بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 946-497-063-2
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٢٣

إن قلت : كيف هذا؟ مع الملازمة بين الحكمين (١).

______________________________________________________

فاتضح مما ذكرنا : ان الحال في الاحكام العقلية كالحال في الاحكام النقلية الشرعية ، يدور الامر فيها مدار كون المنتفى في حال الشك مقوّما للموضوع وغير مقوم له ، وان كان له دخل في ثبوت الحكم له ، ففي انتفاء المقوّم لا يجري الاستصحاب ، وفي مقام انتفاء غير المقوّم يجري الاستصحاب. والى ما ذكرنا اشار بقوله : ((بلا تفاوت في ذلك)) أي في جريان الاستصحاب ((بين كون دليل الحكم نقلا)) كوجوب الصلاة وامثالها ((او عقلا)) كحكم العقل بحسن الصدق وبقبح الكذب المطابق له حكم الشارع بالامر بالصدق وبالنهي عن الكذب ، وانه في كليهما تارة يجري الاستصحاب لتحقق الاتحاد ، ولا يجري اخرى لعدم تحقق الاتحاد في القضيتين ((اما الاول)) وهو الاحكام النقلية الشرعية ((فواضح)) كما مرّ بيانه ((واما الثاني)) وهو ما كان دليل الحكم عقليا ((ف)) هو كالحكم النقلي ((لان الحكم الشرعي المستكشف به)) أي المستكشف بالعقل تارة لا يكون مجرى للاستصحاب ، وذلك عند انتفاء ما هو المقوّم ، واخرى يكون مجرى للاستصحاب وذلك ((عند طروء انتفاء ما احتمل دخله في موضوعه)) ولكنه ((مما لا يرى مقوّما له)) عند العرف و ((كان مشكوك البقاء عرفا لاحتمال عدم دخله فيه واقعا وان كان لا حكم للعقل بدونه قطعا)).

فظهر مما مرّ : ان التلازم بينهما في مرحلة وجود الحكم عقلا لا في مرحلة عدم الحكم عقلا ، وانه في مرحلة حكم العقل بوجود الحكم لا بد من مطابقة حكم الشرع له ، واما في مقام عدم الحكم عقلا فالمدار على كون المنتفى مقوّما وغير مقوم.

(١) حاصله : انه اذا كان حكم الشرع في القضايا مستكشفا من حكم العقل فيقتضي ذلك التلازم بينهما ، ففي مقام ثبوت حكم العقل يثبت حكم الشرع ايضا ، وفي مقام لا يكون للعقل حكم لا بد وان لا يكون للشرع حكم ايضا ، لوضوح الملازمة بين الكاشف والمنكشف ، والى هذا اشار بقوله : ((كيف هذا)) أي كيف قلتم بالتفكيك

٣٦١

قلت : ذلك لان الملازمة إنما تكون في مقام الاثبات والاستكشاف لا في مقام الثبوت ، فعدم استقلال العقل إلا في حال غير ملازم لعدم حكم الشرع في غير تلك الحال ، وذلك لاحتمال أن يكون ما هو ملاك حكم الشرع من المصلحة أو المفسدة التي هي ملاك حكم العقل ، كان على حاله في كلتا الحالتين ، وإن لم يدركه إلا في إحداهما ، لاحتمال عدم دخل تلك الحالة فيه ، أو احتمال أن يكون معه ملاك آخر بلا دخل لها فيه أصلا ، وإن كان لها دخل فيما اطلع عليه من الملاك (١).

______________________________________________________

وبالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع في مقام ، وعدم الملازمة بينهما في مقام آخر ((مع)) ان ((الملازمة بين الحكمين)) مما لا مجال للتخلّف فيها.

(١) توضيحه يحتاج الى بيان امور : الاول : ان قضية حسن العدل وقبح الظلم مما لا شك للعقل فيها ، وحكم الشرع مطابق لحكم العقل فيها.

الثاني : ان المدار في انطباق هذه القاعدة على الموضوعات يدور مدار العناوين المدرجة لها فيهما ، فربما يكون الشيء الواحد حسنا بعنوان كالصدق الذي لم يتوقف عليه حفظ النفس مثلا ، وربما يكون قبيحا كما فيما اذا توقف عليه حفظ النفس.

الثالث : ما عرفت من اختلاف المنتفى بين كونه مقوّما وغير مقوّم ، والمجال للشك فيما اذا كان المنتفى غير المقوّم.

الرابع : ان لازم هذه الامور هو الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع في مقام الاثبات دون الثبوت والواقع ، بمعنى انه اذا حكم العقل بحكم في هذه القضايا فلا بد من حكم الشارع على طبقه ، واما اذا لم يكن للعقل حكم في مقام الشك لكون المنتفى غير المقوّم فاحتمال الثبوت وعدمه في وجدان العقل على السواء ، وللشارع في هذا المقام الحكم اثباتا او نفيا لاطلاعه على الواقعيات : من كون انتفاء غير المقوّم تارة يكون غير موجب لنفي الحسن او القبح المقطوع به في الزمن السابق قبل عروض الانتفاء ، واخرى يكون موجبا لارتفاع ما كان عليه من عنوان خاص موجب للحسن

٣٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

او القبح ، ولكنه كان هناك ملاك آخر لاحدهما لم يطلع عليه العقل اصلا ، كان ذلك ملاكا آخر للحسن او القبح موجبا لبقاء الحكم على ما كان عليه.

