيل بأنه

______________________________________________________

ومنه ظهر : ان الاستصحاب في الحركة القطعية شخصي ، لان المستصحب فيها نفس هذا الواحد المتصل المستمر وهو شخص من الوجود متجدد بتحقق اللاحق من اجزائه بانعدام السابق من اجزائه. واما الاستصحاب في الحركة التوسطية فالمستصحب فيها كلي ثابت والاكوان المتجددة افراده ، نعم لو تم عدم صحة الاستصحاب في القسم الثاني من اقسام الكلي ـ وهو ما كان مرددا بين مقطوع الارتفاع ومشكوك الحدوث ـ لما جرى الاستصحاب في الحركة التوسطية ، لان الكلي فيها مردد بين مقطوع الارتفاع ومشكوك الحدوث ، إلّا انه قد عرفت جريان الاستصحاب فيه كما مر بيانه.

(١) بعد ما عرفت من عدم الاشكال في استصحاب الامور التدريجية بنحو الحركة القطعية والتوسطية ... تعرف انه لا مانع من جريان الاستصحاب في الليل والنهار فيما اذا شك في بقائه او انتهائه ويترتب على ذلك ما لهما من الآثار.

(٢) توضيحه : ان الشك في الجريان : تارة يكون للشك في وجود المانع عن الجريان مع العلم بان الكمية الموجودة في المنبع لو لا المانع يكون الجريان لها مستمرا ، وفي هذا الفرض لا اشكال في الاستصحاب ، وهو من قبيل الشك في الرافع الذي هو مما

١٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

لا اشكال في جريان الاستصحاب فيه اذا كان الشك من جهته ، واما الشك في الجريان من جهة انه امر تدريجي فقد عرفت انه لا مانع منه بعد كون الجريان امرا متصلا واقعا ، مضافا الى ان الشك في الجريان ليس شكا في امر تدريجي ، فان التدريجية فيما فيه الجريان وهو الماء السائل ، واما نفس الجريان القائم بالماء فلا تدريجية فيه ، إلّا ان يقال ان الجريان ذاتيه التدريجية كالحركة لانه من مصاديق الحركة.

وثانية : ان يكون الشك في الجريان من جهة الشك في مقدار كمية الماء في المنبع وانه ان كان كثيرا فلا اشكال في بقاء الجريان ، وان كان قليلا فلا يكون الجريان مستمرا ، لعدم وجود ما يقتضي بقاء استمراره ، ولا اشكال ايضا في جريان الاستصحاب في هذا الفرض ـ بناء على جريان الاستصحاب في الشك في المقتضي ـ لوضوح ان هذا الفرض من فروض الشك في المقتضي ، وقد مر من المصنف جريان الاستصحاب مطلقا سواء كان الشك من جهة الرافع او من جهة المقتضي.

وثالثة : يكون الشك في الجريان من جهة الشك باحتمال تولد ماء آخر جديد في المنبع ، مع العلم بان الماء الذي كان موجودا فيه قد جرى كله ولم يبق منه شيء ، وهذا الفرض من فروض استصحاب القسم الثالث من اقسام استصحاب الكلي ، لان الشك في بقاء الجريان انما هو لاحتمال وجود فرد خاص جديد يقوم به الجريان غير الفرد المقطوع الارتفاع ، وهذا هو مورد الاشكال عند المصنف في المتن في جريان الاستصحاب ، لا القسمان الاولان لوضوح تمامية اركان الاستصحاب فيهما.

واما في هذا الفرض فيشكل الاستصحاب لان الجريان الذي يستند الى الماء الذي كان قد ارتفع بالعلم بانتهاء الماء الذي كان في المنبع وحدوث ماء جديد آخر يقوم به الجريان مشكوك الحدوث ، فما هو متعلق اليقين لا شك فيه للعلم بارتفاعه ، وما هو متعلق الشك لا يقين فيه ، لفرض العلم بارتفاع ما كان وعدم اليقين بما هو مشكوك الحدوث. وقد اشار الى ما ذكرنا في هذا الفرض الثالث بقوله : ((واما اذا كان من

١٤٧

لا يختل به ما هو الملاك في الاستصحاب ، بحسب تعريفه ودليله حسبما عرفت (١).

______________________________________________________

جهة الشك في كميته ومقداره كما في نبع الماء وجريانه وخروج الدم وسيلانه)) أي بان كان الشك في بقاء جريان الماء وسيلان الدم ((في)) خصوص ((ما كان سبب الشك في الجريان والسيلان)) هو ((الشك في انه بقى في المنبع والرحم فعلا شيء من الماء والدم غير ما سال وجرى منهما)).

