بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 946-497-063-2
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٢٣

أو النافية لحكم الافعال بعناوينها الثانوية ، والادلة المتكفلة لحكمها بعناوينها الاولية (١).

______________________________________________________

(١) حاصله : ان الضرر بعد ان كان مما يعرض عناوين موضوعات الاحكام الاولية وانها تكون ضررية وغير ضررية ، فالادلة الدالة على الحكم لهذه الموضوعات هي الادلة المتكفلة لحكم لاحق لعنوان اولي ، وقد يطلق عليها الادلة الاولية ، ودليل الضرر حيث كان دالا على نفي الحكم عن هذه الموضوعات متى عرض عليها الضرر فالضرر عنوان ثانوي يلحق هذه الموضوعات ، ودليل الضرر هو الدليل المتكفّل لحكم هذه الموضوعات بعنوانها الثانوي وهو الضرر العارض عليها ، وقد يطلق عليه الدليل الثانوي. ومنه ظهر ان كل دليل دلّ على حكم لاحق لهذه العناوين الاوليّة بعنوان آخر يعرض عليها هو من الادلة المتكفّلة لحكم الافعال بالعنوان الثانوي.

ولا يخفى ان هذه المتكفلة للافعال بعناوينها الثانوية : تارة مثبتة لتكليف غير تكليف العنوان الاولي كدليل النذر المتعلق بعنوان مباح او راجح فانه يدل على ثبوت حكم الوجوب لهذه العناوين بالعنوان الثانوي وهو عنوان النذر ، ويكون هذا العنوان الاولي ـ بما هو منذور ـ واجبا لا بعنوانه الاولي ، لعدم كونه بعنوانه الاولي واجبا كما هو المفروض. واخرى : يكون الدليل المتكفّل لحكم الافعال بالعنوان الثانوي نافيا للحكم كدليل الحرج فانه كدليل الضرر يدل على نفي الحكم عن الافعال بالعنوان الاولي متى عرض عليها الحرج. ولما كان الدليل الثانوي دالا على غير الحكم الاولي لهذه العناوين سواء كان مثبتا لحكم آخر غير حكمه كدليل النذر الدال على الوجوب لما كان بعنوانه الاولي مباحا او راجحا ، او كان دالا على نفي الحكم الاولي كدليل الحرج ـ فلا بد من وقوع المعارضة بين الادلة الاولية وهذه الادلة الثانوية ، وهما من العامين من وجه ، لان العنوان الاولي يكون منذورا ويكون غير منذور ، والنذر قد يتعلق به وقد يتعلق بغيره من العناوين الأخر ، وكذلك دليل الحرج فانه قد يعرض هذا العنوان الاولي وقد لا يعرضه بل يعرض غيره ، والعنوان الاولي قد

٣٢١

نعم ربما يعكس الامر فيما أحرز بوجه معتبر أن الحكم في المورد ليس بنحو الاقتضاء ، بل بنحو العلية التامة.

وبالجملة الحكم الثابت بعنوان أولي : تارة يكون بنحو الفعلية مطلقا ، أو بالاضافة إلى عارض دون عارض ، بدلالة لا يجوز الاغماض عنها بسبب دليل حكم العارض المخالف له ، فيقدم دليل ذاك العنوان على دليله. وأخرى يكون على نحو لو كانت هناك دلالة للزم الاغماض عنها

______________________________________________________

يكون حرجيا وقد يكون غير حرجي ، وان القاعدة الاولى في العامين من وجه لا تقتضي التقديم ولكن التوفيق العرفي بينهما يقتضي تقديم العنوان الثانوي.

اما في الدليل الثانوي النافي للحكم كدليل الحرج فالحال فيه واضح ، لانه مثل دليل الضرر وما مرّ في دليل الضرر يأتي فيه عينا حرفا بحرف.

واما الدليل الثانوي المثبت للحكم كادلة النذور وشبهه وادلة الشرط فمضافا الى الدليل الشرعي الصريح في تقدمها على الادلة الاولية وان المنذور المباح ـ مثلا ـ او الراجح يكون واجبا بتعلق النذر به ان التوفيق بينهما عرفا ايضا يقتضي تقديم الادلة الثانوية ، اما لما مر من انه يرى الادلة الاولية بنحو الاقتضاء بمعنى انها مقتضية لفعلية الحكم ما لم يعرض ما ينافيه ، سواء كان المنافي مثبتا لحكم غير حكمه او نافيا لحكمه كما هو مسلك المصنف ، او لانه يراه حاكما عليه كما هو رأي الشيخ الاعظم ، وعلى كل فتقدّم الادلة الثانوية على الادلة الاوليّة ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((كما هو الحال في التوفيق بين سائر الادلة المثبتة)) للتكليف كدليل النذور وشبهه ودليل الشرط ((او النافية لحكم الافعال بعناوينها الثانوية)) كدليل الحرج ((وبين الادلة المتكفلة لحكمها بعناوينها الاولية)) فان الوجه الموجب لتقديم لا ضرر على الادلة الاولية هو الموجب ايضا لتقديم ساير الادلة الثانوية على الادلة الاولية.

٣٢٢

بسببه عرفا ، حيث كان اجتماعهما قرينة على أنه بمجرد المقتضي ، وأن العارض مانع فعلي (١) ، هذا ولو لم نقل بحكومة دليله على دليله ، لعدم

______________________________________________________

(١) توضيحه : ان الادلة الاولية : تارة لا يكون لها اطلاق يشمل مورد الضرر كالأدلة الواردة في مقام اصل التشريع وان هناك احكاما وفرائض وحيث فرض ورودها في مقام بيان التشريع وليست في مقام البيان من غير هذه الجهة فلا تعارض قاعدة الضرر ، واخرى يكون لها اطلاق يقتضي ثبوت الحكم كالادلة الدالة على وجوب الوضوء والصلاة وحرمة الخمر وصحة البيع ولزومه ، وهذه الادلة باطلاقها تشمل مورد الضرر ، فان دليل الوضوء مثلا يشمل باطلاقه الوضوء الضرري فهي معارضة له ، ولكن قد عرفت ان الجمع بينها وبين دليل الضرر يقتضي تقديم دليل الضرر عليها.