وبعبارة اخرى : ان هناك قضية واقعية قد توافق عليها العقل والشرع وهي فعل الحسن وترك القبح ، واما في مقام انطباق هذه القضية على الموضوعات ، فربما تكون بيّنة الانطباق عند العقل ، وربما يكون الحال في مقام الانطباق مجملا عند العقل ، ولكنه لا يعقل ان يكون مجملا عند الشارع المطلع على الواقعيات ، ففي هذه الحال التي لا استقلال للعقل في الحكم فيها لاجمالها عنده لا تلازم بين العقل والشرع ، اذ ربما يكون الحكم على حاله عند الشارع المطلع على الواقعيات ، لان انتفاء بعض القيود عن الموضوع المتيقن في حال الشك كان مما لا يضر ببقاء ما عليه الموضوع من المصلحة او المفسدة الموجبة لحسنه سابقا أو لقبحه ، فيحكم ببقاء ما كان له من الحكم ويكون للموضوع حكمه في كلتا الحالتين. وربما لا يكون الحكم عند الشارع باقيا على حاله ، لان انتفاء بعض القيود عن الموضوع المتيقن مما يضر ببقاء المصلحة أو المفسدة الموجبة لحسنه أو قبحه. والى ما ذكرنا اشار بقوله : ((قلت ذلك)) أي ان ما قلناه من انه عند طروء انتفاء ما احتمل دخله مما لا يكون مقوّما للشارع ان يحكم باستمرار الحكم ، وان لم يكن للعقل حكم في تلك الحال ، لا يضر بالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ((لان الملازمة)) بينهما ((انما تكون في مقام الاثبات والاستكشاف)) أي في مقام يحكم العقل فيه بحكم يلازمه حكم الشرع ، لان حكم العقل يكون كاشفا عن حكم الشرع و ((لا)) ملازمة بينهما ((في مقام الثبوت)) والواقع ، لوضوح محدوديّة نظر العقل وعدم محدوديّة نظر الشارع الذي لا تخفى عليه خافية ((فعدم استقلال العقل الّا في حال غير ملازم لعدم حكم الشرع في تلك الحال)) لا يخفى ان عبارة المتن لا تخلو عن اغلاق ولا بد من تأويلها لإطباق النسخ عليها.

٣٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وحاصل شرحها : انه بعد ان ظهر ان للعقل حالتين : حالة يستقل فيها بالحكم ، وحالة لا يستقل بالحكم فيها لإجمالها عنده .. يتضح ان الملازمة بينهما في الحال التي يستقل العقل فيها بالحكم دون الحال التي لا يستقل فيها ، والمصنف اشار بقوله : ((فعدم استقلال العقل الا في حال)) اشار الى ان هناك حالة اخرى لا يستقل العقل بها وحيث ان الملازمة بينهما في حال استقلال العقل بالحكم. واما في حال عدم حكم العقل لعدم استقلاله فلا ملازمة بين العقل والشرع ، ولا يلازم في هذه الحال عدم حكم العقل عدم حكم الشرع ... وبعد ان اشار المصنف الى ان هناك حالتين اشار الى عدم الملازمة بينهما في الحال التي لا استقلال فيها بقوله : ((غير ملازم لعدم حكم الشرع في غير تلك الحال)) وهي الحالة الاخرى التي لا استقلال للعقل فيها ولا حكم له فيها. ثم اشار الى الوجه في عدم الملازمة في هذه الحال بقوله : ((وذلك لاحتمال ان يكون ما هو ملاك حكم الشرع)) المستكشف من حكم العقل في زمان اليقين ((من المصلحة أو المفسدة التي هي ملاك حكم العقل)) في الزمان السابق لما كان الموضوع واجدا لجميع القيود هي باقية في زمان الشك ، وانتفاء غير المقوّم عنه ، واذا كانت باقية واقعا فعند الشارع المطلع على الواقعيات ((كان)) الحكم ((على حاله في كلتا الحالتين وان لم يدركه)) العقل ((الّا في احداهما)) وهي حالة ما كان الموضوع واجدا لجميع القيود وهو زمان اليقين الذي كان العقل مستقلا فيه بالحكم ويستكشف منه حكم الشرع ايضا.

ثم اشار المصنف الى ان وجه بقاء الحكم في حال الشك على حاله يكون لاحتمالين : الاول : احتمال عدم دخالة ما انتفى من القيد في زمان الشك في ارتفاع المصلحة أو المفسدة ، واليه اشار بقوله : ((لاحتمال عدم دخل تلك الحالة فيه)) أي لاحتمال ان تكون تلك القيود التي ادرك العقل مع تحققها جميعا حسن الشيء او قبحه لا يكون لانتفاء بعضها دخل في انتفاء ما عليه الشيء واقعا من المصلحة أو المفسدة. واشار الى الثاني وهو انه يحتمل ان يكون هناك ملاكان في الواقع لحسن

٣٦٤

وبالجملة : حكم الشّرع إنما يتبع ما هو ملاك حكم العقل واقعا ، لا ما هو مناط حكمه فعلا ، وموضوع حكمه كذلك مما لا يكاد يتطرق إليه الاهمال والاجمال ، مع تطرقه إلى ما هو موضوع حكمه شأنا ، وهو ما قام به ملاك حكمه واقعا ، فرب خصوصية لها دخل في استقلاله مع احتمال عدم دخله ، فبدونها لا استقلال له بشيء قطعا ، مع احتمال بقاء ملاكه واقعا.

ومعه يحتمل بقاء حكم الشرع جدا لدورانه معه وجودا وعدما (١) ،

______________________________________________________

الشيء مثلا قد ادرك احدهما العقل فحكم بالحسن ، ولم يدرك الملاك الآخر للحسن ، وكان انتفاء بعض القيود مما له اثر في ارتفاع الملاك الذي ادركه العقل دون الملاك الآخر الذي لم يطلع عليه العقل ، بل كان الملاك الآخر للحسن باقيا مع انتفاء القيود ، ولذلك حكم الشارع ببقاء الحكم في زمان الشك ، وإليه اشار بقوله : ((او احتمال ان يكون معه)) أي مع الملاك الذي ادركه العقل ((ملاك آخر)) لم يدركه العقل ، وكان هذا الملاك متحققا في زمان الشك وانتفاء بعض القيود ((بلا دخل لها فيه)) أي من غير دخل للقيود التي ادرك العقل لاجلها ملاك الحسن الذي كان حكمه لاجله في الملاك الآخر ((اصلا وان كان لها دخل فيما اطلع عليه من الملاك)).

(١) هذا اجمال لما مرّ منه ، ومحصّله : ان الملازمة مطّردة بين حكم العقل وحكم الشرع في هذه القضية وهي فعل الحسن وترك القبيح. اما في مقام انطباق هذه القضية على الموضوعات فالملازمة غير مطردة دائما ، بل في مقام اجتماع جميع القيود فحكم الشرع يطابق حكم العقل ، واما في مقام انتفاء ما له دخل وليس بمقوّم فلا ملازمة بينهما ، إذ ليس للعقل الحكم فيه لاحتمال دخل ما انتفى في عدم صدق عنوان الحسن او القبيح على المنتفى عنه تلك الخصوصية في حال الشك.

