بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 946-497-063-2
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٢٣

وأما الحكم باستحقاق العقوبة مع التمكن من الاعادة فإنه بلا فائدة ، إذ مع استيفاء تلك المصلحة لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة التي كانت في المأمور بها ، ولذا لو أتى بها في موضع الآخر جهلا ـ مع تمكنه من التعلم ـ فقد قصر ، ولو علم بعده وقد وسع الوقت.

فانقدح أنه لا يتمكن من صلاة القصر صحيحة بعد فعل صلاة الاتمام ، ولا من الجهر كذلك بعد فعل صلاة الاخفات ، وإن كان الوقت باقيا (١).

______________________________________________________

واذا لم يصح الامر بالصلاة الناقصة على احد هذه الانحاء الاربعة فيتعين ان لا يكون بها امر ، وان الامر الموجود هو الامر بالصلاة على النحو الاكمل الاتم لا غير.

فاتضح مما ذكرنا الوجه في صحة الصلاد الناقصة وعدم الامر بها.

(١) حاصل الجواب عن الاشكال الثاني ، وهو عدم الوجه لحكم المشهور باستحقاق العقوبة على ترك القصر مطلقا ولو كان الوقت متسعا للاعادة

والجواب عنه : ان استيفاء تلك المصلحة الناقصة لا يبقي مجالا لاستيفاء المصلحة الملزمة في القصر ، فالوقت وان كان باقيا إلّا انه لا يتمكن من الاعادة ، فاستحقاق العقوبة لاجل تفويت تلك المصلحة الملزمة في صلاة القصر تقصيرا ، والمقصر بحكم العامد من ناحية استحقاق العقوبة ، وبقاء الوقت لا فائدة فيه بعد ان لا يكون مجال لاستيفاء المصلحة بالصلاة قصرا بعد الصلاة اتماما.

والحاصل : ان الاعادة حيث لا يكون فيها استيفاء للمصلحة لا فائدة فيها ، فبقاء الوقت وعدمه على حد سواء ، فمن تمكن من التعلم وتركه واتى بالاتمام في موضع القصر بمجرد اتيانه بالاتمام يحصل منه التقصير الموجب لاستحقاق العقوبة ، لاتيانه بما لا يبقى معه مجال لاستيفاء مصلحة القصر ولو بقى الوقت ، واتضح ان الوقت وان وسع الاعادة إلّا انه لا يتمكن من الاعادة المتكفلة للمصلحة ، والاعادة غير المتكفلة لها هي صورة إعادة لا إعادة حقيقة ، لانها لا فائدة فيها وبحكم العدم ، ومثل الاتمام في موضع القصر الاجهار في موضع الاخفات وبالعكس حرفا بحرف ، ولذا قال

٢٨١

إن قلت : على هذا يكون كل منهما في موضع الآخر سببا لتفويت الواجب فعلا ، وما هو سبب لتفويت الواجب كذلك حرام ، وحرمة العبادة موجبة لفسادها بلا كلام (١).

______________________________________________________

(قدس‌سره) : ((واما الحكم باستحقاق العقوبة مع التمكن من الاعادة ف)) الوجه فيه ((انها بلا فائدة)) لانها صورة اعادة لا اعادة حقيقة ((اذ)) المفروض انه ((مع استيفاء تلك المصلحة)) الناقصة ((لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة)) التامة ((التي كانت في)) صلاة القصر ((المامور بها)) ويتضح من هذا الوجه لفتوى المشهور باستحقاق العقوبة ولو مع سعة الوقت ، لان المصلحة الناقصة مجرد استيفائها يمنع من استيفاء المصلحة التامة ، فلا فائدة في سعة الوقت للاعادة لانها اعادة صورية لا حقيقية لعدم التمكن منها ، واليه اشار بقوله : ((ولذا لو أتى بها)) أي بالناقصة ((في موضع الآخر)) وهي التامة ((جهلا مع)) فرض ((تمكنه من التعلم فقد قصر)) بمجرد اتيانه بالناقص ((ولو علم بعده)) أي بعد الاتيان ((وقد وسع الوقت)) للاعادة الصورية. واشار الى ان الوقت انما يتسع للاعادة الصورية دون الاعادة الحقيقية ، لانه لا يتمكن منها بعد الاتيان بالناقص بقوله : ((فانقدح انه لا يتمكن من صلاة القصر صحيحة بعد فعل صلاة الاتمام)) وان بقى الوقت ((ولا من الجهر كذلك)) أي ولا يتمكن من صلاة الجهر صحيحة ((بعد فعل صلاة الاخفات وان كان الوقت باقيا)).

(١) توضيح الحال يتوقف على بيان امرين : الأول : انه قد ظهر مما مر ان الاتمام في موضع القصر والاجهار في موضع الاخفات وبالعكس موجب لعدم المجال لاستيفاء المصلحة التامة الكاملة من القصر ولا من الاخفات وبالعكس ، ولازم هذا كون صلاة التمام والصلاة مع الجهر ـ مثلا ـ ضدا لصلاة القصر والصلاة مع الاخفات ، وليس الضدان الا ما كان وجود احدهما موجبا لان لا يبقى مجال معه لوجود الآخر.

٢٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الثاني : ان الكعبي ذهب الى ان وجود احد الضدين مقدمة لعدم الضد الآخر ، ولذلك انكر المباح ، لانه اما ان يكون مقدمة لترك الحرام فيكون واجبا ، او مقدمة لترك واجب فيكون حراما .. وذهب المشهور الى ان عدم الضد من مقدمات وجود الضد الآخر ، لان من جملة ما يتوقف عليه وجود الضد عدم المانع عن وجوده ، لتوقف كل موجود على علته التامة المركبة من وجود المقتضي والشرط ، ومن الشرط عدم المانع ولما كان وجود الضد مانعا عن وجود ضده كان عدم الضد شرطا لوجود الضد ، لانه من عدم المانع الذي هو جزء العلة التامة لوجود الضد.