وثالثة : يكون الدليل الاولي دالا على ان الحكم ثابت بعلته التامة انه ثابت في كل حال ، كما قد يقال ذلك في مثل على اليد ما اخذت حتى تؤدي من دلالته على كون اخذ اليد علة تامة للزوم التأدية ، سواء لم يلزم من التأدية ضرر كما في اداء العين المأخوذة بنفسها من دون استلزام ذلك لتكلّف او خسارة ، او لزم الضرر للتأدية في مقام ايصالها بنفسها او في تأدية مثلها او قيمتها.

ورابعة : يكون الدليل دالا على ثبوت الحكم الاولي بنحو العلية التامة في حال من الاحوال لا في جميع الاحوال ، كمثل ما دلّ على شراء ماء الوضوء وان كان بالثمن غير المتعارف ، او ما دلّ على ان من اجنب متعمدا وهو مريض فيجب عليه الغسل ولو لزوم الضرر.

ولا يخفى انه في الصورة الثالثة والرابعة لا يقدّم دليل الضرر على الدليل الاولي ، بل لا بد من تقديم الدليل الاولي عليه ، لانه بعد ان كان دالا على ثبوت الحكم لعلته التامة فلا وجه لحمله على الاقتضاء ، وحيث انه يدلّ بالالتزام على ان هذا الحكم لا مانع له ولا رافع له ، فبناء على مسلك المصنف التوفيق العرفي بينهما يقتضي

٣٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

تقديم الدليل الاولي على الدليل الثانوي وهو دليل نفي الضرر ، لان دليل نفي الضرر يدل على ان وجود الضرر وجود المانع ، والمانع انما يكون مانعا للحكم الذي لم يثبت بعلته التامة ، واما الحكم الثابت لعنوانه بعلته التامة فلا بد وان لا يكون هناك ما يمنعه. وبعبارة اخرى : ان عنوان موضوع الحكم ربما يكون علّة تامة للحكم ، وعليه فلا بد وان لا يمنعه مانع ، فالدليل الاولي اذا دلّ ـ مثلا ـ على ان عنوان الموضوع علة تامة للحكم فلا بد ان لا يكون عدم الضرر من اجزاء علّة الحكم ، والّا لم يكن عنوان الموضوع هو العلة التامة ، فالعرف يرى تقديم الدليل الدال على ذلك على الدليل الدال على انه له حكم الرفع للحكم.

واما على مسلك الحكومة فالدليل الدال على العلية التامة له لسان الشرح لكون الدليل الدال على الرفع للحكم ليس برافع له ، بل لا بد وان يكون رافعا لغيره ، والحال في مثل الدليل الدال على ان الحكم ثابت حتى مع الضرر أوضح ، فتقديمه على دليل الضرر لا مناص عنه. وقد اشار الى تقديم الدليل الاولي على الدليل الثانوي في مطلق ما افاد العلية التامة بقوله : ((نعم ربما يعكس الامر)) فيقدم الدليل الاولي على الدليل الثانوي وذلك ((فيما احرز بوجه معتبر)) كقرينة خاصة او قرينة عامة كمناسبة الحكم للموضوع تدل على ((ان الحكم في المورد ليس)) ثبوته ((بنحو الاقتضاء بل)) ثبوته لموضوعه ((بنحو العلية التامة)) لموضوعه بالنسبة اليه ، وعليه فلا بد من ان ينعكس الامر ويقدم الدليل الاولي على الدليل الثانوي .. ثم اشار الى ان العلّية التامة : تارة تكون بنحو الاطلاق ، واخرى بالنسبة الى مورد دون مورد كدليل لزوم الغسل لمن اجنب متعمدا في حال المرض بقوله : ((وبالجملة الحكم الثابت بعنوان اولي تارة يكون بنحو الفعلية مطلقا)) وبالنسبة الى جميع العوارض كدليل على اليد ((او بالاضافة الى عارض دون عارض)) كمثل لزوم الغسل ولو مع استلزامه للضرر فيما اذا اجنب المريض متعمدا ((ب)) واسطة العلية التامة المستفادة من ((دلالة لا يجوز الاغماض)) عنها ((بسبب دليل حكم العارض المخالف له)) أي

٣٢٤

ثبوت نظره إلى مدلوله ، كما قيل (١).

ثم انقدح بذلك حال توارد دليلي العارضين ، كدليل نفي العسر ودليل نفي الضرر مثلا ، فيعامل معهما معاملة المتعارضين لو لم يكن من

______________________________________________________

لا يؤخذ بالعارض المخالف للعنوان الاولي ((فيقدم دليل ذاك العنوان)) الاولي ((على دليله)) أي على دليل العارض المخالف له. هذا كله فيما اذا استفيدت العلية التامة للحكم من العنوان الاولي. واما اذا لم تستفد العلية التامة من العنوان الاولي اما لعدم القرينة الخاصة على العلية التامة ، او لعدم المناسبة المقتضية لها ، فقد عرفت انه يقدّم دليل العنوان الثانوي عليه للتوفيق العرفي ، وإلى هذا اشار بقوله : ((واخرى يكون)) دليل العنوان الاولي ليس ((على نحو)) العلية التامة ، ففيما ((لو كانت هناك دلالة)) للعنوان الاولي ((للزم الاغماض عنها بسببه)) أي بسبب دليل المعارض ((عرفا حيث كان اجتماعهما قرينة)) عند العرف ((على انه)) أي على ان العنوان الاولي هو ((بمجرد المقتضي)) لا العلية التامة ((وان العارض مانع فعلي)) عن حكمه.

(١) حاصله : ان دليل العنوان الثانوي يتقدّم للتوفيق العرفي كما عرفت ، لا لحكومة دليل العنوان الثانوي على دليل العنوان الاولي كما هو مسلك الشيخ الاعظم ، لان الشرط في حكومة دليل على دليل ان يكون الحاكم شارحا لفظيا لدليل المحكوم ، والمفروض عدم الشرح اللفظي للعنوان الثانوي وهو دليل الضرر ، لانه ليس في دليل الضرر ما يدل باللفظ على انه ناظر وشارح للعنوان الاولي. والى ما ذكرنا اشار بقوله : ((هذا)) أي ان دليل المعارض الذي هو العنوان الثانوي يتقدّم للتوفيق العرفي ((ولو لم نقل بحكومة دليله)) أي دليل العارض ((على دليله)) أي على دليل العنوان الاولي. ثم اشار الى الوجه في عدم الحكومة بقوله : ((لعدم ثبوت نظره)) أي لعدم ثبوت نظر دليل العارض لفظا بالنسبة ((الى مدلوله)) أي الى مدلول العنوان الاولي ((كما قيل)) أي كما ادعى الشيخ الاعظم ذلك في رسائله.

