بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 946-497-063-2
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٢٣

بل للاشارة إليه من هذا الوجه (١) ، ولذا لا وقع للاشكال على ما ذكر في تعريفه بعدم الطرد أو العكس ، فإنه لم يكن به إذا لم يكن بالحد أو الرسم بأس (٢).

______________________________________________________

(١) هذا هو الجواب عن هذا التوهّم. وحاصله : انه قد مر غير مرة ان تعاريف القوم ليست تعاريف حقيقية يكون الغرض منها بيان تعريفه بحقيقته وحدّه بجنسه وفصله ولا بخاصته وهو تعريفه برسمه بحيث توجب تمييزه عن جميع ما عداه ، بل هي تعاريف لفظية لمجرد شرح الاسم والاشارة اليه بوجه ما ، فتعاريف القوم ليست بحدّ للمعرّف ولا رسما له ، واذا لم تكن تعاريف حقيقية وكانت تعاريف لفظية فالاختلاف فيها لا يكون موجبا لاختلاف المعرّف ، لامكان ان يقصد في كل تعريف الاشارة بوجه غير الوجه الآخر الذي يشير به التعريف الآخر ، والاشارة الى الشيء بمدركه ومناطه من وجوه الاشارة اليه ، فلا يكون التعريف المنطبق على الظن ـ مثلا ـ موجبا لكون الظن هو الاستصحاب في قبال من كان ظاهر تعريفه هو الحكم بالبقاء ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((إلّا انه)) أي ان ما ذكر في هذا الوهم من ان بعض التعاريف مما ينطبق على معنى الاستصحاب غير الذي ذكرناه لا يستلزم المدعى من اختلاف معنى الاستصحاب عندهم وتعدّده في نظرهم ، لانه انما يقتضي ذلك حيث تكون التعاريف تعاريف حقيقية و ((حيث لم يكن)) التعاريف حقيقية وليست هي ((بحدّ ولا برسم بل)) هي ((من قبيل شرح الاسم كما هو الحال في)) ساير ((التعريفات غالبا لم يكن له)) أي لم يكن للتعريف ((دلالة على انه نفس الوجه)) أي على ان المدلول هو المعرّف وهو الوجه الذي اريد تعريفه حقيقة ((بل)) يكون مدلول التعريف ((للاشارة اليه)) أي للاشارة الى المعرّف ((من هذا الوجه)) وقد عرفت انه يجوز الاشارة في التعريف اللفظي باي وجه من وجوه المعرّف.

(٢) حاصله : انه كما يكون ما ذكرنا ـ من كون التعاريف لفظية ـ جوابا عن دعوى تعدّد معنى الاستصحاب ، كذلك يترتّب عليه ايضا انه لا وقع للاشكال على هذه

٣٤١

فانقدح أن ذكر تعريفات القوم له ، وما ذكر فيها من الاشكال ، بلا حاصل وطول بلا طائل (١).

ثم لا يخفى أن البحث في حجيته مسألة أصولية ، حيث يبحث فيها لتمهيد قاعدة تقع في طريق استنباط الاحكام الفرعية ، وليس مفادها حكم العمل بلا واسطة ، وإن كان ينتهي إليه (٢) ، كيف؟ وربما لا يكون

______________________________________________________

التعاريف بعدم الاطراد وبعدم الانعكاس : أي بكونها غير جامعة ولا مانعة ، لان الاشكال على التعاريف بذلك انما يصح حيث تكون تعاريف حقيقية لا لفظية ، لوضوح كون التعريف اللفظي قد يكون اعم من المعرف وقد يكون اخص منه ، لان الغرض منه الاشارة الى المعرّف بوجه ما ، ويجوز الاشارة بالاعم وبالاخص ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((لم يكن به)) أي لم يكن بعدم الاطراد وبعدم الانعكاس فيما ((اذا لم يكن)) التعريف حقيقيا ، وليس ((بالحدّ او الرسم بأس)) وبأس هو الاسم للم يكن أي : لم يكن بأس بعدم الاطراد وبعدم الانعكاس فيما اذا كان التعريف لفظيا لا حقيقيا.

(١) وجه الانقداح واضح ، فان التعاريف اذا كانت لفظية لا بأس بعدم اطرادها وعدم انعكاسها ، فلا داعي لذكرها بتمامها وكفاية ذكر واحد منها ، لان الغرض منه الاشارة بنحو من الانحاء. وايضا لا وجه لذكر ما اشكل عليها لانه انما يحسن في الحدود والرسوم لا في التعاريف اللفظية.

(٢) وقع الخلاف عند القوم في الاستصحاب في كونه مسألة اصولية البحث فيها بحث عن قاعدة تقع في طريق الاستنباط كالبحث عن حجية الظواهر وخبر الواحد ، او انه مسألة فقهيّة عامة والبحث عنها كالبحث عن قاعدة الطهارة وقاعدة ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده؟

ولا سيخفى انه بناء على كونه قاعدة فقهية يكون البحث عنه في الاصول استطراديا لانه ليس من مسائله ، وانما استطرد الاصولي البحث عنه لانه قاعدة عامة

٣٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

كالمسائل الاصولية ... ومختار المصنف انها مسألة اصولية ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((ان البحث في حجيته)) أي ان البحث في حجية الاستصحاب بحث اصولي لان الاستصحاب ((مسألة اصولية)).

وتوضيح ذلك : ان الاستصحاب بعد ثبوت حجيته ان كان بالنسبة الى الحكم الخاص المستصحب كالوجوب او الحرمة ، او الموضوع المستصحب كالخمرية والكرّيّة ـ من قبيل التطبيق كقاعدة الطهارة بالنسبة الى طهارة الماء المشكوك طهارته ونجاسته ، فلا محالة يكون الاستصحاب قاعدة فقهيّة. وان كان بالنسبة الى المستصحب الخاص حكما او موضوعا من قبيل خبر الواحد الدالّ على حكم خاص كالوجوب او على موضوع ذي حكم كالصعيد ، فلا بد وان يكون الاستصحاب مسألة اصولية .. فالعمدة في المقام بيان حال الاستصحاب بالنسبة الى حكم العمل هل هو من باب الاستنباط ومما ينتهي اليه مع الواسطة ، او انه بالنسبة الى حكم العمل هو من باب التطبيق ومما ينتهي اليه بلا واسطة؟

وبعبارة اخرى : انه لا بد في الاستنباط من التغاير الحقيقي بين المستنبط منه والمستنبط ، ولا يكفي صرف التغاير المفهومي ، فان التغاير بين المستنبط منه وهو حجيّة خبر الواحد والمستنبط وهو وجوب الصلاة الخاصة ـ مثلا ـ تغاير حقيقي ، لان خبر الواحد المجعولة حجيته التي هي تصديق العادل غير الوجوب الذي قام عليه الخبر الواحد ، وحقيقة كل منهما غير حقيقة الآخر ... واما التطبيق فلا يكون التغاير بينه وبين المنطبق عليه تغايرا حقيقيا ، فان الحكم في قاعدة الطهارة هو طهارة المشكوك ، والمنطبق عليه وهو الماء المشكوك ـ مثلا ـ فرد من افراد هذه الطبيعة العامة ، وفرد العام عين العام وليس بمغاير له حقيقة.