فاذا عرفت هذا ... نقول : انه اذا كان الاتمام والجهر ـ مثلا ـ ضدا للصلاة التامة ، وبوجودهما لا يبقى مجال للاتيان بصلاة القصر ولا بالصلاة المشتملة على الاخفات ، فبناء على مذهب الكعبي تكون صلاة الاتمام والصلاة مع الجهر حراما ، لانهما يكونان مقدمة لعدم القصر ولعدم الاخفات ، ومن الواضح كون الواجب هو صلاة القصر ، والصلاة مع الاخفات ، وترك الواجب حرام ، ومقدمة الحرام حرام ، واذا كانت صلاة الاتمام والصلاة مع الجهر حراما لا يعقل وقوعهما عبادة وان اشتملا على المصلحة الملزمة ، اذ لا يعقل التقرب بالحرام ، ولا بد من وقوع العبادة مقترنة بقصد القربة ، وقصد ما في العبادة من المصلحة وان كان كافيا في وقوعها قربية ، إلّا انه حيث لا تكون محرمة ، فانه لا يعقل ان يقع المبغوض على صفة المقربية. وعلى هذا النحو ذكر الاشكال في العبادة.

واما بناء على مذهب المشهور القائلين بكون عدم الضد من مقدمات وجود الضد ، لا ان وجود الضد من مقدمات عدم الضد .. فوجه الاشكال : ان صلاة القصر والصلاة مع الاخفات يتوقف وجودهما مشتملين على المصلحة الكاملة على ترك صلاة الاتمام وترك الصلاة مع الجهر ، ومن الواضح كون مقدمة الواجب واجبة ، فيكون ترك صلاة الاتمام وترك الصلاة مع الجهر واجبا ، واذا كان تركهما واجبا كان فعلهما محرما ، لوضوح كون نقيض الواجب حراما ، ففعل صلاة الاتمام

٢٨٣

قلت : ليس سببا لذلك ، غايته أنه يكون مضادا له ، وقد حققناه في محله أن الضد وعدم ضده متلازمان ليس بينهما توقف أصلا (١).

______________________________________________________

وفعل الصلاة مع الجهر يكون حراما لانهما نقيضان لتركهما الواجب لكونه مقدمة لصلاة القصر وللصلاة مع الاخفات الواجبين ، واذا كان فعلهما حراما منع من وقوعهما على نحو المقربية ، لما عرفت من عدم معقولية وقوع ما هو محرم عبادة مقربة. وقد عرفت ان المصنف لم يتعرض للاشكال على هذا المبنى الثاني ، وانما تعرض له على المبنى الأول ، وان كان ما يأتي منه من الجواب يكون جوابا عن الاشكال على المبنى الثاني ايضا. وعلى كل فقد اشار الى الاشكال على المبنى الأول بقوله : ((ان قلت على هذا)) أي على ما ذكرت من عدم امكان استيفاء المصلحة التامة من صلاة القصر ومن الصلاة مع الاخفات بعد فعل صلاة الاتمام والصلاة مع الجهر ، فهما ضدان لصلاة القصر ولصلاة الاخفات ، وحينئذ ((يكون كل منهما في موضع الآخر)) أي يكون كل من صلاة الاتمام في موضع القصر والصلاة مع الجهر في موضع الصلاة مع الاخفات ((سببا لتفويت الواجب فعلا)) فان الصلاة بنحو الاتمام تكون سببا لفوات المصلحة التامة في صلاة القصر الواجبة فعلا ، وكذلك صلاة الاجهار في موضع صلاة الاخفات فانها تكون سببا لتفويت المصلحة التامة في صلاة الاخفات الواجبة فعلا ((و)) من الواضح ان ((ما هو سبب لتفويت الواجب كذلك)) بان لا يبقى مجال للواجب فعلا بسببه ((حرام)) فعله ((و)) لا يصح وقوعه عبادة لان ((حرمة العبادة موجبة لفسادها بلا كلام)).

(١) وحاصله ما تقدم بيانه في مبحث الضد من انه لا مقدمية لاحد الضدين بالنسبة الى الآخر مطلقا ، لا لوجود احد الضدين بالنسبة الى عدم الآخر ولا لعدم احد الضدين بالنسبة الى وجود الآخر ، بل غاية ما ثبت هو كون وجود الضد وعدم الضد الآخر متلازمين في التحقق ، ولا يسري حكم احد المتلازمين الى الآخر ... ومن هذا يتضح ان صلاة الاتمام ليست سببا لتفويت المصلحة في صلاة القصر ، بل

٢٨٤

لا يقال : على هذا فلو صلى تماما أو صلى إخفاتا ـ في موضع القصر والجهر مع العلم بوجوبهما في موضعهما ـ لكانت صلاته صحيحة ، وإن عوقب على مخالفة الامر بالقصر أو الجهر (١).

______________________________________________________

صلاة الاتمام وعدم استيفاء المصلحة من صلاة القصر متلازمان ، وليس بينهما سببية اصلا ، وكذلك الجهر والاخفات.

فظهر انه لا وجه للاشكال بالنحو الأول : من دعوى كون صلاة الاتمام مقدمة لعدم صلاة القصر لتكون محرمة لان ترك صلاة القصر محرم. ولا وجه له على النحو الثاني من دعوى كون عدم صلاة الاتمام مقدمة واجبة لصلاة القصر لتكون محرمة ايضا لان نقيض الواجب حرام ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((ليس سببا لذلك)) أي ليس اتيان كل منهما في موضع الآخر سببا لتفويت الآخر ، بل ((غايته انه يكون)) كل من صلاة الاتمام وصلاة الجهر ((مضادا له)) أي مضادا لما هو الواجب فعلا وهو صلاة القصر وصلاة الاخفات ولا سببية بين الضدين اصلا ، فلا وجود احد الضدين سبب لعدم الضد الآخر ولا عدم احد الضدين مقدمة لوجود الضد الآخر. نعم هناك تلازم بين وجود الضد وعدم الضد الآخر ، والمتلازمان لا يسري حكم احدهما الى الآخر ، وانما السريان منوط بالتوقف والعلية ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((وقد حققناه في محله)) أي في مبحث مسألة الضد ((ان الضد وعدم ضده متلازمان)) ولا سراية في المتلازمين ((وليس بينهما توقف)) وعلية ((اصلا)).

