بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 946-497-063-2
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

على عدم وفائه بالغرض لكان عندهم ايضا انه ليس من الميسور ، فهو خارج عن الميسور لانه ليس من الميسور ، لا لانه ميسور قد خرج من باب التخصيص. وقد اشار الى انه لما كان الموضوع هو الميسور عند العرف بما هو طريق الى الواقع كان المرجع للتمسك باطلاق القاعدة فيما لم يقم دليل على الالحاق او على الاخراج هو الميسور عند العرف ، فاذا احتملنا ان ما هو الميسور عند العرف غير واف بالغرض فالمرجع هو التمسك باطلاق القاعدة بقوله : ((وبالجملة ما لم يكن دليل على الاخراج او الالحاق)) واحتملنا ما هو الميسور عند العرف ليس بميسور واقعا في مقام الغرض او ما ليس بميسور عند العرف كان من الميسور واقعا ((كان المرجع هو الاطلاق ويستكشف منه ان الباقي)) حيث يكون ميسورا عند العرف فهو ((قائم بما يكون المامور به)) التام ((قائما بتمامه او)) يكون الباقي وافيا بالمعظم ((بمقدار يوجب ايجابه في الواجب واستحبابه في المستحب)) وقد اشار الى هذا في اول كلامه هنا بقوله : ((لعدم الاطلاع على ما هو عليه الفاقد)) أي الباقي الذي هو من الميسور واقعا ولم يطلع عليه العرف فهو كالميسور في نظر العرف ((من قيامه في هذا الحال بتمام ما قام عليه الواجد او بمعظمه في غير الحال)).

ثم الظاهر ان المراد من الاطلاق في المقام في هذه القاعدة هو الاطلاق المقامي دون الكلامي ، لان المراد من الميسور فيها ـ عند المصنف ـ كما عرفت هو الميسور الواقعي ، فالظاهر ان مراد المصنف من الاطلاق هو الاطلاق المقامي ، وذلك حيث يكون المولى في مقام بيان ما هو الميسور الوافي بتمام الاثر وبمعظمه واخراج ما ليس بميسور ، ولم يبين مورد الشك فان كان ميسورا عند العرف يستكشف انه من الميسور واقعا ، وان كان ليس من الميسور عند العرف يستكشف انه ليس من الميسور واقعا ، وإلّا لزم الاخلال بالغرض.

إلّا انه يمكن ان يقال : انه بعد ان كان الميسور العرفي موضوعا بنحو الطريقية شرعا فالاطلاق كلامي ، لاعتبار الشارع للميسور العرفي ولو بنحو الطريقية ، ويكون

٢٤١

وإذا قام دليل على أحدهما فيخرج أو يدرج تخطئة أو تخصيصا في الاول ، وتشريكا في الحكم ، من دون الاندراج في الموضوع في الثاني (١) ، فافهم (٢).

______________________________________________________

المرجع ما هو الميسور عند العرف وما ليس بميسور عندهم وبه يستكشف الواقع ، لا ان الاطلاق مقامي. والله العالم.

(١) لما ذكر مختاره في المقام وهو التخطئة في الادراج والاخراج اراد ان يشير الى القول الآخر المبني على كون الموضوع هو الميسور العرفي بنحو الموضوعية لا بنحو الطريقية ، وان المدار على ما كان ميسورا للمأمور به المتعلق به الامر : أي ان المراد من الميسور في هذه القاعدة على هذا القول هو ميسور المركب باجزائه التي تعلق به الامر لا الميسور الواقعي ، لان الميسور الواقعي لا طريق للعرف اليه ، وحيث قد اخذ الميسور موضوعا في القضية فلا بد وان يكون هو الميسور بنظرهم دون الميسور الواقعي في مقام الغرض والمصلحة ، وعلى هذا فالادراج يكون من باب التشريك تعبدا ، لفرض كون المدرج ليس من الميسور عند العرف ، والاخراج يكون من التخصيص لفرض كون الخارج من الميسور عند العرف. وعلى كل فقد اشار المصنف الى كلا القولين بقوله : ((واذا قام دليل على احدهما)) من الادراج والاخراج ((ف)) يكون ما ((يخرج او يدرج تخطئة)) على مختارة ((او تخصيصا في الاول)) أي في الاخراج ((وتشريكا في الحكم)) تعبدا ((من دون الاندراج)) واقعا ((في الموضوع في الثاني)) أي في الادراج والالحاق لغير الميسور عند العرف بالميسور عند العرف بناء على القول الآخر.