والحاصل : ان العقل مع اجتماع جميع القيود في الموضوع يستقل بالحكم في الانطباق ، وفي مقام انتفاء الخصوصية التي ليست مقوّمة لا استقلال له بالحكم ، ولكنه للشارع المطلّع على الواقعيات ابقاء الحكم الذي كان لموضوعه في حال الشك ،

٣٦٥

.................................................................................................

______________________________________________________

لاطلاعه على عدم دخل انتفاء تلك الخصوصية في انتفاء المصلحة او المفسدة التي كانت موجبة للحكم في حال اجتماع جميع القيود ، أو لاطلاعه على انه هناك ملاك آخر للحسن او القبح الذي كان مما لم يدركه العقل ، ولم يكن لانتفاء تلك الخصوصية دخل في انتفائه ، وان كان لها دخل في انتفاء ما كان من الملاك الذي ادركه العقل حال اجتماع القيود. وقد اشار الى اطراد الملازمة بينهما في مرحلة الواقع بقوله : ((وبالجملة حكم الشرع انما يتبع ما هو ملاك حكم العقل واقعا)) وهي مرحلة الواقع في حكم كل منهما بفعل الحسن وترك القبيح وذلك فيما اذا اجتمعت جميع الشروط والقيود. اما في حال انتفاء بعض ما يحتمل دخله بحيث يحتمل انه ليس من مقوماته ولذلك لا يكون للعقل حكم عند انتفاء مثل ذلك القيد فللشارع في مثل هذا الحكم بالبقاء. واشار المصنف الى عدم اطراد الملازمة بينهما في مرحلة الانطباق على الموضوعات ، وذلك فيما اذا كان المنتفى مما احتمل دخله ، لا ما فيما كان مقوّما عند العقل بقوله : ((لا ما هو مناط حكمه فعلا)) ثم اشار الى علّة اطراد الملازمة في مرحلة الواقع دون مرحلة الانطباق بقوله : ((وموضوع حكمه كذلك)) أي وموضوع حكم العقل في مرحلة الواقع وهي قضية فعل ما هو الحسن وترك ما هو القبيح ((مما لا يكاد يتطرق اليه الاهمال والاجمال)) لان فرض هذه القضية الواقعية فرض الحسن وتحققه وفرض القبح وتحققه ، فلا اهمال ولا اجمال فيما هو موضوع الحكم وهو الحسن او القبح ، فلا بد وان يلحقه الحكم من العقل بانه ينبغي فعل الحسن وترك القبيح ، ويلحقه ترتّب المدح لفاعل الحسن وترتّب الذم لفاعل القبيح ، ويلازمه حكم الشرع في هذه القضية ، ولما كان مدح الشارع ثوابه وذمه عقابه فيستحق فاعل الحسن الثواب ويستحق فاعل القبح العقاب. واشار الى عدم اطراد الملازمة في مرحلة الانطباق على الموضوعات بقوله : ((مع تطرقه)) أي مع تطرق الاجمال ((الى ما هو موضوع حكمه شأنا)) وهو الموضوع الذي له شان ان يقوم به ملاك الحسن والقبح ويكون محلا لانطباق تلك القاعدة ويلحقه لقيام الملاك به الحكم

٣٦٦

فافهم وتأمل جيدا (١).

______________________________________________________

الذي يكون لذلك الملاك واقعا ، والى هذا اشار بقوله : ((وهو ما قام به ملاك حكمه واقعا)) وفي هذه المرحلة وهي مرحلة انطباق ما هو الملاك للحكم واقعا على الموضوع لا اطراد للملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، ففي مرحلة اجتماع جميع الخصوصيات يستقل العقل بالحكم ويلحقه حكم الشرع ايضا وهي مرحلة اليقين ، وفي مرحلة الشك لاجل انتفاء بعض الخصوصيات غير المقوّمة لا يكون للعقل استقلال بالحكم ، ولكنه للشارع الحكم لما عرفت من اطلاع الشارع وعدم اطلاع العقل. والى هذا اشار بقوله : ((فربّ خصوصية لها دخل في استقلاله)) أي في استقلال العقل بالحكم وذلك في مرحلة اجتماع جميع القيود والخصوصيات لان ما اجتمع فيه جميع القيود لا ريب في حسنه او قبحه ، ولا يكون لانتفاء تلك الخصوصية دخل في ارتفاع ما هو الملاك واقعا. واليه اشار بقوله : ((مع احتمال عدم دخله)) ولا يخفى ان تذكير الضمير اما باعتبار الانتفاء ، او باعتبار كون تلك الخصوصية قيدا ، وكان ينبغي تأنيث الضمير ، وان مع عدم دخلها .. فتحصّل انه مع وجود تلك الخصوصية يستقل العقل بالحكم ، ومع انتفائها لا استقلال له ، ولذا قال : ((فبدونها لا استقلال له)) أي للعقل ((بشيء)) من الحكم ((قطعا)) لاحتمال دخلها في ارتفاع الملاك وعدم دخلها في ارتفاعه ، ولما كان احد الاحتمالين بقاء الملاك وعدم ارتفاعه بارتفاعها ، كان للشارع الحكم بالبقاء لاطلاعه على الواقع ، ففي هذا الفرض يحتمل بقاء الحكم ويحتمل عدمه ، وقد اشار الى انه مع احتمال بقاء الملاك يحتمل بقاء الحكم بقوله : ((مع احتمال بقاء ملاكه واقعا ومعه)) أي ومع احتمال بقاء الملاك ((يحتمل بقاء حكم الشرع لدورانه)) أي لدوران حكم الشرع بقاء وارتفاعا ((معه)) أي مع الملاك ((وجودا وعدما)) فله الحكم بالبقاء لاطلاعه على بقاء الملاك.