(١) حاصله اشكال آخر على ما التزم به من تصحيح العقاب لمن صلى تماما في موضع القصر وجهرا في موضع الاخفات وبالعكس لترك الفحص والتعلم تقصيرا ، مع التزامه باشتمال ما اتى به على مصلحة لازمة في حد ذاتها وان كانت دون المشتملة على المصلحة التامة الكاملة. وملخص هذا الاشكال : انه بعد اشتمال الاتمام والجهر ـ مثلا ـ على ترك المصلحة اللازمة في حد ذاتها ينبغي ان يلتزم بصحة الاتيان بالاتمام أو الجهر ولو مع العلم بان الغرض هو القصر والاخفات وان عوقب على ترك

٢٨٥

فإنه يقال : لا بأس بالقول به لو دل دليل على أنها تكون مشتملة على المصلحة ولو مع العلم ، لاحتمال اختصاص أن يكون كذلك في صورة الجهل ، ولا بعد أصلا في اختلاف الحال فيه باختلاف حالتي العلم بوجوب شيء والجهل به ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

القصر والاخفات عمدا. اما صحة الاتيان بها فلاجل اشتمالها على المصلحة اللازمة وعدم احتياج صحة الصلاة معها الى الامر كما مر بيانه ، بل نفس قصد الاتيان بما اشتمل على تلك المصلحة الملزمة كاف في صحة ما اتى به وعباديته. واما العقاب على ترك القصر والاخفات فلتفويت المصلحة اللازمة فيها ايضا عن علم وعمد ، ولانه اذا صح العقاب مع التقصير في صورة الجهل صح العقاب مع العلم والعمد بطريق اولى ، وهذا مما لا يسع احد الالتزام به ، خصوصا مع تصريح الصحيحين المتقدمين بلزوم الاعادة مع العمد ، لقوله في الأول : ان كان قرئت عليه آية التقصير وفسرت له وصلى اربعا اعاد ، ولقوله في الثاني أي ذلك فعل متعمدا فقد نقض صلاته وعليه الاعادة. وعلى كل فقد اشار الى لازم ما ذكره هو الالتزام بصحة الاتيان ولو مع العلم والعمد بقوله : ((على هذا)) وهو اشتمال الاتمام والاخفات ـ مثلا ـ على المصلحة اللازمة في حد ذاتها غير المحتاجة عباديتها ووقوعها صحيحة الى قصد الامر انه ((فلو صلى تماما او صلى اخفاتا في موضع القصر والجهر)) ولو كان ذلك ((مع)) العمد و ((العلم بوجوبهما في موضعهما)) بان صلى تماما مع علمه بان فرضه القصر ، وكذلك الاخفات في موضع الجهر وبالعكس ((لكانت صلاته صحيحة)) لعدم احتياج الصحة فيهما الى الامر واشتمالها على المصلحة اللازمة وان كانت دون حد المصلحة التامة التي تفوت بعد الاتيان بهما ، ولذا صح العقاب على تركها واليه اشار بقوله : ((وان عوقب على مخالفة الامر بالقصر أو الجهر)).

(١) حاصل الجواب : ان ما التزمه (قدس‌سره) من صحة الصلاة الناقصة مع التقصير والعقاب على ترك الصلاة التامة غاية ما يلزمه هو الالتزام باشتمال صلاة الاتمام في

٢٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

موضع القصر والصلاة مع الاخفات او الجهر كل في موضع الآخر على المصلحة في حال الجهل ، كما دل الصحيحان على صحة الصلاة في الموردين في حال الجهل ، ولازم هذا هو اشتمالها على المصلحة المذكورة مقيدة بحال الجهل ، فلو دل دليل على صحتهما في حال العلم والعمد ايضا لالتزمنا باشتمالهما على المصلحة في هذه الحال ايضا ولقلنا بالصحة ايضا.

والحاصل انه لا مانع عقلا من ان يكون الجهل دخيلا في اشتمالهما على المصلحة المذكورة ، وعند انتفائه بالعلم لا يكونان مشتملين على المصلحة فلذا لا يقعان صحيحين في حال العمد والعلم.

فاتضح مما ذكرنا : ان المدار على الدليل الدال على الصحة ، فان دل على الاختصاص بحال الجهل استكشفنا كون الجهل دخيلا في ترتب المصلحة ، وان دل الدليل على الصحة في حال العلم ايضا استكشفنا عدم دخالة الجهل.

والحاصل انه انه لا مانع من القول بالصحة في حال العلم والعمد لو كان هناك دليل شرعي يدل على الصحة في ذلك المقام ، ولكن حيث انه لم يقم دليل شرعي على ذلك وانما قام على الصحة مقيدة بحال الجهل ، فلا بد من الالتزام بهذا المقدار لاحتمال دخالة الجهل في ترتب المصلحة. وقد اشار الى ذلك بقوله : ((فانه يقال لا بأس بالقول به)) أي لا بأس بالقول بالصحة في حال العلم والعمد ((لو دل الدليل على انها تكون مشتملة على المصلحة ولو مع العلم)) وحيث انه لم يدل دليل شرعي على ذلك وانما دل على الحصة في حال الجهل فلا وجه للقول به ((لاحتمال اختصاص ان يكون كذلك)) أي لاحتمال ان يكون الاشتمال على المصلحة مقيدا ((في صورة الجهل)) ثم اشار الى انه لا مانع عند العقل من ان يكون لحالتي العلم والجهل دخل في عدم ترتب المصلحة وترتبها بقوله : ((ولا بعد اصلا في اختلاف الحال فيه)) أي في عدم ترتب المصلحة وترتبها ((باختلاف حالتي العلم بوجوب شيء والجهل به)).

٢٨٧

وقد صار بعض الفحول بصدد بيان إمكان كون المأتي به في غير موضعه مأمورا به بنحو الترتب ، وقد حققناه في مبحث الضد امتناع الامر بالضدين مطلقا ، ولو بنحو الترتب ، بما لا مزيد عليه فلا نعيد (١).

______________________________________________________

(١) قد عرفت ان صحة الصلاة مع الاتمام في موضع القصر في مقام الجهل انما هي لاشتمالها على المصلحة ـ وكذلك الجهر والاخفات ـ لا لانها مأمور بها ، فان الامر بها على ما عرفت انما يكون لوجوه اربعة وهي : الامر التعييني ، والتخييري ، او على نحو تعدد المطلوب. وقد تقدم الكلام في عدم امكانه على هذه الثلاثة ... والرابع ان يكون الامر على نحو الترتب ، وهو الذي صار اليه بعض الفحول ـ وهو كاشف الغطاء ـ من تصحيح قصد الامر في المقام على نحو الترتب.

وتوضيحه : ان تصحيح الامر بالمهم مع العقاب على ترك الاهم بنحو الترتب يتأتى في المقام ايضا ، لان القصر والاتمام متضادان كالازالة والصلاة ، والقصر هو المامور به اولا كالامر بالاهم وهو الازالة مثلا ، وحيث لم يكن المكلف بصدد امتثاله فلا مانع من ان يأمر المولى بالاتمام كما يامر بالمهم وهو الصلاة ، حيث لم يكن المكلف بصدد امتثال الازالة ، وكما يعاقب على ترك الازالة للعصيان كذلك يعاقب في المقام على ترك القصر للعصيان ، لان المفروض كون الجهل عن تقصير ، وهو بحكم العامد من حيث العصيان وصحة العقاب عليه.

