بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 946-497-063-2
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٢٣

العمل متفرعا على البلوغ ، وكونها الداعي إلى العمل (١) غير موجب لان يكون الثواب إنما يكون مترتبا عليه ، فيما إذا أتى برجاء أنه مأمور به وبعنوان الاحتياط (٢) ، بداهة أن الداعي إلى العمل لا يوجب له وجها

______________________________________________________

فترتب الاجر على نفس العمل لازمه كون نفس العمل بذاته مستحبا ، وان بلوغه حيثية تعليلية لجعله مستحبا.

فالمتحصل منها كون نفس العمل مستحبا ، ولكنه في ظرف كونه قد بلغ المكلف الثواب عليه.

(١) يريد ان يشير الى ما يمكن ان يكون منافيا للظهور المذكور ، الذي عرفت ان لازمه كون الفعل بذاته مستحبا ، وهو امران :

الاول : انه ينافي هذا الظهور ظهور الفاء في قوله فعمله في التفريغ على البلوغ ، فان ظاهر التفريع كون المتفرع معلولا للمتفرع عليه ، ولازم هذا كون العمل معلولا للبلوغ ، ومعنى كونه معلولا للبلوغ هو كون الداعي للعمل هو البلوغ دون نفس عنوان الفعل بذاته ، ومن الواضح ان لازم كون الفعل بعنوانه مستحبا هو كون العمل بداعي استحبابه لا بداعي البلوغ ، وهذا ينافي ظهور قوله عليه‌السلام من بلغه شيء من الثواب فعمله في انه قد عمل لما بلغه من الثواب عليه ، فان هذا الكلام ظاهر في ان الداعي للعمل هو رجاء ذلك الثواب واذا كان الداعي للعمل هو رجاء ذلك الثواب لم يكن مجال لان يكون الداعي له هو نفس عنوان الفعل بذاته ، لوضوح محالية اجتماع داعيين فعليين على فعل واحد ، فالفعل الماتي به بداعي الرجاء لا يعقل ان يكون الداعي له نفس عنوان ذاته واستحبابه بنفسه ، والى هذا اشار بقوله : ((وكون العمل متفرعا على البلوغ و)) ومعنى ذلك ((كونها الداعي الى العمل)) أي كون نفس العمل وان الداعي لاتيانه هو نفس استحبابه الذاتي ، لا بلوغ الثواب وان يؤتى برجاء الواقع لا بداعي نفسه.

(٢) يشير الى الجواب عن هذا الظهور المنافي لكون العمل بنفسه مستحبا.

٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

وبيانه : ان الفاء لا تدل على اكثر من التفريع وكون العمل متفرعا على البلوغ ، ولكن تفريع شيء على شيء كما يكون لكونه معلولا له كذلك يكون لمحض ترتبه عليه من دون ان يكون المتفرع معلولا للمتفرع عليه ، لوضوح انه كما يصح التفريع في العلية والمعلولية كقوله من اتلف مال الغير فهو له ضامن في ان الضمان معلولا للاتلاف ، كذلك يصح التفريع في مثل قوله من سمع الاذان فبادر الى الصلاة كان له ثواب كذا ، فان الفاء التفريعية هنا لا تدل على اكثر من كون المبادرة متفرعة على سماع الاذان ، واما كون سماع الاذان هو الداعي للمبادرة فلا ، لوضوح ان الداعي للمبادرة هو استحبابها ذاتا لا سماع الاذان ، بل حيث انه لما سمع الاذان قصد المبادرة لما عليها من الثواب صح ان تفرع المبادرة على السماع للاذان.

فتحصل مما ذكرنا : ان الفاء لمطلق التفريع ، والتفريع لا يستلزم كون المفرع عليه هو العلة للمتفرع عليه ، وليس لها ظهور في العلية لتمنع ظهور ترتب الثواب على نفس العمل عما يقتضيه من كون العمل مستحبا بذاته ، والسبب في التفريع هو انه لما كان بلوغ الثواب عليه كظرف لجعل استحباب العمل بذاته صح التفريع ، فيكون الظاهر من الرواية ان من بلغه الثواب فعمل كان له الثواب على عمله ، ولازم هذا كون العمل بنفسه مستحبا ، وان البلوغ كظرف لجعل هذا الفعل مستحبا ، ويصح التفريع لان الفاء لمطلق ترتب شيء على شيء ، لا لخصوص كون المتفرع معلولا للمتفرع عليه.

والى هذا اشار بقوله : ((غير موجب)) أي ان نفس التفريع غير موجب للمعلولية و ((لان يكون الثواب انما يكون مترتبا عليه)) أي على الفعل ((في)) خصوص ((ما اذا اتى به برجاء انه مأمور به)) واقعا ((وبعنوان الاحتياط)).

٤٢

وعنوانا يؤتى به بذاك الوجه والعنوان (١). وإتيان العمل بداعي طلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما قيد به في بعض الاخبار ، وإن كان انقيادا ، إلا أن

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان هذا تعليل لقوله : ((غير موجب لان يكون الثواب انما يكون مترتبا عليه ... الى آخر الجملة)) ولا يخفى ايضا غموض العبارة فيما هو مراده منها.

ويحتمل في تفسيرها احتمالان :

الاول : ان صدر الصحيحة وان دل على ان البلوغ للثواب هو الداعي الى العمل ، إلّا ان ذيلها قد دل على ان ذلك الثواب مترتب على نفس العمل ، ولا منافاة بين الامرين ، فان المتحصل منها ان هذا العمل كما يمكن ان يؤتى بداعي البلوغ ورجاء الثواب الواقعي ، كذلك يمكن ان يؤتى به بداعي نفس الثواب المترتب على نفس العمل ، ولا دلالة للصدر على حصر الثواب للعمل بخصوص العمل الذي يؤتى به بداعي الرجاء ، ويشعر بهذا التفسير قوله ((غير موجب لان يكون الثواب انما يكون مترتبا عليه فيما اذا اتى برجاء انه مأمور به وبعنوان الاحتياط)) أي لا دلالة للصدر على حصر الثواب للعمل بخصوص ما إذا اتى به برجاء انه مأمور به وبعنوان الاحتياط حتى يكون منافيا لترتب الثواب عليه فيما اذا اتى به بداعي نفس عنوان ذات العمل ويكون قوله : ((بداهة ... الى آخره)) تعليلا لهذا المعنى.