٣٢٥

باب تزاحم المقتضيين ، وإلا فيقدم ما كان مقتضيه أقوى وإن كان دليل الآخر أرجح وأولى ، ولا يبعد أن الغالب في توارد العارضين أن يكون من ذاك الباب ، بثبوت المقتضي فيهما مع تواردهما ، لا من باب التعارض ، لعدم ثبوته إلا في أحدهما ، كما لا يخفى ، هذا حال تعارض الضرر مع عنوان أولي أو ثانوي آخر (١).

______________________________________________________

(١) هذه هي الجهة الرابعة التي اشار اليها في صدر المسألة وهي الكلام في قاعدة الضرر بالنسبة الى الدليل الثانوي. ثم لا يخفى ان الضرر كما يعرض للعنوان الاولي كالوضوء والبيع ، كذلك يعرض للعنوان الثانوي كمثل النذر المتعلق بالراجح اولا ، ثم بعد تعلقه به عرضه الضرر ، فان دليل الضرر يتقدم عليه لعين ما مرّ في تقدمه على العنوان الاولي ، لانه رافع للحكم الذي عرض الضرر على موضوعه. هذا حال دليل الضرر بالنسبة الى العنوان الثانوي الذي لم يكن لسانه كلسان دليل الضرر ، كدليل الحرج ونفي العسر فان لسانه كلسان دليل الضرر من المانعية وأنّ وروده في مقام الامتنان على الامة ، ولا يجري فيه ما مرّ من التوفيق العرفي بين دليل الضرر ودليل العنوان الاولي او العنوان الثانوي الذي لم يكن لسانه كلسان دليل الضرر.

ومما ذكرنا يظهر وجه الانقداح في قوله : ((ثم انقدح بذلك)) فان المراد منه انه بعد ان عرفت ان تقديم دليل الضرر على العنوان الاولي او الثانوي لانه يدل على المانعية ـ تعرف انه لا يتأتى هذا في دليل الضرر بالنسبة الى دليل الحرج ونفي العسر ، لانه مثله لسانا وموردا.

اذا عرفت هذا ... فنقول : اذا توارد دليل الضرر ودليل نفي الحرج على مورد كما اذا علمنا لزوم ارتكاب احد الامرين وكان احدهما ضرريا والآخر حرجيا ، كما لو توقف انقاذ غريق ـ مثلا ـ اما على السباحة ودخول الماء وكان مضرا ، او استجار من لا يضره الماء ولكن استيجاره كان حرجيا ، ففي مثل هذا يتعارض دليل نفي الضرر ودليل الحرج ، وحيث كان مما لا بد من ارتكاب احدهما ، فهل يتقدم دليل

٣٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الضرر ويتعيّن ارتكاب ما فيه الحرج ، او يتقدّم دليل الحرج ويتعيّن ارتكاب ما فيه الضرر؟

وتوضيح الحال في ذلك اجمالا : ان الدليلين المتنافيين اذا لم يحرز المقتضي في كليهما كانا متعارضين ، ويعامل معهما معاملة المتعارضين من التساقط ، او الترجيح لما فيه المزية منهما ، او التخيير كما سيأتي تفصيله في باب التعارض ان شاء الله تعالى. واذا احرز المقتضي فيهما معا فهما متزاحمان يتقدم اقواهما مقتضيا وان كان دليل الآخر اقوى سندا وارجح دلالة.

ثم لا يخفى ان دليل الضرر والحرج من المتزاحمين غالبا ، لاحراز المقتضي فيهما بالوجدان على الاكثر. نعم ربما يصادف نادرا ان لا يحرز بالوجدان مقتضاهما كما لو كان كل من الضرر والحرج مستندا الى الاخبار بان قامت البينتان عليهما وكانت كلّ بيّنة تدعي احدهما بخصوصه وتنفي الآخر ، ولكنه فرض نادر ، فان الضرر والحرج غالبا مما يحرزان بالوجدان فهما من المتزاحمين غالبا. وقد اشار الى توارد خصوص دليل الضرر ودليل الحرج بقوله : ((ثم انقدح بذلك حال توارد دليلي العارضين ... الى آخر الجملة)) ثم اشار الى ان معاملة المتعارضين غير معاملة المتزاحمين بقوله : ((فيعامل معهما معاملة المتعارضين)) من التساقط ، او الترجيح لأقواهما سندا او دلالة ، أو التخيير مطلقا ، او في خصوص مقام ، هذا ((لو لم يكن)) الحال بينهما ((من باب تزاحم المقتضيين وإلّا)) أي وان كانا من باب التزاحم ((فيقدم ما كان مقتضية اقوى وان كان دليل)) المزاحم ((الآخر ارجح)) منه سندا ((واولى)) منه دلالة. ثم اشار الى ان الغالب في دليل الضرر والحرج كونهما من المتزاحمين لا المتعارضين بقوله : ((ولا يبعد ان الغالب في توارد العارضين)) المذكورين ((ان يكون)) الحال بينهما ((من ذاك الباب)) أي من باب التزاحم ((ب)) سبب ((ثبوت المقتضي فيهما)) معا ((مع تواردهما لا)) أن الباب فيهما ((من باب

٣٢٧

وأما لو تعارض مع ضرر آخر ، فمجمل القول فيه أن الدوران إن كان بين ضرر شخص واحد أو اثنين (١) ، فلا مسرح إلا لاختيار أقلهما لو كان ، وإلا فهو مختار (٢).

______________________________________________________

التعارض)) الذي لم يكن المقتضي محرزا الا في احدهما لا في كل منهما ، واليه اشار بقوله : ((لعدم ثبوته)) أي المقتضي ((الا في احدهما كما لا يخفى)).