وقد اجاب عنه المصنف على مختاره : من عدم امكان الامر على نحو الترتب ، وان الترتب غير معقول كما تقدم بيانه مفصلا في مبحث الضد ، فتصحيح قصد الامر في المقام بنحو الترتب فاسد لعدم معقولية الترتب من أصله في مقامه. وقد اشار الى التصحيح بنحو الترتب بقوله : ((وقد صار بعض الفحول بصدد بيان امكان كون الماتي به في غير موضعه)) كالاتمام في المقام الماتى به في غير موضعه ، لان موضعه هو القصر دون الاتمام ، بان يقصد الامر به ويكون ((مامورا به على نحو الترتب)) كما يكون المهم مامورا به مع الاتيان به في غير موضعه ، فان موضعه هو الامر بالاهم

٢٨٨

ثم إنه ذكر لاصل البراءة شرطان آخران : أحدهما : أن لا يكون موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى.

ثانيهما : أن لا يكون موجبا للضرر على آخر.

______________________________________________________

وهو الازالة ، ولكنه حيث يعصى المكلف ولا يأتي بالاهم فلا مانع من ان يكون المهم مامورا به على نحو الترتب. واشار الى الجواب بعدم صحة ذلك في المقام لعدم صحة اصل القول بالترتب بقوله : ((وقد حققناه في مبحث الضد)) وحاصل التحقيق هو ((امتناع الامر بالضدين مطلقا)) لا بنحو العرضية ولا بنحو الطولية التي هي مبنى الترتب : أي لا بنحو افعل هذا الاهم ، وافعل هذا الضد المهم ، كل منهما في عرض الآخر ، ولا بنحو الطولية والترتب : أي بنحو افعل الاهم ، فان لم تفعل الاهم فافعل المهم. واليه اشار بقوله : ((ولو بنحو الترتب)).

ثم لا يخفى انه بناء على القول بالترتب في محله من صحة الامر بالمهم عند عصيان الاهم فيمكن الاتيان بالمهم بنحو قصد امتثال امره ، لكنه لا يتأتى في المقام ذلك ، والوجه في عدم تأتيه هو ان الامر بالمهم بنحو الترتب انما يكون حيث يتحقق العصيان للاهم ، بنحو ان يكون الامر بالمهم مقارنا لعصيان الامر بالاهم ، فزمان عصيان الامر بالاهم هو زمان الامر بالمهم ، فالامر بالمهم يكون مقارنا في الزمان لعصيان الامر بالاهم ، ولذا يصح للمولى ـ بناء على الترتب ـ ان يقول ان لم تفعل الاهم فافعل المهم ، ولا يتأتى هذا في المقام ، لان عصيان الامر بالقصر لا يكون مقارنا لاتيان الاتمام ، بل انما يكون بعد استيفاء مقدار من المصلحة لا يتأتى معها استيفاء مصلحة القصر ، وذلك بعد الانتهاء من الاتيان بالاتمام ، ومع انتهاء الاتيان به لا وجه للامر به ، لوضوح عدم صحة الامر بالاتمام بعد الاتمام ، فقبل انتهاء الاتيان به لا امر به على نحو الترتب ، لعدم تحقق عصيان القصر ، وبعد تحقق عصيان القصر لا امر بالاتمام لفرض الاتيان به ، فلا يتأتى التصحيح في المقام على نحو الترتب ، وان قلنا بصحة الترتب في محله.

٢٨٩

ولا يخفى أن أصالة البراءة عقلا ونقلا في الشبهة البدوية بعد الفحص لا محالة تكون جارية ، وعدم استحقاق العقوبة الثابت بالبراءة العقلية والاباحة أو رفع التكليف الثابت بالبراءة النقلية ، لو كان موضوعا لحكم شرعي أو ملازما له فلا محيص عن ترتبه عليه بعد إحرازه (١) ، فإن لم

______________________________________________________

(١) الذي ذكر هذين الشرطين هو الفاضل التوني ، ومن الواضح انهما غير شرط الفحص الذي تقدم الكلام فيه ، وقد عرفت انه شرط للبراءة ، اما لجريانها كما في البراءة العقلية لان اللابيان الذي هو موضوعها يراد به عدم البيان فيما كان المعتاد وجود البيان فيه ، وهو ككتب الحديث وموارد الاجماعات المستفادة من فتاوى الفقهاء في كتبهم والكتاب الكريم وما ورد من الاحاديث المعتبرة في تفسيره ، ولا يكاد يحصل عدم البيان الماخوذ موضوعا في البراءة العقلية الا بعد الفحص في تلك الموارد واليأس عن الدليل فيها .. او لكون الفحص شرطا للعمل بها وان لم يؤخذ عدم البيان في موضوعها كالبراءة النقلية ، لان الموضوع فيها هو الشك في الحكم وعدم العلم به ، ولكنه دل الدليل على عدم جواز العمل بها الا بعد الفحص كما تقدم بيانه. والحاصل : ان هذين الشرطين غير شرط الفحص.

ثم لا يخفى ان الشرط الأول المذكور وهو ان لا يكون موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة اخرى غير صحيح على كل حال ، لان المراد منه ان كان عدم جريان البراءة في نفي الحكم الثابت في موردها من جهة اخرى كوجوب الاحتياط في الفروج أو الدماء الثابت في مورد البراءة فهو واضح البطلان ، لان عدم جريانها فيه انما هو لثبوت الحكم الشرعي ، والمفروض ان موضوعها هو الشك في الحكم الشرعي فلا تجري البراءة العقلية لوجود البيان للحكم ، ولا تجري البراءة النقلية للعلم بالحكم ، ولا يصح عد هذا من شرائط البراءة بل مرجعه الى عدم الموضوع للبراءة.