ولا يخفى ان تعبيره بقوله بقى في المنبع يوهم كون الشك من الشك في المقتضي الذي قد عرفت انه على مختاره لا اشكال في استصحابه ، ولكن تصريحه في ذيل عبارته يدل على ان مراده من قوله بقى هو انه هل تولد في المنبع والرحم شيء غير ما جرى وسال ام لا؟ ... واشار الى وجه الاشكال بقوله : ((فربما يشكل في)) صحة ((استصحابهما حينئذ)) بانه مع القسم الثالث من اقسام استصحاب الكلي الذي قد عرفت عدم جريانه لعدم تمامية اركان الاستصحاب فيه ((فان الشك ليس في بقاء)) ما تعلق به اليقين وهو ((جريان شخص ما كان جاريا)) لفرض العلم بان جميع ما كان في المنبع والرحم قد جرى وسال ((بل)) الشك في الفرض انما هو لاجل الشك ((في حدوث جريان جزء آخر)) من الماء والدم ((شك في جريانه من جهة الشك في حدوثه)).

(١) يظهر من المصنف ان الاشكال في عدم جريان الاستصحاب في هذا الفرض لا مدفع له ، ولهذا عبر عن دفعه بانه تخيل : أي يتخيل المتخيل خيالا لا واقع له من ان اركان الاستصحاب تامة في هذا الفرض ولكنه خيال لا واقع له.

إلّا انه يمكن ان يقال : بان الشك في الجريان غير الشك في بقاء الماء والدم ، فان الشك في بقائهما من الشك في القسم الثالث من اقسام الكلي الذي قد عرفت عدم تمامية اركان الاستصحاب فيه ، ولكن الشك في نفس الجريان لا مانع منه ، وكون ما به الجريان وهو الماء والدم لا مجرى للاستصحاب فيهما لا يستلزم عدم جريانه في

١٤٨

ثم إنه لا يخفى أن استصحاب بقاء الامر التدريجي ، إما يكون من قبيل استصحاب الشخص ، أو من قبيل استصحاب الكلي بأقسامه ، فإذا شك في أن السورة المعلومة التي شرع فيها تمت أو بقي شيء منها ، صح فيه استصحاب الشخص والكلي ، وإذا شك فيه من جهة ترددها بين القصيرة والطويلة ، كان من القسم الثاني ، وإذا شك في أنه شرع في أخرى مع القطع بأنه قد تمت الاولى كان من القسم الثالث ، كما لا يخفى ... هذا في الزمان ونحوه من سائر التدريجيات (١).

______________________________________________________

نفس الجريان ، وعدم جريان الاستصحاب في معروض الجريان وهو الدم والماء لا يلازمه عدم جريان الاستصحاب في عرضه وهو الجريان ، وليس هو باعظم من السبب والمسبب ، فان عدم جريان الاستصحاب في السبب لا يستلزم عدم جريان الاستصحاب في المسبب ، بل المدار في الجريان وعدمه هو اتحاد القضية المشكوكة والمتيقنة ، ولما كان الجريان مقطوعا به مشكوكا في استمراره كان اتحاد القضيتين متحققا ، وكون الشك في بقاء الجريان انما هو لاجل احتمال وجود ماء جديد او دم جديد لا يستلزم تعدد متعلق اليقين والشك في الجريان ، فانه بالوجدان ان نفس الجريان الذي كان متعلقا لليقين هو فعلا متعلق للشك بقاء ، لاحتمال انقطاع الماء والدم واحتمال بقائه لوجود ماء ودم جديد ، فاركان الاستصحاب في نفس الجريان تامة وان كانت في معروضه وهو الماء والدم غير تامة ، ولا ملازمة بينهما وجدانا. نعم الاشكال في الجريان هو كونه من الامور التدريجية ، وقد عرفت انه لا مانع من جريان الاستصحاب فيها استصحابا شخصيا كما في الحركة القطعية ، او بنحو استصحاب الكلي كما في الحركة التوسطية.

(١) حاصله : هو ما ذكرنا من ان الاستصحاب في الامور التدريجية يمكن جريانه بنحو الاستصحاب الشخصي ، بان يستصحب بقاء ذلك الشيء المستمر لاجل الوحدة الاتصالية ، فاذا شك ـ مثلا ـ في ان السورة التي شرع فيها هل تمت او انها لم تتم ،

١٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

بان وجد المكلف نفسه بعد أن ابتدأ بقراءة السورة قد كان ساكتا ، فلا يدري انه أتم السورة فسكت أو انه سكت في اثناء قراءتها ، فيمكنه ان يستصحب بقاء شخص القراءة المتصلة ويقتصر على القدر المتيقن ويقرأ الباقي الذي يشك في انه قرأه ام لا ، ويمكنه ان يستصحب بقاء كلي القراءة الثابتة التي تكون القراءة لأبعاض آيات السورة افرادا لها ، وهو من استصحاب الكلي كما عرفت بيانه في الحركة القطعية والحركة التوسطية ، وان الاستصحاب في الحركة القطعية شخصي لانه استصحاب لبقاء الواحد المتصل المستمر الذي منه تتكون اجزاء الحركة القطعية التي هي بين الحدين ، وان الاستصحاب لنفس الكلي الثابت بين الحدين التي تكون تلك الاكوان المتجددة افرادا له هو من استصحاب الحركة التوسطية ، وهو من استصحاب الكلي الباقي في بقاء افراده وهي تلك الاكوان المتجددة. والى ما ذكرنا اشار بقوله : ((فاذا شك في ان السورة المعلومة التي شرع فيها تمت او بقي شيء منها صح فيه)) جريان ال ((استصحاب)) الشخصي ((و)) جريان استصحاب ((الكلي)) ... هذا اذا كانت السورة التي شرع فيها معلومة.

واما اذا كانت السورة غير معلومة بان شك في انه قرأ التوحيد او قرأ الواقعة ، فان كانت السورة التوحيد فقد تمت قراءتها قطعا وان كانت الواقعة فلم تتم قطعا ، فيكون الشك على هذا الفرض من الشك في استصحاب القسم الثاني من اقسام الكلي ، الذي قد عرفت ان الشك فيه يكون مسببا عن تردده بين الفرد المقطوع الارتفاع والمقطوع البقاء ، وقد عرفت جريان الاستصحاب فيه ايضا لتمامية اركانه. والى هذا اشار بقوله : ((واذا شك فيه)) أي واذا شك في بقاء كلي القراءة ((من جهة ترددها بين)) السورة ((القصيرة)) والسورة ((الطويلة كان من)) اقسام استصحاب ((القسم الثاني)) من اقسام الكلي. واشار الى القسم الثالث من اقسام الكلي بقوله : ((واذا شك في انه شرع في)) قراءة سورة ((اخرى مع القطع بانه قد

١٥٠

وأما الفعل المقيد بالزمان ، فتارة يكون الشك في حكمه من جهة الشك في بقاء قيده ، وطورا مع القطع بانقطاعه وانتفائه من جهة أخرى ، كما إذا احتمل أن يكون التعبد به إنما هو بلحاظ تمام المطلوب لا أصله (١) ،

______________________________________________________

تمت)) السورة ((الاولى)) التي قد قرأها ((كان)) شكه ((من)) اقسام استصحاب ((القسم الثالث)) من اقسام الكلي الذي قد عرفت عدم تمامية اركان الاستصحاب فيه.

(١) توضيحه : ان الفعل المامور به اذا كان مقيدا بالزمان كما لو امر المولى بالجلوس في المسجد ـ مثلا ـ بالنهار ، فتارة : يكون الشك في بقاء هذا الوجوب المتعلق بالجلوس في المسجد في النهار لاجل الشك في بقاء النهار وعدم بقائه ، والى هذا اشار بقوله : ((فتارة يكون الشك في حكمه)) أي في بقاء حكم هذا الفعل المقيد بالزمان ناشئا ((من جهة الشك في بقاء قيده)) وهو الزمان. واخرى : يكون الشك في بقاء وجوب الجلوس في المسجد ليس من جهة الشك في بقاء النهار ، بان كان النهار مقطوعا بعدمه لتحقق الليل قطعا ، ولكنه مع ذلك يشك في بقاء وجوب الجلوس لاحتمال ان يكون الامر بالجلوس في المسجد في النهار كان بنحو تعدد المطلوب ، بان كان في نفس الجلوس في المسجد مصلحة ملزمة ، وفي كونه في النهار مصلحة اخرى ملزمة ، فمع القطع بارتفاع النهار على هذا الاحتمال لا يكون الامر بالجلوس في المسجد مرتفعا ايضا ، لاحتمال كون نفس الجلوس في المسجد مطلوبا ايضا لمصلحة في نفسه. والى هذا اشار بقوله : ((وطورا)) أي واخرى يكون الشك في بقاء الحكم المتعلق بالفعل المقيد بالزمان متحققا ((مع القطع بانقطاعه)) أي مع القطع بانقطاع الزمان ((وانتفائه)) وذلك بان يكون الشك في بقاء الوجوب انما هو ((من جهة اخرى)). وقد اشار الى تلك الجهة الموجبة للشك في بقاء الوجوب المتعلق بالفعل المقيد بالزمان مع القطع بانتفاء الزمان بقوله : ((كما اذا احتمل ان يكون التعبد به)) أي بالفعل المقيد بالزمان ((انما هو بلحاظ)) كون الفعل المقيد بالزمان ((تمام المطلوب)) لاشتماله على المصلحتين المصلحة الملزمة في نفس الجلوس في المسجد ، والمصلحة

