بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 946-497-063-2
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٢٣

الفعل والترك ، وشمول مثل كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام له (١) ،

______________________________________________________

الثاني : الاخذ باحدهما تعيينا وهو الحرمة لترجيحها على الوجوب ، وعدم احتمال ترجيح الوجوب عليها ، واليه اشار بقوله : ((ووجوب الاخذ باحدهما تعيينا)).

الثالث : الاخذ باحدهما تخييرا بان يأخذ اما بالفعل فلا يكون له الاخذ بالترك أو يأخذ بالترك فلا يكون له الاخذ بالفعل ، والى هذا اشار بقوله : ((او تخييرا)).

الرابع : التخيير بين الفعل والترك عقلا. والفرق بينه وبين الثالث انه على الرابع له ان يفعل وان يترك أي لا يكون له الاخذ بالفعل والترك معا ، فان شاء فعل وان شاء ترك ، ولكن ذلك من ناحية حكم العقل في المقام ، واما من ناحية الحكم الشرعي فهو التوقف فليس له الافتاء بالاباحة الشرعية ، والى هذا اشار بقوله : ((والتخيير بين الترك والفعل عقلا مع التوقف عن الحكم)) الشرعي ((به رأسا)).

الخامس : التخيير بين الفعل والترك عقلا مع الحكم فيه بالاباحة شرعا ، واليه اشار بقوله : ((او مع الحكم عليه بالاباحة شرعا)) أي مع التخيير فيه بين الفعل والترك عقلا الحكم عليه ايضا بالاباحة شرعا.

ولا يخفى الفرق ايضا بين القول الاخير والقول الاول وهو البراءة عقلا ونقلا ، لما سيأتي الاشارة اليه من عدم جريان البراءة العقلية ، وان الحكم العقلي بالتخيير بين الفعل والترك لا من جهة قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ومختار المصنف هو الاخير واليه اشار بقوله : ((أوجهها الاخير)).

(١) لا يخفى ان مختار المصنف مركب من جزءين : الجزء الاول هو التخيير عقلا بين الفعل والترك ، والدليل عليه هو انه بعد قيام الحجة على الفعل وعلى الترك فهما متنافيان لا يمكن العمل بهما بما هو عمل بالحجة ، ولا مرجح لاحدهما على الآخر ، فلا تأثير للحجتين وان تم البيان فيهما لفرض فعليتهما ، فالعقل يرى عدم المانع عن الفعل وعن الترك لا من جهة عدم البيان الفعلي ، بل من جهة عدم منجزيتهما وعدم

٦١

ولا مانع عنه عقلا ولا نقلا (١).

______________________________________________________

الترجيح لاحدهما ، فلا مانع يراه العقل من ارتكاب الفعل او الترك ، وهو غير حكمه بجواز الارتكاب لقاعدة قبح العقاب بلا بيان لفرض تحقق البيان هنا ، غايته انه بيان لا يمكن ان يؤثر ، وسيأتي لهذا مزيد بيان ان شاء الله تعالى عند تعرض المصنف لعدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في المقام ، والى هذا اشار بقوله : ((لعدم الترجيح بين الفعل والترك)).

والجزء الثاني هو الحكم بالاباحة شرعا لان المقام مما يشمله قوله عليه‌السلام : (كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام بعينه) بناء على ما مرّ منه : من استظهار شموله للشبهة الحكمية ولا اختصاص لها بالشبهة الموضوعية ... وبناء على ما مرّ منه ايضا من شموله لمشكوك الوجوب كمشكوك الحرمة ... وبناء ايضا على ان المراد من الغاية وهي حتى تعرف انه حرام بعينه هي المعرفة الموجبة للتنجّز ، وبعد تمامية هذه الامور الثلاثة فهي تشمل المقام مما دار الامر فيه بين الوجوب والحرمة لعدم معرفة انه حرام بعينه.

(١) الموانع المتوهّمة عن شمول دليل الاباحة للمقام اما عقلية او نقلية ، اما العقلية :

فمنها : انه لما كان المقام هو دوران الامر بين وجوب الفعل وحرمته ، فاذا كان واجبا كان الفعل لازما ، واذا كان حراما كان العدم لازما ، وحيث ان الشخص لا يخلو عن فعل الشيء او تركه فهو مضطر الى احدهما ، ومع الاضطرار الى احدهما فلا مجال لجعل الاباحة شرعا ، للغوية ذلك ، وعدم فائدته بعد ان كان المقام مما يضطر اليه.

والجواب عنه : ان الاضطرار المانع عن الحكم حتى حكم الاباحة هو الاضطرار السالب للقدرة ، ومن الواضح ان الشخص وان كان مما لا مناص له من ان يفعل او يترك ، الّا انه يفعل بالقدرة والارادة ويترك بالقدرة والارادة ، ودليل الاباحة جار في الفعل من جهتين : من جهة احتمال وجوبه ، ومن جهة احتمال حرمته ، ففي مقام

٦٢

وقد عرفت أنه لا يجب موافقة الاحكام التزاما ، ولو وجب لكان الالتزام إجمالا بما هو الواقع معه ممكنا ، والالتزام التفصيلي بأحدهما لو لم يكن تشريعا محرما لما نهض على وجوبه دليل قطعا (١) ، وقياسه

______________________________________________________

جريانه من جهة احتمال الوجوب لا يكون الشخص مضطرا من ناحية فعل ذلك الشيء حتى يكون الترخيص لغوا ، وفي مقام جريانه من ناحية احتمال الحرمة لا يكون مضطرا الى الترك حتى يكون الترخيص في الترك لغوا ايضا.

ومنها : ان الحكم بالاباحة انما يكون في مقام يمكن للشارع ان يحكم فيه بالاحتياط ، ومن الواضح انه لا يمكن ان يحكم الشارع في المقام بالاحتياط ، لعدم امكان الاحتياط فيما دار الامر فيه بين الوجوب والحرمة.

والجواب عنه : ان الحكم بالاباحة شرعا لا يختص بان يكون مما يجوز ان يحكم الشارع فيه بالاحتياط ، بل الشرط فيه امكان الجعل التعبدي فيه لغير الحكم بالاباحة ، ومن الواضح انه يمكن التعبد الشرعي بان يجعل الشارع في المقام لزوم الفعل او لزوم الترك.