(١) لما فرغ من الكلام في معارضة قاعدة الضرر للعناوين الاولية كالوضوء والبيع مثلا والعناوين الثانوية كدليل العسر والحرج ... اشار الى ما لو تعارض ضرر مع ضرر ، ويظهر من عبارة المتن ان صور التعارض أربع :

الاولى : ان يعارض الضرر ضررا آخر يكون كلاهما واردين على شخص واحد ، وكان ذلك الشخص الواحد هو نفس المضر ، بان دار امره بين ضررين لا بد له من ارتكاب احدهما ، كما لو اكره ـ مثلا ـ على ارتكاب احد ضررين عائدين الى نفسه.

الثانية : ان يكون الضرران عائدين الى شخص واحد ، ولكنه كان ذلك الشخص غير فاعل الضرر ، بان اكره زيد ـ مثلا ـ على اضرار شخص آخر كعمرو بأحد ضررين.

الثالثة : ان يكون الضرران بالنسبة الى شخصين ، وذلك بان يكره زيد على ان يضر اما عمرا او بكرا ... وقد اشار الى هذه الصور الثلاث بقوله : ((ان الدوران ان كان بين شخص واحد)) وهذا يشمل الصورتين الاوليين وهو ما اذا كان الضرران عائدين الى شخص فاعل الضرر نفسه وما اذا كانا عائدين الى غيره. وبقوله : ((او اثنين)) اشار الى الصورة الثالثة.

(٢) لا يخفى ان الحكم بلزوم اختيار اقل الضررين انما هو لو كان. واما ان لم يكن هناك اقل بان كانا متساويين فالتخيير بينهما هو حكم الصور الثلاث جميعها.

٣٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وتوضيح الحال ببيان امرين : الأول : ان المراد من الاقل في عبارة المتن ما يشمل الاخف ايضا ، لان التفاوت بين الضررين : تارة يكون من جهة القلّة والكثرة ، كما لو كان الضرران ماليين وكانت خسارة احدهما عشرة وخسارة الآخر عشرين. واخرى : يكون التفاوت بينهما من ناحية الشدّة والضعف ، كما لو كان احد الضررين اتلاف مال وكان الضرر الآخر الضرب المؤلم مثلا ، فانه يقال لا ضعف الضررين في الاستعمالات المتعارفة انه اقل الضررين ، وان كان الاولى التعبير عنه بأخف الضررين. وعلى كل فمراد المصنف ما يشمل الشدّة والضعف ، لوضوح عدم خفاء انه لو دار الامر بين ضرب مؤلم وبين قطع عضو فالضرب المؤلم يتعيّن ترجيحه ، فلا خصوصية للترجيح بالقلّة في قبال الكثرة.

الثاني : ان دليل الضرر وارد مورد الامتنان ، ولما كان احد الضررين مما لا بد من وقوعه فلا حكم فعلي من الشارع بالنسبة اليه ، ولما كان الاقل موجودا لا بحدّه في ضمن الاكثر ، وكان الاخف كالموجود لا بحدّه في ضمن الاشد ، فلا يكون مشمولا لقاعدة نفي الضرر لحتمية وقوعه ، ويتعيّن جريان دليل لا ضرر في رفع الاكثر والاشد للمنة في رفعه من جهة الزيادة التي فيه ، وليس مما لا بد من وقوعه حتى لا يجري فيه دليل نفي الضرر. هذا اذا كان الضرران متفاوتين. واما اذا كانا متساويين فالحكم هو التخيير بينهما ، لان ما لا بد منه هو احدهما ولا مرجح لاحدهما على الآخر فيتعيّن التخيير بينهما ، كما لو اكره على خسارة عشرة دراهم او دينار ، وكانت قيمة الدينار عشرة دراهم ، او على تخسير الغير عشرة دراهم او دينارا ، او تخسير عمرو عشرة دراهم. او تخسير بكر عشرة دراهم. هذا فيما اذا لم يمكن توزيع العشرة على الاثنين. واما اذا امكن التوزيع بان اراد المكره عشرة دراهم ولو بان تكون خمسة من عمرو وخمسة من بكر فانه يتعيّن التوزيع ، لان ما لا بد منه هو الخمسة من كل منهما ، واما الخمسة الاخرى فبالنسبة الى كل واحد منهما مما تشمله قاعدة الضرر فتكون منفيّة بها فيتعيّن توزيع العشرة عليهما.

٣٢٩

وأما لو كان بين ضرر نفسه وضرر غيره ، فالاظهر عدم لزوم تحمله الضرر ، ولو كان ضرر الآخر أكثر ، فإن نفيه يكون للمنة على الامة ، ولا منة على تحمل الضرر ، لدفعه عن الآخر وإن كان أكثر.

نعم لو كان الضرر متوجها إليه ، ليس له دفعه عن نفسه بإيراده على الآخر (١) ، اللهم إلا أن يقال : إن نفي الضرر وإن كان للمنة ، إلا أنه

______________________________________________________

فظهر مما ذكرنا : ان الحكم باختيار اقل الضررين لو كان ، والّا فالتخيير واضح بالنسبة الى الصورة الاولى والثانية مما كان الضرر متوجها لشخص واحد سواء كان هو فاعل الضرر او غيره.

واما بالنسبة الى الصورة الثالثة مما كان الضرر متوجها لشخصين غير فاعل الضرر ، فان تساويا وامكن التوزيع فهو وإلّا فالتخيير وان لم يتساويا فان احرز تعيين احد الضررين كما لو دار الامر ـ مثلا ـ بين تخسير احدهما مالا يسيرا وقطع عضو من الآخر فالظاهر انه يتعيّن الخسارة المالية اليسيرة ، وان لم يحرز التعيين لاحدهما ، فان قلنا بان الامتنان في الضرر نوعي بمعنى ان الامة كلها بمنزلة شخص واحد فلا محالة من مراعاة اخف الضررين واقلهما ، لانه على هذا المبنى يكون الاثنين بمنزلة الشخص الواحد ، وان قلنا ان الامتنان في الضرر شخصي وعليه فلا وجه لتحمل احدهما الضرر واخراج الآخر ، فلا مناص عن التخيير.

ومنه يظهر : ان حكم المصنف باختيار اقل الضررين لو كان والّا فالتخيير بالنسبة الى خصوص الصورة الثالثة جاء في بعض محتملاتها والله العالم.

إلّا ان يقال ـ بما سيأتي في وجه التامل ـ من انهما خطابان توجها لشخص واحد وقد احرز موضوعهما فهما متزاحمان ، وعليه فلا مناص من تقديم اخفهما ضررا.