١٥١

فإن كان من جهة الشك في بقاء القيد ، فلا بأس باستصحاب قيده من الزمان ، كالنهار الذي قيد به الصوم مثلا ، فيترتب عليه وجوب الامساك وعدم جواز الافطار ما لم يقطع بزواله (١) ، كما لا بأس باستصحاب

______________________________________________________

الاخرى الملزمة وهي كونه في النهار ، فاذا احتملنا ذلك فلا يرتفع الوجوب بارتفاع النهار ، لانه لنفس الجلوس في المسجد وجوب غير وجوب الجلوس فيه في النهار ، وهذا هو مراده من قوله : ((لا أصله)) أي ان اصل الجلوس في المسجد مطلوب ، والجلوس فيه في النهار مطلوب آخر.

(١) لا يخفى انه قد ظهر مما مر ان هنا شرطيتين : الاولى : ان يكون الشك في بقاء الحكم المتعلق بالمقيد بالزمان من جهة الشك في بقاء الزمان وانقطاعه ، وهو تارة للشبهة الموضوعية كما لو شك في نهار رمضان بان النهار الذي هو ذهاب الحمرة المشرقية قد انتهى ـ لذهاب الحمرة ـ ام لا؟

واخرى : للشبهة الحكمية بان كان قد علم بغياب القرص ، ولكن شكه انما كان لاجل الشك في ان النهار هل هو غياب القرص او ذهاب الحمرة المشرقية؟

ولا يخفى انه في الشرطية الثانية قد قسم الزمان الى كونه ظرفا للحكم او قيدا للموضوع ، ولم يقسم هذا التقسيم في الشرطية الاولى ، لوضوح انه سيأتي ان نفس القيد مجرى للاستصحاب ، ومع كونه مجرى للاستصحاب فلا بد من ثبوت الحكم سواء كان الزمان ظرفا للحكم او قيدا للموضوع ، بخلافه في الشرطية الثانية كما سيأتي بيانه. ثم انه بعد ما تقدم من كون الامر التدريجي مجرى للاستصحاب ، فاذا شككنا في انتهاء النهار اما للشبهة الموضوعية او للشبهة الحكمية فلا مانع من استصحاب بقائه وبه يثبت بقاء النهار ويترتب عليه بقاء الوجوب ، والى هذا اشار بقوله : ((فلا بأس باستصحاب قيده)) أي قيد الفعل المتعلق به الوجوب وهو الامساك في نهار رمضان مثلا ، فيستصحب بقاء نفس القيد ((من الزمان كالنهار

١٥٢

نفس المقيد ، فيقال : إن الامساك كان قبل هذا الآن في النهار ، والآن كما كان فيجب (١) ، فتأمل (٢).

______________________________________________________

الذي قيد به)) وجوب ((الصوم مثلا فيترتب عليه وجوب الامساك وعدم جواز الافطار ما لم يقطع بزواله)) أي بزوال النهار وانقطاعه بالقطع بدخول الليل.

(١) حاصله : انه كما يمكن ان يجري الاستصحاب في نفس القيد وهو النهار ، كذلك يمكن ان يجري الاستصحاب في المقيد وهو الامساك في النهار ، بان يقال : كان الامساك في النهار متيقنا والآن مشكوك البقاء فيبنى على بقائه ، واليه اشار بقوله : ((كما لا بأس ... الى آخر الجملة)).

(٢) لعله اشارة الى ان الشك في المقيد بالزمان مسبب عن الشك في نفس الزمان ، ومع فرض جريان الاستصحاب في السبب وهو الزمان فلا مجال لاستصحاب المقيد بالزمان لانه مسبب عنه.

او لعله اشارة الى ما ذكره في حاشيته على الرسائل.

وحاصله : ان الزمان تارة يكون ظرفا للحكم كما اذا قال : اذا دخل النهار فامسك ، واخرى يكون مقوما للموضوع كما اذا قال : الامساك في النهار مطلوب أو يقول : امسك في النهار ، فاذا كان الزمان ظرفا للحكم فاستصحاب الزمان كاف ، وذلك لعدم تقييد موضوع الحكم به ، وباستصحاب الزمان يتعبد بالوجوب لتحقق ما كان ظرفا له تعبدا وهو الزمان بواسطة الاستصحاب ، واما اذا كان الزمان قيدا للموضوع فاستصحاب نفس القيد لا يثبت المقيد ، بل لا بد من استصحاب المقيد بنفسه .. بدعوى ان استصحاب القيد مثبت للمقيد ، لان لازم تحقق النهار تحقق الامساك المقيد بالنهار.