ومنها : ما اشار اليه في المتن من مانعية لزوم الموافقة الالتزامية ، وسيأتي بيانه والجواب عنه.

(١) لا يخفى ان الكلام في وجوب الموافقة الالتزامية من ناحيتين :

الاولى : انه هل للحكم موافقتان : موافقة جوارحيّة ، وموافقة جنانيّة وهي الالتزام بالحكم جنانا؟ .. وقد مرّ الكلام فيها في مباحث القطع.

الثانية : في ان الموافقة الالتزامية ـ على القول بها ـ هل تمنع عن جريان الاصول ام لا؟ وهذه الناحية هي المربوطة بمقامنا ، وقد مرّ الكلام ايضا فيها في مباحث القطع ، وبعد تعرّض المصنف لذكر وجوب الموافقة الالتزامية في المقام من حيث كونه مانعا عن جريان اصالة الاباحة في ما دار الامر فيه بين الوجوب والحرمة ، فلا بد من التعرّض لما يمكن من تقريبه والجواب عنه ..

٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

اما تقريبه فنقول : ان الالتزام في المقام اما باحد الحكمين تعينيا او تخييرا او الالتزام بالجامع وهو الالزام لان الحكم الواقعي اما وجوب او حرمة ، وعلى كل من هذه الاحتمالات فلا يمكن جعل الاباحة في مورده لمنافاة الحكم فيه بالاباحة لما التزم به جنانا على كل حال ، وهو واضح لان الحكم الملتزم به الزامي في هذه الصور الثلاث كلها.

والجواب عنه اولا : بانه قد قد مر في مباحث القطع انه لا دليل على وجوب الموافقة الالتزامية لا من العقل ولا من الشرع ، وانه ليس هناك امتثالان امتثال خارجي وامتثال جناني.

وثانيا : ان الالتزام على فرض تسليم وجوبه ، فهو انما يجب حيث يمكن الالتزام بالحكم المعلوم تفصيلا ، اما اذا لم يعلم به تفصيلا فالالتزام فيه بعنوان كونه واجبا او بعنوان كونه محرما اما تعيينا او تخييرا لا دليل عليه اولا ، وثانيا انه مستلزم للتشريع لفرض عدم معلومية الحكم الواقعي المعلوم اجمالا ، واما الالتزام بالالزام الجامع فباطل ايضا ، لوضوح ان الالزام الموجود في المقام لم يكن حكما بما هو الزام وجنس ، لعدم تحققه بما هو جنس ، بل هو متحقق في ضمن احد فصليه اما في ضمن الوجوب او في ضمن الحرمة ، فالالتزام بالالزام بحده الجنسي ليس من الالتزام بالحكم في المقام.

نعم الالتزام الممكن في المقام هو الالتزام بما هو حكم الله واقعا بهذا العنوان بنحو الاشارة اليه بهذا المقدار اجمالا ، والالتزام بالحكم بهذا العنوان لا ينافي جعل الاباحة فيه ظاهرا.

فان قلت : ان الحكم الواقعي في المقام إما وجوب او حرمة فالالتزام فيه ولو بنحو ما ذكر ينافي جعل الاباحة ظاهرا.

فانا نقول : انه لا منافاة بين الالتزام بالحكم الواقعي غير المؤثر وهو باق على واقعيته من دون ان يكون منجزا ، وبين جعل الاباحة ظاهرا ، وقد اشار الى عدم

٦٤

بتعارض الخبرين الدال أحدهما على الحرمة والآخر على الوجوب (١) باطل ، فإن التخيير بينهما على تقدير كون الاخبار حجة من باب السببية

______________________________________________________

وجوب الموافقة الالتزامية حتى تكون مانعا عن قاعدة الحل في المقام بقوله : ((وقد عرفت)) في مباحث القطع ((انه لا يجب موافقة الاحكام التزاما)).

واشار الى انه لو سلمنا وجوبها لكان اللازم الالتزام بالحكم اجمالا وبما هو حكم الله واقعا ، وهذا الالتزام لا يمنع عن جريان هذا الاصل في المقام بقوله : ((ولو وجب)) الالتزام بالاحكام جنانا ((لكان هو الالتزام اجمالا بما هو الواقع)) و ((معه)) أي مع هذا الالتزام الاجمالي كان شمول كل شيء للمقام ((ممكنا)) لما عرفت من عدم المنافاة بين الالتزام الاجمالي وجريان قاعدة الحل في المقام.

واشار الى ان الالتزام التفصيلي باحدهما تشريع اولا ، وثانيا انه لا دليل على وجوبه في المقام لفرض عدم معلومية الحكم تفصيلا بقوله : ((والالتزام التفصيلي باحدهما لو لم يكن تشريعا محرما لما نهض على وجوبه دليل قطعا)).

(١) لما اشار الى عدم المانع العقلي عن جريان القاعدة من ناحية وجوب الموافقة ، اشار الى عدم المانع نقلا.

وتوضيحه : ان قياس المقام بتعارض الخبرين الدال احدهما على الوجوب والآخر على الحرمة : تارة لان يكون القياس بالخبرين هو المدرك للاخذ باحدهما بخصوصه في المقام تخييرا ، ومع كون الواجب هو الاخذ باحدهما لا وجه للقول الخامس وهو التخيير بين الفعل والترك عقلا وجريان قاعدة الحل نقلا.

واخرى : ان يكون القياس لاجل وجوب الالتزام باحدهما بخصوصه ، ومع وجوب الالتزام باحدهما بخصوصه لا يكون مجال لجريان قاعدة الحل في المقام.

وعلى كل فبطلان قياس المقام بتعارض الخبرين الدال احدهما على الوجوب والآخر على الحرمة ينفي الامرين معا ، وان كان ظاهر المصنف في المتن هو الكلام من الناحية الثانية.