(١) هذه الصورة الرابعة ، وهي ما اذا كان الامر دائرا بين ضررين احدهما يعود الى نفس الشخص الفاعل والثاني يعود الى غيره : فتارة يكون الضرر متوجها بطبعه الى نفس الشخص الفاعل ولكنه يمكنه دفعه عن نفسه وتوجيهه الى الغير ، كما لو اكره

٣٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

شخص على دفع مال عن نفسه وكان يمكنه ان يدفع الضرر عن نفسه وتوجيهه الى الغير. واخرى يكون الضرر متوجها بطبعه الى الغير ، ولكن كان فاعل الضرر يمكنه ان يوجه الضرر لنفسه ويدفعه عن الغير. وثالثة : لا يكون الضرر متوجها الى احدهما بل كان الضرر بالنسبة اليهما في عرض واحد ، وسيأتي بيان الحكم فيها.

واما بالنسبة الى الصورتين الاوليين فان الحكم في هاتين الصورتين واحد ، وهو انه لا بد ان يتحمل الضرر من كان الضرر متوجها اليه دون من لم يتوجه اليه الضرر ، لان قاعدة نفي الضرر بالنسبة الى من لم يتوجه اليه جارية ، وبالنسبة الى من توجه الضرر اليه غير جارية : اما جريانها بالنسبة الى من لم يتوجه اليه بطبعه فواضح ، لانه بحسب الاسباب التكوينية لم يتحتّم الضرر بالنسبة اليه فيكون مشمولا لادلة نفي الضرر ، فلا يلزم الفاعل بتحمل الضرر فيما اذا كان الضرر بطبعه متوجها الى الغير ، ولا يجوز له دفع الضرر عن نفسه باضرار الغير فيما اذا كان الضرر بطبعه متوجها اليه ، فان ضرر نفسه غير منفي واضراره الغير منفي .. واما عدم جريانها بالنسبة الى من توجه الضرر اليه فلان المرفوع بادلة الضرر هو رفع الحكم الشرعي للموضوع الضرري ، واما نفس الضرر التكويني المتوجه باسبابه التكوينية فغير مشمول لقاعدة نفي الضرر.

والحاصل : ان الضرر المحتّم الوقوع باسبابه لا وجه لرفعه تشريعا ، بل رفعه يكون من الرفع التكويني ، واما غير المحتّم الوقوع فهو الذي يمكن ان يرفع تشريعا ، لامكان ان يكون نفيه تشريعا لنفي اثره موجبا لعدم وقوعه. وقد اشار المصنف الى الصورة الاولى بقوله : ((نعم لو كان الضرر متوجها اليه ... الى آخر الجملة)) ومنه يفهم حكم الصورة الثانية ، وهي ما اذا كان الضرر بطبعه متوجها الى الغير فان المناط فيهما واحد.

واما الصورة الثالثة ، وهي ما اذا لم يكن الضرر متوجها الى احدهما بل كان الضرر بالنسبة اليهما في عرض واحد ، وذلك مثلا كما لو اراد شخص ان يحفر

٣٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

بالوعة في ملكه وكان حفرها مضرا بدار الغير او ببالوعته او بئره ، وكان ترك حفر البالوعة مضرا ايضا بالنسبة الى المالك ، فهل يجوز له حفر البالوعة في ملكه وان اضرّت بالغير ام لا يجوز له ذلك؟ وهذه الصورة هي مراد المصنف من قوله : ((واما لو كان بين ضرر نفسه وضرر غيره)) ومختار المصنف عدم لزوم تحمّل المالك الضرر في هذه الصورة وان استلزم ذلك ضرر الآخر ضررا اكثر من الضرر على المالك ، وفاقا للمحكى عن الشيخ وعن العلامة (قدس‌سرهما) ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((فالاظهر عدم تحمله الضرر ... الى آخر الجملة)) والوجه الذي اشار اليه في المتن هو ان قاعدة نفي الضرر للامتنان الشخصي ، ولما كان حفر البالوعة ضررا على الغير وترك حفرها مضرا على المالك فيتعارض الضرران ويتساقطان ، ويرجع الى قاعدة الناس مسلطون على اموالهم وهي تقتضي جواز ذلك للمالك وان لزم منه ضرر الغير.

لا يقال : انه اذا كان ضرر الغير اكثر فان ضرر المالك يعارضه من ضرر الغير ما كان بقدره ، ويبقى الضرر الزائد على الغير لا معارض له فينفى بقاعدة الضرر.

فانه يقال : اذا كان الامتنان شخصيا فالضرر المنفي بالنسبة الى كل واحد غير الضرر المنفي على الآخر ، والمنّة في اصل نفي الضرر عن كل واحد منهما ، فلكل واحد منهما منّة غير المنّة على الآخر ، فالتعارض يكون بين الحكم الامتناني لكل واحد منهما بالنسبة الى الحكم الامتناني للآخر ، ولا وجه لترجيح منّة على منّة ولذا قال (قدس‌سره) : ((فان نفيه يكون للمنّة)) الشخصية ((على الامة)) وكل واحد من الامة الضرر منفي عنه حيث يكون نفيه منّة عليه ، وتحمل كل واحد منهما للضرر دون الآخر خلاف المنّة عليه ، فلا وجه لان يتحمّل احدهما الضرر بخصوصه لدفعه عن الآخر ، ولما كان الضرر بالنسبة الى كل منهما ورفعه بالنسبة الى كل منهما منّة عليه فتتعارض المنتان ، فلا وجه لان يتحمّل الضرر من كان ضرره اقل من ضرر

٣٣٢

بلحاظ نوع الامة ، واختيار الاقل بلحاظ النوع منّة (١) ، فتأمل (٢).

______________________________________________________

الآخر ، فان تحمّل كل منهما للضرر خلاف المنة عليه ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((ولا منة على تحمّل الضرر لدفعه عن الآخر وان كان)) ضرر الآخر ((اكثر)).