وفيه ان استصحاب النهار استصحاب لجزء الموضوع في الحكم المرتب على ذلك الموضوع ، واستصحاب جزء الموضوع ليس من المثبت كاستصحاب العاصمية المرتبة

١٥٣

وإن كان من الجهة الاخرى ، فلا مجال إلا لاستصحاب الحكم في خصوص ما لم يؤخذ الزمان فيه إلا ظرفا لثبوته لا قيدا مقوما لموضوعه ، وإلا فلا مجال لا لاستصحاب عدمه فيما بعد ذاك الزمان ، فإنه غير ما علم ثبوته له ، فيكون الشك في ثبوته له ـ أيضا ـ شكا في أصل ثبوته بعد القطع بعدمه ، لا في بقائه (١).

______________________________________________________

على الماء البالغ كرا ، فانه تثبت العاصمية باستصحاب اطلاق الماء لو شك به ، وباستصحاب الكرية لو شك بها ، وباستصحابهما معا لو شك بهما. والله العالم.

(١) توضيح الحال في هذه الشرطية الثانية ، وهي ما اذا شك في بقاء الحكم المتعلق بالفعل المقيد بالزمان لا من جهة الشك في بقاء الزمان لفرض القطع بانقطاع الزمان ، وانما كان سبب الشك هو احتمال كون الزمان قيدا لتمام المطلوب وكما له ، لا لأصل المطلوب ... فاتضح : ان ارتفاع القيد وهو الزمان مقطوع به في هذه الشرطية ، ومع القطع بارتفاعه لا مجال لاستصحابه.

فاذا عرفت هذا ... نقول : ان الزمان المأخوذ ـ كما مر بيانه ـ : تارة يكون ظرفا للحكم كما اذا قال اذا دخل النهار فامسك ، واخرى : يكون قيدا للموضوع كما اذا قال امسك في النهار. فان كان ظرفا للحكم لا قيدا للموضوع فلا مانع من جريان الاستصحاب في وجوب الامساك ، لان كون الزمان ظرفا للحكم لا يستلزم ارتفاع الحكم ، بل يحتمل بقاؤه لاحتمال كون وجوب الامساك في النهار له دخل في كماله لا في اصل مطلوبيته ، وعليه فوجوب الامساك كان متيقنا والآن يشك في بقائه فيستصحب وجوب الامساك ، ولازمه التعبد بوجوب الامساك بعد ارتفاع النهار مثلا.

واما اذا كان الزمان قيدا مقوما للموضوع فلا مجال لاستصحاب الوجوب ، لانه متعلق على الفرض بالامساك المقيد بالنهار ولا مجال لاستصحاب المقيد ، لان المفروض كونه هو الامساك المقيد بكونه في النهار ، ومع ارتفاع القيد يرتفع المقيد كله

١٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الذي ذات المقيد بعضه وان احتملنا ان في نفسه مصلحة ملزمة ، إلّا انه لا يعقل ان يكون لنفس ذات المقيد وجوب غير الوجوب المتعلق به بما هو مقيد ، لعدم امكان ان يكون ذات المقيد واجبة في حال كون المقيد بما هو مقيد واجبا ، لمحالية اجتماع بعثين فعليين على شيء واحد ، وبعد تعلق البعث بالمقيد لا يعقل ان يتوجه بعث آخر لذات المقيد ، فلم يبق إلّا احتمال حدوث وجوب آخر متعلق بذات المقيد بعد ارتفاع الوجوب المتعلق به بما هو مقيد ، وهو من القسم الثالث من اقسام استصحاب الكلي الذي قد عرفت عدم صحة جريان الاستصحاب فيه ، واذا كان الوجوب المتعلق بذات المقيد بعد ارتفاع القيد مشكوك الحدوث فلا محالة يكون مسبوقا بالعدم ، فيكون الاستصحاب الجاري هو عدم تعلق الوجوب بذات المقيد.