فاذا عرفت هذا ... نقول : ان حجية الاستصحاب سواء كانت لبناء العقلاء او للاخبار وهو جعل الجري العملي على طبق اليقين بعد عروض الشك ، فالموضوع المجعول له الاعتبار في الاستصحاب هو اليقين السابق ، وحكمه هو جعل الجري

٣٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

العملي على طبقه عند الشك ، وعدم جواز نقضه كما هو لسان الاخبار كلا تنقض اليقين بالشك ، ومن الواضح ان المستصحب حكما كان او موضوعا هو متعلق اليقين ، والتغاير بين اليقين والمتيقّن حقيقي ، فمرجع حجيّة الاستصحاب الى قضية موضوعها اليقين ومحمولها لزوم الجري عليه وعدم جواز نقضه ، وهذه هي القضية التي تقع في طريق الاستنباط ، وهي القضية المستنبط منها ، وهي غير القضية المستنبطة وهي وجوب الصلاة الخاصة او كرية الماء وغير ذلك ...

لا يقال : ان مرجع الجري العملي على طبق اليقين وعدم جواز نقضه الى جعل الحكم المماثل ، واذا كان معناه هو جعل الحكم المماثل على طبق ما قام عليه اليقين كان المتحصّل من حجية الاستصحاب جعل حكم ظاهري عام عملي بلا واسطة ، وليست القاعدة الفقهية الّا جعل حكم العمل بلا واسطة.

فانه يقال ، اولا : ان مرجع صدق العادل ـ بناء على ما يستفاد من بعضهم ـ هو جعل الحكم المماثل لما قام عليه خبر العادل بلسان انه الواقع ، فحال الاستصحاب حال الخبر الواحد من هذه الجهة.

وثانيا : ان كون مرجع حجية الاستصحاب او حجية الخبر الى جعل الحكم المماثل لا دخل له بكون المسألة ليست اصوليّة ، فان مرجع الاستصحاب او الخبر الى جعل الحكم المماثل معناه ان صدّق العادل هو جعل لتصديق العادل ولعدم جواز نقض اليقين في مقام الجعل والاعتبار ، ولكنه يستلزم جعل الحكم المماثل على طبق الخبر وعلى طبق ما قام عليه اليقين ... والمدار في الفرق بين المسألة الاصوليّة والقاعدة الفقهية هو مقام الجعل والاعتبار ، فان كان المجعول حكما لا يتعلّق بالعمل بلا واسطة بل بواسطة كانت المسألة اصولية ، وان كان المجعول حكما يتعلق بالعمل بلا واسطة كانت قاعدة فقهية. ومن الواضح ان المجعول في الاستصحاب هو النهي عن نقض اليقين ، كما ان المجعول في الخبر هو الامر بتصديق العادل ، وكل منهما ليس كالحكم المجعول في قاعدة الطهارة ، فان المجعول فيها هو الحكم بطهارة المشكوك ، وهو حكم

٣٤٤

مجرى الاستصحاب إلا حكما أصوليا كالحجية مثلا (١) ، هذا لو كان الاستصحاب عبارة عما ذكرنا.

______________________________________________________

يتعلّق بالعمل بلا واسطة ، بخلاف حرمة النقض ووجوب التصديق فانه وان انتهى الامر فيهما الى حكم العمل إلّا انه بواسطة عنوان حرمة النقض وعنوان وجوب التصديق.

ومما ذكرنا يتضح : انه لا فرق في الاستصحاب بين كونه في الشبهة الحكمية او في الشبهة الموضوعية ، لانه في كل منهما انما ينتهي به الامر الى الحكم الكلي كما في الشبهة الحكمية ، او الحكم الجزئي كما في الشبهة الموضوعية ، بواسطة حرمة نقض اليقين.

وعلى كل فقد اشار الى الوجه في كون الاستصحاب مسألة اصوليّة بقوله : ((حيث يبحث فيها)) أي في مسألة الاستصحاب ((ل)) أجل ((تمهيد قاعدة تقع في طريق استنباط الاحكام الفرعية)) لان المبحوث عنه في الاستصحاب هو ان العقلاء او الشارع هل اعتبروا حرمة نقض اليقين السابق ولزوم الجري على طبقه ، أو لم يعتبروا ذلك؟ .. وبناء على حجية الاستصحاب فالمستفاد هو عدم جواز رفع اليد عن اليقين السابق ولزوم الجري على طبقه في ظرف الشك ، فمفاد حجية الاستصحاب مما ينتهي الى العمل ، ولكنه بواسطة وهي حرمة نقض اليقين ((وليس مفادها)) أي وليس مفاد حجية الاستصحاب هو ((حكم العمل بلا واسطة وان كان ينتهي)) مفاد حجية الاستصحاب ((اليه)) أي الى حكم العمل بلا واسطة وهو الحكم الفرعي الفقهي.