وان كان المراد منه عدم جريانها في الحكم المشكوك غير هذا الحكم الثابت من جهة اخرى بكلا قسميه الآتيين ، والاول ما كان الموضوع فيه هو عدم الحكم في مرتبة

٢٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الظاهر كما لو شككنا في نجاسة مغلي التمر فجرت البراءة عن نجاسته ، وقد ثبت لنفي نجاسة المشكوك في الظاهر عدم المانعية من ناحية الصلاة فيها. والثاني : ما كان الموضوع للحكم الثابت من جهة اخرى هو الملازم لمورد البراءة ، وذلك كما في المثال ولكن كان الحكم الثابت في موردها هو شرطية الطهارة للصلاة ، فانه يلازم نفي النجاسة في المشكوك بالبراءة ثبوت الطهارة للمشكوك في مرحلة الظاهر ، والطهارة الثابتة بقوله عليه‌السلام كل شيء طاهر هي موضوع لجواز الصلاة في ذلك المشكوك طهارته ، فهو ايضا غير صحيح ، لان الحكم الشرعي الثابت في مورد البراءة اما ان يكون الموضوع فيه هو عدم الحكم في مرتبة الظاهر الحاصل بالبراءة ، او كان الموضوع فيه امرا ملازما لعدم الحكم في الظاهر. فان كان الموضوع هو نفس عدم الحكم في الظاهر الحاصل بواسطة البراءة فالبراءة جارية ويثبت بواسطتها نفي التكليف ظاهرا ، ويثبت بواسطتها ايضا الحكم الشرعي الذي موضوعه عدم الحكم في مرتبة الظاهر ، لانه من الواضح عدم معقولية مانعية الحكم عن البراءة الذي موضوعه نفي التكليف في مرتبة الظاهر الحاصل بواسطة البراءة. وان كان الموضوع فيه هو الامر الملازم لنفي التكليف في مرتبة الظاهر فالبراءة تجري في نفي الحكم المشكوك ، والحكم الشرعي الذي موضوعه الامر الملازم لنفي الحكم في مرتبة الظاهر يثبت ايضا لتحقق موضوعه قطعا ، لان المفروض ان موضوعه هو الملازم لعدم الحكم في مرتبة الظاهر ، وعدم الحكم في مرتبة الظاهر مقطوع به وان كان ثبوته واقعا مشكوكا فيه ، ومع فرض كون الملازم ملازما لعدم الحكم في مرتبة الظاهر المقطوع به لا بد وان يكون الملازم مقطوعا به ، لوضوح كون القطع باحد المتلازمين موجبا للقطع بالملازم الآخر له ، وليس من الاصل المثبت ، فان الاصل المثبت ما كان الحكم ثابتا لاحد المتلازمين تعبدا ، وحيث لا ملازمة بين ثبوت الحكم تعبدا لاحد المتلازمين في ثبوته تعبدا للملازم الآخر فلذا كان ثبوت الحكم للملازم الآخر من الاصل المثبت ، بل حتى فيما اذا قام الدليل على حجية الظن في خصوص احد المتلازمين فانه لا يكون موجبا لثبوت الحكم في الملازم

٢٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

وان حصل الظن به ، لفرض اختصاص حجية الظن باحد المتلازمين دون الآخر ، كما لو قام الدليل على حجية الظن في القبلة فانه يحصل الظن بالزوال اذا زالت الشمس عن ذلك الخط ، ولكنه لا يكون هذا الظن حجة بل لا بد من العلم بالزوال او قيام البينة عليه. وعلى كل فالحكم المرتب على الملازم المقطوع به في مورد نفي التكليف في مرتبة الظاهر يثبت بنفسه لثبوت موضوعه ، ولا يكون مانعا عن جريان البراءة في نفي التكليف في مرتبة الظاهر ، لان الحكم الملازم ثبوته لنفي التكليف في مرتبة الظاهر كيف يكون مانعا عما ينفي التكليف في مرتبة الظاهر؟ مضافا الى ان المانع عن البراءة هو المثبت للتكليف في موردها الذي يكون مجرى للبراءة لو لا الدليل عليه ، ومن الواضح ان مجرى البراءة هو التكليف الفعلي الواقعي في مرتبة الظاهر ، وموضوع هذا الحكم الشرعي هو الملازم لنفي التكليف ، فموضوع كل منهما غير موضوع الآخر ، ولا يعقل مانعية تكليف لموضوع عن تكليف لموضوع آخر ... هذا كله فيما اذا كان الموضوع للحكم الشرعي الثابت من جهة اخرى اما نفس عدم استحقاق العقاب على مخالفة التكليف في مرتبة الظاهر الثابت بالبراءة العقلية او النقلية ، او كان الموضوع له ما هو الملازم لذلك.

واما اذا كان الموضوع للحكم الشرعي الثابت من جهة اخرى هو نفي التكليف واقعا لا ظاهرا : أي كان الحكم مرتبا على نفي التكليف الواقعي لا على نفي الحكم في مرتبة الظاهر وعدم استحقاق العقوبة على مخالفته فسيأتي الاشارة اليه.

وقد اشار الى ما ذكرنا من ان الحكم الشرعي الثابت من جهة اخرى اذا كان مرتبا على نفي التكليف ظاهرا وعدم استحقاق العقاب على مخالفته ، او كان مرتبا على الملازم له لا يعقل يكون مانعا عن جريان البراءة ، ويكون عدمه شرطا في جريانها بقوله : ((ولا يخفى ان اصالة البراءة عقلا ونقلا في الشبهة البدوية بعد الفحص)) الذي هو اهم موارد جريان البراءة ، لان مورد العلم الاجمالي الذي يلزم من ارتكاب طرفيه المخالفة العملية لا مجرى للبراءة فيه قطعا ، والذي لا يلزم منه

٢٩٢

يكن مترتبا عليه بل على نفي التكليف واقعا ، فهي وإن كانت جارية إلا أن ذاك الحكم لا يترتب ، لعدم ثبوت ما يترتب عليه بها ، وهذا ليس بالاشتراط (١).

______________________________________________________

مخالفة عملية في جريانها وعدم جريانها قولان : فان قلنا بعدم الجريان فحاله حال ما يلزم منه مخالفة عملية. وان قلنا بجريانها فحالها حال الشبهة البدوية. وعلى كل فان البراءة في الشبهة البدوية بعد الفحص ((لا محالة تكون جارية و)) لا يمنع عن جريانها الحكم الشرعي الثابت من جهة اخرى ، فيما اذا كان الموضوع المرتب عليه هو نفس ((عدم استحقاق العقوبة الثابت بالبراءة العقلية)) او كان الموضوع له هو الحكم بالحل الظاهري ((والاباحة)) ظاهرا المستفادة من قوله كل شيء لك حلال ((او)) كان الموضوع له نفس ((رفع التكليف الثابت ب)) رفع ما لا يعلمون ، فالمستفاد من ((البراءة النقلية)) المتكفل لها قاعدة الحل ودليل الرفع كان هو الموضوع للحكم الشرعي الثابت من جهة اخرى ((او)) كان الموضوع له ((ملازما له فلا محيص عن ترتبه عليه بعد احرازه)) وقد عرفت انه في كلا الفرضين لا يكون مانعا عن جريان البراءة.