وقد اشار الى التفصيل المذكور بجريان الاستصحاب فيما كان الزمان ظرفا لثبوت الحكم دون ما اذا كان قيدا لموضوعه ، بقوله : ((وان كان)) الشك في البقاء لا من جهة الشك في بقاء الزمان ، بل كان ((من الجهة الاخرى)) بان كان ذلك بعد ارتفاع الزمان لاحتمال دخالة الزمان في تمام المطلوب لا في اصل المطلوب ، واذا كان الشك من هذه الجهة ((فلا مجال الا لاستصحاب الحكم في خصوص ما لم يؤخذ الزمان فيه الا ظرفا لثبوته)) كما اذا قال : اذا دخل النهار فامسك ، فان ظاهر هذا الامر هو كون النهار ظرفا لثبوت الامر بالامساك ، وقد عرفت انه لا مانع من جريان الاستصحاب فيه لتيقن الوجوب والشك في ارتفاعه ((لا)) فيما اذا كان الزمان ((قيدا مقوما لموضوعه)) كما اذا قال : امسك في النهار ، فان ظاهره تعلق الوجوب بالامساك المقيد بالنهار ، وعلى هذا ((فلا مجال الا لاستصحاب عدمه)) أي لا مجال إلّا لاستصحاب عدم وجوب الامساك ، لان الوجوب المتعلق بالامساك المقيد بالنهار قد ارتفع بارتفاع النهار الذي هو القيد ، لان من الواضح عدم بقاء المقيد مع ارتفاع قيده ، والوجوب المتعلق بذات المقيد وهو نفس الامساك مشكوك الحدوث كما عرفت ، وكل مشكوك الحدوث مسبوق بالعدم ، فالوجوب المتعلق بذات الامساك

١٥٥

لا يقال : إن الزمان لا محالة يكون من قيود الموضوع وإن أخذ ظرفا لثبوت الحكم في دليله ، ضرورة دخل مثل الزمان فيما هو المناط لثبوته ، فلا مجال إلا لاستصحاب عدمه (١).

______________________________________________________

كان متيقنا في حال تعلق الوجوب بالامساك المقيد ، وبعد ارتفاع هذا الوجوب المتعلق بالمقيد يشك في حدوثه فيستصحب عدمه.

فاتضح انه : لا مجال لاستصحاب وجوب الامساك في النهار بعد ارتفاع النهار ، وانه لا بد من استصحاب عدم وجوب الامساك ((فيما بعد ذاك الزمان)) وهو النهار الذي قد علم ارتفاعه. وقد اشار الى الوجه في استصحاب عدم وجوب الامساك بعد ارتفاع النهار بقوله : ((فانه غير ما علم ثبوته له)) أي ان الوجوب المحتمل في المقام هو الوجوب المتعلق بذات المقيد وهو غير الوجوب الذي علم ثبوته ، فانه هو الوجوب المتعلق بالمقيد بما هو مقيد ((فيكون الشك في ثبوته)) أي فيكون الشك في ثبوت وجوب آخر ((له ايضا)) أي لذات المقيد ((شكا في اصل ثبوته)) أي شكا في اصل ثبوت وجوب آخر ((بعد القطع بعدمه)) أي بعدم تعلق الوجوب بذات المقيد فيستصحب عدمه و ((لا)) يكون هناك وجوب متيقن الثبوت مشكوك ((في بقائه)) حتى يستصحب.

(١) توضيحه : انه بعد ان بنى على ان الزمان اذا كان ظرفا للحكم فلاستصحاب الحكم مجال ، واذا كان قيدا للموضوع فلا مجال للاستصحاب ... يرد عليه ان ظرفية الزمان للحكم بان لا يكون دخيلا في المصلحة غير معقول لانه فرض لغويته المحضة ، ولا يعقل جعل شيء ظرفا للحكم بلا جهة موجبة لذلك ، فان اللغوية على الشارع محال ، فلا بد وان يكون الزمان دخيلا ، ويتعين ان يكون دخيلا في متعلق الحكم ، لان الحكم هو الارادة للشيء ونفس الارادة ليست من ذوات المصالح والمفاسد ، فلاجل ذلك يتعين ان يكون الزمان دخيلا في الموضوع المتعلق للحكم ، واذا كان دخيلا في موضوع الحكم لا يجري الاستصحاب كما مر الاعتراف به.

١٥٦

فإنه يقال : نعم ، لو كانت العبرة في تعيين الموضوع بالدقة ونظر العقل ، وأما إذا كانت العبرة بنظر العرف فلا شبهة في أن الفعل بهذا النظر موضوع واحد في الزمانين ، قطع بثبوت الحكم له في الزمان الاول ، وشك في بقاء هذا الحكم له وارتفاعه في الزمان الثاني ، فلا يكون مجال إلا لاستصحاب ثبوته (١).