(١) ظاهره انه اشارة الى الدّقة ... ولكنه يحتمل ان يكون اشارة الى ما ذكره في طي عبارته المتقدمة على قوله وبالجملة ، من انه يحتمل ان يكون هناك ملاك للحسن لم

٣٦٧

ثم إنه لا يخفى اختلاف آراء الاصحاب في حجية الاستصحاب مطلقا ، وعدم حجيته كذلك ، والتفصيل بين الموضوعات والاحكام ، أو بين ما كان الشك في الرافع وما كان في المقتضي ، إلى غير ذلك من التفاصيل الكثيرة ، على أقوال شتى لا يهمنا نقلها ونقل ما ذكر من الاستدلال عليها ، وإنما المهم الاستدلال على ما هو المختار منها ، وهو الحجية مطلقا ، على نحو يظهر بطلان سائرها (١) ، فقد استدل عليه بوجوه :

______________________________________________________

يطلع عليه العقل ، واذا جوّزنا هذا الاحتمال فلازمه عدم الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع في مقام الانطباق على الموضوعات ، لانه كما يجوز ان يكون هناك ملاك للمصلحة مثلا لم يطلع عليه العقل ، يجوز ايضا ان يكون هناك ملاك للمفسدة لم يطلع عليه العقل ، وتنحصر الملازمة بينهما في محض قضية كون الحسن مما ينبغي فعله والقبيح مما ينبغي تركه ... ويحتمل ان يكون اشارة الى انه لا فرق بين انتفاء المقوّم وغير المقوّم ، لانه اذا جوّزنا ان يكون هناك ملاك آخر لم يطلع عليه العقل فمن الجائز ايضا ان لا يكون لانتفاء المقوّم دخل في انتفائه ايضا ، وانما غاية الامر انه مع انتفاء المقوّم ينتفي الملاك الذي ادركه العقل لفرض انتفاء ما هو المقوّم له. واما الملاك الآخر الذي لم يطلع عليه فربما لا يكون منتفيا ، فللشارع المطلع على الواقعيات الحكم بالبقاء ولو مع انتفاء ما هو المقوّم للملاك الذي ادركه العقل لبقاء الملاك الآخر الذي لم يطلع عليه العقل. والله العالم.

(١) قوله (قدس‌سره) : ((المختار منها وهو الحجية مطلقا ... الخ)) ومنه يتضح بطلان القول بعدم الحجية مطلقا ، وبطلان التفصيل ايضا في حجية الاستصحاب من القول به في مقام دون مقام. وقد عرفت فيما مرّ ان التفاصيل التي ذكرها الشيخ الاعظم اولا تسعة ، مضافا الى القول بالحجية مطلقا ، والى القول بعدم الحجية مطلقا ، فتكون الاقوال التي ذكرها احد عشر قولا ، ثم اشار في آخر كلامه انه هناك تفاصيل أخر.

٣٦٨

الوجه الاول : استقرار بناء العقلاء من الانسان بل ذوي الشعور من كافة أنواع الحيوان على العمل على طبق الحالة السابقة ، وحيث لم يردع عنه الشارع كان ماضيا (١).

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان هذا الوجه الاول يرجع الى دعويين : الاولى : بناء استقرار العقلاء بما هم عقلاء وملتفتون الى اعمالهم على الاخذ بالحالة السابقة. الثانية : دعوى استقرار بناء كل ذي شعور من كافة انواع الحيوان على العمل على طبق الحالة السابقة.

وحاصل الدعوى الاولى هي ادعاء سيرة العقلاء وقيامها بما هي سيرة عقلائية على العمل على طبق ما كان كسائر سيرهم ، مثل سيرتهم على اتباع الظهورات ، وسيرتهم على الاخذ بالخبر الواحد ، ومثل هذه السير من العقلاء ليست من الارتكازيات بل هي امور اقتضتها مصالح عقلائية.

وحاصل الدعوى الثانية : ان العمل على طبق الحالة السابقة من الامور الارتكازية لكل ذي شعور ، مثل هرب ذي الشعور عن موارد الخطر.

وعلى كل من الدعويين : من استقرار السيرة العقلائية او استقرار عمل كل ذي شعور بارتكازه على الجري والعمل على طبق الحالة السابقة لا يكتفى بذلك ، بل لا بد لاثبات الحكم الشرعي من كون حكم الشارع هو الاخذ بالحالة السابقة عند عروض الشك الى ما يدل على الامضاء من الشارع لما قام عليه بناء العقلاء او لما استقر عليه عمل كل ذي شعور ، وقد مرّ فيما تقدّم في مبحث الخبر وغيره ان عدم ردع الشارع لذلك كاف في امضائه له.

ومحصّل هذا الوجه يتقوّم بامرين :

الاول : احراز البناء من العقلاء ، واحراز كون عمل كل ذي شعور على الاخذ بالحالة السابقة عند عروض الشك في الزمان الثاني.

الثاني : امضاء الشارع الكافي فيه عدم ردعه.

٣٦٩

وفيه : أولا منع استقرار بنائهم على ذلك تعبدا ، بل إما رجاء واحتياطا ، أو اطمئنانا بالبقاء ، أو ظنا ولو نوعا (١) ، أو غفلة كما هو

______________________________________________________

ومن الواضح انه لا نحتاج الى اثبات احراز بناء العقلاء على الاخذ بالحالة السابقة في خصوص الاحكام الشرعية ، لوضوح عدم خصوصية للاحكام الشرعية ، بل هي عند العقلاء كسائر امورهم العرفية ، لانه بعد ان كان عملا عقلائيا فلا يفرّق فيه عندهم بين الامور الشرعية وغير الشرعية. نعم لو وصل ردع من الشارع عنه لكانت سيرتهم مختصّة بخصوص الامور العرفية. هذا اولا. وثانيا : لو احتجنا الى احراز ذلك في بناء العقلاء لما صحّ اشتراط احراز ذلك في عمل كل ذي شعور ، بان يقال انه لا بد من احراز عمل ذوي الشعور على العمل على طبق الحالة السابقة في الاحكام الشرعية ، لبداهة ان الامور الارتكازية الصادرة من الحيوان بطبيعته الحيوانية لا فرق فيها بما هي ارتكازية بين كون الحالة السابقة حكما شرعيا او غير شرعي. وقد اشار المصنف الى الامر الاول المتقوّم به هذا الوجه الاول بقوله : ((استقرار بناء العقلاء من الانسان)) واشار الى كونه من ارتكازيات كل ذي شعور بقوله : ((بل ذوي الشعور ... الى آخر الجملة)) واشار الى الامر الثاني المتقوّم به هذا الوجه وهو امضاء الشارع الذي يكفي فيه عدم الردع منه بقوله : ((وحيث لم يردع عنه الشارع كان ماضيا)).