وحاصله : ان كون العمل يمكن ان يؤتى به بداعي الرجاء والبلوغ للثواب الواقعي لا يستلزم ان يكون ذلك قيدا فيه ووجها له ، بحيث لا يترتب عليه إلّا اذا اتى به بقصد الرجاء ، بل كما يمكن ذلك يمكن ايضا ان يترتب عليه الثواب فيما اذا اتى به بقصد عنوانه الذاتي والثواب المترتب على نفس عنوان الفعل ... ويبعد هذا الاحتمال امران :

الاول : انه عين الجواب الآتي عن الاشكال الثاني المشار اليه بقوله : ((واتيان العمل بداعي طلب قول النبي ... الى آخره)) والظاهر ان الجواب عن الاشكال في هذه الصحيحة هو غير الجواب عن الاشكال الآتي.

٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الثاني : ان الظاهر من الصحيحة ان هناك ثوابا واحدا للعمل ، اما ان يكون مترتبا على اتيانه بقصد الرجاء ، او يكون مترتبا عليه فيما اذا اتى به بقصد عنوان نفس العمل ، واذا سلم المصنف كون صدر الصحيحة تدل على الثواب لهذا العمل بقصد الرجاء ، فلا بد وان يكون الاجر في ذيلها هو ذلك الثواب المترتب على العمل بقصد الرجاء ، ولا يكون الذيل دالا على ان للعمل ثوابا آخر يترتب بعنوانه عليه حتى يكون كاشفا عن الحكم الاستحبابي لنفس عنوان الفعل كشف المعلول عن علته ، وهو الامر به بعنوانه حتى يكون الثواب مترتبا عليه بعنوانه ايضا.

لا يخفى ان هذا الثاني خلاف ما يظهر من المصنف في جوابه عن الاشكال الثاني ، لانه قد التزم بان اخبار من بلغ المطلق منها يدل على الثواب على نفس العمل ولازمه جعل الحكم الاستحبابي ، والمقيد منها يدل على الثواب على الاتيان برجاء الواقع ولازمه كون الثواب على الانقياد ، ولا مانع في المستحبات من عدم تقييد مطلقاتها بالمقيد منها.

الاحتمال الثاني : ان يكون مراده ان صدر الصحيحة وان دل على ان البلوغ هو الداعي للعمل ، إلّا انه لا يدل على تقييد الاتيان بالعمل بهذا الداعي ، بل البلوغ ورجاء الثواب يكون داعيا للعمل من باب الداعي الى الداعي ، والمتحصل منها على هذا ان من بلغه الثواب يكون داعيا له لان يعمل العمل لاجل تحصيل ذلك الثواب ، واذا كان ذلك الثواب مترتبا على نفس العمل كما هو مدلول ذيلها ، فذلك الداعي يكون داعيا له لان يقصد العمل بنفس عنوانه ، لانه هو الذي يترتب عليه ذلك الثواب ، ولا دلالة في الصحيحة على ان الثواب انما يترتب على هذا العمل حيث يؤتى به بقصد الرجاء لا غير ، حتى يكون منافيا لما دل عليه الذيل من ترتب الثواب على نفس قصد عنوانه الكاشف ذلك عن استحبابه بنفسه.

وبعبارة اخرى : ان كون البلوغ داعيا للعمل لا يدل على تقيد العمل بهذا الوجه والعنوان حتى يكون لا يترتب عليه ذلك الثواب الا مقيدا بإتيانه بقصد الرجاء ،

٤٤

الثواب في الصحيحة انما رتب على نفس العمل ، ولا موجب لتقييدها به ، لعدم المنافاة بينهما ، بل لو أتى به كذلك أو التماسا للثواب الموعود ، كما قيد به في بعضها الآخر ، لاوتي الاجر والثواب على نفس العمل ، لا بما هو احتياط وانقياد ، فيكشف عن كونه بنفسه مطلوبا وإطاعة ، فيكون وزانه وزان من سرح لحيته أو من صلى أو صام فله كذا (١) ولعله

______________________________________________________

وعلى هذا ينطبق قوله : ((بداهة ان الداعي الى العمل لا يوجب له وجها)) أي ان الداعي لا يوجب ان يكون قيدا ووجها للعمل ، بحيث انما يترتب الثواب عليه فيما اذا أتى به بهذا القيد او الوجه وهو قصد الرجاء ((و)) لا دلالة للصدر على ان قصد الثواب الواقعي كان ((عنوانا)) لازما لا يترتب عليه شيء إلّا ان ((يؤتى به بذاك الوجه والعنوان)) فالاحتمال الثاني اقرب ، والله العالم.

(١) هذا اشارة الى الاشكال الثاني على استفادة الحكم الاستحبابي النفسي لنفس عنوان الفعل من اخبار من بلغ ، وحاصله : ان هذه الصحيحة وان دل ذيلها على ترتب الثواب على نفس عنوان العمل الكاشف عن الامر الاستحبابي المتعلق بنفس عنوان العمل ، إلّا ان اخبار من بلغ ليست الصحيحة وحدها ، بل هناك اخبار أخر ظاهرة على ان الثواب هو للعمل الماتي به بقصد الرجاء ، كرواية محمد بن مروان المتقدمة التي كان مضمونها : من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثواب على عمل فعمله التماس قول النبي كان له وان كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقله ... فان قوله عليه‌السلام في هذه الرواية فعمله التماس قول النبي ظاهر في ان العمل المترتب عليه هو المأتي به بقصد الرجاء والتماس قول النبي ، وهذا ظاهر في ان الثواب في المقام للانقياد وليس لنفس العمل بعنوانه ، فتكون هذه الرواية وامثالها قرينة على المراد من هذه الصحيحة ايضا ، ولا بد من صرف ظهورها الى ظاهر هذه الرواية.

وحاصل ما اجاب به : هو انه لا مانع من ان يكون المستفاد من اخبار من بلغ امرين : الاتيان الانقيادي هو اتيان الفعل بقصد الرجاء والتماس قول النبي

٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الواقعي ولهذا ثواب الانقياد ، والاستحباب النفسي وهو ترتب الثواب على نفس عنوان الفعل.