(٢) لعله اشارة الى ما اشار اليه : من ان البرهان يقتضي كونهما من التخطئة لا التشريك ولا التخصيص. ويمكن ان يكون اشارة الى ان الادراج بعد ان كان هو الحاق ما ليس بميسور عرفا بالميسور عرفا فدليل الالحاق ان ظهر منه ان الالحاق لاجل انه من الميسور واقعا كان من التخطئة ، وإلّا فيكون الادراج تشريكا في الحكم تعبدا لأن الشارع قد اعتبر الميسور العرفي طريقا الى الميسور الواقعي ، وحيث لم يظهر منه

٢٤٢

تذنيب : لا يخفى أنه إذا دار الامر بين جزئية شيء أو شرطيته ، وبين مانعيته أو قاطعيته ، لكان من قبيل المتباينين ، ولا يكاد يكون من الدوران بين المحذورين ، لامكان الاحتياط بإتيان العمل مرتين ، مع ذاك الشيء مرة وبدونه أخرى ، كما هو أوضح من أن يخفى (١).

______________________________________________________

أن الالحاق لكونه ميسورا واقعا فنظر العرف في تعيين ما هو الميسور من غير الميسور باق على حاله ، وحيث لم يكن الملحق بنظر العرف ميسورا فلا بد وان يكون الالحاق من باب التشريك في الحكم. والله العالم.

(١) توضيحه : انه اذا دار امر شيء بين ان يكون جزءا للمركب او شرطا فيه او مانعا عنه او قاطعا له. والفرق بين المانع والقاطع بناء على تعقّل الهيئة الاتصالية واضح فان المانع ما منع عن تأثير المركب ، والقاطع ما رفع الهيئة الاتصالية ، واما بناء على عدم تعقّل الهيئة الاتصالية فالقاطع هو المانع حيث يقع في الاثناء ، كما تقدم بيانه فيما تقدم في ذيل التنبيه الثالث من تنبيهات مسألة الاقل والاكثر الارتباطيين.

وعلى كل فاذا دار الامر بين كون الشيء جزءا او شرطا او مانعا او قاطعا فهو من قبيل دوران الامر بين المتباينين ، وليس من قبيل دوران الامر بين المحذورين. اما كونه من المتباينين فلوضوح وجود العلم الاجمالي بخطاب منجز يدور فرده وامتثاله بين الواجد لذلك المشكوك والفاقد له ، ولا مجرى للبراءة في اطراف العلم الاجمالي وان لم يلزم منها مخالفة عملية ، لان العلم الاجمالي علّة تامة للتنجيز ، فجعل الترخيص في اطرافه مناف لارادة الواقع. وأما كونه ليس من دوران الامر بين المحذورين فلان القطع بالامتثال هنا ممكن بالاتيان مرتين : مرة بالواجد للمشكوك ، ومرة بالفاقد له. والدوران بين المحذورين هو ما لا يتمكن فيه من القطع بالامتثال ، واتيانه مرتين لا يوجب القطع بالامتثال ، لوضوح ان كل مرة منهما له تكليف غير التكليف في الاولى ، مثلا اذا دار امر الجمعة في زمان الغيبة بين الوجوب والحرمة ففي كل يوم جمعة تكليف غير التكليف في الجمعة ، فلا يعقل ان يتحقق القطع

٢٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

بالامتثال للتكليف ، نعم ترك صلاة الجمعة في جمعة ، والاتيان بها في جمعة اخرى يوجب العلم الاجمالي بفعل واجب او ارتكاب محرّم ، فان الجمعة لو كانت واجبة كان فاعلا للواجب ، واذا كانت محرمة كان مرتكبا للمحرم ، وهذا مما يؤكّد ما قلنا من ان لكل فعل تكليفا غير التكليف للفعل الآخر ، فلذلك لا يمكن الاحتياط فيه ، ويمكن الاحتياط في المقام لانه باتيان الفعل مرتين يحصل القطع بالامتثال لتكليف واحد لا لتكليفين حتى لا يمكن ان يحصل القطع بالامتثال.