______________________________________________________

فتلخص : انه اذا كان الشك من الجهة الاخرى لا يجري استصحاب الحكم ، سواء كان في لسان الدليل اخذ الزمان ظرفا لثبوت الحكم او قيدا لموضوعه ، لرجوع ما هو ظرف للحكم الى كونه قيدا للموضوع ، وانما يجري دائما استصحاب عدم الحكم. والى ما ذكرنا اشار بقوله : ((ان الزمان لا محالة يكون من قيود الموضوع وان اخذ ظرفا لثبوت الحكم في)) لسان ((دليله)) لان الظرفية المحضة غير معقولة لانها مساوقة للغويته المحال على الحكيم ، لان اخذ ما لا غاية في اخذه اصلا في ثبوت حكم الشارع محال على الشارع ، والارادة ليست من ذوات المصالح ، فيتعين ان يكون الزمان دخيلا في موضوع الحكم ومن قيوده ، لدخالته في المصلحة المترتبة على الموضوع المتعلق به الحكم ، وهذا مراده من قوله : ((ضرورة دخل مثل الزمان فيما هو المناط لثبوته)) أي لثبوت الحكم وهو المصلحة المترتبة على الموضوع المقيد ، واذا رجع الزمان الذي اخذ ظرفا لثبوت الحكم الى كونه قيدا لموضوعه ((فلا مجال)) لاستصحاب الحكم حينئذ ، بل لا مجال ((إلّا لاستصحاب عدمه)) أي عدم الحكم كما عرفت.

(١) حاصل الجواب : انه سيأتي ان المدار في تعيين موضوع الاستصحاب هو نظر العرف ، لا نظر العقل ولا لسان الدليل كما سيأتي شرحه ان شاء الله تعالى ، والعرف يرى الفرق بين ما اذا اخذ الزمان ظرفا لثبوت الحكم وبين ما اذا اخذ قيدا لموضوعه في لسان الدليل ، فان قوله عليه‌السلام اذا دخل النهار امسك ـ بنظر العرف ـ غير قوله امسك في النهار ، فان العرف يرى ان الموضوع في الاول هو الامساك ، وفي

١٥٧

لا يقال : فاستصحاب كل واحد من الثبوت والعدم يجري لثبوت كلا النظرين ، ويقع التعارض بين الاستصحابين ، كما قيل (١).

______________________________________________________

الثاني هو الامساك المقيد بكونه في النهار ، وقد عرفت انه اذا كان الحكم متعلقه هو الامساك فلا مانع من جريان الاستصحاب ، بخلاف ما اذا كان الموضوع هو الامساك في النهار فانه لا مجرى للاستصحاب فيه. نعم لو كان المدار في تعيين موضوع الاستصحاب هو الدقة العقلية لما كان مجرى للاستصحاب وان كان الزمان ظرفا لثبوت الحكم ، والى هذا اشار بقوله : ((نعم لو كانت العبرة في تعيين الموضوع)) في باب الاستصحاب ((بالدقة)) العقلية ((ونظر العقل)) لكان الامر كما ذكر من عدم جريان الاستصحاب وان كان الزمان ظرفا لثبوت الحكم ((واما اذا كانت العبرة)) في تعيين موضوع الاستصحاب ((بنظر العرف فلا)) ينبغي ((الشبهة)) في جريان الاستصحاب فيما كان الزمان ظرفا لثبوت الحكم لما هو واضح ((في ان الفعل بهذا النظر)) أي بنظر العرف ((موضوع واحد)) وهو الامساك غير المقيد ، بخلاف ما اذا كان قيدا للموضوع فانه يكون هناك موضوعان : الامساك المقيد بالزمان المخصوص ، والامساك فيما هو خارج عن ذلك الزمان ، اما اذا كان الزمان ظرفا لثبوت الحكم فالموضوع عند العرف هو واحد وهو الامساك غير المقيد ، واذا كان الموضوع واحدا ((في الزمانين)) اتحدت القضية المتيقنة والقضية المشكوكة ويكون الامساك مما ((قطع بثبوت الحكم له في الزمان الاول وشك في بقاء هذا الحكم له وارتفاعه)) عنه ((في الزمان الثاني)) ومع وحدة الموضوع واتحاد القضيتين ((فلا يكون مجال الا لاستصحاب ثبوته)) أي استصحاب ثبوت الحكم الذي كان له سابقا وهو وجوب الامساك.

(١) حاصله : انه يظهر من الفاضل النراقي في المقام جريان الاستصحابين في الحكم المتعلق بما اخذ الزمان فيه : أي يجري فيه استصحاب وجود الحكم واستصحاب عدم الحكم ويتعارضان ، لانه قال في المعارج : فيما لو علم وجوب الجلوس يوم الجمعة

١٥٨

فإنه يقال : إنما يكون ذلك لو كان في الدليل ما بمفهومه يعم النظرين ، وإلا فلا يكاد يصح إلا إذا سبق بأحدهما ، لعدم إمكان الجمع بينهما لكمال المنافاة بينهما ، ولا يكون في أخبار الباب ما بمفهومه يعمهما ، فلا يكون هناك إلا استصحاب واحد ، وهو استصحاب الثبوت فيما إذا أخذ الزمان ظرفا ، واستصحاب العدم فيما إذا أخذ قيدا ، لما عرفت من أن العبرة في هذا الباب بالنظر العرفي ، ولا شبهة في أن الفعل فيما بعد ذاك الوقت معه قبله متحد في الاول ومتعدد في الثاني بحسبه ، ضرورة أن الفعل المقيد بزمان خاص غير الفعل في زمان آخر (١) ،

______________________________________________________

الى الزوال وشك فيه فيما بعد الزوال ، يجوز استصحاب الوجوب الى ما بعد الزوال كما يجوز استصحاب عدمه الثابت قبل التكليف بالجلوس ... انتهى.