والاول يستفاد من رواية محمد بن مروان ، والثاني يستفاد من الصحيحة ، ولا داعي لتقييد احدهما بالآخر.

وقد اشار الى الاشكال بقوله : ((واتيان العمل بداعي طلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما قيد به في بعض الاخبار وان كان انقيادا)) وهي مثل رواية محمد بن مروان التي مر أنها ظاهرة في ان الثواب للعمل الماتي به التماسا لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكونه التماسا لقول النبي هو القيد المتقيد به العمل الذي لازمه كون الثواب في اخبار من بلغ للانقياد لا للاستحباب النفسي لنفس عنوان الفعل ، واشار الى الجواب عنه بقوله : ((إلّا ان الثواب في الصحيحة انما رتب على نفس العمل)) كما مر بيانه ، وان لازمه الاستحباب لنفس عنوان الفعل لا الانقياد ، وبعد ان كان مفادها ذلك لا داعي لحملها على مفاد رواية محمد بن مروان الظاهرة في ان الثواب للانقياد ((ولا موجب لتقييدها به)) أي لا موجب لتقييد الصحيحة في ان ثواب العمل فيها مقيد بالالتماس والانقياد ((لعدم المنافاة بينهما)) أي لعدم المنافاة بين مفاد الصحيحة من الالتزام بالثواب لنفس العمل غير المقيد بالالتماس ، وبين مفاد رواية محمد بن مروان الدالة على ان الثواب مقيد بالعمل بداعي الالتماس ، ولا مانع من ترتب الثواب على العمل بعنوان نفسه فيكون مستحبا بذاته ، ومن ترتبه على العمل بداعي الالتماس فيكون الثواب انقياديا ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((بل لو اتى به كذلك)) أي بداعي عنوان نفس الفعل واستحبابه النفسي كما في الصحيحة ((او)) اتى به بداعي الانقياد و ((التماسا للثواب الموعود كما قيد به في بعضها الآخر)) وهي رواية ابن مروان ، وحيث لا منافاة بينهما فلو اتى بالعمل بداعي عنوان نفسه ((لاوتي الاجر والثواب على نفس العمل لا بما هو احتياط وانقياد فيكشف)) ترتب الثواب على نفس عنوان العمل ((عن كونه بنفسه)) مستحبا و ((مطلوبا)) بنفسه ((و)) يكون اتيانه

٤٦

لذلك أفتى المشهور بالاستحباب (١) ، فافهم وتأمل (٢).

______________________________________________________

((اطاعة)) للاستحباب المتعلق بذاته ((فيكون)) المستفاد من الصحيحة ((وزانه وزان من سرح لحيته او من صلى او صام فله كذا)) فكما ان المستفاد من هذه الجمل هو استحباب تسريح اللحية والصلاة والصوم بعناوينها الذاتية ، كذلك يكون مدلول الصحيحة المرتبة للثواب على نفس العمل في ظرف البلوغ هو استحباب نفس العمل بعنوانه.

(١) لا يخفى انه اذا كان الثواب للانقياد لا يكون عنوان العمل بنفسه مستحبا ، فلا يجوز الافتاء باستحبابه ، والمشهور يفتون باستحباب ما دل عليه الخبر الضعيف ، فافتاؤهم كذلك يدل على أن نفس العمل عندهم هو المستحب ، ويترتب على نفس اتيانه بعنوانه والثواب ، والوجه في افتائهم كذلك لا بد وان يكونوا قد فهموا من الصحيحة ذلك.

(٢) لعله اشارة الى ان الظاهر في اخبار من بلغ هو وحدة المطلوب فيها ، وانها كلها مسوقة لامر واحد ، فالمستفاد منها : اما ان يكون اثبات الثواب للعمل المتقيد بالالتماس ، فتكون دالة على كون الثواب انقياديا ، ولا يكون نفس العمل بعنوانه مستحبا ويكون الامر فيها لو كان فهو للارشاد.

واما ان يكون المستفاد منها ترتب الثواب على نفس العمل ، فيكون نفس العمل مستحبا بعنوانه ويكون الامر فيها مولويا ، فحمل بعضها على التقييد وبعضها على عدم تقييد العمل ينافي وحدة المستفاد فيها.

او يكون اشارة الى ان الصحيحة مما يمكن ان يكون ذيلها قرينة على صدرها ، وقد عرفت ان التفريع فيها وكون العمل بداعي بلوغ الثواب يقتضي ان يكون المشار اليه في ذيلها ـ بقوله كان اجر ذلك له ـ هو الثواب على العمل المتقيد ، لا على نفس العمل ، ولا اقل من ان يكون من مصاديق احتفاف الكلام بمحتمل القرينية

٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

فتكون مجملة ، وتبقى الروايات الأخر كرواية محمد بن مروان ظاهرة في كون الثواب فيها انقياديا.

او يكون اشارة الى ان الصحيحة لا دلالة لها على استحباب نفس العمل اصلا ، لانها قد دلت على ثبوت الثواب لمن عمل مع فرض عدم وصول اخبار من بلغ له ، لبداهة دلالتها على ان من عمل بمجرد بلوغه الثواب كان له الثواب بنحو القضية الخبرية عن فرض عامل عمل كذلك ، ولا اشكال في ان من عمل كذلك انما عمل للبلوغ لا للاستحباب الذاتي.

وغاية ما يمكن ان يكون مبعدا له امور ثلاثة :

الاول : ظهور صدر الصحيحة في ان الثواب على نفس العمل.

والجواب عنه : ان العمل انما يكون محققا للانقياد ، اذ لا يعقل ان يتحقق الانقياد من دون العمل ، ولا وجه للاخذ بهذا الظهور بعد تقييده بان الثواب منوط باتيانه بالتماس قوله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الثاني : ان اخبار من بلغ اذا دلت على ترتب الثواب على الانقياد فتكون ارشادية الى ما يحكم به العقل من حسن الانقياد وثواب الانقياد ، ثواب آخر غير الثواب الخاص المقرر لنفس العمل ، واخبار من بلغ صريحة في ان الثواب الموعود به هو الثواب الخاص دون مطلق الثواب ، ومع كونه هو الثواب فهو ثواب من الشارع بما هو شارع لا بما هو رئيس العقلاء ، ولازم كونه من الشارع جعل ملزومه وهو الحكم الاستحبابي.