٦٥

يكون على القاعدة ، ومن جهة التخيير بين الواجبين المتزاحمين ، وعلى تقدير أنها من باب الطريقية فإنه وإن كان على خلاف القاعدة ، إلا أن أحدهما ـ تعيينا أو تخييرا ـ حيث كان واجدا لما هو المناط للطريقية من احتمال الاصابة مع اجتماع سائر الشرائط ، صار حجة في هذه الصورة بأدلة الترجيح تعيينا ، أو التخيير تخييرا ، وأين ذلك مما إذا لم يكن

______________________________________________________

وحاصله : ان التكليف الواقعي وان كان لا يقتضي الالتزام التخييري بينه وبين الالتزام بضده ، لوضوح ان كل حكم يقتضي الالتزام به بنفسه لا التخيير بين الالتزام به او بضده ، وكذلك فيما كان الدال على وجوب الالتزام هو الدليل الخارجي الدال على وجوب الالتزام بالاحكام ، فانه انما يدل على وجوب الالتزام بالاحكام بعناوينها المختصة بها ، ولا دلالة على الالتزام تخييرا بين عنوان الحكم وبين عنوان الحكم الآخر.

إلّا انه لما دل الدليل في تعارض الخبرين على لزوم الاخذ باحدهما تخييرا فيجب الالتزام بمؤدى الخبر الذي يختاره المكلف.

والملاك في تعارض الخبرين موجود في المقام لان الملاك في التخيير في تعارض الخبرين : اما لمراعاة الحكم الظاهري الدال عليه الخبران وان لا يترك كلا الحكمين الظاهرين ، فالمقام اولى لانه من دوران الامر بين الحكمين الواقعيين.

واما لان الملاك في التخيير بين الخبرين المتعارضين هو لاجل احداث الخبرين لاحتمال الحكم الواقعي ، وهنا اولى ايضا لوضوح العلم في المقام بان الواقع يدور بين الاحتمالين من الوجوب والحرمة ، فالملاك للتخيير بين الخبرين موجود في المقام ، ومع تحقق الملاك لا بد في المقام من الاخذ باحد الامرين ، ومع الاخذ به فهو الذي يجب الالتزام به ، ولا مجال حينئذ لجريان قاعدة الحل في المقام ، والى ما ذكرنا اشار بقوله ((وقياسه)) أي قياس المقام ((بتعارض الخبرين الدال احدهما على الحرمة والآخر على الوجوب)).

٦٦

المطلوب إلا الاخذ بخصوص ما صدر واقعا؟ وهو حاصل ، والاخذ بخصوص أحدهما ربما لا يكون إليه بموصل (١).

______________________________________________________

(١) وحاصله : ان قياس المقام بالخبرين باطل ، لان حجية الاخبار اما من باب السببية والموضوعية ، ويكون قيام الخبر على حكم موجبا لكونه هو الحكم الواقعي ، ولازم ذلك كون التعارض بين الخبرين يكون من قبيل المتزاحمين ، وعليه فيكون التخيير في الخبرين المتعارضين على القاعدة ، لان كل واحد من الخبرين قد اقتضى ان يكون مؤداه حكما واقعيا ، وحيث لا يمكن الجمع بينهما فلا بد من التخيير بينهما.

وقد اتضح مما ذكرنا بطلان قياس المقام بالخبرين المتعارضين على السببية ، لان المفروض في المقام كون الحكم الواقعي هو احد الحكمين لا كلاهما ، فلا وجه لقياس ما كان الحكم الواقعي احدهما بما كان الحكم الواقعي كليهما ، والى هذا اشار بقوله : ((فان التخيير بينهما)) أي بين الخبرين الدال احدهما على الوجوب والآخر على الحرمة ((على تقدير كون الاخبار حجة من باب السببية يكون على القاعدة)) اذ بعد ان كان مؤدى كل واحد منهما حكما واقعيا ، ولا يمكن الجمع بينهما لتزاحمها ، ولا يجوز تركهما لانه من ترك الواجب قطعا ، فلا بد من التخيير بينهما ويكون ذلك ((من جهة التخيير بين الواجبين المتزاحمين)) ولا يصح قياس المقام به لان الحكم الواقعي فيه واحد كما عرفت.

واما بناء على الحجية في الامارات من باب الطريقية بغرض ايصال الواقع : أي ان المصلحة الواقعية الداعية لجعل الحكم واقعا هي الداعية ايضا لايصال الحكم من حيث لا علم به ، فالقاعدة الاولى في الخبرين المتعارضين هو التساقط ، لانهما ليسا من المتزاحمين بل هما متكاذبان ، لان مصلحة الحكم الواقعي المنبعث عنها جعل الامارة واحدة ، والحكم الواقعي الذي كان جعل الخبر لغرض ايصاله واحد ايضا ، فلذلك كان الخبران المتعارضان متكاذبين لا متزاحمين ، ومع العلم بكذب احدهما فالقاعدة تقتضي التساقط ، فالاخذ باحدهما تعيينا او تخييرا على خلاف القاعدة ،

٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

هذه هي القاعدة الاولى في الخبرين المتعارضين على الطريقية ، والى هذا اشار بقوله : ((وعلى تقدير انها من باب الطريقية فانه وان كان)) الاخذ باحدهما ((على خلاف القاعدة)) لانهما ليسا من المتزاحمين بل هما من المتكاذبين.

واما في الاخذ باحدهما تعيينا فيما اذا كان احدهما ارجح كما تدل عليه ادلة الترجيح ، أو الاخذ باحدهما تخييرا كما تقتضيه ادلة التخيير وهي القاعدة الثانية الواردة في خصوص الخبرين المتعارضين ، فالوجه فيه هو ان الملاك في الخبر هو احتمال اصابته الواقع ، فكون الطريق الخبري محتمل الاصابة هو الملاك لجعل الخبر بما له من الشرائط حجة ، وهذا الملاك مفقود في المقام اذ ليس في المقام طريق فيه احتمال الاصابة ، بل ليس في المقام الا مجرد احتمال كون الحكم الواقعي هو احد الحكمين من الوجوب والحرمة ، فلا وجه للقياس ايضا بناء على الطريقية في الخبرين ، لان القاعدة الاولى فيها هو التساقط دون التخيير حتى يقاس المقام بهما ، والملاك في القاعدة الثانية في الخبرين هو احتمال اصابة الخبر للواقع وهو مفقود ايضا ، لانه ليس في المقام الا مجرد احتمال الواقع ، وليس هنا طريق محتمل الاصابة حتى يكون للقياس فيه مجال.