(١) يشير بهذا الى ما كان الموضوع للحكم الشرعي الثابت من جهة اخرى هو عدم التكليف ونفيه واقعا لا ظاهرا ، كما لو شككنا في مال كونه لزيد والاصل البراءة ، فالبراءة تنفي كونه لزيد في مرحلة الظاهر ، ولكن نفي حرمة التصرف في مال الغير المنوط بإذنه لا يثبت بمجرد كونه ليس لزيد ظاهرا ، بل لا بد من ثبوت كونه ليس لزيد واقعا حتى لا يكون التصرف فيه منوطا باذنه. فانه ايضا لا يكون مانعا عن جريان البراءة في مرحلة الظاهر ، لان المفروض فرض الشك في الحكم الواقعي لا العلم بعدمه ، فلا يترتب الحكم الذي موضوعه نفي التكليف واقعا فكيف يكون مانعا عن جريان البراءة في مقام الشك فيه؟ ومنه يظهر عدم ترتب الحكم الشرعي الذي كان موضوعه مرتبا على عدم التكليف واقعا بواسطة البراءة ، لانها انما تنفي التكليف في

٢٩٣

وأما اعتبار أن لا يكون موجبا للضرر ، فكل مقام تعمه قاعدة نفي الضرر وإن لم يكن مجال فيه لاصالة البراءة ، كما هو حالها مع سائر القواعد الثابتة بالادلة الاجتهادية ، إلا أنه حقيقة لا يبقى لها مورد ، بداهة أن الدليل الاجتهادي يكون بيانا وموجبا للعلم بالتكليف ولو

______________________________________________________

مرتبة الظاهر دون الواقع فلا يتحقق بجريانها ما هو الموضوع له. وقد اشار الى عدم مانعيته عن جريان البراءة بقوله : ((فهي وان كانت جارية)) واشار الى عدم ترتبه بواسطة جريان البراءة بقوله : ((إلّا ان ذاك الحكم)) الذي كان موضوعه بحسب الفرض هو عدم التكليف واقعا لا ظاهرا ((لا يترتب)) بواسطة جريان البراءة ((لعدم ثبوت)) موضوعه و ((ما يترتب عليه بها)) أي بواسطة البراءة.

وقد اتضح مما ذكرنا : ان هذا الشرط الأول الذي ذكره شرطا لجريان البراءة بمعنى كون تحققه مانعا عن جريانها ليس هو بمانع عن جريانها ، والى هذا اشار بقوله : ((وهذا ليس بالاشتراط)).

ثم لا يخفى ان المصنف ذكر في الفرض الأول احتمالين : احتمال كون الموضوع للحكم الشرعي الثابت من جهة اخرى نفس نفي التكليف في مرتبة الظاهر ، واحتمال كون الموضوع له الملازم لنفي الحكم في مرتبة الظاهر ، وفي الفرض الثاني لم يذكر الا كون الموضوع للحكم الشرعي الثابت من جهة اخرى هو نفي التكليف الواقعي ، ولم يذكر احتمال كون الموضوع له هو الملازم لنفي التكليف الواقعي. ولعل السبب في عدم ذكره هو وضوح الحال فيه مما ذكره في نفي التكليف الواقعي من حيث عدم مانعيته عن جريان البراءة ، لعدم ثبوته بعد تحقق موضوعه لفرض الشك في الحكم الواقعي ، ولازمه الشك في ملازمه ايضا ، فعلى فرض كونه مانعا لا تتحقق مانعيته مع الشك في تحقق موضوعه. واما من حيث عدم ثبوته بادلة البراءة فلانه بعد ان كانت البراءة لا تقتضي ثبوت الملزوم الذي هو نفي التكليف الواقعي فعدم اقتضائها لثبوت الملازم له بطريق اولى. والله العالم.

٢٩٤

ظاهرا ، فإن كان المراد من الاشتراط ذلك ، فلا بد من اشتراط أن لا يكون على خلافها دليل اجتهادي ، لا خصوص قاعدة الضرر ، فتدبر ، والحمد لله على كل حال (١).

______________________________________________________

(١) يشير الى الجواب عن الشرط الثاني الذي ذكره الفاضل التوني للبراءة. وحاصله : ان دليل البراءة انما يجري حيث لا يكون موجبا للضرر على الآخر ، كما لو فرضنا ـ مثلا ـ شك فاعل النجش في حرمة النجش ، ولم يكن هناك دليل خاص على حرمته فلا تجري البراءة عن حرمة النجش بعد ان كان النجش ضررا على الغير ، فان دليل لا ضرر حاكم على دليل البراءة.

وحاصل الجواب : ان اصالة البراءة العقلية منها والنقلية لا موضوع لها مع وجود الدليل الاجتهادي على الحكم ، وقاعدة الضرر دليل اجتهادي على رفع الحكم في مورد البراءة ، وهي حاكمة على ساير الادلة الأخر فضلا عن البراءة ، ومن الواضح ان الشرط للبراءة انما هو في مقام يكون موضوع البراءة محققا ، فالمانع يكون حينئذ مانعا عن مجرى البراءة ، اما اذا كان لا موضوع للبراءة من رأس فلا وجه للمانعية. فالفاضل التوني ان كان مراده من اشتراط عدم الضرر في جريان البراءة هو كون دليل الضرر مانعا مع تحقق موضوع البراءة فهو غير صحيح ، لان الموضوع للبراءة العقلية هو اللابيان ، ومع تحقق دليل الضرر فالبيان متحقق فلا موضوع لها ، والموضوع لدليل الرفع وقاعدة الحل هو عدم العلم ، ودليل الضرر علم ، ومع تحقق العلم لا موضوع لهما ايضا. وان كان مراده انه لا موضوع للبراءة مع دليل الضرر فهو صحيح لكنه لا يختص هذا بدليل الضرر ، بل لا بد من عدم وجود أي دليل اجتهادي آخر على الحكم في مورد البراءة ، فلم يظهر وجه التنصيص لقاعدة الضرر بخصوصها.