والجواب عنه : ان كون الثواب هو الثواب الخاص لا يستلزم جعل الحكم الاستحبابي ، لان ثواب الشارع على الانقياد معين واقعا ، وتعيينه لا يستلزم ان يكون ثوابا منه بما هو شارع ، ولما كان المكلف يأتي به برجاء ذلك الثواب الذي بلغه فتفضل الشارع عليه واخبره ان له على انقياده عين ذلك الثواب.

٤٨

الثالث : إنه لا يخفى أن النهي عن شيء ، إذا كان بمعنى طلب تركه في زمان أو مكان ، بحيث لو وجد في ذاك الزمان أو المكان ولو دفعة لما امتثل أصلا ، كان اللازم على المكلف إحراز أنه تركه بالمرة (١) ولو

______________________________________________________

الثالث : ان الظاهر من اخبار من بلغ هو الترغيب في العمل ، ولازم الترغيب في العمل كون العمل بنفسه راجحا ومحبوبا ، وليس الحكم الاستحبابي الا كون العمل بذاته محبوبا وراجحا.

والجواب عنه : ان الترغيب في العمل انما هو لانه به يتمّ الانقياد ، اذ لا يعقل ان يكون المكلف منقادا من دون ان يعمل ، وليس في اخبار من بلغ ظهور في ان العمل بذاته راجح ومحبوب ، بل تقييد الاتيان به برجاء قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربما يدل على خلاف ذلك.

(١) لما فرغ فيما سبق من جريان البراءة وعدمها في الشبهة الحكمية التحريمية ... أشار بهذا الامر الثالث الى الكلام في جريان البراءة وعدمها في الشبهة الموضوعية التحريمية التي يكون الشك فيها لاجل الشك في الانطباق ، بعد وصول الحكم المتعلق بالكلي ... والاحتمالات في المقام ثلاثة :

ـ جريان البراءة في الفرد المشكوك مطلقا.

ـ وعدم جريانها فيه مطلقا.

ـ والتفضل بين كون النهي التحريمي انحلاليا بحيث ينحل الى نواه متعددة بتعدد افراد الطبيعة ، كالنهي عن الخمر فانه ينحل الى نواه متعددة بتعدد افراد طبيعة الخمر المتعلقة للنهي ، وبين تعلقه بمجموع اعدام الطبيعة ، والفرق بين النحو الاول والنحو والثاني هو ان النهي على النحو الاول يكون له اطاعات وعصيانات متعددة بتعدد افراد الطبيعة ، بخلافه على النحو الثاني فانه لو وجد فرد من افراد الطبيعة ولو مرة واحدة في زمان واحد او في مكان واحد لتحقق العصيان ، فتكون اطاعة هذا النهي بترك المجموع ، وعصيانه بفعل فرد واحد من الافراد.

٤٩

فاذا كان النهي على النحو الاول جرت البراءة في الفرد المشكوك ، وان كان النهي على النحو الثاني لم تجر البراءة ، وهذا هو مختار الماتن (قدس‌سره).

وتوضيح هذا التفصيل يتوقف على بيان امرين :

الاول : ان المصلحة الداعية الى الامر بالشيء ، تارة تكون في كل فرد من افراد الطبيعة ولذلك يكون الطلب عموما شموليا بنحو الكل الافرادي.

واخرى تكون المصلحة قائمة بالطبيعة ، ولكن بنحو يكون بمجرد حصول الطبيعة تتحقق المصلحة الداعية ولذلك يكون الطلب عموما بدليا.

وثالثة : تكون المصلحة قائمة في مجموع افراد الطبيعة ، بحيث يكون المطلوب مجموع الافراد على نحو لو ترك واحد منها لما حصل الامتثال اصلا ، وبهذا يفترق عن النحو الاول ، فانه فيه لكل فرد اطاعة وعصيان ، فيمكن أن تكون للطبيعة عصيان باعتبار ترك فرد منها ، واطاعة باعتبار اتيان فرد آخر منها ، بخلاف النحو الثالث فان الاطاعة لا تكون الّا باتيان المجموع ، والعصيان يتحقق بترك فرد واحد منها ، ويسمى الطلب فيه بالكلّ المجموعي ، ويفترق عن الثاني بان اطاعته منوطة باتيان الكل ، بخلاف الثاني فان اطاعته منوطة باتيان فرد من افراد الطبيعة ، وتركه يكون بترك الكل او بترك ما عدا واحد من الكل ، بخلاف الثاني فان تركه بترك الكلّ فقط ، واتيانه باتيان فرد من الافراد.

وفي قبال الطلب المتعلق بالفعل بالانحاء الثلاثة النهي المتعلق بالترك فانه ايضا على انحاء ثلاثة :

الاول : ان يكون النهي المتعلق بالترك لقيام مفسدة بكل فرد من افراد الطبيعة ، بحيث يكون لكل فرد من افرد الطبيعة اطاعة وعصيان ، وعليه يكون النهي المتعلق بالطبيعة منحلا الى نواه متعددة بتعدد افراد الطبيعة ، ويكون النهي على هذا عاما شموليّا افراديا.

٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الثاني : ان يكون النهي المتعلق بالطبيعة لاجل قيام مفسدة بمحض وجود الطبيعة ، وعلى هذا فلا بد وان يكون النهي شموليا ايضا ، الّا انه اذا عصى واتى بالطبيعة سقط النهي عن الطبيعة ، وحيث كان ترك الطبيعة لا يتحقق الّا بترك جميع افرادها فلذلك كان النهي شموليا.

الثالث : ان يكون النهي لاجل مصلحة قائمة بالترك بجميع افراد الطبيعة ، وعلى هذا فالنهي ايضا لا بد وان يكون شموليا يشمل جميع افراد الطبيعة ، لوضوح ان المصلحة قائمة بجميع تروك افراد الطبيعة.