فاتضح انه لا يصح قياس المقام بالخبرين المتعارضين بناء على السببية وعلى الطريقية ، فالقياس على كل حال باطل ، فلا يجب الالتزام باحد الحكمين بخصوصه في المقام كما يجب الالتزام بمؤدى احد الخبرين بخصوصه حتى يكون مانعا عن شمول قاعدة الحل في المقام ، وانما الواجب في المقام ـ بناء على وجوب الموافقة الالتزامية ـ هو الالتزام والاخذ بالحكم الواقعي الصادر على نحو الاجمال ، وقد عرفت عدم مانعيته عن جريان قاعدة الحل في المقام ، واما الاخذ بخصوص احدهما مع انه تشريع فانه التزام بما ربما لا يكون التزاما بالحكم الواقعي ، وقد اشار الى ما ذكرنا بقوله : ((إلّا ان احدهما)) أي ان الملاك للاخذ باحدهما على الطريقية فهو موجود في الخبرين دون المقام ، لان الملاك في الاخذ باحد الخبرين ((تعيينا)) كما تقتضيه ادلة

٦٨

نعم ، لو كان التخيير بين الخبرين لاجل إبدائهما احتمال الوجوب والحرمة ، وإحداثهما الترديد بينهما ، لكان القياس في محله ، لدلالة الدليل على التخيير بينهما على التخيير هاهنا ، فتأمل جيدا (١).

______________________________________________________

الترجيح ((او تخييرا)) كما تقتضيه ادلة التخيير ((حيث كان)) كل واحد من الخبرين ((واجدا لما هو المناط للطريقية من احتمال الاصابة)) لوضوح ان كل واحد من الخبرين المتعارضين محتمل الاصابة ((مع)) فرض ((اجتماع سائر الشرائط)) للحجية ككونه خبرا عن حس وكون المخبر به ثقة ، فلذلك ((صار حجة في هذه الصورة)) وهي صورة التعارض ((ب)) حسب القاعدة الثانية المستفادة من ((ادلة الترجيح)) من الاخذ باحدهما والالتزام به اما ((تعيينا)) حيث يكون احدهما واجدا للمزية المرجحة ((او)) المستفادة من ادلة ((التخيير)) حيث لا يكون لاحدهما مزية فيجب الاخذ باحدهما ((تخييرا)) والالتزام به ، وهذا مفقود في المقام اذ ليس هنا إلّا مجرد كون الواقع احد الحكمين ، وان كل واحد منهما محتمل لان يكون هو الواقع ، وليس في المقام طريق فيه الملاك الموجود في الخبر وهو احتمال اصابته الواقع ، فلو قلنا بوجوب الموافقة الالتزامية في المقام فيجب الالتزام بما هو الحكم واقعا على نحو الاجمال ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((واين ذلك)) أي واين الملاك الموجود في الخبرين المتعارضين الموجب للالتزام باحدهما تعيينا او تخييرا ((مما اذا لم يكن المطلوب)) فيه ((الا الاخذ بخصوص ما صدر واقعا)) على نحو الاجمال ((وهو حاصل)) بناء على وجوب الموافقة في المقام ((و)) اما ((الاخذ بخصوص احدهما)) مع انه تشريع ((ربما لا يكون اليه)) أي الى الواقع ((بموصل)).

فاتضح انه لا وجه لقياس المقام بالخبرين المتعارضين.

(١) حاصله : انه لو كان الملاك للتخيير في الخبرين المتعارضين بحسب القاعدة الثانية هو كون الخبرين بقيامهما على الوجوب والحرمة أوجبا احتمال الوجوب والحرمة ، وهما السبب لاحداث هذا الاحتمال ، لا ان الملاك ما ذكرناه من احتمال اصابة الخبر

٦٩

ولا مجال ـ هاهنا ـ لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فإنه لا قصور فيه ـ هاهنا ـ وإنما يكون عدم تنجز التكليف لعدم التمكن من الموافقة القطعية كمخالفتها ، والموافقة الاحتمالية حاصلة لا محالة ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

للواقع ، لكان هذا الملاك الموجب للتخيير في الخبرين المتعارضين في الوجوب والحرمة موجودا في مقامنا ، لما هو واضح من وجود احتمال كون الواقع هو الوجوب او الحرمة في المقام ، لكان القياس في محله ، ولكنك قد عرفت ان الملاك في الخبرين هو احتمال اصابة كل واحد من الخبرين للواقع ، لا مجرد ابداء الخبرين لاحتمال الوجوب والحرمة واحداثهما ، لتردد الواقع بينهما ، وعبارة المتن واضحة.

(١) توضيحه : ان القول الاول في المقام هو جريان البراءة العقلية والنقلية ، ومختار المصنف الذي هو القول الخامس هو التخيير عقلا والبراءة نقلا ، وقد اشرنا في صدر المسألة ان حكم العقل في المقام بالتخيير ليس لجريان البراءة العقلية ، ولو كان لجريان البراءة العقلية لما كان فرق بينهما الا مجرد التعبير ، فلذلك اشار المصنف الى عدم جريان البراءة العقلية في المقام ، وان حكم العقل بالتخيير لعدم الترجيح بين الحجتين.

والوجه في عدم جريان البراءة العقلية التي هي قبح العقاب بلا بيان ، هو ان المراد من البيان هو العلم بالحكم ، ومن الوضح ايضا ان العلم الاجمالي بالحكم يؤثر في التنجز كالعلم التفصيلي به ، والعلم الاجمالي في مقام دوران الامر بين الوجوب والحرمة موجود ، فانه يعلم اجمالا بالالزام الدائر بين الالزام بالفعل والالزام بالترك ، وانما لا يجب امتثاله في المقام لعدم التمكن من موافقته القطعية وترك مخالفته القطعية ، ولذا لو علمنا بان الشيء اما واجب فعله اليوم او حرام فعله غدا ، بان نعلم اجمالا بتوجه تكليف الزامي لنا هو اما وجوب اكرام زيد اليوم أو هو حرمة اكرامه في غد ، فانه لا شبهة في لزوم امتثال هذا الالزام ، ويجب اكرام زيد اليوم ويحرم اكرامه في غد ، للتمكن من موافقته القطعية ومخالفته القطعية ، فيحكم العقل بلزوم موافقته القطعية ويستحق عليها الثواب ، وبلزوم ترك مخالفته القطعية ويستحق

٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

على المخالفة القطعية العقاب ، فلا قصور في المقام من ناحية العلم والبيان ، وانما القصور في المقام هو من ناحية عدم التمكن من امتثال هذا الالزام ، فانه مع دوران الامر بين كون الشيء الواحد اما واجبا او حراما لا يتمكن من امتثال هذا الالزام بترك مخالفته القطعية ، لانه ان فعل يحتمل المخالفة لاحتمال كون الفعل حراما ، وان ترك يحتمل المخالفة لاحتمال كون الفعل واجبا ، واذا كان احتمال المخالفة لازما على كل حال فلا يعقل ان يحكم العقل بتنجز هذا الالزام ، لان تنجز التكليف منوط بالقدرة على الامتثال بالقدرة على ترك مخالفته القطعية ، فحيث لا قدرة على ترك المخالفة القطعية فلا يحكم العقل بتنجز هذا التكليف الالزامي.

وبعبارة اخرى : ان فعلية التكليف منوطة بأمرين : وصول التكليف ، والقدرة على متعلقه بان لا يكون غير مقدور كالطيران الى السماء.

وتنجز التكليف ايضا منوط بأمرين : وصول التكليف ، والتمكن من الموافقة القطعية وترك المخالفة القطعية ، واذا كان بحيث لا يتمكن من موافقته القطعية وترك مخالفة القطعية فلا يكون التكليف منجزا.

وقد اتضح مما ذكرنا : انه لا قصور من ناحية الوصول للتكليف لوصول الالزام في المقام ، وانما كان هذا الوصول غير مؤثر لفقد شرطه الثاني ، وهو كونه مما يمكن موافقته القطعية وترك مخالفته القطعية ، فلا قصور من ناحية البيان وانما القصور من ناحية القدرة على الامتثال ، ومن الواضح ايضا ان عدم القدرة على الامتثال غير مربوط بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

فظهر مما ذكرنا : انه لا مجرى للبراءة العقلية في المقام ، لوضوح وصول البيان المؤثر لو لا المانع وهو عدم القدرة على الامتثال ، وإلى هذا اشار بقوله : ((ولا مجال هاهنا)) لقاعدة قبح العقاب بلا بيان فانه لا قصور فيه)) أي فانه لا قصور في البيان ((هاهنا)) ويدل على عدم القصور فيه ما عرفت من انه لو كان الامتثال ممكنا لكان العلم بهذا الالزام مؤثرا او منجزا ، كما لو علم اما بوجوب اكرام زيد اليوم او حرمته غدا.

٧١

ثم إن مورد هذه الوجوه ، وإن كان ما إذا لم يكن واحد من الوجوب والحرمة على التعيين تعبديا ، إذ لو كانا تعبديين أو كان أحدهما المعين كذلك ، لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما والرجوع إلى الاباحة ، لانها مخالفة عملية قطعية على ما أفاد شيخنا الاستاذ (قدس‌سره) (١) ، إلا أن الحكم أيضا فيهما إذا كانا كذلك هو التخيير عقلا

______________________________________________________

(١) توضيحه : ان الوجوه الخمسة المذكورة لا تتأتى كلها الا فيما كان الوجوب والحرمة كلاهما توصليين او كان احدهما المردد بين الوجوب والحرمة تعبديا ، اما لو كانا كلاهما تعبديين او كان احدهما المعين تعبديا ، بان يكون الشيء اما واجبا تعبديا وحراما تعبديا ، او كان الوجوب على فرضه تعبديا ، أو الحرمة على فرضها تعبدية بان تختلف الامة ـ مثلا ـ على قولين احدهما يقول بالوجوب التعبدي والآخر يقول بالحرمة التوصلية أو بالعكس فلا تتأتى الاقوال جميعها في ذلك.

وبيان ذلك : ان القول الاول وهو البراءة عقلا ونقلا ، والقول الخامس الذي هو مختار المصنف وهو التخيير عقلا عملا وجريان الاباحة نقلا ، فيما كانا تعبدين او كان احدهما المعين تعبديا فلا يتأتيان ، والوجه في ذلك ان القول بالبراءة عقلا ونقلا ، والقول بالتخيير وبالاباحة مشروط بعدم لزوم المخالفة القطعية من ذلك ، اما لو لزمت المخالفة القطعية فلا مجال للقول بالبراءة ولا الاباحة.

ومن الواضح انه لو كانا تعبديين او احدهما المعين كالوجوب ـ مثلا ـ تعبديا فان لازم القول بالبراءة والاباحة ـ فعلا وتركا ـ هو الاذن والترخيص في الفعل كيفما كان والترك كذلك ، فاذا كان كان كلاهما تعبديين ففعل ـ مثلا ـ لا بقصد القربة فانه يعلم بالمخالفة القطعية ، لانه لو كان واجبا لكان الفعل لا بقصد القربة مخالفة له ، ولو كان المطلوب الترك فقد خالفة ايضا لفرض كونه فعله ، ولو كان احدهما المعين كالوجوب تعبديا فانه ايضا فيما لو فعل لا بقصد القربة تحصل المخالفة القطعية ، فلا وجه للقول بالبراءة والاباحة مع العلم بان لازمها جواز المخالفة القطعية ، اما لو كانا توصليين او

٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

كان احدهما المردد تعبديا فانه لا يعلم بالمخالفة القطعية ، اما لو كانا توصليين فواضح ، واما لو كان احدهما المردد تعبديا فانه ايضا لا يعلم بالمخالفة القطعية ، لانه لو فعل لا بقصد القربة لا يقطع بالمخالفة لاحتمال كون الحكم الواقعي هو وجوب الفعل وكان توصليا ، وكذلك فيما لو ترك لا بقصد القربة فانه ايضا لا يقطع بالمخالفة لاحتمال كونه هو الحرمة وكانت توصلية ايضا ، وكذلك لو فعل بقصد القربة فانه لا يقطع بالمخالفة لاحتمال كون الفعل واجبا سواء كان توصليا أو تعبديا ، فانه يكون قد اتى به ، اذ قصد القربة لا تنافي الوجوب التوصلي ، وكذلك لو ترك بقصد القربة فانه ايضا لا يقطع بالمخالفة وهو واضح مما ذكرنا.