والحاصل : ان الامر في المتباينين هو ان يكون هناك تكليف واحد مردد بينهما ، ولازم ذلك ان يكون فعل احدهما موجبا للامتثال ، وفعل الثاني لا يكون موجبا للامتثال ، ولا يكون فيه احتمال المخالفة لتكليف آخر ، بخلاف دوران الامر بين المحذورين فانه في الفعل مانع لا يحصل به الامتثال ، ولذا وجب الفعل مرتين ليعلم بالامتثال.

لا يقال : انه اذا كان ابطال العمل محرما فيدور الامر في المقام بين الواجب والمحرم.

فانه يقال أولا : انه لو قلنا بحرمة الابطال فالمقدار المتعيّن منها غير موارد العلم الاجمالي.

وثانيا : ان دوران الامر بين المحذورين بالنسبة الى الامر والنهي المفروض تعلقهما بذات الفعل بما هو مأمور به او منهي عنه لا من جهة تعلق النهي بحرمة الابطال ، فتأمل. ولذا قال (قدس‌سره) : ((لكان من قبيل المتباينين)) أي دوران الامر بين الجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية من الدوران بين المتباينين ((ولا يكاد يكون من الدوران بين المحذورين)) لما عرفت من الفرق بينهما وقد اشار اليه بقوله : ((لامكان الاحتياط ... الى آخر الجملة)).

٢٤٤

خاتمة : في شرائط الاصول (١) أما الاحتياط : فلا يعتبر في حسنه شيء أصلا ، بل يحسن على كل حال ، إلا إذا كان موجبا لاختلال النظام ، ولا تفاوت فيه بين المعاملات والعبادات مطلقا ولو كان موجبا للتكرار فيها (٢) ، وتوهّم كون التكرار عبثا ولعبا بأمر المولى ـ وهو ينافي قصد الامتثال المعتبر في العبادة ـ فاسد ، لوضوح أن التكرار ربما يكون بداع صحيح عقلائي ، مع أنه لو لم يكن بهذا الداعي وكان أصل إتيانه بداعي أمر مولاه بلا داع له سواه لما ينافي قصد الامتثال ، وإن كان لاغيا في كيفية امتثاله (٣) ،

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان الاصول التي يتعرّض لشرائطها في المتن اربعة : الاحتياط ، والبراءة العقلية ، والبراءة النقلية ، والتخيير. واما الاستصحاب فلا يتعرّض لشرائطه ولكنه يعلم حاله من البراءة النقلية ، لان الدليل على الشرط في البراءة النقلية سواء كان الاجماع او العقل او الاخبار فهو مما يعمّ الاستصحاب كما لا يخفى ...

(٢) لا اشكال عند الكلّ في حسن الاحتياط فيما لا يلزم منه الاخلال بالنظام في المعاملات مطلقا ولو لزم التكرار ، وفي العبادات فيما اذا لم يستلزم التكرار لان فيه المحافظة التامة على غرض المولى أو لأداء المراسم العبودية والرقية الكاملة. واما وجه الاطلاق في المعاملات وان استلزم التكرار فلان ما ذكروه من الموانع في العبادة غير موجود فيها. ولما كان مختاره (قدس‌سره) حسن الاحتياط في العبادة وان استلزم التكرار حكم بحسن الاحتياط مطلقا في المعاملات والعبادات وان استلزم التكرار ، بعد استثنائه ما يوجب اختلال النظام ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((اما الاحتياط فلا يعتبر في حسنه شيء اصلا ... الى آخر الجملة)).

(٣) لا يخفى ان الاحتياط في العبادة حيث لا يستلزم التكرار لا كلام في حسنه كما مرّ في الحاشية السابقة بيانه ، ومحل الكلام في حسن الاحتياط في العبادة هو ما اذا استلزم التكرار وكان بحيث يتمكن من معرفة المامور به مفصّلا. وقد ذكروا وجوها للمنع عنه.