(١) هذا وجه ثان للاستدلال على كون الاستصحاب مسألة اصولية. وحاصله : انه لو كان مسألة فقهية مما تتعلق بالعمل بلا واسطة لما امكن ان يدلّ على حجية مسألة اصوليّة ، لانه اذا كان بنفسه حكما فقهيا يتعلق بالعمل بلا واسطة فهو وان كان قاعدة عامة ، الّا انه لا بد وان يكون جميع افرادها احكاما فقهية ، ولا يعقل ان يكون احد

٣٤٥

وأما لو كان عبارة عن بناء العقلاء على بقاء ما علم ثبوته ، أو الظن به الناشئ من ملاحظة ثبوته ، فلا إشكال في كونه مسألة أصولية وكيف كان (١) ، فقد ظهر مما ذكرنا في تعريفه اعتبار أمرين في مورده : القطع بثبوت شيء ، والشك في بقائه (٢) ، ولا يكاد يكون الشك في البقاء إلا مع

______________________________________________________

مصاديقها مسألة اصولية مما تتعلق بالعمل بواسطة. ومن الواضح ان مجرى الاستصحاب ربما يكون مسألة اصولية ، كما لو شككنا في حجية الخبر فان الاستصحاب يجري ويكون مفاده عدم حجية الخبر ، او شككنا في حجية خبر الفطحيين مثلا لان جملة من الفطحيين من ثقات اصحاب الصادق عليه‌السلام ، ثم قالوا بعده بامامة عبد الله الافطح مدة سبعين يوما ، وهي المدة التي عاشها عبد الله بعد ابيه عليه‌السلام ، وبعده رجعوا الى موسى بن جعفر عليه‌السلام ، فنستصحب حجية خبرهم في هذه المدّة للشك في كون رجوعهم الى عبد الله هل يوجب خروجهم عن حجية الخبر ام لا؟ ونتيجة هذا الاستصحاب نفس الحجية وهي حكم اصولي ، والى هذا اشار بقوله : ((كيف)) لا تكون حجية الاستصحاب حجية مسألة اصولية ((و)) الحال انه ((ربما لا يكون مجرى الاستصحاب الا حكما اصوليا كالحجية مثلا)).

(١) حاصله : ان الخلاف في مسألة الاستصحاب في كونها مسألة اصولية او فقهية انما يتأتى حيث يكون الاستصحاب هو ما ذكره ، وهو الحكم ببقاء حكم او موضوع ذي حكم. واما لو كان الاستصحاب هو نفس بناء العقلاء ، او كان هو نفس الظن بالبقاء ، فلا اشكال في كونه مسألة اصولية ، لوضوح ان بناء العقلاء ، او الظن ليس حكما عمليا فقهيا ، فحجية بناء العقلاء على البقاء ، وحجية الظن بالبقاء حجية مسألة اصولية ، وعبارة المتن واضحة.

(٢) حاصله : ان الاستصحاب يتقوّم بامرين وهما ركناه : اليقين السابق المتعلّق بثبوت شيء ، والشك في بقائه في الزمان اللاحق. وقد ظهر هذان الامران من التعريف المذكور ، لان كون الاستصحاب هو الحكم ببقاء حكم او موضوع ذي

٣٤٦

اتحاد القضية المشكوكة والمتيقنة بحسب الموضوع والمحمول (١) ، وهذا مما

______________________________________________________

حكم شك فيه ، فان لفظ البقاء معناه استمرار ما ثبت ، وثبوت الشيء في السابق لا يكون الّا باليقين به والقطع بتحققه ، لان لازم كون ما ثبت مشكوكا فيه في الزمان اللاحق هو كون المراد من ثبوته ثبوته في مرحلة القطع واليقين ، لانه في حال كونه مشكوكا فيه اذا لم يكن هناك يقين به في السابق لا يكون الشك فيه من خصوصيات الزمان اللاحق ، لانه في الزمان السابق ايضا يكون مشكوكا.

فاتضح : ان كون الاستصحاب هو الحكم ببقاء ما شك فيه يدلّ على الامرين : اليقين السابق بالثبوت المستفاد من البقاء ، والشك اللاحق المستفاد ايضا من الشك في البقاء ، وعبارة المتن واضحة.

(١) حاصلة : انه بعد ما عرفت من تقوم الاستصحاب بامرين : اليقين بشيء في الزمان السابق ، والشك في بقائه في الزمان اللاحق ـ يتضح انه لا بد في الاستصحاب من اتحاد القضية المتيقنة والقضية المشكوكة موضوعا ومحمولا ، ولا فرق بينهما الّا في كون القضية في الزمن السابق متعلق اليقين وفي الزمان اللاحق متعلق الشك ، مثلا لو علمنا بكرّية ماء في الزمان السابق ، ثم شككنا في كرّيته في الزمان اللاحق ، فمتعلق اليقين هو كرّية الماء ومتعلق الشك هو نفس كرية هذا الماء ، فالقضية المتيقنة في الزمان السابق هي ان هذا الماء مقطوع الكرّية أمس مثلا ، والقضية المشكوكة في اللاحق هو ان هذا الماء مشكوك الكرّية هذا اليوم ، فالموضوع في القضيتين متحد وهو هذا الماء ، والمحمول في القضيتين متحد ايضا وهو كرّية هذا الماء ، ولكن القضية السابقة متعلق اليقين بكرّيته ، والقضية الثانية متعلق الشك بها ... واما ان هذا الاتحاد مما لا بد منه ، فلوضوح ان الاستصحاب لما كان هو الحكم ببقاء ما كان ، واذا اختلف الموضوع او المحمول في القضيتين لا يكون الاستصحاب هو الحكم ببقاء ما كان ، فانه لو كان المشكوك غير هذا الماء ، او كان المشكوك فيه كرّية غير هذا الماء لا يكون الحكم حكما

٣٤٧

لا غبار عليه في الموضوعات الخارجية في الجملة (١).

______________________________________________________

بقائيا ، بل يكون الحكم حكما آخر غير الحكم الذي كان ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((ولا يكاد يكون الشك في البقاء الا مع اتحاد ... الى آخر الجملة)).

(١) لا يخفى ان ما ذكره من لزوم اتحاد القضية المتيقنة مع القضية المشكوكة موضوعا ومحمولا وانه به قوام الاستصحاب ، والّا لا يكون من الاستصحاب الذي هو الحكم ببقاء ما كان ـ يوهم عدم جريان الاستصحاب ، بدعوى : ان الشك يلازمه عدم اتحاد القضيتين ، لان اتحاد القضيتين موضوعا ومحمولا ، وانه لا فرق بينهما بما هما قضيتان الّا في كون الاولى متعلقة لليقين والثانية متعلقة للشك ، لازمه كون الموضوع المتحقق في القضية السابقة هو الموضوع عينا المتحقق في القضية اللاحقة ، والشك منشؤه هو احتمال عدم ثبوت المحمول الثابت له فيما سبق في الزمان الثاني ، ولكن الشك في ثبوت المحمول للموضوع في الزمان الثاني انما ينشأ من احتمال عدم بقاء الموضوع ، مثلا اذا كان الموضوع للحكم المتعلق لليقين في الزمان السابق هو الصلاة المتيقنة الوجوب سابقا ، فعروض الشك في وجوبها لاحقا انما ينشأ من كون الموضوع للوجوب السابق هو الصلاة المقيدة بوقت او بحضور الامام مثلا ، والّا فيما اذا كان الموضوع للوجوب هو الصلاة من غير قيد اصلا فلا يعقل ان نشك في وجوبها في الزمان اللاحق ، فالشك في الحكم في الزمن الثاني منشؤه الشك في موضوع الحكم ، واذا كان الموضوع مشكوكا فيه فلازمه عدم اتحاد القضية المتيقنة والقضية المشكوكة ، لوضوح كون الموضوع في القضية المتيقنة هو الصلاة المقيدة ، والموضوع في القضية المشكوكة هو الصلاة المجردة عن ذلك القيد ، فلا يجري الاستصحاب الذي هو ابقاء الحكم الثابت للموضوع السابق لنفس الموضوع في الزمان اللاحق.