وقد اشار الى حكومة قاعدة الضرر على البراءة ، إلّا انه ليس من باب الشرط لجريانها ، بل هو لعدم الموضوع للبراءة وان قاعدة الضرر تحكم على ساير الاحكام

٢٩٥

ثم إنه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان قاعدة الضرر والضرار على نحو الاقتصار (١) ، وتوضيح مدركها وشرح مفادها ، وإيضاح نسبتها مع الادلة المثبتة للاحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الاولية أو الثانوية ، وإن كانت اجنبية عن مقاصد الرسالة ، إجابة لالتماس بعض الاحبة (٢).

______________________________________________________

الواقعية والظاهرية فضلا عن البراءة بقوله : ((واما اعتبار ان لا يكون موجبا للضرر فكل مقام تعمه قاعدة نفي الضرر وان لم يكن مجال فيه لاصالة البراءة)) بل لا مجال مع تحقق قاعدة نفي الضرر للادلة الأخر من الادلة الاجتهادية الدالة على الحكم واقعيا كان أو ظاهريا. والى هذا اشار بقوله : ((كما هو حالها مع سائر القواعد الثابتة بالادلة الاجتهادية)) واشار الى انه ليس هذا من الشرط بل هو لعدم الموضوع للبراءة بقوله : ((إلّا انه حقيقة لا يبقى لها مورد بداهة ان الدليل الاجتهادي يكون بيانا)) فلا موضوع للبراءة العقلية ((و)) يكون ((موجبا للعمل بالتكليف ولو ظاهرا)) فلا موضوع لدليل الرفع وقاعدة الحل. واشار الى ان المراد من الاشتراط هو عدم الموضوع للبراءة ، فلا يختص ذلك بقاعدة الضرر بل كل دليل دل على الحكم في مورد البراءة ولو كان حكما ظاهريا لا موضوع معه للبراءة بقوله : ((فان كان المراد من الاشتراط ذلك فلا بد من اشتراط ان لا يكون على خلافها)) أي على خلاف البراءة ((دليل اجتهادي)) اصلا ف ((لا خصوص)) لنفس ((قاعدة الضرر)).

(١) لا يخفى ان قاعدة الضرر من القواعد الفقهية ، لان المستفاد منها حكم شرعي بلا واسطة وهو الجعل الشرعي لرفع الحكم الضرري ، اما بلسان رفع موضوعه ، او برفع الحكم الضرري بنفسه لا بلسان رفع موضوعه كما سيأتي بيانه. وحيث ان وضع الكتاب للبحث عن المسائل الاصولية فالبحث عن قاعدة الضرر اجنبي عن مقصده ، ولذا قال : ((وان كانت)) أي قاعدة الضرر ((اجنبية عن مقاصد الرسالة)).

(٢) الجهات التي اشار اليها المصنف الى البحث عنها في قاعدة الضرر أربع : جهة السند ، واليها اشار بقوله : ((توضيح مدركها)) أي توضيح جهة حجيتها من ناحية

٢٩٦

فأقول وبه أستعين : إنه قد استدل عليها بأخبار كثيرة :

منها : موثقة زرارة (١) ، عن أبي جعفر عليه‌السلام : إن سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الانصار ، وكان منزل الانصاري بباب البستان ، وكان سمرة يمر إلى نخلته ولا يستأذن ، فكلمه الانصاري أن يستأذن إذا جاء فأبى سمرة ، فجاء الانصاري إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشكا إليه ،

______________________________________________________

السند. وجهة الدلالة المستفادة منها واليها اشار بقوله : ((وشرح مفادها)) وجهة نسبتها مع الادلة الدالة على الاحكام للموضوعات بعناوينها الاولية كالادلة الدالة على وجوب الصلاة وحرمة الخمر واليها اشار بقوله : ((وايضاح نسبتها)) أي ايضاح نسبة قاعدة الضرر ((مع الادلة المثبتة للاحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الاولية)) فان مثل الصلاة والخمر هو العنوان الاولي الذي ثبت الحكم له وجوبا او حرمة. وجهة نسبتها مع الادلة المثبتة لاحكام الموضوعات بعناوينها الثانوية كالوجوب الثابت للشيء بعنوان كونه اطاعة الوالدين ، او بعنوان كونه منذورا ، فانه حكم بالوجوب للشيء لا بعنوانه الاولي ، بل بعنوان ثانوي وهو كونه اطاعة للوالدين او كونه منذورا. واما بعنوانه الاولي فليس ذلك الشيء بواجب كما لو امر احد الوالدين ابنه بفعل شيء مباح بذاته او راجح ، كأن يسافر الى محلّ او يكرم مؤمنا ، فان السفر بنفسه مباح والاكرام للمؤمن راجح بذاته ، ولكن بعنوان كونهما اطاعة الوالدين يكونان واجبين بعد تعلق الامر بهما لزوما من احد الوالدين ، وهذا عنوان ثانوي للشيء لا اولي. ومثله النذر المتعلق براجح فانه قبل تعلق النذر ليس بواجب بعنوان نفسه ، بل هو راجح بناء على اشتراط الرجحان في متعلق النذر ، او مباح بناء على صحة تعلقه بالمباح ، ولكن بعد تعلّق النذر به يكون واجبا بعنوان كونه منذورا وهو عنوان ثانوي لا اولي. واليه اشار بقوله : ((او الثانوية)).

(١) انما كانت هذه الرواية موثقة بحسب الاصطلاح لا صحيحة لوجود ابن بكير في جملة رجال السند وهو من الموثقين.

٢٩٧

فأخبر بالخبر ، فأرسل رسول الله وأخبره بقول الانصاري وما شكاه ، فقال : إذا أردت الدخول فاستأذن ، فأبى ، فلما أبى ساومه حتى بلغ من الثمن ما شاء الله ، فأبى أن يبيعه ، فقال : لك بها عذق في الجنة ، فأبى أن يقبل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للانصاري : اذهب فاقلعها وارم بها إليه ، فإنه لا ضرر ولا ضرار.