(١) حاصله : انه انما يتعارض المنتان فيما اذا كان الامتنان في القاعدة شخصيا ، واما اذا كان الامتنان فيها نوعيا ، بان كان الملحوظ في القاعدة رفع الضرر عن نوع الامة فالامة كلها بمنزلة الشخص الواحد ، وعلى هذا فلا تعارض بين متنين ، ويعود حكم الضرر في الشخصين الى حكم الضرر بالنسبة الى شخص واحد ، وقد عرفت في الضرر بالنسبة الى الشخص الواحد انه يترجح النفي للاكثر ، لان نفي الاكثر من المنّة بلحاظ الاقل ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((اللهم إلّا ان يقال ان نفي الضرر وان كان للمنّة إلّا انه)) نوعي لا شخصي وهو ((بلحاظ نوع الامة)) والامة كلها كالشخص الواحد ((و)) واذا كان كذلك فلا بد من ((اختيار)) الضرر ((الاقل)) لان نفي الضرر الاكثر ((بلحاظ النوع منه)).

(٢) يمكن ان يكون اشارة الى انه حتى لو قلنا بان الامتنان شخصي ولكن الخطابين في المقام يتوجهان لشخص واحد ، لوضوح انه كما لا يجوز للشخص ان يضر نفسه ، كذلك لا يجوز له ان يضر غيره ، والامتنان علّة لنفي الضرر ، ومن الواضح ان عدم جواز اضرار الغير المنّة في رفعه تعود الى الغير لا الى فاعل الضرر بالغير ، واذا تنافى الخطابان المتوجهان لشخص واحد واحرز موضوع كل منهما كانا من المتزاحمين ، والمتزاحمان يلاحظ أقواهما مناطا ، وحيث كان المفروض ان الضرر في احدهما اقوى لفرض كثرته فيكون هو المقدّم ، ولما كان حفر البالوعة ـ مثلا ـ مستلزما لضرر اكثر من ترك حفرها فخطاب الشخص برفع اليد عن ضرر الغير يكون اقوى من الخطاب بنفي الضرر عن نفسه. والله العالم.

٣٣٣

فصل

في الاستصحاب : وفي حجيته إثباتا ونفيا أقوال للاصحاب (١).

ولا يخفى أن عباراتهم في تعريفه وإن كانت شتى ، إلا أنه تشير إلى مفهوم واحد ومعنى فارد (٢) ، وهو الحكم ببقاء حكم أو موضوع

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان الاقوال في حجية الاستصحاب وعدمه اطلاقا وتقييدا انهاها الشيخ الاعظم أولا في رسائله الى احد عشر قولا : بالحجيّة مطلقا ، وقول بعدم الحجيّة مطلقا ، والتسعة الباقية في التفصيلات ، ثم ذكر في آخر كلامه ما حاصله : ان الاقوال اكثر من ذلك يعرفها من تتبعها في كلمات الاصحاب.

(٢) حاصله : ان للاستصحاب في كلمات القوم تعاريف متعددة ، فانه قد عرّفه بعضهم بانه إبقاء ما كان ، وعرّفه بعضهم بانه اثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلا على ثبوته في الزمان الأول ، وعرّفه بعضهم بأنه كون حكم او وصف يقيني الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق ، الى غير ذلك من التعاريف الأخر له في كلماتهم .. وبعد اختلاف التعبيرات في كلامهم في مقام التعريف للاستصحاب فهل ان الاستصحاب معنى واحد عندهم اختلفوا في التعبير عنه ، او انه معان متعدّدة؟

ثم لا يخفى انه هناك امر آخر نبّه عليه المصنف في كلامه ، وهو ان مدرك الاستصحاب على ما سيأتي ثلاثة : بناء العقلاء ، والظن بالملازمة بين ثبوته سابقا وبقائه لاحقا او بالملازمة بين ثبوته سابقا والظن ببقائه ، والنصّ والاجماع. ويظهر من بعضهم ان الاستصحاب هو نفس احد هذه الامور الثلاثة ، وهو خطأ لما سيأتي. وسيظهر ايضا ان للاستصحاب معنى واحدا وليس له معان متعدّدة ، فاختلاف التعبيرات ليس لانه عندهم ذو معان متعدّدة ، بل هو عندهم بمعنى واحد. وسيظهر ايضا ان هذه الامور الثلاثة هي مدرك حجية الاستصحاب لا انها نفس الاستصحاب ، لوضوح كون مدرك حجية شيء غير نفس ذلك الشيء ... وعلى كل

٣٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

فقد ذهب المصنف الى انه معنى واحد عندهم ، استدل على ما ذهب اليه كما اشار اليه في ذيل كلامه : انه لو كان للاستصحاب عندهم معان متعددة لما تقابل فيه الاقوال ، ولما كان النفي والاثبات عندهم واردين على مورد واحد بل على موردين.

وحاصله : انه قد عرفت اختلاف اقوال القوم في الاستصحاب ، فقد نفاه بعضهم ، وأثبته بعض ، وفصّل فيه آخرون ، ويرجع التفصيل الى اثبات من جهة ونفي من جهة اخرى ، فان كان الاستصحاب عندهم بمعنى واحد كان النفي والاثبات ، والتفصيل كل ذلك وارد منهم على شيء واحد قطعا ، واذا كان للاستصحاب عندهم معان متعددة فلا يقطع بكون النفي والاثبات منهم واردا على شيء واحد ، مثلا اذا كان الاستصحاب عند بعضهم هو نفس الظن بالملازمة بين الثبوت والبقاء او الملازمة بين الثبوت والظن بالبقاء ، وعند البعض الآخر هو نفس بناء العقلاء على عدم رفع اليد عن اليقين بالثبوت السابق عند الشك في الزمان اللاحق ، فمن الواضح ان القائل به للملازمة بين الثبوت والظن بالبقاء مثلا ينفي كونه هو بناء العقلاء ، ولا يكون نفيه لذلك نفيا منه للاستصحاب لفرض قوله به للظن ، فلا يكون النفي والاثبات منهم واردا على شيء واحد. وظاهر تحريرهم للمسألة ونقلهم للاقوال فيها هو كون النافي نافيا للاستصحاب ، والمثبت مثبتا لنفس ما نفاه النافي ، لا ان النافي ينفيه بمعنى والمثبت يثبته بمعنى آخر.

فاتضح انه لو كان الاستصحاب عندهم له معان متعددة لما كان القول به بمعنى والقول به بمعنى آخر من الاقوال المتقابلة في الاستصحاب لاثبات كل واحد منهما له ، ولما كان نفي احدهما للآخر نفيا للاستصحاب ، بل نفيا لان يكون معنى الاستصحاب هو المعنى الذي قاله.