(١) توضيح هذا المنع الاول لهذا الوجه الاول من جهة دعوى استقرار بناء العقلاء على الاخذ بالحالة السابقة تعبدا يتوقف على بيان معنى البناء العقلائي التعبّدي. وحاصله : ان معنى التعبّد من العقلاء هو كون عملهم على الاخذ بما كان ثابتا لاجل محض ثبوته السابق لا لشيء غير ذلك ، وانهم لا يرفعون اليه عنه لصرف كونه كان متعلقا لليقين الموجب لتحققه وثبوته واقعا في السابق ، مع التفاتهم الى كون الحالة في الزمان الثاني هي الشك في بقائه ، وبهذا المعنى يكون ذلك تعبّدا منهم بابقاء ما كان ، ويكون اصلا عمليا منهم في مقام الشك لا امارة او احتياطا او غير ذلك. وهذه

٣٧٠

الحال في سائر الحيوانات دائما وفي الانسان أحيانا (١).

______________________________________________________

الدعوى في المقام ممنوعة لعدم احراز كون بناء العقلاء على العمل على طبق الحالة السابقة لمحض ثبوت الشيء سابقا وان بناءهم فيه هو البناء على اصل عملي منهم في مقام الشك ، وانهم يأخذون بالحالة السابقة لمحض ثبوتها من دون شيء آخر ، بل ملاحظة عمل العقلاء يقضي بانهم يأخذون بالحالة السابقة لاسباب متعددة :

ـ منها : رجاء اصابة الواقع حيث لا يحتملون المفسدة الفعلية في الاخذ بما كان متيقنا.

ـ ومنها : الاحتياط فيما اذا كان الثابت سابقا مهمّا او كان مقطوع عدم المفسدة فعلا ومحتمل المصلحة.

ـ ومنها : انهم في الحالة الثانية لا يكون الوجود والعدم عندهم سواء ، فلا يكون من مورد الشك وتساوي الطرفين ، بل يكون الحاصل لهم فيها هو الاطمئنان بالبقاء.

ـ ومنها : ان يكون اخذهم بما كان لاجل حصول ما يوجب الظن الشخصي او النوعي بالبقاء.

وقد اشار الى منع دعوى التعبّد العقلائي في المقام بقوله : ((منع استقرار بنائهم على ذلك تعبدا)) ، واشار الى الاسباب الموجبة لعملهم بقوله : ((بل اما رجاء ... الى آخر الجملة)).

(١) يشير بهذا الى منع دعوى كون العمل على طبق الحالة السابقة من ارتكازيات كل ذي شعور ، بل هو لاجل الغفلة والجري على ما اعتاده سابقا ، لوضوح ان جري الحيوانات على الحالة السابقة ليست من الاخذ بالحالة السابقة مع الالتفات الى ذلك في الحالة الثانية ، بل لان ذلك امر قد اعتادت فعله ، وقد يفعل الانسان جريا على العادة من دون التفات منه الى عروض الشك له.

ومنه يتضح : ان عمل الانسان العاقل بما هو ملتفت الى الشك لا بد وان يكون لاحد الامور السابقة : من الرجاء ، أو الاحتياط ، او غير ذلك من الاطمئنان وغيره ،

٣٧١

وثانيا : سلمنا ذلك ، لكنه لم يعلم أن الشارع به راض وهو عنده ماض ، ويكفي في الردع عن مثله ما دل من الكتاب والسنة على النهي عن اتباع غير العلم (١) ، وما دل على البراءة أو الاحتياط في الشبهات ،

______________________________________________________

وعمله بما هو غير ملتفت الى الشك يرجع الى العمل على طبق ما اعتاده لغفلته عن شكه. والى هذا اشار بقوله : ((وفي الانسان احيانا)).

(١) حاصله : انه لو سلمنا قيام بناء العقلاء وسيرتهم على الاخذ بالحالة السابقة والجري على طبقها في مقام عملهم ، إلّا انه من الواضح ان هذا المقدار لا يكفي في كون الاستصحاب حجة شرعا ، بل لا بد من ضم امضاء الشارع لهذه السيرة العقلائية ، والامضاء وان كان يكفي فيه عدم الردع ، إلّا ان وجود ما يصلح لان يكون رادعا عنها يمنع عن كشف امضاء الشارع لها ، وعموم الآيات الدالة على النهي عن اتباع غير العلم والروايات الدالة ايضا على النهي عن اتباع غير العلم مما يصلح للردع ، فلا ينفع قيام السيرة على العمل على طبق ما كان لان تكون حجة على الاستصحاب شرعا.

ولا يخفى ان كلامه هنا ينافي ما مر منه في حجية الخبر : من عدم امكان رادعية العمومات للسيرة وصلاحية السيرة لتخصيص العمومات من غير عكس.

وملخصه انه لو قلنا : ان مخصصية السيرة تتوقف على اثبات عدم رادعية العمومات لها للزم الدور من الطرفين ، لان اثبات رادعية العمومات يتوقف على عدم مخصصية السيرة المتوقف على اثبات رادعية العمومات لها ، وتوقف حجية السيرة وتخصيصها لها على اثبات عدم رادعية العمومات المتوقف على حجية السيرة وتخصيصها ، فيكون التوقف من الطرفين.

واما إذا قلنا : بان حجية السيرة وتخصيصها للعمومات لا يتوقف على اثبات عدم الرادعية ، بل يكفي محض عدم الرادعية فيكون الدور من طرف واحد ، وهو كون العمومات رادعة للسيرة دوريا ، لوضوح ان كون العمومات رادعة يتوقف على

٣٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

اثبات الردع ، واثبات الردع يتوقف على عدم مخصصية السيرة للعمومات المتوقف على اثبات الردع ، واما مخصصية السيرة فلا يتوقف على اثبات عدم الردع حتى تكون المخصصية متوقفة على اثبات عدم الردع المتوقف على المخصصية ، بل يكفي في حجية السيرة عدم ثبوت الردع لا اثبات عدم الردع ، والعدم لا يتوقف على شيء حتى يكون موقوفا على المخصصية.

ولعل السبب في تبدل نظره هنا واعتباره رادعية العمومات للسيرة : هو كون العمومات لها بالنسبة الى مدلولها العمومي اقتضاء ذاتي ، وهذا الاقتضاء يؤثر في حجية العمومات فعلا اذا لم يزاحم بحجة اقوى منه ، فالخاص التي هي السيرة انما تقدم على العام في مرحلة الحجية الفعلية لا في اقتضائها الذاتي كمدلول العام العمومي.