وفي رواية الحذاء عن أبي جعفر عليه‌السلام مثل ذلك ، إلا أنه فيها بعد الإباء ما أراك يا سمرة إلا مضارا ، اذهب يا فلان فاقلعها وارم بها وجهه إلى غير ذلك من الروايات الواردة في قصة سمرة (١) وغيرها وهي

______________________________________________________

(١) العذق بفتح العين المهملة وسكون الذال المعجمة كفلس ، هو النخلة بحملها ، والعذق بكسر العين وسكون الذال هو عنقود التمر كما في مجمع البحرين ، والحائط هو البستان ، وكان البستان للانصاري ومنزله بباب بستانه ، وفي هذا البستان نخلة واحدة لسمرة بن جندب ، ولما كان الطريق الى البستان من منزل الانصاري لان منزله على باب بستانه ، فكان سمرة يدخل منزل الانصاري لان يصل لنخلته التي في بستان الانصاري ، ولكنه كان يدخل منزل الانصاري من دون استئذان اهل المنزل بدخوله ، وكثيرا ما يكون نساء المنزل على غير استعداد ، فلذلك شكاه الانصاري الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وطلب منه محض الاستئذان للدخول بتوسط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومع ذلك لم يستجب سمرة لطلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلذا ساومه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبذل له اضعافا مضاعفة لقيمة نخلته فلم يقبل سمرة ، فاضاف رسول الله له العذق في الجنة المستلزم لدخوله للجنة فلم يقبل ايضا ، فظهر بوضوح ان غرض سمرة الانصاري دون المالية الدنيوية والثواب الاخروي ، وليس ذلك ببعيد عن طبع سمرة ، فان التاريخ حدثنا ان سمرة لما استخلصه زياد على البصرة قتل الكثير من الابرياء بأرجل الخيل ، لانه كان يخرج مع حاشيته على الخيل راكضين في الطرق المأهولة بالمارة فتدوس خيله كل من لا يستطيع الابتعاد عنها ، فبلغ المقتولون بارجل خيله

٢٩٨

كثيرة (١) وقد ادعي تواترها ، مع اختلافها لفظا وموردا ، فليكن المراد به تواترها إجمالا ، بمعنى القطع بصدور بعضها ، والانصاف أنه ليس في دعوى التواتر كذلك جزاف (٢) ، وهذا مع استناد المشهور إليها موجب لكمال الوثوق بها وانجبار ضعفها ، مع أن بعضها موثقة ، فلا مجال للاشكال فيها من جهة سندها ، كما لا يخفى (٣).

______________________________________________________

آلافا مؤلّفة ، ولا يكاد ينقضي عجبي من البخاري كيف يعد روايته من الصحاح ، مضافا الى ما صدر منه من الوضع للحديث الكاذب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وغير ذلك من مطاعنه المذكورة في كتب الرجال.

(١) المراد هي الروايات الواردة المتضمنة للاضرر ولا ضرار من دون اشارة فيها الى قصة سمرة.

(٢) المدعي لتواترها هو فخر المحققين. وحيث ان الرواية لم تبلغ التواتر اللفظي ولا المعنوي بمعنى كون مضمونها ومعناها متواترا ، فلا بد وان يكون المراد من تواترها هو التواتر الاجمالي الذي اشار الى تفسيره في العبارة بقوله : ((بمعنى القطع بصدور بعضها)). وقد اشار المصنف الى ان دعوى تواترها الاجمالي ليس ببعيد بقوله : ((والانصاف ... الى آخر الجملة)).

(٣) حاصله : انها لو لم تكن متواترة فالعلم باستناد المشهور اليها في مقام الفتوى بكسبها صفة الوثوق الموجب لاندراجها فيما هو الحجة من الاخبار ، لما مرّ من أن استناد المشهور الى الرواية الضعيفة في مقام الفتوى يوجب انجبار ضعف سندها. هذا مع ان بعض الروايات موثقة زرارة ، والرواية الموثقة بحسب الاصطلاح هو كون الرواية بعض رواتها غير امامي ولكنه ثقة مأمون ، والرواية انما عدّت من الموثق لاشتمالها على ابن بكير وهو فطحي ولكنه ثقة مامون ، فلا شبهة في ان قاعدة لا ضرر ولا ضرار من حيث. سندها حجة وقد اشار المصنف الى كلا الامرين في عبارته ، وهي واضحة ايضا.

٢٩٩

وأما دلالتها ، فالظاهر أن الضرر هو ما يقابل النفع ، من النقص في النفس أو الطرف أو العرض أو المال ، تقابل العدم والملكة (١) ، كما أن الاظهر أن يكون الضرار بمعنى الضرر جيء به تأكيدا ، كما يشهد به إطلاق المضار على سمرة ، وحكي عن النهاية لافعل الاثنين ، وإن كان هو الاصل في باب المفاعلة ، ولا الجزاء على الضرر لعدم تعاهده من باب المفاعلة (٢) ،

______________________________________________________

(١) هذه الجهة الثانية وهي الكلام فيما يستفاد من القاعدة في مقام الدلالة ، وهي عبارة عن ثلاث كلمات : لفظة الضرر ، ولفظة الضرار ، ولفظة (لا). وببيان المراد من هذه الكلمات الثلاث يتضح المراد من القاعدة.

اما لفظة الضرر فقد فسروه بانه النقص في النفس ، او الطرف كالعضو ، او العرض ، او المال. وحيث ان النقص امر عدمي فلا يكون بين الضرر وبين النفع تضاد بحسب الاصطلاح ، لان التضاد اصطلاحا هو المعاندة والتقابل بين الامرين الوجوديين كالسواد والبياض مثلا. ويظهر من المصنف ان الضرر في قبال النفع ، وحيث ان النفع هو الزيادة فيكون الضرر هو عدم الزيادة عمّا من شأنه الزيادة ، فيكون التقابل بينهما من تقابل العدم والملكة. ولا يخفى انه بعد أن كان الضرر هو النقص ، وحيث ان عدم الزيادة لا تستلزم النقص دائما بل ربما تكون عدم الزيادة ولا نقص ، فالظاهر ان الضرر هو عدم التمامية عمّا من شأنه ان يكون تاما ، فان كل ما ليس بتام فيما شأنه ان يكون تاما فهو ناقص ، وهو مستلزم لعدم الزيادة قطعا ، فالضرر يقابل التمامية اولا وبالذات ، ويقابل الزيادة التي هي النفع ثانيا وبالعرض ، ولعل هذا هو مراد المصنف بقوله : ((ان الضرر هو ما يقابل النفع من النقص ... الى آخر الجملة)).

(٢) الظاهر ان الضرر هو اسم لحاصل المصدر ، فان مصدر باب ضرّ يضرّ هو الضرّ ، فالضرر اسم للمصدر. والفرق بين المصدر واسم المصدر امر اعتباري.

واما لفظة الضرار فيظهر من عبارة المصنف ان فيه وجوها ثلاثة :

٣٠٠