والفرق بين الثاني والثالث هو ان السبب في النهي الثاني هو المفسدة في وجود الطبيعة ، وفي الثالث هو المصلحة القائمة بالترك لجميع افراد الطبيعة ، ولا فرق بينهما من ناحية سقوط النهي لو اتى بفرد من افراد الطبيعة ، فانه كما يسقط النهي في الثاني لتحقق المفسدة بمجرد وجود الطبيعة كما لو نهى عن الإعماء فانه بعد تحقق طبيعة العمى لا يبقى مجال للنهي عن طبيعة العمى ، كذلك يسقط النهي في الثالث حيث كان لمصلحة قائمة بجميع التروك ، فانه لو اتى بفرد من افراد الطبيعة لا يعقل ان تتحقق المصلحة القائمة بجميع التروك.

الامر الثاني : ان الملاك لجريان البراءة وعدمها هو وصول النهي وعدم وصوله ، ولما كان النهي في النحو الاول منحلا الى نواه متعددة فلا بد من وصول موضوع النهي حتى يكون مانعا عن جريان البراءة ، فاذا تردد المائع بين كونه خمرا او غير خمر فلا مانع من جريان البراءة في هذا المائع المردد ، لفرض عدم وصول النهي فيه ، وقد فرضنا ان النهي ينحل الى نواه متعددة ، وفرض الشك في كونه خمرا فرض عدم العلم بخمريته ، الذي لازمه عدم وصول النهي عنه ، فلا مانع من جريان البراءة فيه ، لان لكل فرد من افراد الطبيعة نهيا خاصا متعلقا به ، ولا بد من وصوله حتى يكون منجزا في حق المكلف.

فاتضح ان تعدد النهي في النحو الاول هو الملاك لجريان البراءة في الفرد المشكوك.

٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

واما النهي على النحو الثاني والثالث ، فلما كان النهي في الثاني متعلقا بمحض ترك الطبيعة المتوقف على ترك جميع افرادها ، وفي النحو الثالث لما كان السبب في النهي عن الفعل هو تعلق المصلحة بجميع التروك فكان المطلوب فيها في الحقيقة هو جميع التروك على نحو الكلّ المجموعي ، وفي كلا هذين النحوين النهي واحد والمتعلق واحد ، فانه في الثاني نهي واحد تعلق بنفس وجود الطبيعة ، وفي الثالث نهي واحد تعلق بمجموع وجودات افرادها ، والمفروض وصول هذا النهي الواحد المتعلق بمتعلق واحد ، وشغل الذمة اليقيني به يستدعي الفراغ اليقيني به ، فلذلك اذا كان النهي على النحو الثاني أو الثالث فلا مجال لجريان البراءة في الفرد المشكوك ، فيكون المدار في جريان البراءة وعدمها هو وحدة النهي ومتعلقه وتعدد النهي ومتعلقه ، فان تعدد النهي ولو تحليلا كان مجال لجريان البراءة ، لعدم وصول النهي في مقام تردده بين الفرد المشكوك حرمته وعدمها ، كالمائع المردد بين كونه خمرا او خلا ، وان لم يتعدد النهي لم يكن مجال لجريان البراءة لوصول النهي الواحد مع متعلقه ، وشغل الذمة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني فلا بد من احراز الامتثال للنهي الواصل ، ولا يحصل الاحراز إلّا بترك جميع افراد الطبيعة ، اما بالقطع او بالاصل كما سنشير اليه.

والى هذا التفصيل اشار بقوله : ((الثالث انه لا يخفى ان النهي عن شيء اذا كان بمعنى طلب تركه في زمان او مكان بحيث لو وجد في ذاك الزمان او المكان ولو دفعة)) واحدة ((لما امتثل)) النهي ((اصلا)) وذلك في ما لو كان النهي عن مفسدة في محض وجود الطبيعة كالقتل او العمى ، او كان لمصلحة في جميع تروك افراد الطبيعة ، فانه لو كان عن مفسدة في وجود محض الطبيعة ووجدت الطبيعة بوجود فرد من افرادها لتحققت المفسدة وحصل العصيان ، وكذا فيما كان لمصلحة في جميع تروك افرادها ، فانه لو وجد فرد واحد منها لما تحققت المصلحة المترتبة على جميع التروك ، وعلى هذا فحيث وصل النهي الواحد المتعلق بشيء واحد ـ هو اما محض الطبيعة أو جميع افرادها على نحو الكل المجموعي ، فان الكل المجموعي واحد ايضا كمحض

٥٢

بالاصل ، فلا يجوز الاتيان بشيء يشك معه في تركه ، إلا إذا كان مسبوقا به ليستصحب مع الاتيان به.

نعم ، لو كان بمعنى طلب تركه كل فرد منه على حدة ، لما وجب إلا ترك ما علم أنه فرد ، وحيث لم يعلم تعلق النهي إلا بما علم أنه مصداقه ، فأصالة البراءة في المصاديق المشتبهة محكمة (١).

______________________________________________________

وجود الطبيعة ـ فلا بد من امتثاله بترك الجميع ، لان الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، ولذلك ((كان اللازم على المكلف احراز انه تركه بالمرة)) ليحصل به احراز الامتثال واحراز انه تركه بالمرة ، اما ان يكون بالقطع او يكون بالاصل.