ويتحصل من هذا ان للعام اقتضاء بذاته للحجية ، ونسبته اليها نسبة المقتضي الى مقتضاه ، والخاص وهي السيرة بالنسبة اليه لها مقام المانع عن فعلية تأثيره في الحجية ، واما اقتضاؤه للحجية فهو ذاتي له ، وهو بخلاف السيرة فان اقتضاءها للحجية متقوم بعدم الردع ، فالعمومات بالنسبة الى الردع لها مقام الاقتضاء ، والسيرة بالنسبة الى حجيتها المزاحمة للعمومات الرادعة ليس لها مقام الاقتضاء ، ولازم هذا كون مزاحمة العمومات في مقام الرادعية بالسيرة من قبيل مزاحمة ما ليس فيه الاقتضاء لما فيه الاقتضاء ، ومن الواضح لزوم تقديم ما له الاقتضاء على ما ليس له الاقتضاء في مقام المزاحمة. فيمكن ان يكون لهذا قدم المصنف هنا رادعية العمومات للسيرة. وعلى كل فصريح المصنف هنا صلاحية الآيات والروايات الناهية عن اتباع غير العلم للردع عن السيرة ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((وثانيا سلمنا ذلك)) أي لو اعرضنا عن ما ذكرناه اولا : من منع استقرار بناء العقلاء تعبدا على الجري على طبق الحالة السابقة ، وسلمنا استقرار بناء العقلاء تعبدا على ذلك ((لكنه)) يحتاج الى امضاء الشارع له ورضاه به و ((لم يعلم ان الشارع به راض وهو عنده ماض)) فان

٣٧٣

فلا وجه لاتباع هذا البناء فيما لا بد في اتباعه من الدلالة على إمضائه (١) ،

______________________________________________________

استكشاف رضاء الشارع وامضائه لهذا البناء العقلائي يتوقف على عدم وجود ما يصلح لان يكون رادعا له شرعا ((و)) من الواضح انه ((يكفي في الردع)) شرعا ((عن مثله)) أي عن مثل هذا البناء ((ما دل من الكتاب والسنة)) من الآيات والروايات الدالة ((على النهي عن اتباع غير العلم)).

(١) وحاصله : انه كما ان الآيات والروايات الناهية عن اتباع غير العلم تصلح للردع عن السيرة ، كذلك ما دل على البراءة من الآيات والروايات عند المجتهدين ، او ما دل على الاحتياط عند الاخباريين يصلح لان يكون رادعا لهذه السيرة والبناء العقلائي ، لان السيرة ـ بناء على تماميتها ـ تقتضي حجية الاستصحاب مطلقا سواء كان المستصحب الحكم او عدم الحكم ، ففي مورد الشبهات الحكمية تكون السيرة هي الحجة على عدم الحكم فيها ، فجعل الشارع في موردها شيئا آخر غيرها وهي البراءة لازمه ردع الشارع عنها ، وإلّا لكان امضاؤه لها كافيا للدلالة على عدم الحكم.

ولا ينبغي ان يقال ان ادلة البراءة عامة شاملة للشبهات الحكمية وغيرها ، والسيرة بالنسبة الى الشبهات الحكمية كدليل خاص والخاص يقدم على العام.

لانه يقال : ان غير موارد الشبهات الحكمية هو من الموارد النادرة لا يصلح لان يكون هو المراد بأدلة البراءة ، لعدم صحة الغاء حجية العام بالنسبة الى غالب الموارد وانحصار حجيته في المورد النادر ، ولذلك لا يصح كثرة تخصيص العام بما يوجب انحصاره بالفرد النادر. هذا كله في رادعية ادلة البراءة ... واما رادعية أدلة الاحتياط بالنسبة الى السيرة المقتضية لعدم الحكم في الشبهات الحكمية فواضح. والى ما ذكرنا اشار بقوله : ((وما دل على البراءة أو الاحتياط)) فانه يصلح لان يكون رادعا للسيرة وهذا البناء العقلائي ((فلا وجه)) مع وجود ما يصلح للردع عن هذا البناء ((لاتباع هذا البناء)) في الاحكام المتوقف اتباعه فيها على امضاء الشارع لها ، ولا يستكشف

٣٧٤

فتأمل جيدا (١).

الوجه الثاني : إن الثبوت في السابق موجب للظن به في اللاحق.

وفيه : منع اقتضاء مجرد الثبوت للظن بالبقاء فعلا ولا نوعا ، فإنه لا وجه له أصلا إلا كون الغالب فيما ثبت أن يدوم مع إمكان أن لا يدوم ، وهو غير معلوم ، ولو سلم ، فلا دليل على اعتباره بالخصوص ، مع نهوض الحجة على عدم اعتباره بالعموم (٢).

______________________________________________________

امضاء الشارع مع وجود ما يصلح للردع من الشارع ، والى هذا اشار بقوله : ((فيما لا بد في اتباعه من الدلالة على امضائه)).

(١) يمكن ان يكون اشارة الى ان العمومات الناهية عن اتباع غير العلم لو سلّمنا صلاحيتها للردع عن السيرة ، الّا ان ما ذكره هناك من كون سياقها في مقام اصول الدين يمنع عن كونها في معرض الردع عن السيرة لان موردها الفروع.

ويمكن ان يكون اشارة الى ان كون ما دلّ على البراءة او الاحتياط رادعا للسيرة انما هو لاقتضاء السيرة الحجيّة مطلقا ، وما سيأتي من المصنف من دلالة الاخبار على حجيّة الاستصحاب مطلقا ـ ايضا ـ ينافيه ما دلّ على البراءة او الاحتياط ، لبقائه من غير مورد ايضا فيما لو كان الاستصحاب حجة مطلقا. فما يجاب به عن اطلاق حجية الاستصحاب اذا كان دليله الاخبار ، يجاب به عمّا اذا كان دليله السيرة. والله العالم.

(٢) وحاصل هذا الوجه : ان اليقين السابق يلازمه الظن بالبقاء. ولا يخفى انه لو تمت دعوى ملازمة الظن اللاحق بالبقاء لليقين السابق بالثبوت ، وحجية هذا الظن ، لكان الاستصحاب امارة لا اصلا.