وتوضيح الجواب عن هذا التوهّم : انه لا وقع لهذا الاشكال في ما كان المستصحب موضوعا ذا حكم في الجملة ، لان الموضوع ذا الحكم قد يكون الشك فيه ناشئا من الشك في الموضوع ، كما اذا تيقنا بقيام زيد في السابق ، ثم شككنا في قيامه

٣٤٨

وأما الاحكام الشرعية سواء كان مدركها العقل أم النقل ، فيشكل حصوله فيها ، لانه لا يكاد يشك في بقاء الحكم إلا من جهة الشك في بقاء موضوعه ، بسبب تغيّر بعض ما هو عليه مما احتمل دخله فيه حدوثا (١) أو

______________________________________________________

في الزمان اللاحق للشك في وجود زيد ، فان الشك في ثبوت المحمول قد نشأ من الشك في ثبوت الموضوع وهو وجود زيد ، وربما يكون الشك في قيام زيد ناشئا من الشك في انتهاء ارادة زيد لاستمرار القيام ، فوجود زيد الموضوع في القضية المتيقنة هو بنفسه متحقق في القضية المشكوكة ، والشك في المحمول لا يستلزم الشك في الموضوع ، ومن الواضح ان الموضوع في القضية المتيقنة هو وجود زيد لا وجود زيد المقيد بكونه مريدا للقيام ، فان ارادته انما هي العلة لحدوث القيام ، وليست جزء الموضوع ، لان الذي يعرضه القيام نفس ذات زيد الموجودة ، لا ذات زيد مع كون ارادته جزء الموضوع لما يعرضه القيام.

فاتضح مما ذكرنا : ان هذا الاشكال لا وقع له في بعض الموضوعات الخارجية. نعم لهذا الاشكال مجال للتوهّم في استصحاب الاحكام الكلية الفرعيّة ، وسيأتي بيانه والاشارة الى دفعه ان شاء الله تعالى ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((هذا مما لا غبار عليه)) أي ان اتحاد القضية المتيقنة والقضية المشكوكة لا غبار عليه ((في الموضوعات الخارجية في الجملة)) كما في مثال الشك في استمرار القيام للشك في انتهاء ارادة زيد الموجدة له ، فلا يتاتى منه الاشكال الآتي في استصحاب الاحكام الفرعية الكليّة.

(١) توضيحه : ان المستصحب : تارة يكون موضوعا ذا حكم ، وقد عرفت الحال فيه وانه قد يكون الشك في المحمول ناشئا من الشك في الموضوع ، وقد لا يكون ، فلا وجه للاشكال بعدم جريان الاستصحاب فيه قطعا. واخرى : يكون المستصحب حكما جزئيا والحال فيه كالحال في الموضوع ، لان طهارة بدن زيد المتيقنة سابقا قد تكون مشكوكة لاحتمال عروض النجاسة على البدن ، وقد تكون مشكوكة للشك في

٣٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

موتة وحياته ، فلا مجال ايضا للاشكال المذكور بعدم جريان الاستصحاب مطلقا في الاحكام الجزئية وان الشك دائما يكون ناشئا من الشك في الموضوع.

واما الاحكام الشرعية الكلية فللاشكال المذكور من عدم اتحاد القضيتين مجال فيها ومما ذكرنا يتضح ان مراد المصنف من الاحكام الشرعية هي الاحكام الكلية منها.

وتوضيح الاشكال فيها : ان الاحكام الكليّة اما عقلية كحسن العدل وقبح الظلم ، وحيث ان الشارع رئيس العقلاء وواهب العقل لهم ، فلا بد ان يكون حكمه مطابقا وموافقا لحكمهم ، فيكون الحكم في هذه القضايا شرعيا ايضا. ومن الواضح ان هذه الاحكام العقليّة اذا احرز الموضوع فيها لا مجال لتخلّف الحكم فيها ، ولا يعرض الشك في الحكم الّا لعروض الشك فيما هو موضوع الحكم فيها ، مثلا اذا احرز كون ضرب اليتيم للتأديب فلا اشكال في حسنه ومشروعيته ، ولا يشك في مشروعيته الّا فيما اذا لم يحرز كونه للتأديب ، ومع عدم احراز ذلك يكون الموضوع في القضية المتيقنة هو الضرب المحرز كونه للتأديب ، وفي القضية المشكوكة هو الضرب الذي لم يحرز كونه للتأديب ، فلم يتحد الموضوع في القضيتين.

واما الاحكام الكلية الشرعيّة كحرمة الخمر ووجوب صلاة الجمعة مثلا ، فمن الواضح ان الاحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد وهي جهات الحسن والقبح التي من اجلها يحكم الشارع بالحرمة والوجوب ، فاذا كانت الاحكام الشرعية تابعة للحسن والقبح ، والحسن والقبح تابعان لاضافات وقيود في الفعل المحكوم بالحسن او القبح ، لان الخمر ـ مثلا ـ المحكومة بالحرمة هي الخمر التي لا يتوقف عليها حياة المريض ، وصلاة الجمعة المحرز فيها المصلحة هي التي تكون في حضور الامام ، فلا محالة يكون الشك في حرمة الخمر في حال توقف حياة المريض عليها والشك في صلاة الجمعة في حال عدم حضور الامام انما ينشأ من الشك في ما هو الموضوع للوجوب والحرمة ، لبداهة ان الخمر التي هي الموضوع للحرمة لو كانت هي الخمر غير المقيدة بشيء لما شك في حرمتها في حال توقف حال المريض ، كما لا يشك في

٣٥٠

بقاء ، وإلا لما يتخلّف الحكم عن موضوعه إلا بنحو البداء بالمعنى

______________________________________________________

حرمة قتل الانسان اذا توقف عليه حياة انسان آخر ، وانما يعرض الشك في حال توقف الحياة عليها لاجل الشك في كون الخمر التي هي الموضوع للحرمة هل هي الخمر المقيدة بعدم توقف الحياة عليها ، او انها الخمر غير المقيدة بشيء؟

فاتضح : ان الشك في الاحكام الكلية انما ينشأ من الشك في ثبوت الموضوع للحكم المتيقن ، واذا كان الشك في الموضوع فلم يحصل ما هو اللازم في مجرى الاستصحاب من لزوم احراز اتحاد الموضوع في القضية المتيقنة والقضية المشكوكة.