٢٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

منها : لزوم قصد التمييز ، وقد مرّ انه لا دليل على اعتباره في العبادة لا عقلا ولا شرعا.

ومنها : اخبار مرّ التعرّض لها ولعدم دلالتها في مباحث العلم الاجمالي من القطع.

ومنها : ما اشار اليه في المتن هنا وهناك : من استلزام التكرار للعبث واللعب بامر المولى وهو مناف لقصد الامتثال المعتبر في العبادة ، لوضوح ان الداعي للعب والعبث داع شيطاني وهو غير داعي الامتثال والعبودية للمولى ، فلا يعقل ان يجتمع مع قصد القربة المعتبر في العبادة. واليه اشار بقوله : ((وتوهّم كون التكرار عبثا بامر المولى ... الى آخر الجملة)) واشار الى الجواب عنه بقوله : ((فاسد)) أي ان هذا التوهّم فاسد ، وتوضيح فساده : ان فرض الكلام ان الداعي للعبد هو الامتثال وقصد القربة ، فان كان التكرار للعمل صادرا عن داعي العبث واللعب وحده فهو خلاف الفرض ، لان المفروض كون العبد يعمل بداعي الامتثال. وان كان التكرار صادرا عن داعيين فهو خلف ايضا ، لان العمل التكراري انما يكون باطلا لاجل التشريك مع قصد القربة ، لا من حيث كون التكرار لعبا وعبثا ، ففي فرض كون الداعي للعبد هو الامتثال لا يعقل قصد العبث واللعب في نفس العمل التكراري ، وانما يكون اللعب والعبث في كيفية تحصيل اليقين بالامتثال ، فان تحصيل اليقين بالامتثال امر يتولد من الفعل الماتي به ، فهناك قصدان : قصد للفعل لاجل الامتثال به ، وقصد لتحصيل اليقين بالامتثال ، ولما كان اليقين بالامتثال من الامور التوليدية للفعل الممتثل به كان قصد اللعب والعبث فيه لا في الفعل لفرض قصد المكلف الامتثال له ، ومع فرض قصد الامتثال له لا يعقل الّا وان يكون نفس الفعل صادرا عن قصد الامتثال لا غير. هذا كلّه حيث يكون هناك قصد اللعب والعبث ... مع انه كثيرا ما يكون التكرار بداع عقلائي صحيح كما اذا كان الغرض من التكرار تطويل زمان العبادة ، او كان الغرض منه لانه اسهل على المكلف من الفحص لان يعرف المامور به تفصيلا. وقد

٢٤٦

فافهم (١).

بل يحسن أيضا فيما قامت الحجة على البراءة عن التكليف لئلا يقع فيما كان في مخالفته على تقدير ثبوته ، من المفسدة وفوت المصلحة (٢).

______________________________________________________

اشار الى هذا بقوله : ((لوضوح ان التكرار ربما يكون بداع صحيح عقلائي)) واشار الى الاول بقوله : ((مع انه لو لم يكن بهذا الداعي)) بل كان هناك داع للعب والعبث ((و)) لكنه حيث ((كان اصل اتيانه بداعي امر مولاه)) كما هو المفروض لما عرفت ان المفروض ان الداعي له هو قصد الامتثال ((بلا داع له سواه)) وإلّا لزم الخلف لو كان للمكلف داع غير قصد الامتثال ولو بنحو التشريك ((لما)) كان داعي اللعب والعبث ((ينافي قصد الامتثال)) لانه في كيفية تحصيل اليقين لا في نفس العمل وهو ((وان كان لا غيا)) وعابثا ((في كيفية)) تحصيل اليقين في ((امتثاله)) إلّا انه لا يكون عابثا ولا غيا في نفس العمل حتى يكون منافيا لقصد القربة في نفس عمله.

(١) لعله اشارة الى انه لا بد ان لا يكون قصد اللعب والعبث بنحو التشريك لقصد الامتثال ، والّا كان العمل باطلا لاجل التشريك مع قصد القربة لا للعبث واللعب ، وقد عرفت انه لا بد وان يكون قصد اللعب والعبث في كيفية تحصيل اليقين في الامتثال لا في نفس العمل.