وعلى كل فيرد عليه : أولا : منع هذه الدعوى ، وانه لا ملازمة بين اليقين والثبوت في السابق وبين الظن اللاحق بالبقاء ، لوضوح ان لكل من اليقين والظن والشك اسبابا تخصها وعللا توجبها ، ومن البيّن انه لا ملازمة بين علل هذه الامور ،

٣٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

لجواز انه بعد ارتفاع سبب اليقين السابق كما يمكن ان يحصل سبب يوجب الظن بالبقاء كذلك يمكن ان يحصل ما يوجب الشك بالبقاء.

لا يقال : ان دعوى الملازمة بين اليقين السابق والظن اللاحق بالبقاء لا لخصوصية ذاتية بين اليقين السابق والظن اللاحق ، بل لاجل الغلبة فان الغالب فيما يثبت ان يدوم ، والغلبة اذا لم توجب الظن الشخصي الفعلي بالبقاء فلا محالة انها مما توجب الظن النوعي ، فدعوى الملازمة بينهما سببها الغلبة.

فانه يقال : اولا ان دعوى الغلبة ممنوعة ، وليس الغالب في ما ثبت في السابق هو الدوام في الزمان اللاحق.

وثانيا : لو سلّمنا هذه الدعوى فلا تكفي لحجيّة الاستصحاب شرعا ، لعدم كون هذا الظن حجة بخصوصه. نعم لو تمت مقدمات الانسداد لكان هذا الظن حجة ، وقد عرفت عدم تماميتها في مبحث الانسداد.

وثالثا : لو سلّمنا كفاية هذا الظن في حجية الاستصحاب ، الّا انه انما يكفي حيث لا يرد من الشارع نهي عن اتباع الظن ، وقد عرفت دلالة الكتاب والسنة على النهي عن اتباع الظن ، ويشمل بعمومه للظن الحاصل من الغلبة ، الّا انك قد عرفت النظر في الآيات المتقدمة بانها واردة في اصول الدين ، ولكن يكفي في عدم هذا الظن ما مرّ في اول مبحث الظن من ان الاصل عدم حجية الظن مطلقا ، مضافا الى ما ورد عنهم عليهم‌السلام من النهي عن اتباع الظن ، وان النهي عن القياس انما هو لكونه ظنا لا لخصوصية في القياس. وقد اشار الى منع هذه الدعوى أولا بقوله : ((وفيه منع اقتضاء مجرد الثبوت ... الى آخر الجملة)). واشار الى انحصار الوجه في دعوى ملازمة الظن بالبقاء لليقين بالثبوت بالغلبة بقوله : ((فانه لا وجه له اصلا الّا كون الغالب ... الى آخر الجملة)) واشار الى منع دعوى الغلبة بقوله : ((وهو غير معلوم)). واشار الى انه لو سلّمنا الغلبة فلا دليل على اعتبار الظن الحاصل منها بقوله : ((ولو سلّم فلا دليل على اعتباره بالخصوص)) وبقوله بالخصوص اشارة

٣٧٦

الوجه الثالث : دعوى الاجماع عليه ، كما عن المبادئ حيث قال : الاستصحاب حجة ، لاجماع الفقهاء على أنه متى حصل حكم ، ثم وقع الشك في أنه طرأ ما يزيله أم لا؟ وجب الحكم ببقائه على ما كان أولا ، ولو لا القول بأن الاستصحاب حجة ، لكان ترجيحا لاحد طرفي الممكن من غير مرجح ، انتهى (١) ... وقد نقل عن غيره أيضا.

وفيه : إن تحصيل الاجماع في مثل هذه المسألة مما له مبان مختلفة في غاية الاشكال ، ولو مع الاتفاق ، فضلا عما إذا لم يكن وكان مع الخلاف من المعظم ، حيث ذهبوا على عدم حجيته مطلقا أو في الجملة (٢) ،

______________________________________________________

واضحة الى انه حيث لا تتمّ مقدمات الانسداد فحجية الظن تحتاج الى دليل خاص يدل عليها. واشار الى انه لو قلنا بكفاية هذا الظن في الحجية إلّا انه حيث لا يرد منع عنه من الشارع ، وقد ورد ما يدل بعمومه على النهي عنه بقوله : ((مع نهوض الحجة على عدم اعتباره بالعموم)) وهي ما تقدّم من الآيات والروايات الناهية من اتباع الظن.

(١) المتحصّل من عبارة المبادئ المنقولة في المتن : هو ان الاصحاب اتفقوا على الاخذ بالحكم الذي كان متعلقا لليقين في مقام الشك فيه في الزمان اللاحق ، واتفاقهم هو الدليل على حجية الاستصحاب الذي هو إبقاء ما كان ، فالاستصحاب حجة لهذا الاجماع ، ولو لا قيام الاجماع عليه من الاصحاب لكان العمل على طبق الحالة السابقة من الترجيح لأحد طرفي الممكن من غير مرجح ، لوضوح انه بعد فرض عروض الشك في الحكم في الزمان اللاحق يكون وجوده وعدمه على حدّ سواء ، ومع كون وجوده وعدمه على حدّ سواء فترجيح طرف وجود الحكم على طرف عدمه لو لا قيام الاجماع عليه لكان من الترجيح بلا مرجح.

(٢) وحاصله : ان الاجماع المدعى في المقام اما دعوى الاجماع المحصّل او دعوى الاجماع المنقول ، ولا يصح دعوى الاجماع في المقام بكلا نحويه.

٣٧٧

ونقله موهون جدا لذلك ، ولو قيل بحجيته لو لا ذلك (١).

______________________________________________________

امّا المحصّل منه فيرد عليه اولا : انه لا وجه لدعوى حجيّته في المقام مع فرض تسليم صغراه وهو اتفاق الاصحاب جميعا ، لان اتفاق الاصحاب الذي يستكشف به رأي الامام هو الاتفاق الذي لا يكون محتمل المدرك ، ومن الواضح ان احتمال المدرك ـ بل احتمال ان هنا مدارك مختلفة ـ لحجية الاستصحاب موجود ، ومع احتمال كون ذلك الاتفاق لمدرك او لمدارك لا يكون ذلك الاتفاق اجماعا. وإلى هذا اشار بقوله : ((وفيه ان تحصيل الاجماع في مثل هذه المسألة مما)) تعددت مداركها وكان لها ((مبان مختلفة في غاية الاشكال ولو مع)) فرض تسليمنا ((الاتفاق)) المدعى.