(١) توضيحه : ان الامتثال للامر او النهي كما يحرز بالقطع ، كذلك يحرز بالاصل ، فانه لو امر المولى بشيء فكما يحرز امتثاله بالقطع باتيانه ، كذلك يحرز امتثاله بالاصل كما لو اتى بالواجب وشك في بطلانه لوجود القاطع ، فانه يحرز بالاصل استمرار بقاء الامتثال وعدم بطلان ما اتى به ، ومثله النهي المتعلق بشيء واحد ، فانه تارة يحرز امتثاله بالقطع بترك جميع افراد الطبيعة قطعا ، واخرى يحرز امتثاله بالاصل واستصحاب انه كان تاركا له فيما اذا شك في ذلك عند ارتكابه للفرد المشكوك ، فانه بعد ان كان تاركا له في حال توجه النهي له فيستصحب ذلك وبه يحرز استمرار بقائه على الترك لجميع افراد الطبيعة ، مثلا لو كان النهي المتعلق بالخمر من قبيل النحو الثاني أو الثالث لا من قبيل النهي الانحلالي ، وكان المكلف في حال بلوغه تاركا لشرب الخمر ، ثم ارتكب شرب المائع المردد بين الخمر والخل ، فانه وان شك في بقاء الامتثال لاحتمال كون ما شربه خمرا ، إلّا انه بواسطة استصحابه لترك شرب الخمر المتيقن له قبل بلوغه وفي زمان بلوغه الى ما بعد ارتكابه لشرب المائع المردد ، فباستصحابه ذلك الترك يثبت ان تركه مستمر وباق الى هذا الزمان ، وبواسطة هذا الاستصحاب يحرز بقاؤه على الامتثال وانه لا مؤاخذة عليه في شرب هذا المردد ، اما اذا كان مشتغلا بشرب الخمر في حال توجه النهي بفرض انه في اول زمان بلوغه كان

٥٣

فانقدح بذلك أن مجرد العلم بتحريم شيء لا يوجب لزوم الاجتناب عن أفراده المشتبهة ، فيما كان المطلوب بالنهي طلب ترك كل فرد على حدة ، أو كان الشيء مسبوقا بالترك ، وإلا لوجب الاجتناب عنها عقلا

______________________________________________________

مشغولا بشرب الخمر ولو كان ذلك لعذر ، إلّا انه لما كان قد انتقض يقينه بترك شرب الخمر فلا يمكنه استصحاب تركه للخمر ، وعلى هذا الفرض لا يجوز له شرب المائع المردد ، لما عرفت من لزوم احرازه لترك شرب الخمر ، وحيث لا اصل عنده يحرز له ذلك ، فلا بد من ان يكون احرازه لامتثاله لترك الخمر منحصرا في احرازه بالقطع ، ومع شرب المائع المردد لا يكون محرزا لذلك ، لفرض احتماله لكون ما شربه خمرا ، ولا مناص له من احراز امتثال هذا النهي الواصل اليه المتعلق بشيء واحد غير منحل الى نواه متعددة.

والى الاحراز بالاصل اشار بقوله : ((فلا يجوز الاتيان بشيء يشك معه)) أي يشك مع الاتيان به ((في تركه)) لامتثال النهي الواصل اليه ((إلّا اذا كان مسبوقا به)) أي مسبوقا بالترك له ، فانه اذا كان كذلك جاز له الاتيان بشيء يشك مع الاتيان به في الامتثال ، لانه يمكنه ان يحرز استمرار امتثاله باستصحاب الترك المتيقن سابقا ، فيعتمد على هذا اليقين ((ليستصحب)) بقاؤه على استمرار الترك ((مع الاتيان به)) أي مع الاتيان للفرد المشكوك.

ثم اشار الى جريان البراءة فيما اذا كان النهي انحلاليا ، لما عرفت من عدم الوصول في فرض الانحلال بقوله : ((نعم لو كان النهي بمعنى طلب ترك كل فرد منه)) أي من متعلق النهي ((على حدة)) فيكون النهي منحلا الى نواه متعددة بمقدار افراد المتعلق للنهي ((لما وجب الا ترك ما علم انه فرد)) لذلك المتعلق ، لوضوح انه لا يعلم بوصول النهي الا حيث يصل متعلقه ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((وحيث لم يعلم تعلق النهي إلّا بما علم انه مصداقه فاصالة البراءة في المصاديق المشتبهة محكمة)).

٥٤

لتحصيل الفراغ قطعا ، فكما يجب فيما علم وجوب شيء إحراز إتيانه إطاعة لامره ، فكذلك يجب فيما علم حرمته إحراز تركه وعدم إتيانه امتثالا لنهيه. غاية الامر كما يحرز وجود الواجب بالاصل ، كذلك يحرز ترك الحرام به (١) ، والفرد المشتبه وإن كان مقتضى أصالة البراءة جواز

______________________________________________________

(١) هذا بيان لما اختاره من التفصيل في المشتبه من افراد الشبهة الموضوعية التحريمية ، من انه لا يجب الاجتناب عن مطلق المشتبه في الشبهة الموضوعية التحريمية وان علم بالحكم الكلي ، وتجري البراءة في النهي المتعلق بالطبيعة الكلية اذا كان النهي انحلاليا ، وفيما لم يكن انحلاليا فلا مجرى للبراءة مطلقا ، ويجري الاستصحاب في خصوص ما كان مسبوقا بالترك كما مر بيانه ، والى هذا اشار بقوله : ((فانقدح بذلك ان مجرد العلم بتحريم شيء)) وان كان واصلا بما هو متعلق بكلي الطبيعة إلّا انه ((لا يوجب لزوم الاجتناب عن افراده المشتبهة فيما كان المطلوب بالنهي)) انحلاليا ينحل الى ((طلب ترك كل فرد على حدة)) فانه فيه تجري البراءة كما عرفت ، وكذلك فيما لم يكن انحلاليا بان كان متعلق النهي شيئا واحدا ، ولكنه كان مسبوقا بالترك فيجري الاستصحاب دون البراءة وان اتفقا في نتيجة الامر بجواز ارتكاب الفرد المشتبه ، واليه اشار بقوله : ((او كان الشيء مسبوقا بالترك)) واما في عدا ذلك بان كان متعلق النهي شيئا واحدا لا متعددا ولم يكن هناك استصحاب ، فيجب الاجتناب عن الفرد المشتبه ، ولا تجري البراءة العقلية لان شغل الذمة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، والى هذا اشار بقوله : ((وإلّا لوجب الاجتناب عنها)) أي عن الافراد المشتبه ((عقلا)) ومن هذا يظهر ان كلام المصنف في جريان البراءة العقلية فلا ينبغي الايراد عليه بانه سيأتي منه في باب الاشتغال جريان البراءة النقلية.

ثم اشار الى الوجه في لزوم الاجتناب في الفرض المذكور بقوله : ((لتحصيل الفراغ قطعا)) وان الحال في النهي كالحال في الامر ((فكما يجب فيما علم وجوب شيء احراز اتيانه)) لوصوله بالعلم به فيجب على المكلف احراز الامتثال ((اطاعة

٥٥

الاقتحام فيه ، إلا أن قضية لزوم إحراز الترك اللازم وجوب التحرز عنه ، ولا يكاد يحرز إلا بترك المشتبه أيضا ، فتفطن (١).