(٢) توضيحه : ان الاحتياط تارة يكون لاجل الفرار عن تبعة العقاب ، ففيما اذا قامت الحجة على عدم العقاب فان الاحتياط لا يكون حسنا بداعي التأمين من العقاب ، اذ بعد قيام المؤمن لا وجه للاحتياط لتحصيل الأمان ، وان كان بداعي ما للتكليف من اثر وضعي وهو المصلحة المترتبة على الفعل أو المفسدة المترتبة عليه فيحتاط بالفعل لاحتمال المصلحة ويتركه لاحتمال المفسدة فانه احتياط بداع حسن عقلا ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((بل يحسن)) الاحتياط ((ايضا فيما قامت الحجة على البراءة عن التكليف)) لا لاجل التامين من العقاب بل ((لئلا يقع فيما كان)) يحتمل

٢٤٧

وأما البراءة العقلية : فلا يجوز إجراؤها إلا بعد الفحص واليأس عن الظفر بالحجة على التكليف ، لما مرت الاشارة إليه من عدم استقلال العقل بها إلا بعدهما (١).

______________________________________________________

((في)) الفعل من الاثر عند ((مخالفته على تقدير ثبوته من المفسدة)) في فعله ((وفوت المصلحة)) في تركه.

(١) لما كانت البراءة العقلية هي قبح العقاب بلا بيان فلا محيص من اشتراط جريانها بتحقق موضوعها وهو عدم البيان ، ولا يتحقق عدم البيان إلّا بالفحص ، فلذلك كان من شرط جريانها الفحص واليأس عن الظفر بالبيان الذي هو اعم من العلم ومن الحجة على التكليف.

اما كون عدم البيان موضوعا لقبح العقاب عند العقل ، فلان ارتكاب المبغوض واقعا من دون قيام حجة من المولى عليه ليس من الطغيان على المولى ولا من الهتك لحرمته. واما كون عدم البيان واحرازه منوطا بالفحص والياس فلوضوح ان اللازم على المولى بيان ما لو تفحص العبد عنه لوصل اليه ، وليس اللازم عليه ان يوصله اليه وان لم يفحص عنه ولا يتطلبه من مظانه وهو واضح. فاتضح ان حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واستقلاله بذلك انما يكون بعد تحقق اللابيان المنوط بالفحص واليأس عن الظفر بالحجة. وقد اشار الى اشتراط البراءة العقلية بالفحص واليأس بقوله : ((فلا يجوز اجراؤها)) أي لا يجوز اجراء البراءة العقلية التي هي عبارة عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان ((الا بعد الفحص واليأس عن الظفر بالحجة على التكليف)) سواء كان علما او علميا. واشار الى السبب في اشتراط البراءة العقلية بذلك بقوله : ((لما مرت الاشارة اليه)) فيما سبق من حكم العقل بالاستقلال بعدم العقاب حيث تحرز عدم الحجة من المولى على التكليف ، ولا يحصل احراز عدم البيان إلّا بالفحص واليأس عن الظفر بها ، ومن الواضح انه اذا لم يحرز عدم البيان فلا يستقل العقل بقبح العقاب ، وانما يستقل بالقبح بعد احراز عدم البيان المنوط

٢٤٨

وأما البراءة النقلية : فقضية إطلاق أدلتها وإن كان هو عدم اعتبار الفحص في جريانها ، كما هو حالها في الشبهات الموضوعية ، إلا أنه استدل على اعتباره بالاجماع وبالعقل ، فإنه لا مجال لها بدونه ، حيث

______________________________________________________

بالفحص واليأس ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((من عدم استقلال العقل بها)) أي بالبراءة العقلية ((الا بعدهما)) أي بعد الفحص واليأس عن الظفر بالحجة ، لما عرفت من ان اللازم على المولى بيان ما لو تفحص المكلف عنه لوصل اليه ، وليس اللازم على المولى ايصال الحجة الى المكلف وان لم يفحص عنها ولم يتطلبها من مظانها.