وثانيا : ان دعوى الاجماع والاتفاق من الاصحاب غير مسلّمة لذهاب جماعة منهم الى عدم حجية الاستصحاب مطلقا ، وذهاب بعضهم الى حجيته في مقام دون مقام. وهذا مما يدل على انه لا اجماع على حجيّة الاستصحاب ، والّا لما انكره جماعة ، ولما فصّل فيه آخرون.

والحاصل : انه قد خالف فيه معظم الاصحاب بين منكر له من رأس ، وبين مفصّل فيه بتفاصيل متعددة. واذا كان الخلاف فيه متحققا عند معظم الاصحاب فكيف يمكن ان يدعى تحصيل الاجماع فيه؟ والى هذا اشار بقوله : ((فضلا عمّا اذا لم يكن)) اتفاق منهم ((وكان مع)) عدم اتفاقهم ((الخلاف)) في حجيّته ((من المعظم حيث ذهبوا)) وبنوا ((على عدم حجيته مطلقا او في الجملة)) فكيف يدعى الاتفاق من الاصحاب مع ان المعظم قائل بعدم الحجية اما مطلقا او في الجملة؟

(١) قد عرفت ما يرد على الاجماع المحصّل في هذه المسألة. واما الاجماع المنقول الذي اشار اليه بقوله : ((ونقله)) فيرد عليه ، اولا : ما اوردناه على الاجماع : من عدم تماميته مع احتمال المدرك ، ومن ثبوت الخلاف من المعظم ، والبناء منهم على عدم حجيته اما مطلقا او في الجملة. والى هذا اشار بقوله : ((موهون جدا لذلك)).

٣٧٨

الوجه الرابع : وهو العمدة في الباب ، الاخبار المستفيضة.

منها : صحيحة زرارة قال : قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء ، أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ قال : يا زرارة ، قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، وإذا نامت العين والاذن والقلب فقد وجب الوضوء ، قلت : فإن حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم ، قال : لا ، حتى يستيقن أنه قد نام ، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلا فإنه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين بالشك أبدا ، ولكنه ينقضه بيقين آخر (١).

______________________________________________________

وثانيا : عدم حجيّة الاجماع المنقول في نفسه كما مرّ ذكره في مبحث الاجماع ، واليه اشار بالتعليق في قوله : ((ولو قيل بحجيّته لو لا ذلك)) فان قوله ولو قيل بحجيّته ظاهر في الاشارة الى عدم صحة القول بحجيّته.

والحاصل : انه لو قلنا بحجيّة الاجماع المنقول فلا نقول بها في المقام ، لما مرّ ذكره في دعوى الاجماع المحصّل ، وهو مراده من قوله : ((لو لا ذلك)).

(١) الحاصل : ان العمدة في الدلالة على الاستصحاب الاخبار التي منها صحيحة زرارة وهي (قال : قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء ، أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ قال ـ عليه‌السلام ـ : يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، واذا نامت العين والاذن فقد وجب الوضوء ، قلت فان حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم قال ـ عليه‌السلام ـ لا حتى يستيقن انه قد نام ، حتى يجيء من ذلك امر بيّن ، وإلّا فانه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين بالشك ابدا ، ولكنه ينقضه بيقين آخر) (١).

ولا يخفى ان هذه الرواية رواها شيخ الطائفة (قدس‌سره) بطريقه الصحيح الى الحسين بن سعيد عنه ، عن حماد ، عن حريز ، عن زرارة. واثبتها في جملة الحديث

__________________

(١) تهذيب الاحكام : ج ١ ، ص ٨.

٣٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

المروي عنهم ، واثبتها الحسين بن سعيد في الحديث المروي عنهم ايضا ، واثبتها حريز في أصله ايضا ... فيظهر من هؤلاء الأجلاء عدم اعتنائهم باضمارها ، وانها من المسلّم عندهم انها عن المعصوم عليه‌السلام.

والحاصل : ان صحيحة زرارة هذه من الاخبار الدّالة على الاستصحاب كما سيأتي ، وهي مشتملة على سؤالين السؤال الاول عن الخفقة والخفقتين. والظاهر من هذا السؤال هو المفروغية عن كون النوم التام ناقضا للوضوء ، والّا لكان السؤال عنه اولى من السؤال عن بعض مراتبه وهي الخفقة والخفقتين ، وبعد كون النوم التام مفروغا عن كونه ناقضا لذلك سأل زرارة عن الخفقة والخفقتين انها هل هي كالنوم التام الناقض ام لا؟ ... فمعنى قوله الرجل ينام وهو على وضوء ، هو ان الرجل ينقض الوضوء بالنوم التام ، فهل يوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ ولذلك اجابه الامام عليه‌السلام ببيان مراتب النوم ، وان بعض مراتبه نوم العين ، والنوم التام هو نوم القلب والاذن ، وان نوم العين وحدها لا يوجب الوضوء ، واذا نامت العين والاذن فقد وجب الوضوء ... ولا يخفى ان مرجع هذا السؤال الى الاستفسار عن شبهة حكمية ، وان النوم الناقض هل هو النوم بجميع مراتبه ، فاجاب الامام بما حاصله : ان بعض مراتبه وهو نوم العين لا يوجب الوضوء ، والذي يوجب الوضوء هو نوم العين والاذن.

وقد ظهر مما مرّ : انه لا داعي لان يكون قوله ينام الرجل يراد به الاشراف على النوم مجازا ، بل مراد به معناه الحقيقي وهو النوم حقيقة.

وما يقال من ان الداعي لحمل ينام على الاشراف على النوم هو ان حملة وهو على وضوء جملة حالية ولا بد من اقتران الحال بعامل الحال ، ولما كان النوم والوضوء لا يجتمعان فلذلك لزم حمل ينام على الاشراف على النوم.

فانه يقال : لا داعي للالتزام بوجوب اقتران عامل الحال مع الحال لا زمانا ولا وجودا ، بل الحال لا تدل على اكثر من كونها قيدا للعامل ، وهنا قوله وهو على

٣٨٠