______________________________________________________

لامره فكذلك يجب فيما علم حرمته احراز)) الامتثال للنهي في ((تركه)) لمتعلق النهي ((و)) يلزمه ((عدم اتيانه)) لما تعلق به ((امتثالا لنهيه)).

واشار الى أن الاحراز كما يكون في الواجب بالقطع وبالاصل ، كذلك هو في النهي فانه كما يكون بالقطع يكون بالاصل بقوله : ((غاية الامر كما يحرز وجود الواجب بالاصل كذلك يحرز ترك الحرام به)) أي كذلك يحرز ترك الحرام بالاصل ايضا.

(١) يشير الى ما يمكن ان يقال انه في الفرد المشتبه حيث لم يعلم النهي عنه ولم تعلم حرمته بخصوصه فيكون من مصاديق ما لا بيان فيه ، وتجري فيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان ... فاشار الى الجواب عنه بما حاصله : ان الفرد المشتبه وان كان مما لم يصل البيان فيه بخصوصه إلّا انه لا تجري فيه قاعدة البراءة العقلية ، لتوقف امتثال ما وصل البيان فيه ـ وهو النهي الواصل المتعلق بالطبيعة الواحدة غير المنحل الى نواه متعددة ـ على ترك الفرد المشتبه ، لانه بارتكابه لا يكون محرزا لامتثال ذلك النهي الواصل ، والمفروض وجوب امتثاله ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((والفرد المشتبه وان كان مقتضى اصالة البراءة جواز الاقتحام فيه)) لانه لم يصل البيان فيه بخصوصه ((إلّا)) انها لا تجري فيه لتوقف امتثال ما وصل البيان فيه على ترك الفرد المشتبه ، لوضوح ((ان قضية لزوم احراز الترك اللازم وجوب التحرز عنه)) لوضوح تعلق النهي بمحض وجود الطبيعة او بجميع افرادها ، ولا بد من احراز امتثاله ((ولا يكاد يحرز)) امتثال ذلك النهي الواحد المتعلق بشيء واحد المفروض وصوله ((إلّا بترك المشتبه ايضا)) لبداهة انه مع الارتكاب للفرد المشتبه لا يحرز امتثال ذلك النهي ، فاحراز الامتثال له كما يتوقف على ترك ما علم حرمته كذلك يتوقف على ترك ما اشتبهت حرمته.

٥٦

الرابع : إنه قد عرفت حسن احتياط عقلا ونقلا ، ولا يخفى أنه مطلقا كذلك ، حتى فيما كان هناك حجة على عدم الوجوب أو الحرمة ، أو أمارة معتبرة على أنه ليس فردا للواجب أو الحرام (١) ، ما لم يخلّ بالنظام فعلا ، فالاحتياط قبل ذلك مطلقا يقع حسنا ، كان في الامور المهمة كالدماء والفروج أو غيرها ، وكان احتمال التكليف قويا أو ضعيفا ، كانت الحجة على خلافه أو لا ، كما أن الاحتياط الموجب لذلك

______________________________________________________

(١) قد عرفت في الامر الثاني حسن الاحتياط عقلا فيما لم يصل من الشارع فيه شيء واحتمل ذلك ، وفي هذا الامر الرابع اراد التنبيه على حسن الاحتياط مطلقا ما لم يلزم منه الاختلال بالنظام.

ولا يخفى ان المراد من حسن الاحتياط نقلا هو ورود الامر الارشادي فيه من الشارع ، لوضوح ان لازم الامر المولوي فيه هو حكم الشارع بالاحتياط ، لا مجرد كونه حسنا عند الشارع ، فكونه حسنا عند الشارع فقط لا بد وان يكون امر به بما هو حسن ، ومعنى ذلك هو كون امره به ارشاديا ، والمراد من الاطلاق في حسن الاحتياط هو حسنه حتى فيما قام الدليل الشرعي على عدم وجوبه او عدم حرمته ، سواء في الحكم الكلي كما ورد في انه لا حرمة في الربا في ما يباع بالعدّ لا بالكيل او الوزن ، او قامت الامارة المعتبرة شرعا على ان الفرد المشكوك ليس من الحرام او الواجب ، كما لو قامت البينة على ان المشكوك ليس من افراد الحرام او افراد الواجب ، والى هذين الفرضين اشار بقوله : ((فيما كان هناك حجة على عدم الوجوب او الحرمة)) كما مرّ مثاله في رفع الحرمة في الحكم الكلي في عدم حرمة الربا في المعدود ((او)) فيما قامت ((امارة معتبرة)) كالبينة القائمة في الفرد المشتبه ((على انه ليس فردا للواجب او الحرام)) فانه في هذين الفرضين وان قامت الحجة على عدم الحرمة إلّا ان الاحتياط فيه حسن عقلا ونقلا.

٥٧

لا يكون حسنا كذلك (١) ، وإن كان الراجح لمن التفت إلى ذلك من أول الامر ترجيح بعض الاحتياطات احتمالا أو محتملا (٢) ،

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان ما يوجب الاختلال بالنظام قبيح ارتكابه عقلا ، وما كان قبيحا عند العقل لا يعقل ان يحكم العقل بحسنه ، فخروج ما يخلّ بالنظام عن حسن الاحتياط خروج موضوعي لانه من افراد القبيح ، ولذلك قال (قدس‌سره) : ((ما لم يخل بالنظام فعلا)).