وبعبارة اخرى : انه بعد كون الحسن والقبح تابعين للوجوه والاضافات ، وانها هي العلّة في انطباق الحسن والقبح على الفعل ، وان الاحكام الشرعية تابعة لهذه الاضافات فما هو الموضوع للحكم الشرعي هو الفعل المقيد بوجوه واضافات خاصة ـ يتبين انه لا يعرض الشك في الحكم الكلي للموضوع الّا من الشك في ثبوت ما هو الموضوع في زمان الشك ، ومع الشك في الموضوع لا تتحد القضية المشكوكة والقضية المتيقنة ، فلا تكون الاحكام الكليّة مجرى للاستصحاب لتقوّمه باتحاد الموضوع في القضيتين. والى ما ذكرنا اشار بقوله : ((واما الاحكام الشرعية)) الكلية ((سواء كان مدركها العقل)) كحسن العدل وقبح الظلم ((ام النقل)) كحرمة الخمر ((فيشكل حصوله)) أي يشكل حصول الاستصحاب ((فيها)) المتقوم باحراز اتحاد الموضوع في القضيتين ((لانه لا يكاد يشك في بقاء الحكم الا من جهة الشك في بقاء موضوعه بسبب تغير)) الموضوع من جهة ((بعض ما هو عليه)) من القيود والاضافات ((مما احتمل دخله فيه حدوثا)) ككون الخمر المحرم على المكلف شربها المتيقنة سابقا هي حرمة شرب الخمر في حال صحة المكلف : أي ان الموضوع للحرمة المتيقنة هي الخمر التي لا يتوقف عليها حياته ، فكون الخمر مما لا يتوقف عليها الحياة مما يحتمل ان يكون له دخل في ثبوت الحرمة وحدوثها لها ، فالشك في حرمتها في حال المرض ينشأ من الشك في تغير ما عليه الموضوع الذي ثبت وحدث له الحكم.

٣٥١

المستحيل في حقه تعالى ، ولذا كان النسخ بحسب الحقيقة دفعا لا رفعا (١).

______________________________________________________

(١) يشير الى ردّ ما ذكره الشيخ في رسائله (قدس‌سره) ، وحاصله : ان هذا الاشكال قبل ان يجاب عنه بما يأتي ، لا بد وان يستثنى منه فيما اذا كان الشك في الحكم من جهة رافعية الموجود للحكم ، كالشك في بقاء الطهارة لاحتمال كون المذي العارض بعدها رافعا لها ، فان الموضوع في القضيتين محرز الاتحاد. وكذلك فيما اذا كان الشك في الحكم الكلي من اجل احتمال عروض النسخ عليه الرافع للحكم بقاء لا حدوثا. وقد ذكر المصنف (قدس‌سره) وجها لهذا الاستثناء في المقامين حاصله : ان الموضوع للحكم الكلي محرز في المقامين ، لان عدم الرافع للحكم لا يعقل ان يكون دخيلا في موضوع الحكم ، لان كون الشيء رافعا لحكم يتوقف على ثبوت الحكم المرفوع حتى يكون الرافع رافعا له ، فلو كان عدم الرافع للحكم دخيلا في الموضوع للزم الدور ، لتوقف الحكم على موضوعه الذي بعضه عدم الرافع للحكم ، ويتوقف عدم الرافع للحكم على تحقق الحكم ، لان العدم المضاف الى الرافع بما هو مضاف الى الرافع لا يتحقق الّا بالرافع ، ويتوقف تحقق الرافع للحكم على تحقق الحكم ، فيتوقف الحكم على ما هو متوقف عليه. واذا كان عدم الرافع مما لا يحتمل دخله في الموضوع فالشك في بقاء الحكم للموضوع ـ من جهة احتمال عروض الرافع ، سواء كان من جهة وجود الرافع كالنسخ ، او من جهة رافعية الموجود كالمذي المتعقب للطهارة لا يكون ناشئا من الشك في الموضوع ، وعليه فيحرز اتحاد الموضوع في هذين الموردين.

والجواب عنه : ان هذا الاشكال وهو عدم الاتحاد ينحصر الجواب عنه بما يأتي ، ولا يستثنى منه هذان الموردان ايضا. اما مورد الشك لاحتمال النسخ فلان النسخ في حقه تعالى ليس رفعا كما هو في الممكن ، لان الممكن مما يجوز عليه الجهل ، فحينئذ يجوز ان يرى الممكن ـ أولا ـ ان هذا الحكم مستمر أبدا لجهله بما يكون رافعا له ، ثم

٣٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

يبدو له ما هو الرافع فينسخ ما تخيّل ثبوته مستمرا لجهله بالرافع ، واما الشارع تعالى شانه المحيط بجميع ما كان وما يكون المستحيل في حقه الجهل فنسخه ليس رفعا حقيقة ، بل دفع حقيقة وان كان ظاهرا كونه رافعا ، واذا كان النسخ دفعا وبيانا لنهاية امد الحكم فلا بد وان يكون العلة في الانتهاء هو عدم كون الموضوع للحكم بقاء على ما كان عليه من كل جهة ، والّا لم يرفع الحكم ولا يكون امده منتهيا ، لوضوح انه مع فرض الموضوع على ما هو عليه من كل جهة لازمه فرض تحقق العلة التامة للحكم ، ومع تحقق العلة التامة للحكم كيف يمكن دفعه وانتهاء امده .. فاتضح : ان احتمال النسخ لازمه احتمال تغير الموضوع عمّا كان عليه.