وبعبارة اخرى : ان ظاهر اختلافهم نفيا له واثباتا هو الاختلاف منهم في حجيته ، لا الاختلاف في معناه.

٣٣٥

ذي حكم شك في بقائه (١) : إما من جهة بناء العقلاء على ذلك في أحكامهم

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان ظاهر عبارة المتن كون الاستصحاب هو نفس الحكم بالبقاء ، وظاهر المشهور ان الاستصحاب هو نفس بقاء الحكم او الموضوع ذي الحكم ، والنزاع في حجية الاستصحاب وعدمها ـ بناء على انه هو الحكم بالبقاء ـ معناه ان القائل بالحجية يقول بوجود الحكم ، والقائل بالعدم يقول بعدمه ، فتكون الحجية في الاستصحاب كالحجية في المفاهيم ، فان القول بحجية المفهوم معناه القول بوجود المفهوم ، ومن يقول بعدم حجيته معناه القول بعدم وجود المفهوم.

واما بناء على انه هو نفس بقاء ما كان حكما او موضوعا ، فالنزاع في حجيّته وعدمها يكون من باب النزاع في حجيّة خبر الواحد ، لوضوح ان من يقول بحجية الاستصحاب مرجعه الى حكم الشارع ببقاء ما كان ، اما لبناء العقلاء ، او للظن بالملازمة مثلا ، او لقيام الاخبار الدّالة على هذا الحكم من الشارع المتعلق ببقاء ما كان ، لبداهة ان نفس عنوان بقاء ما كان متحقق دائما ، والنزاع يكون في الحكم المتعلق به وعدمه فيكون كالنزاع في حجية خبر الواحد ، فان نفس خبر الواحد متحقق دائما ، والنزاع في حجيّته انما هو في اعتبار الشارع له والحكم منه بتصديقه وعدم حكم الشارع بتصديقه.

ثم لا يخفى ان المتيقن والمشكوك قد يكون حكما كما لو شكّ في نجاسة الماء المتغير بالنجاسة بعد زوال التغيير ، وربما يكون موضوعا ذي حكم كما لو شكّ في خمرية مائع بعد ان كان خمرا سابقا. والى هذا اشار بقوله : ((ببقاء حكم او موضوع ... الى آخر الجملة)).

٣٣٦

العرفية (١) مطلقا ، أو في الجملة (٢) تعبدا ، أو للظن به الناشئ عن ملاحظة ثبوته سابقا.

وإما من جهة دلالة النص أو دعوى الاجماع عليه كذلك ، حسبما تأتي الاشارة إلى ذلك مفصلا (٣).

______________________________________________________

(١) لا يخفى انه قد اشرنا الى ان مدرك حجية الاستصحاب منحصرة في ثلاثة كما سيأتي البحث عنها : الأول : بناء العقلاء على الاخذ باليقين السابق بعد لحوق الشك في الزمان الثاني ، وامضاء الشارع لهذا البناء العقلائي.

الثاني : الظن ، ومرجعه اما الى الملازمة بين الثبوت السابق والظن بالبقاء ، او الى الظن بالملازمة بين الثبوت والبقاء ، ولازمه الظن بالبقاء واعتبار الشارع لهذا الظن.

الثالث : كون مدرك حجية الاستصحاب هي الاخبار الآتية او الاجماع.

ومنه يتضح : ان الاستصحاب ليس هو نفس بناء العقلاء او نفس الظن ، لان مدرك الحجية لشيء لا يكون هو ذلك الشيء ، ضرورة لزوم التعدّد والتباين بين المدرك وبين ما قام المدرك على حجيّته.

(٢) المراد من قوله مطلقا هو قيام بناء العقلاء في احكامهم العرفية على الاخذ بالاستصحاب مطلقا ، من دون تفصيل منهم بين الشك الناشئ من احتمال عدم بقاء المقتضي ، او من جهة عروض الرافع ، ومن دون تفصيل بين المستصحب الوجودي والعدمي ، وغير ذلك من التفصيلات. والمراد من قوله : ((او في الجملة)) هو دعوى بناء العقلاء على الاخذ بالاستصحاب في خصوص احد التفصيلات.

(٣) أي ان بناء العقلاء في الاستصحاب من باب التعبّد. وحيث ان ظاهر التعبّد بالشيء هو الاخذ به من دون ملاحظة حيثية تعليليّة تكون هي المناط للاخذ به .. اشكل الامر في التعبّد العقلائي ، بدعوى ان العقلاء بما هم عقلاء لا يعقل ان ياخذوا بشيء من دون ملاحظة حيثية تعليلية له ، بل البناءات العقلائية ـ دائما ـ في الامور

٣٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الخاصة ترجع الى بنائهم على امور عامة واضحة الحيثية تكون تلك الامور الخاصة منطبقا لها ، فان بناءهم على مدح فاعل بعض الافعال وذم فاعل بعض الافعال انما هو لبنائهم على حسن العدل وقبح الظلم حفظا للنظام ، وحيث ان فاعل الحسن يستحق المدح وفاعل الظلم يستحق الذم لذا قام بناؤهم على المدح لفاعل الفعل الذي ينطبق عليه عنوان الحسن ، وعلى الذم لفاعل الفعل الذي ينطبق عليه عنوان الظلم ، فليس للعقلاء في بنائهم تعبّد محض ، وانما التعبّد في الاحكام الشرعية لعدم امكان احاطة الخلق بعلل التشريع غالبا.

ويمكن ان يجاب عنه : بان المراد من ان بناء العقلاء في حجية الاستصحاب من باب التعبد انه لما كان الاستصحاب متقوّما باليقين السابق ، فبناء العقلاء على الاخذ باليقين عند عروض الشك : ان كان لوثاقة اليقين عندهم وانهم لا يرفعون اليد عن اليقين بمجرد عروض الشك لانه من المستحكمات ، ولا يرفعون اليد عن المستحكم الّا بمستحكم مثله ، فحيث ان الشك ليس من المستحكم فلا يرفعون به اليد عن اليقين فلا يكون بناؤهم في الاستصحاب من باب التعبّد.