وينبغي ان لا يخفى ان الاقوال المذكورة انما تختلف في مسألة المخالفة القطعية كما عرفت ، واما في الموافقة القطعية فالاقوال كلها تشترك ، سواء في التعبديين والتوصليين والمختلفين ، فان الموافقة القطعية ممتنعة على كل حال وهو واضح.

وقد اشار الى ما ذكرنا من عدم تأتي الاقوال جميعها الا على التوصليين ، او كان احدهما المردد تعبديا ، اما لو كانا تعبديين او احدهما المعين تعبديا فلا تتأتى الوجوه المذكورة كلها بقوله : ((ثم ان مورد هذه الوجوه)) الخمسة المذكورة ((وان كان ما اذا لم يكن واحد من الوجوب والحرمة على التعيين تعبديا)) وهو يشمل التوصليين وما كان احدهما تعبديا ولكنه كان مرددا ، فانه يصدق على كل منهما انه ليس احدهما المعين تعبديا فانهما مورد الوجوه الخمسة كلها ((اذ لو كان تعبديين او كان احدهما المعين كذلك)) أي تعبديا لا تاتي الوجوه المذكورة كلها فيها ، لما عرفت من عدم تأتي البراءة العقلية والاباحة النقلية فيهما لتأتي المخالفة القطعية العملية فيهما ، ومع العلم بالمخالفة القطعية العملية لا وجه للقول بالبراءة والاباحة ، لان العلم بالنسبة الى لزوم ترك المخالفة القطعية العملية منجز ، ومع تنجزه لا وجه لجريان البراءة والاباحة.

٧٣

بين إتيانه على وجه قربي ، بأن يؤتى به بداعي احتمال طلبه ، وتركه كذلك ، لعدم الترجيح وقبحه بلا مرجح.

فانقدح أنه لا وجه لتخصيص المورد بالتوصليين بالنسبة إلى ما هو المهم في المقام ، وإن اختص بعض الوجوه بهما ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

فاتضح انه لو كانا تعبديين او كان احدهما المعين تعبديا ((لم يكن اشكال في عدم جواز طرحهما معا والرجوع الى الاباحة)) او البراءة العقلية ((لانها مخالفة عملية قطعية)) لان لازم البراءة العقلية والاباحة النقلية الاذن في الفعل والترك كيفما كان.

(١) توضيحه : انه اذا كانا تعبديين او احدهما المعين تعبديا ، فحيث كان الحكم المعلوم اجمالا هو الالزام ، وموافقته القطعية ممتنعة ولا ترجيح لاحدهما على الآخر ، فالعقل يحكم بالتخيير بينهما ، وحيث كان المفروض تعبدية احدهما على التعيين او كليهما فلا بد وان يكون التخيير العقلي بينهما باتيان احد الطرفين ، على نحو لو كان هو الحكم الواقعي لكان ذلك امتثالا له ، فيتعين لذلك ان ياتي بالفعل بقصد القربة او يترك بقصد القربة.

فظهر مما ذكرنا : ان الصحيح في مقام الدوران بين الوجوب والحرمة المفروض تعبدية احدهما المعين او كليهما هو بعض القول الرابع ، وهو التخيير بين الفعل والترك ولكن مع قصد القربة فعلا او تركا ، والقطع بعدم البراءة عقلا او نقلا.

ولا يخفى ايضا ان الوجه الثاني وهو الاخذ باحدهما تعيينا وهو ترجيح جانب الحرمة كما يأتي في التوصليين يتأتى في التعبديين ايضا ، لان مدركه هو ان دفع المفسدة اولى من جلب المنفعة ، وهو كما يتأتى في التوصلية يتأتى في التعبدية ايضا ، وكذلك القول الثالث وهو الاخذ باحدهما تخييرا ، فانه ايضا كما يتأتى في التوصلية يتأتى في التعبدية ايضا لقياس المقام على الخبرين المتعارضين ، ولا فرق بين التوصلية والتعبدية.

٧٤

ولا يذهب عليك أن استقلال العقل بالتخيير إنما هو فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين ، ومع احتماله لا يبعد دعوى استقلاله بتعيينه كما هو الحال في دوران الامر بين التخيير والتعيين في غير المقام (١) ،

______________________________________________________

فظهر مما ذكرنا : ان التعبدية لا توجب خروج المقام عن الكلام لعدم تأتي الوجوه كلها فيه ، فانه يكفي جريان بعض الوجوه فيه ، وقد اشار الى الوجه الصحيح في ما كانا تعبديين او احدهما تعبديا بقوله : ((إلّا ان الحكم أيضا فيهما اذا كانا كذلك)) أي في المقام الدائر بين الوجوب والحرمة التعبديين أو التعبدي احدهما المعين ((هو التخيير عقلا بين)) الفعل والترك ولكن بنحو يكون ((اتيان)) كل واحد من الطرفين ((على وجه قربي بان يؤتى به)) أي بالفعل ((بداعي احتمال طلبه)) ليقع قريبا لو كان هو الواقع ((و)) ان يؤتى في مقام ((تركه كذلك)) أي بان يترك بداعي احتمال طلب الترك ليقع ايضا قريبا ، واشار الى الوجه في هذا التخيير بقوله ((لعدم الترجيح)) لاحد الطرفين ((وقبحه)) أي وقبح الترجيح ((بلا مرجح)) واشار الى عدم الوجه في تخصيص الكلام بخصوص التوصليين لتأتي الاوجه كلها فيه ، لما عرفت من تأتي بعض الوجوه على التعبدية ايضا وان لم تأت كلها بقوله : ((فانقدح انه لا وجه لتخصيص المورد بالتوصليين بالنسبة الى ما هو المهم في المقام)) وهو التخيير على الوجه الذي عرفته ((وان اختص بعض الوجوه)) وهو البراءة العقلية والنقلية ((بهما)) أي بالتوصليين او ما كان احدهما غير المعين تعبديا.

(١) توضيحه : ان دوران الامر بين التخيير والتعيين بحسب اصطلاح القوم في مقامين :

الاول : دوران الامر بين العام والخاص ، فان الامر ان كان عاما فالخاص فرد له ويحصل به امتثاله ، وان كان خاصا فالخاص هو المطلوب بخصوصه فيتعين الخاص بدعوى حكم العقل بانه مما يقطع به الامتثال دون افراد العام الآخر.