واما الشك من جهة رافعيّة الموجود فالموضوع للحكم حدوثا وان كان لا يعقل دخالة عدم الرافع فيه ، الّا ان احتمال رافعية الموجود انما هي لاحتمال ان الشارع قد شرّع الرافع بعد ان شرّع الحكم حدوثا ، ومرجع هذا الاحتمال الى ان الشارع قد اعتبر في استمرار الحكم بقاء زيادة شيء في الموضوع ، وهو عدم عروض المذي عليه ، فيكون الموضوع بقاء هو الطهارة التي لم يعرض عليها المذي. ومن الواضح ان اعتبار زيادة قيد في الموضوع بقاء كاعتبار قيد في الموضوع حدوثا من ناحية ما نحن فيه من كون الشك في الحكم بقاء ناشئا من احتمال اختلاف الموضوع حدوثا وبقاء ، فلا فرق بين الشك الناشئ من احتمال النقصان لتغيّر ما اعتبر في الموضوع حدوثا ، وبين الشك الناشئ من احتمال اعتبار قيد زائد في الموضوع بقاء ، وفي كلا الفرضين لازمه عدم الاتحاد في الموضوع بين القضيتين ، ولذلك عمّم الاشكال في المتن ولم يستثن.

ويمكن انه أشار باطلاق قوله : ((او بقاء)) الى الشك في رافعيّة الموجود ، كما انه اشار صراحة الى الشك في وجود الرافع من جهة احتمال النسخ بقوله : ((وإلّا لا يتخلّف الحكم عن موضوعه إلّا بنحو البداء بالمعنى المستحيل في حقه تعالى)) أي انه لا ينبغي ان يقال ان الشك من جهة احتمال وجود الرافع وهو النسخ للحكم لا

٣٥٣

ويندفع هذا الاشكال ، بأن الاتحاد في القضيتين بحسبهما ، وإن كان مما لا محيص عنه في جريانه ، إلا أنه لما كان الاتحاد بحسب نظر العرف كافيا في تحققه وفي صدق الحكم ببقاء ما شك في بقائه ، وكان بعض ما عليه الموضوع من الخصوصيات التي يقطع معها بثبوت الحكم له ، مما يعد بالنظر العرفي من حالاته ـ وإن كان واقعا من قيوده ومقوماته ـ كان جريان الاستصحاب في الاحكام الشرعية الثابتة لموضوعاتها عند الشك فيها لاجل طروء انتفاء بعض ما احتمل دخله فيها ، مما عد من حالاتها لا من مقوماتها ، بمكان من الامكان (١) ، ضرورة صحة إمكان دعوى بناء

______________________________________________________

يشمله الاشكال المذكور ، بدعوى ان النسخ رفع الحكم عن موضوعه في الزمان الثاني ولازمه اتحاد الموضوع في القضيتين.

فانه يقال : ان النسخ بمعنى الرفع حقيقة وان كان لازمه اتحاد الموضوع في القضيتين إلّا انه مستحيل في حقه تعالى ، فالنسخ انما هو لانتهاء امد الحكم ، ولا يكون الانتهاء الّا لتغيّر بعض ما كان الموضوع عليه من القيود والاضافات ، لانه مع تماميته من كل جهة لا يعقل النسخ ، لاستلزام ذلك تخلّف المعلول عن علته التامة ، وهو تعالى حيث كان عالما بان الموضوع يفقد بعض قيوده التي لها دخل في لزوم ثبوت الحكم له ، فلا بد وان يكون النسخ رفعا في الظاهر وفي الواقع دفعا لا رفعا ، واذا كان دفعا فمعناه تخلّف الموضوع بقاء في اللاحق عمّا كان عليه من القيود حدوثا في السابق ، واليه اشار بقوله : ((ولذا كان النسخ بحسب الحقيقة دفعا لا رفعا)).

فاتضح : ان اشكال عدم اتحاد الموضوع في القضيتين مطرد وشامل حتى للشك من جهة احتمال النسخ.

(١) توضيحه : انه سيأتي ان الموضوع المعتبر اتحاده في القضيتين في مقام الاستصحاب هل هو الموضوع الدّقي العقلي؟ وعلى هذا فكل ما يراه العقل من مقومات الموضوع لا بد في تحققه في مقام الشك ، مثلا ان لسان الدليل الشرعي مختلف كما لو قال الماء

٣٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

المتغير بالنجاسة نجس ، فانه بحسب لسان الدليل ان الموضوع هو الماء المتغيّر. ولو قال الماء ان تغيّر بالنجاسة فهو نجس فالموضوع بحسب لسان الدليل هو الماء والتغيّر بحسب ظاهر الدليل علّة للنجاسة لا انه داخل في الموضوع ، ولكنه بحسب الدّقة العقلية ان الموضوع فيهما واحد وهو الماء المتغيّر ، فان قلنا ان الموضوع في الاستصحاب ـ دقيّا ـ كان الماء المتغيّر هو الموضوع ، وان كان لسان الدليل الشرعي كون الماء هو الموضوع والتغيّر علة.

او ان الموضوع المعتبر تحققه في الاستصحاب هو ما يستفاد من لسان الدليل الشرعي ولا اعتبار بالموضوع الدّقي ، وعليه فالمدار في تحقق الموضوع ـ مثلا ـ كما في المثال المتقدم ان كان هو الماء المتغيّر فلا اتحاد للموضوع في القضيتين في مقام الشك في بقاء النجاسة عند زوال التغيّر ، لان الموضوع في القضية المتيقن هو الماء المتغيّر ، وفي القضية المشكوكة هو الماء. وان كان هو الماء فاتحاد الموضوع في القضيتين متحقق ... وبعبارة اخرى : ان قال المتغيّر بالنجاسة ينجس فالموضوع بحسب ظاهر الدليل الماء المتغيّر ، وان قال الماء ان تغير ينجس فالموضوع هو الماء.

أو ان الموضوع هو ما يراه العرف موضوعا ، والمتبع في بقاء الموضوع وعدم بقائه هو نظر العرف لا الدقة العقلية ولا لسان الدليل الشرعي. والمراد من كون الحكم في موضوع الاستصحاب هو العرف ليس كون العرف هو المتبع في تعيين مصاديق الموضوع حتى يقال ان العرف انما يتبع في تعيين المفاهيم لا في تشخيص المصاديق وتعيينها ، بل المراد منه هو كون العرف محكما بحسب ما يجده من ارتكازه العرفي في المناسبة بين الحكم والموضوع ... ويدل على ان مرادهم هو هذا المعنى هو ذهاب من قال بان المدار في الموضوع على نظر العرف ـ في قبال القول بكونه هو لسان الدليل الشرعي او الدقة العقلية ـ الى ان الموضوع بمرتكزاته العرفية بحسب مناسبة الحكم والموضوع هو الماء لا الماء المتغيّر ، وان كان ظاهر لسان الدليل كونه هو الماء المتغيّر أو

٣٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الدقة العقلية ، وكذلك قوله الكلب نجس فان العرف يرى بحسب مرتكزاته ان معروض النجاسة هو جسد الكلب لا حيوانيته.