وان كان بناؤهم على الاستصحاب ليس لما ذكرنا ، بل للتحفظ على الواقعيات ما لم يتبين انتفاؤها ، فان هذا البناء منهم يكون اشبه بالاحتياط في المقام ، لا لانه منطبق حيثية بالخصوص ، فحيث انه لم يكن لحيثية بالخصوص بل كان للتحفظ على الواقع عبّر عنه بانه بناء تعبّدي : أي انهم يتعبّدون بالواقع الثابت ولا يرفعون اليد عنه بمجرد احتمال انتفائه في الزمان الثاني.

ويمكن ان يجاب عنه : بان التعبّد بالشيء ليس هو الاخذ به من دون ملاحظة حيثية تعليلية له ، بل المراد بالتعبّد هو الاخذ باحد طرفي الشك والبناء عليه والغاء احتمال خلافه في مقام العمل ، وحيث ان المفروض في المقام هو الشك في بقاء ما كان متحققا سابقا في الزمان الثاني ، فالبناء منهم على تحققه وبقائه عملا والغاء احتمال عدم بقائه تعبّد منهم ببقائه ، وليس التعبّد الّا الاخذ باحد طرفي الشك مع فرض الشك.

٣٣٨

ولا يخفى أن هذا المعنى هو القابل لان يقع فيه النزاع والخلاف في نفيه وإثباته مطلقا أو في الجملة ، وفي وجه ثبوته ، على أقوال.

ضرورة أنه لو كان الاستصحاب هو نفس بناء العقلاء على البقاء أو الظن به الناشئ من العلم بثبوته ، لما تقابل فيه الاقوال ، ولما كان النفي والاثبات واردين على مورد واحد بل موردين (١) ، وتعريفه بما ينطبق

______________________________________________________

ولا يخفى ان المصنف اشار الى حصر المدرك في هذه الثلاثة بقوله : ((اما من جهة بناء العقلاء ... الى آخر الجملة)) وهو المدرك الأول. وبقوله : ((أو للظن به الناشئ ... الى آخر الجملة)) وهو المدرك الثاني. وبقوله : ((واما من جهة النص ... الى آخر الجملة)) وهو المدرك الثالث ... ولا ينبغي ان يتوهّم ان الاجماع مدرك رابع ، لان المراد من المدرك الثالث هو كون حجية الاستصحاب لدلالة الدليل الشرعي عليه ، ولا فرق في الدليل الشرعي بين كونه اخبارا او اجماعا.

(١) قد عرفت ان مختار المصنف ان الاستصحاب الذي وقع الكلام في حجيته نفيا واثباتا هو بمعنى واحد عند الكل ، وليس له معان متعددة عندهم ... وبعد ان ذكر معنى الاستصحاب وهو الحكم ببقاء حكم او موضوع ذي حكم ، وذكر انحصار مدركه في الامور الثلاثة ـ شرع في الاشارة الى ما مرّ ذكره من الاستدلال على مختاره : وهو ان الوجه في كون الاستصحاب بمعنى واحد عند الكل انه لو لم يكن بمعنى واحد لما تقابل فيه الاقوال ، وانما يتقابل فيه الاقوال نفيا واثباتا مطلقا او في خصوص بعض التفصيلات فيما اذا كان بمعنى واحد ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((ان هذا المعنى)) الواحد ((هو القابل لان يقع فيه النزاع و)) لان يقع ((الخلاف في نفيه واثباته مطلقا او في الجملة)) بان يكون الاستصحاب حجة في بعض التفصيلات ((و)) هذا المعنى الواحد هو الذي اختلف القوم ((في وجه ثبوته)) من انه لبناء العقلاء او للظن او للنص ((على اقوال)) في ثبوته ونفيه وفي مدرك ثبوته ايضا ((ضرورة انه لو كان الاستصحاب)) عندهم بمعان متعددة بان كان ((هو نفس بناء العقلاء)) عند بعض

٣٣٩

على بعضها ، وإن كان ربما يوهم أن لا يكون هو الحكم بالبقاء بل ذاك الوجه (١) ، إلا أنه حيث لم يكن بحد ولا برسم بل من قبيل شرح الاسم ، كما هو الحال في التعريفات غالبا ، لم يكن له دلالة على أنه نفس الوجه ،

______________________________________________________

وعند الآخرين بمعنى آخر ((او)) كان هذا ((الظن به الناشئ من العلم بثبوته)) عند بعض وعند الآخرين بمعنى آخر ((لما تقابل فيه)) أي لما تقابل في الاستصحاب ((الاقوال ولما كان النفي)) من بعضهم ((والاثبات)) من آخرين ((واردين على مورد واحد)) كما مر بيانه ((بل)) كان النفي والاثبات في ((موردين)) كما عرفت.

(١) لما فرغ من الاستدلال على ما اختاره من كون الاستصحاب هو بمعنى واحد عند الكل ... اشار الى وجه القول الآخر وهو كون الاستصحاب ذا معان متعدّدة. وحاصل الوجه الذي اشار اليه في المتن هو : ان تعاريف الاستصحاب مختلفة والاختلاف بينها ليس اختلافا في محض التعبير ، فان بعضها ما يدلّ على انه هو الإبقاء لما كان ، وبعضها يدلّ على ان الاستصحاب هو الظن بالبقاء او بالملازمة بين الثبوت والبقاء. ومن الواضح ان هذا الاختلاف ليس من الاختلاف في محض التعبير ، لصراحة كون الابقاء غير الظن بالبقاء حقيقة ، ولازم كون الاختلاف بين التعاريف اختلافا حقيقيا هو كون المعرّف وهو الاستصحاب مختلف الحقيقة عندهم ، والى هذا اشار بقوله : ((وتعريفه)) أي وتعريف الاستصحاب ((بما ينطبق على بعضها)) كتعريفه بانه الظن بالبقاء المنطبق على غير ما ذكره من كونه الحكم ببقاء حكم او موضوع ((وان كان)) هذا ((ربما يوهم ان لا يكون)) بمعنى واحد عند الكل و ((هو الحكم بالبقاء بل)) يقتضي ((ذاك الوجه)) الآخر وهو كون الاستصحاب ذا معان متعدّدة عندهم ، الّا انه لما توهّم لما سيأتي الجواب عنه ، فلا يكون هذا مما يقابل ما استظهره من كونه بمعنى واحد عند الكل.

٣٤٠