الثاني : في الواجبين المتزاحمين فيما اذا احتمل اهمية احدهما ، فان العقل يحكم بالتعيين بالاخذ بمحتمل الاهمية ، لوضوح انه لو احرزت الاهمية لتقدم الاهم تعيينا ،

٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

لعدم معقولية مزاحمة المهم للاهم ، والحال في احتمال الاهمية كذلك ، لانه بعد ان تساويا في الوجوب فلا شك ان محتمل الاهمية يترجح على ما ليس بأهم ، ومع وجود المرجح لاحدهما لا وجه لكون المرجوح في عرض الراجح عند العقل ، فالعقل يحكم بتقديم محتمل الاهمية.

اذا عرفت هذا ... فنقول : ان المقام وهو دوران الامر بين الوجوب والحرمة وان كان ليس من الواجبين المتزاحمين ، إلّا ان الملاك الموجب لتقديم محتمل الاهمية في الواجبين موجود هنا لبداهة ان تقديم محتمل الاهمية في الواجبين انما هو لصيرورة محتمل الاهمية ذا مزية مرجحة ، ومع تحقق المرجح في احدهما يرى العقل تقديم الراجح ، وهذا الملاك موجود في المقام لفرض احتمال الاهمية لاحدهما المعين كالوجوب مثلا ، بمعنى انه لو احرزنا في هذا الشيء ملاك الوجوب وملاك الحرمة لتقدم ملاك الوجوب ، لفرض كون المصلحة فيه اهم من المفسدة ، فاذا احتمل كون الوجوب على فرض تحققه واقعا فهو اهم من الحرمة على فرض تحققها واقعا ، فلا بد من تقديم الوجوب لترجحه على فرضه عند العقل على الحرمة على فرضها ، والى هذا اشار بقوله : ((ولا يذهب عليك ان استقلال العقل بالتخيير)) في مقام الدوران بين الوجوب والحرمة ((انما هو فيما لا يحتمل الترجيح في احدهما المعين)) والتقييد بكون الترجيح في معين كالوجوب مثلا ، لانه لو احتملت الاهمية بنحو الترديد ايضا بين الوجوب والحرمة لما كان احدهما بخصوصه متعينا للترجيح لو كان ، فلا يحكم العقل بترجيح لاحدهما بخصوصه لفرض عدم تعين ما هو الراجح منهما ، وعلى كل فالحكم بالتخيير بينهما انما هو حيث لا يحتمل الترجيح لاحدهما بخصوصه ، واذا كان احدهما بخصوصه محتمل الاهمية يتعين الاخذ به ، ولا يكون للعقل حكم بالتخيير فيما كان الحال كذلك ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((ومع احتماله)) أي ومع احتمال الترجيح في احدهما المعين ((لا يبعد دعوى استقلاله)) أي لا يبعد دعوى استقلال العقل حينئذ ((بتعيينه)) أي بتعيين محتمل الترجيح ((كما هو الحال في دوران الامر

٧٦

ولكن الترجيح إنما يكون لشدة الطلب في أحدهما ، وزيادته على الطلب في الآخر بما لا يجوز الاخلال بها في صورة المزاحمة ، ووجب الترجيح بها ، وكذا وجب ترجيح احتمال ذي المزية في صورة الدوران (١).

______________________________________________________

بين التخيير والتعيين في غير المقام)) وهو تزاحم الواجبين ، فانه يتقدم في ذلك المقام محتمل الاهمية ويرى العقل تعيينه ولا يحكم بالتخيير بينهما ، وحيث كان الملاك موجودا في المقام فلذا كان مقام دوران الامر بين الوجوب والحرمة كمقام دوران الامر بين الواجبين المتزاحمين ، فان العقل انما يحكم بالتخيير فيهما فيما اذا تساويا ، واما اذا احتمل اهمية احدهما يكون المحتمل الاهمية هو المتعين.

(١) قد نبه في عبارته على امرين :

الاول : ان الترجيح الموجب للتعيين هو قوة المحتمل لا قوة الاحتمال ، فلو كان احدهما اقوى ظنا ولكن كان الآخر المرجوح اهم واقوى مصلحة ، فان التقديم يكون لما هو اقوى محتملا وان كان اضعف ظنا ، والى هذا اشار بقوله : ((ولكن الترجيح انما يكون لشدة الطلب)) فان شدة الطلب انما تكون لقوة المصلحة.

الثاني : ان شدة الطلب وتأكده كما يكون لقوة المصلحة ، كذلك يكون لوجود مصلحة اخرى تقتضي الطلب لو انفردت بنفسها ، فانها اذا اجتمعت مع مصلحة الوجوب الاول توجب شدة الطلب وتأكده ، والى هذا اشار بقوله : ((وزيادته)) أي وزيادة الطلب في احدهما المعين ((على الطلب في الآخر)) فاذا كان الحال في الواجبين المتزاحمين كذلك ، بان كان احدهما اقوى مصلحة او انطبق عليه مصلحة اخرى ، فانه يتقدم على الواجب الآخر الذي تكون المصلحة فيه اضعف ، او كانت متساوية ولكن انطبق على احدهما المعين مصلحة اخرى لزم مراعاة ذلك في صورة تزاحم الواجبين ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((بما لا يجوز الاخلال بها)) أي اذا كان احدهما اشد طلبا لقوة مصلحته او انطبق عليه مصلحة زائدة لا يجوز الاخلال بهذه المزية ((في صورة المزاحمة ووجب الترجيح بها)) أي وجب الترجيح لذي المزية ،

٧٧

ولا وجه لترجيح احتمال الحرمة مطلقا ، لاجل أن دفع المفسدة أولى من ترك المصلحة ، ضرورة أنه رب واجب يكون مقدما على الحرام في صورة المزاحمة بلا كلام ، فكيف يقدم على احتماله احتماله في صورة الدوران بين مثليهما (١)؟

______________________________________________________

فاذا كان هذا الاحتمال موجودا في مقام الدوران بين الوجوب والحرمة بان كان ذو المزية هو الوجوب فلا بد من تقديمه ، ولذا قال : ((وكذا وجب ترجيح ذي المزية في صورة الدوران)) بين الوجوب والحرمة فالملاك الموجب للترجيح في الواجبين المتزاحمين موجود في مقامنا وهو صورة الدوران بين الوجوب والحرمة ، فيوجب الترجيح ايضا والتقديم لذي المزية ، فحكم العقل بالتخيير في مقامنا مشروط بعدم احتمال الاهمية لاحدهما.