والحاصل : ان كون الموضوع بنظر العرف ، ليس ان مصداق مفهوم الموضوع موكول الى العرف ، بل المراد ان القضية حيث انها عبارة عن موضوع ومحمول فالمحمول فيها حيث انه كعرض يعرض على الموضوع ، فالذي يعرضه هذا العرض أي شيء هو عند العرف؟ .. وبعبارة اخرى : ان هذا العروض المدار في تعيينه هو العرف دون العقل او لسان الدليل.

فاذا عرفت هذا فنقول : ان المختار ـ كما ستأتي الاشارة اليه ـ كون الحكم في موضوع الاستصحاب هو نظر العرف دون الدّقة ودون لسان الدليل .. يتضح الجواب عن هذا الاشكال ، لان المدار في اتحاد القضيتين موضوعا هو ما يراه العرف موضوعا ، فالعرف اذا رأى ان الموجب للشك هو انتفاء ما يراه مقوما للموضوع فلا يكون هناك مجرى للاستصحاب لعدم الاتحاد ، وان كان العرف يرى ان الموجب للشك هو انتفاء ما هو بحسب رأيه من حالات الموضوع وعوارضه لا من مقوماته فالموضوع متحد في القضيتين ، وانما ينشا الشك بحسب نظر العرف من احتمال دخالة ما هو منتف في حال الشك في ثبوت الحكم لا في ما هو الموضوع للحكم ، فلا يكون الشك في الحكم بحسب نظر العرف ملازما للشك في الموضوع دائما ، بل المدار في الاتحاد وعدمه على نظر العرف في كون المنتفى مقوما للموضوع او من حالاته وعوارضه؟

فظهر مما ذكرنا : ان الاتحاد في القضيتين مما لا بد منه في جريان الاستصحاب ، الّا ان المرجع في اتحاد القضيتين بحسب الموضوع هو نظر العرف ، وبهذا يندفع الاشكال بكون الشك في الحكم في الزمان اللاحق ملازما دائما للشك في ما هو موضوع الحكم في الزمان السابق ، لما عرفت من ان نظر العرف بحسب مرتكزاته من حيث مناسبة الحكم والموضوع من جهة عروض المحمول للموضوع مختلف ، فقد يرى ما كان

٣٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

متحققا في زمان اليقين ومرتفعا في زمان الشك من مقومات الموضوع فلا يجري الاستصحاب لعدم الاتحاد ، وقد يراه انه من حالاته وعوارضه فيجري الاستصحاب لثبوت الاتحاد. والى هذا اشار بقوله : ((ويندفع هذا الاشكال بان الاتحاد في القضيتين بحسبهما)) أي بحسب القضية المتيقنة والقضية المشكوكة ((وان كان مما لا محيص عنه في جريانه)) أي في جريان الاستصحاب ، لان الاستصحاب كما مرّ بيانه هو الحكم ببقاء ما كان ، ولا يعقل ان تكون حقيقة الاستصحاب هي الحكم ببقاء ما كان الّا مع الاتحاد موضوعا ومحمولا في القضيتين ، وان الفرق بينهما بمحض اليقين في الزمان السابق والشك في الزمان اللاحق ، فلزوم الاتحاد في القضيتين في مقام جريان الاستصحاب مما لا بد منه ((إلّا انه لما كان)) المدار في تحقق الاتحاد في القضيتين ما هو ((بحسب نظر العرف)) اتحاد وكان ذلك ((كافيا في تحققه)) أي في تحقق الاتحاد ((وفي صدق الحكم ببقاء ما شك في بقائه)) وان لم يكن هناك اتحاد بحسب الدّقة او لسان الدليل ((وكان)) نظر العرف مختلفا في ((بعض ما عليه الموضوع من الخصوصيات التي)) كان ((يقطع معها بثبوت الحكم له)) أي للموضوع ، لوضوح تحقق اليقين بالحكم في الزمان السابق ولكنه مع ذلك كانت تلك الخصوصيات ((مما يعدّ بالنظر العرفي من حالاته)) أي من حالات الموضوع وعوارضه لا من مقوماته ((وان كان واقعا)) بالنظر الدّقي او بحسب لسان الدليل ((من قيوده ومقوماته كان جريان الاستصحاب)) متحققا ((في الاحكام الشرعية الثابتة لموضوعاتها عند الشك فيها)) أي في الاحكام لتحقق الاتحاد في القضيتين موضوعا ومحمولا ، ولا يكون الشك في الاحكام ((لاجل طروء انتفاء بعض ما احتمل دخله فيها)) أي في الاحكام ((مما عدّ)) بحسب نظر العرف ((من حالاتها)) أي من حالات الموضوعات ((لا من مقوماتها)) مما يضر بجريان الاستصحاب ، لانه بعد فرض كون المنتفى مما يعدّ من الحالات لا المقومات فالموضوع في القضيتين متحد وكان جريان الاستصحاب ((بمكان من الامكان)) كما هو واضح.

٣٥٧

العقلاء على البقاء تعبدا ، أو لكونه مظنونا ولو نوعا ، أو دعوى دلالة النص أو قيام الاجماع عليه قطعا (١) ، بلا تفاوت في ذلك بين كون دليل الحكم نقلا أو عقلا.

______________________________________________________

(١) يشير بهذا الى دفع ما يمكن ان يقال : ان كون الموضوع بحسب نظر العرف انما يصحّ القول به فيما اذا كان مدرك حجية الاستصحاب هي الاخبار ، لانها لما كانت بلسان لا تنقض اليقين بالشك ، ومن الواضح ان المخاطب بحرمة النقض هو المكلف ، ولازم هذا كون المدار على ما يراه العرف نقضا لليقين ، ففيما اذا كان الموضوع متحدا بحسب نظره كان من نقض اليقين بالشك ، وفيما لم يكن متحدا لم يكن ذلك من نقض اليقين بالشك.