وحاصل ما يقوله المصنف : انه لعل نظر النراقي في دعوى جريان استصحاب الوجود والعدم الى انه بناء على كون الموضوع بنظر العرف يجري استصحاب الوجود ، وبناء على كونه بنظر العقل يجري استصحاب العدم.

وقد اورده المصنف بنحو لا يقال ، وحاصله : انه اذا كان هناك نظران نظر العقل ونظر العرف ، فيجري استصحاب وجود الحكم لنظر العرف ، ويجري استصحاب العدم بنظر العقل ، ويتعارض الاستصحابان. وفي قوله كما قيل اشارة الى انه لعل نظر من قال بجريان الاستصحابين في المقام وتعارضهما الى ذلك وهو الفاضل النراقي.

(١) توضيحه : انه لا يعقل ان يكون الدليل المستفاد منه حجية الاستصحاب شاملا لكلا النظرين ، لان لازمه جعل المتناقضين ، وكما ان اجتماع المتناقضين واقعا محال فتشريع المتناقضين محال ايضا لانه من الجمع بين النقيضين ، لان لازمه اعتبار الاستصحاب وعدم اعتباره ، فلا يعقل ان يكون دليل الاستصحاب شاملا لكلا النظرين ، بل لا بد وان يكون منزلا على احد النظرين في تعيين موضوع

١٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الاستصحاب ، وسيأتي ان اخبار الاستصحاب منزلة على النظر العرفي ، وعليه فلا مجال في المقام الا لاستصحاب وجود الحكم ، ولا يجري استصحاب عدمه لانه انما يجري حيث يكون الموضوع موكولا لنظر العقل ، والمفروض عدم كون العقل مرجعا في تعيين موضوع الاستصحاب. وقد اشار الى عدم امكان الجمع بين النظرين في موضوع الاستصحاب بقوله : ((انما يكون ذلك)) أي انما يعقل جريان الاستصحابين معا في المقام ((لو كان في الدليل)) الدال على حجية الاستصحاب ((ما بمفهومه يعم النظرين وإلّا)) أي وان لم يكن ما يدل على الاستصحاب شاملا لكلا النظرين ((فلا يكاد يصح)) جريان الاستصحابين معا بل لا يصح إلّا أحدهما ، وهو المراد من قوله : ((إلّا اذا سبق باحدهما)). واشار الى الوجه في عدم عموم الدليل لهما بقوله : ((لعدم امكان الجمع بينهما لكمال المنافاة بينهما)) ويكون لازم شمول الدليل لهما اعتبار المتنافيين وهو محال ((و)) عليه ((لا)) يعقل ان ((يكون في اخبار الباب ما بمفهومه يعمهما فلا يكون هناك الا استصحاب واحد)). واشار الى ان المدار على نظر العرف ، وعليه فيكون الجاري استصحاب الوجود دون استصحاب العدم بقوله : ((وهو استصحاب الثبوت فيما اذا اخذ الزمان ظرفا واستصحاب العدم فيما اذا اخذ)) الزمان ((قيدا لما عرفت من ان العبرة في هذا الباب بالنظر العرفي)). واشار الى الوجه في جريان استصحاب الوجود فيما كان الزمان ظرفا للحكم ، وجريان استصحاب العدم فيما كان الزمان قيدا للموضوع بقوله : ((ولا شبهة في ان الفعل فيما بعد ذاك الوقت)) وهو فرض الشك في بقاء الوجوب للامساك بعد ارتفاع النهار مثلا ، فان نسبة الشك في بقاء وجوب الامساك بعد ارتفاع النهار ((معه)) أي مع الفعل ((قبله)) أي قبل ارتفاع النهار ((متحد في الاول)) وهو ما اذا كان الزمان ماخوذا على نحو يكون الزمان ظرفا لثبوت الحكم ، والقضية المشكوكة متحدة مع القضية المتيقنة بنظر العرف ، وان الامساك كان واجبا والآن مشكوك الوجوب فيستصحب ((و)) لكنه ((متعدد في الثاني)) وهو ما اذا كان الزمان قيدا للموضوع

١٦٠