(١) حاصله : الدفع لما يمكن ان يتوهم : من انه بعد الحكم بلزوم الترجيح لذي المزية فلا بد في مقام الدوران بين الوجوب والحرمة ان يتقدم جانب الحرمة لانها هي الواجدة للمزية المرجحة على جانب الوجوب ، ولذا ذهب بعضهم لتقديم احدهما معينا وهو الحرمة على الوجوب كما مر ذكره في ضمن الوجوه الخمسة ، والوجه في تقديم جانب الحرمة هو ان دفع المفسدة اولى من جلب المنفعة ، بعد وضوح كون الحرمة ناشئة عن المفسدة في الفعل والوجوب ناشئا عن المصلحة التي هي المنفعة في الفعل ، فدائما يكون التقديم في مقام الدوران بين الوجوب والحرمة لجانب الحرمة على جانب الوجوب ، فيكون حكم العقل هو التعيين دون التخيير.

والجواب عنه : انا لا نسلم كون دفع المفسدة دائما اولى من جلب المنفعة ، فانه كثيرا ما تكون مصلحة اهم من مفسدة ، فمع العلم بالمصلحة والمفسدة لا تتقدم المفسدة على المصلحة دائما ، فلا يتقدم جانب الحرمة المعلومة على جانب الوجوب المعلوم دائما ، فكيف يتقدم احتمال المفسدة على احتمال المصلحة دائما؟ كما في صورة الدوران بين الوجوب والحرمة فان كلا من المفسدة والمصلحة محتملة فيه.

٧٨

فافهم (١).

______________________________________________________

وقد اشار الى هذا التوهم والجواب عنه بقوله : ((ولا وجه لترجيح احتمال الحرمة مطلقا)) على احتمال الوجوب ((لاجل)) دعوى ((ان دفع المفسدة اولى من ترك المصلحة)) فانه غير مسلم ((ضرورة انه رب واجب)) معلوم ((يكون مقدما على الحرام)) المعلوم ((في صورة المزاحمة)) بينهما ((بلا كلام فكيف يقدم على احتماله)) أي كيف يقدم على احتمال الواجب ((احتماله)) أي ان احتمال الحرام لاجل كونه من دفع المفسدة لا يقدم على احتمال الواجب ، لانه من ترك المصلحة ((في صورة الدوران بين مثليهما)) أي انه اذا دار الامر بين شيء واجب وشيء آخر حرام ، بان وقعت المزاحمة بينهما فلا يتقدم الحرام على الواجب ، كذلك فيما دار الامر بين احتمال وجوب شيء واحد واحتمال حرمته فانه لا يتقدم احتمال حرمته على جانب وجوبه ، وهو المراد بقوله بين مثليهما أي ان احتمال وجوب شيء واحد واحتمال حرمته مثل وجوب شيء وحرمة شيء آخر اذا وقعت المزاحمة بينهما.

(١) يمكن ان يكون اشارة الى ان دعوى تقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب انما هي لدعوى كون الغلبة المتبعة تقضي بتقديم جانب الحرمة على جانب الوجوب ، فاذا ثبتت الغلبة لا بد من الحاق سائر الموارد بها ، ولا يضر هذه الدعوى انه يكون بعض الواجبات مقدما على بعض المحرمات فانه لا يضر بدعوى الغلبة ، فلا بد من ان المنع يكون بمنع دعوى الغلبة المدعاة.

ويمكن ان يكون اشارة الى منع اصل قياس المقام بالواجبين المتزاحمين فلا يكون احتمال الاهمية في المقام كاحتمال الاهمية في الواجبين المتزاحمين ، لان الملاك في المقام غير الملاك هناك ، فان ملاك التخيير هنا لعدم التنجيز ، وملاك التعيين هناك في الواجبين هو بعد تنجزهما ، غايته انه لا يمكن امتثالهما معا ، فان احراز الاهمية او احتمالها في الواجبين المتزاحمين كان بعد التنجز ، ولذلك كان من الدوران بين

٧٩

فصل

لو شك في المكلف به مع العلم بالتكليف من الايجاب أو التحريم ، فتارة لتردده بين المتباينين ، وأخرى بين الاقل والاكثر الارتباطيين ، فيقع الكلام في مقامين :

المقام الاول : في دوران الامر بين المتباينين.

لا يخفى أن التكليف المعلوم بينهما مطلقا ـ ولو كانا فعل أمر وترك آخر (١) ـ إن كان فعليا من جميع الجهات ، بأن يكون واجدا لما هو العلة

______________________________________________________

التخيير والتعيين ، اما في المقام فحيث لا تنجيز فلا يكون احراز الاهمية او احتمالها موجبا لاندراجه في مسألة دوران الامر بين التخيير والتعيين ، والله العالم.

(١) لما فرغ من الكلام في الشك في التكليف ... شرع في الكلام في الشك في المكلف به مع العلم بالتكليف ، وحيث فرض مع العلم شك فلا بد وان يكون العلم اجماليا لانه هو المشوب بالشك :

وهو تارة يكون علما بالتكليف والشك في مصداقه وانطباقه ، كما لو علم بوجوب الاكرام وشك في انه اكرام زيد بن عمرو أو زيد بن خالد.

واخرى : يكون علما بجنس التكليف وشكا في نوعه ، كما لو علم بالالزام وشك في انه هو طلب فعل معلوم او هو ترك فعل آخر معلوم ايضا كما لو شك في ان المطلوب وجوب اكرام زيد ، او حرمة اكرام عمرو.

وثالثة : يكون علما بالتكليف وشكا في قدر سعته وضيقه ، كما في الاقل والاكثر الارتباطيين ، واما الاقل والاكثر غير الارتباطيين فليس هناك علم اجمالي ، بل علم تفصيلي بالاقل وشك بدوي في الاكثر.

فالكلام في هذا الفصل في مقامين :

٨٠