واما اذا كان مدرك الاستصحاب هو بناء العقلاء تعبدا ، او كان المدرك هو الظن النوعي بالملازمة ، او كان المدرك هو الاجماع ، فلا مجال لدعوى كون الموضوع بحسب نظر العرف ، لان بناء العقلاء قائم على عدم رفع اليد عن حكم ما هو الموضوع واقعا ، وكذلك الظن فانه يرجع اما الى الظن الشخصي بالملازمة بين الثبوت والبقاء ، او الى الظن النوعي بتلك الملازمة ، وعلى كل فلا بد من كون البقاء بقاء لما هو الموضوع واقعا لا بحسب نظر العرف. واما الاجماع او السيرة فحيث انهما لبيّان فالقدر المتيقن منهما هو الموضوع الواقعي لا العرفي.

وحاصل الدفع : هو انه لا مانع من كون بناء العقلاء قائما على التعبّد ببقاء ما هو الموضوع بحسب نظر العرف ومثله الظن ، وكذلك الاجماع والسيرة فانهما وان كانا لبيّين إلّا انه لا مانع من دعوى كون القدر المتيقن منهما هو الموضوع العرفي. ولا يخفى ان الدفع انما كان بمحض الامكان ، لما سيأتي ان عمدة الدليل على حجيّة الاستصحاب هو الاخبار وهو المدرك الصحيح للحجية ، ولذلك كان محض الامكان في ردّ هذا الاشكال كافيا ، وعبارة المتن واضحة. وضمير ((عليه)) راجع الى ما تقدّم : وهو كون الموضوع بحسب نظر العرف. وقوله : ((قطعا)) معناه ان امكان هذه

٣٥٨

أما الاول فواضح ، وأما الثاني ، فلان الحكم الشرعي المستكشف به عند طروء انتفاء ما احتمل دخله في موضوعه ، مما لا يرى مقوما له ، كان مشكوك البقاء عرفا ، لاحتمال عدم دخله فيه واقعا ، وإن كان لا حكم للعقل بدونه قطعا (١).

______________________________________________________

الدعوى مما لا يشك فيه ، لوضوح القطع بامكان قيام بناء العقلاء والظن والسيرة والاجماع على الموضوع بحسب نظر العرف.

(١) يشير الى دفع ما يدعى من التفصيل بين كون الحكم عقليا فلا يجري الاستصحاب لعدم الاتحاد ، وبين كونه نقليا فيجري الاستصحاب لتحقق الاتحاد. وحاصل هذه الدعوى : ان كون الموضوع في الاستصحاب بنظر العرف ـ لا دقيّا ولا بلسان الدليل ـ انما يجدي في تحقق الاتحاد في القضيتين في خصوص الاحكام الشرعية الكليّة دون الاحكام العقلية التي مرجعها الى حكم كلي لعناوين ادرك العقل حسنها وقبحها ، ومن الواضح ان الحكم في هذه القضايا يدور مدار تحقق العناوين التي هي المحكومة بذلك الحكم ، وهي العلّة التامة للحكم عند العقل ، فلا بد من ان يكون الشك في الحكم فيها ناشئا من الشك في ثبوت موضوعها ، والّا متى احرز موضوعها بما له من عنوانه لا يعقل ان يكون حكم ذلك العنوان المحرز مشكوكا.

وبعبارة اخرى : ان تلك العناوين علّة تامة للحكم ، ولا يعقل تحقق الشك في المعلول الّا مع تحقق الشك في العلّة ، لان العلّة والمعلول متلازمان يقينا وظنا وشكا ، فعروض الشك في الحكم ملازم لعروض الشك في الموضوع ، فموضوع الاستصحاب وان كان بيد العرف الّا انه لا يجدي في الاحكام العقلية ، لعدم امكان ان يرى العرف عدم الملازمة بين العلّة التامة ومعلولها ، بخلاف الاحكام النقلية فان عنوان الموضوع فيها ليس هو العلّة التامة للحكم ، والعلّة التامة له شيء آخر ، فلا مانع من حكم العرف بتحقق الموضوع في القضيتين ، ولا يلازم الشك في الحكم فيها الشك في الموضوع.

٣٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وحاصل الدفع : ان التلازم بين الحكم الشرعي والحكم العقلي في القضايا التي دليل الحكم فيها هو العقل انما هو في مقام تحقق الحكم وثبوته لا في مقام عدم الحكم.

وتوضيح ذلك : ان العقل في هذه القضايا اذا حكم بحكم الموضوع فلا بد وان يطابقه حكم الشرع ، لانه رئيس العقلاء وواهب العقل ، فاذا حكم العقل ـ مثلا ـ بحسن الصدق لانه من العدل وبقبح الكذب لانه من الظلم ، فلا بد وان يحكم الشرع على طبقه فيأمر بالصدق وينهى عن الكذب ، ولكنه لا يستلزم عدم حكم العقل به لشكه في حسنه عدم حكم الشرع ايضا.

والحاصل : ان العقل تارة : يحكم بقبح الكذب ـ مثلا ـ كالكذب الذي لم يتوقف عليه حفظ نفس او حفظ مال كثير. واخرى : يحكم بحسن الكذب فيما اذا توقف عليه حفظ النفس. وثالثة : يشك في حسنه وقبحه فيما اذا توقف عليه حفظ مال قليل.

فاتضح : ان انتفاء ما له دخل في ثبوت الحكم في القضايا العقلية : تارة يكون لانتفاء ما هو المقدم لثبوت الحكم للموضوع ، واخرى يكون لانتفاء ما له دخل في ثبوت الحكم ولكنه ليس بمقوم له ، لما عرفت من ان الموضوع التام لحكم العقل بقبح الكذب هو الكذب الذي لا يتوقف عليه حفظ النفس وحفظ المال الكثير ، فاذا توقف على الكذب حفظ النفس فيكون انتفاء عدم توقف حفظ النفس عليه لفرض كون الكذب مستلزما لاتلاف النفس من انتفاء المقوّم للموضوع ، ومتى توقف على الكذب حفظ المال القليل فان انتفاءه ما له دخل في ثبوت الحكم وليس من المقوّم للموضوع عند العقل ، ولذلك كان العقل شاكا في حكمه ، ففي مقام الشك عقلا في قبح الكذب لعروض انتفاء ما ليس بمقوّم لثبوت الحكم له فلا يحكم فيه بحكم لا يستلزم عدم حكم الشارع ايضا ، بل قد يحكم الشارع بحسنه فيأمر به اذا توقف عليه حفظ المال القليل ، وقد يحكم بقبحه وينهى عنه بحكم الاستصحاب باستصحاب ثبوت حرمته قبل عروض توقف حفظ المال القليل عليه.

٣٦٠