ولا يخفى ان الاحتياط تارة يكون في الجمع بين محتملات التكليف الواحد ، كما لو تردد الخمر بين آنية كثيرة او يكون بعضها خارجا عن محل الابتلاء ، واخرى يكون في مقام الجمع بين تكاليف متعددة المتعلق ، وهو حسن في كلا الفرضين ، إلّا ان يلزم منه الاختلال بالنظام ، واذا لزم منه الاختلال لا يكون حسنا بل يكون قبيحا ، ومما ينبغي ان يعلم ان الاحتياط لما كان في الجمع بين المحتملات سواء لتكليف واحد او لتكاليف متعددة ، فلزوم الاختلال بالنظام انما يلزم في الجمع بين جميعها ، اما الاحتياط في بعضها بمقدار لا يلزم منه الاختلال فهو باق على حسنه العقلي او النقلي ، والى هذا اشار بقوله : ((فالاحتياط قبل ذلك مطلقا يقع حسنا)) ثم اشار الى وجه الاطلاق بقوله : ((كان في الامور المهمة كالدماء والفروج او غيرها و)) سواء ((كان احتمال التكليف قويا او ضعيفا)) وسواء ((كانت الحجة)) قائمة ((على خلافه)) أي على الترخيص الذي هو خلاف الاحتياط ((اولا)) ففي هذه الموارد كلها المفروض فيها عدم حصول الاختلال من الاحتياط فيها فان الاحتياط فيها يكون حسنا عقلا ونقلا ، كما ان المقدار الموجب لاختلال النظام لا يكون الاحتياط فيه حسنا ، بل يكون قبيحا ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((كما ان الاحتياط الموجب لذلك)) أي للاختلال في النظام ((لا يكون حسنا كذلك)) أي لا يكون حسنا لا عقلا ولا نقلا.

(٢) حاصله : انه حيث كان المفروض لزوم الاختلال في النظام من الاحتياط التام في جميع محتملات التكليف الواحد وفي جميع موارد التكاليف فيكون الاحتياط التام

٥٨

فافهم (١).

______________________________________________________

قبيحا لا حسنا ، وبمقدار لا يلزم منه الاختلال فهو باق على حسنه ، ففي مقام الاحتياط في موارد التكاليف المتعددة اذا التفت المكلف الى ان الاحتياط التام في جميعها يلزم منه الاختلال وأراد ان يحتاط فيما لا يلزم منه الاختلال ، فينبغي له ان يقدم الاحتياط في الموارد المهمة على غيرها ، والاحتياط في احتمالات التكاليف القوية كالمظنونة على المحتملات غير المظنونة ، والاحتياط فيما لم تقم الحجة الخاصة فيه على الترخيص على غيره ، لوضوح ان هذه الموارد ارجح في اعمال الاحتياط فيها من غيرها ، والى هذا اشار بقوله : ((وان كان الراجح لمن التفت الى ذلك)) أي الى لزوم الاختلال من الاحتياط في الكل ، وإلى ان بعضها ارجح من غيره ، ففي مقام اعمال الاحتياط ينبغي له ((من اول الامر ترجيح بعض الاحتياطات)) على البعض الآخر ، فيقدم ما هو اقوى ((احتمالا)) كالقوي على الضعيف ((او)) ما هو اقوى ((محتملا)) كالفروج والدماء على غيرها.

(١) لعله اشارة الى ما يمكن ان يقال : ان الاحتياط قبل الاخلال يكون حسنا ، وبعده لا يكون حسنا ، فهو في مقام الاحتياط في التكاليف المحتملة المتعددة لا في محتملات التكليف الواحد ، فانه مبنى على جواز التفكيك بين الموافقة القطعيّة والمخالفة القطعية.

ولا يمكن ان يقال ان امكان التفكيك وعدم امكانه انما هو في الاحتياط اللازم ، واما الاحتياط لاجل احتمال التكليف فلا مانع من كونه حسنا وان كان في بعض محتملات التكليف الواحد لكفاية احتمال التكليف في حسنه ، لوضوح ان الاحتياط في محتملات التكليف الواحد قبل الاخلال ليس باحتياط ، لان الاحتياط هو انه اذا كان هناك شيء فلا بد من اصابته ، وفي محتملات التكليف الواحد لا يكون ذلك إلّا باتيان الجميع ، والمفروض عدم حسنه لاخلاله بالنظام.

٥٩

فصل

إذا دار الامر بين وجوب شيء وحرمته ، لعدم نهوض حجة على أحدهما تفصيلا بعد نهوضها عليه إجمالا (١) ، ففيه وجوه : الحكم بالبراءة عقلا ونقلا لعموم النقل ، وحكم العقل بقبح المؤاخذة على خصوص الوجوب أو الحرمة للجهل به ، ووجوب الاخذ بأحدهما تعيينا أو تخييرا ، والتخيير بين الترك والفعل عقلا ، مع التوقف عن الحكم به رأسا ، أو مع الحكم عليه بالاباحة شرعا ، أوجهها الاخير (٢) ، لعدم الترجيح بين

______________________________________________________

(١) دوران الامر بين وجوب الشيء وحرمته منوط بامرين :

الاول : العلم اجمالا بان الحكم الواقعي يدور بينهما ، ولا مجال فيه لبقية اقسام الحكم من الاستحباب والكراهة والاباحة الواقعية.

الثاني : عدم نهوض الحجة على احدهما بخصوصه ، كما اذا اختلفت الامة في المسألة على قولين ، قول فيه بالوجوب ، وقول آخر بالحرمة ، فبناء على ان اختلاف الامة على قولين يوجب نفي الثالث ، فيعلم اجمالا بان الواقع يدور بينهما ، وحيث فرض اختلاف الامة على قولين فلا تكون الحجة في المقام ناهضة على خصوص احدهما بعينه لا غير وقد اشار الى الامر الثاني بقوله : ((لعدم نهوض حجة على احدهما بخصوصه)) واشار الى الامر الاول بقوله : ((بعد نهوضها)) أي بعد نهوض الحجة ((عليه اجمالا)) أي على الدوران بين الوجوب والحرمة وان الحكم الواقعي هو احدهما لا غير.

(٢) الوجوه في هذه المسألة التي اشار اليها في المتن خمسة :

الاول : الحكم فيه بالبراءة عقلا ونقلا ، اما عقلا فلعدم المانع من جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان فيه ، واما نقلا فلعدم المانع من شمول ادلة البراءة النقلية كمثل ما لا يعلمون ودليل الاباحة مثل قوله عليه‌السلام : (كل شيء لك حلال ... وإلى هذا اشار بقوله : ((الحكم بالبراءة عقلا ونقلا ... الى آخر الجملة)).

٦٠