ولا اشكال في كون مورد البراءة العقلية الشبهة الحكمية .. وهل تشمل الشبهة الموضوعية ام لا؟

ومجمل القول فيها : ان المراد من اللابيان ان كان هو عدم بيان الحكم فلا تشمل الشبهة الموضوعية ، لفرض صدور البيان للحكم على فرضه وانما الاشتباه ينشأ من الامور الخارجية. وان كان المراد من اللابيان عدم وصول الحجة فعدم وصول الحجة كما يكون بعدم بيان الحكم كذلك يكون بعدم وصول موضوع الحكم.

وهل يحكم العقل في الشبهة الموضوعية بوجوب الفحص فيها كما هو الحال في الشبهة الحكمية لو لا قيام الدليل الشرعي على لزوم الفحص فيها ، ام لا يحكم فيها بوجوب الفحص وانما يجب الفحص في خصوص الشبهة الحكمية؟

ويمكن ان يقال : انه حيث كانت الاحكام معلقة على موضوعاتها فلا وصول لها الا بعد وصول موضوعاتها ، ولا ملزم من العقل بلزوم ايصال الحكم بالبحث عن موضوعه إلّا ان يعلم اهميته عند الشارع بحيث يلزم البحث عن موضوعه اذا احتمل تحققه ، كما فيمن شك في الاستطاعة وكان يمكنه بحيث لو فحص لعرف انه مستطيع او غير مستطيع فلا اشكال حينئذ في وجوب الفحص. والله العالم.

٢٤٩

يعلم إجمالا بثبوت التكليف بين موارد الشبهات ، بحيث لو تفحص عنه لظفر به (١).

______________________________________________________

(١) المراد من البراءة النقلية هي رفع ما لا يعلمون وامثالها ، كقوله الناس في سعة ما لا يعلمون ، وما حجب الله علمه عن العباد فهو مرفوع منهم. وقد تقدم شمولها للشبهة الحكمية والموضوعية ، كما ان هناك ما يدل على الرفع في خصوص الشبهة الموضوعية كقاعدة الحل ، ومن الواضح ان دليل الرفع موضوعه عدم العلم ومحموله رفع تبعة العقاب عنه وهو شامل لما قبل الفحص باطلاقه ، ولا اشكال في جريانها حتى قبل الفحص في الشبهة الموضوعية.

واما في الشبهة الحكمية فقد استدل على وجوب الفحص فيها بوجوه :

الاول : دعوى الاجماع على وجوب الفحص فيها.

الثاني : العقل بدعوى ان لنا علما اجماليا بثبوت التكاليف في موارد الشبهات الحكمية بحيث لو تفحص عنها لظفر بها ، ومن الواضح انه مع حصول هذا العلم الاجمالي بالتكاليف التي بحيث لو تفحص عنها لظفر بها فلا يجوز ترك الفحص عنها ، فان الوقوع في مخالفة تلك التكاليف مما لا معذر لها عند العقل.

والحاصل : انه مع كون احتمال التكليف منجزا عقلا للتكليف ـ لو كان ـ لا مجرى للبراءة ، لوضوح ان موضوعها عدم العلم بالحجة على التكليف ، ومع كون احتمال التكليف منجزا عقلا يكون هناك حجة معلومة ، فلا مجرى لما كان موضوعه عدم العلم بالحجة.

واما كون احتمال التكليف منجزا عقلا في المقام فلفرض العلم بانه لو تفحص عن التكليف لظفر به ، ومن الواضح انه لا يجب على الله ايصال التكليف الى المكلفين بالوحي لكل مكلف ، بل طريق ايصال تكاليفه اما نبيه وأوصيائه عليهم الصلاة والسلام في حال الحضور او الرواة وكتبهم في حال الغيبة ، فلو كان التكليف المشكوك موجودا في كتب الرواة بحيث لو رجع المكلف اليها لوجده لكان لله الحجة

٢٥٠

ولا يخفى أن الاجماع هاهنا غير حاصل ، ونقله لوهنه بلا طائل ، فان تحصيله في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل صعب لو لم يكن عادة بمستحيل ، لقوة احتمال أن يكون المستند للجل ـ لو لا الكل ـ هو ما ذكر من حكم العقل (١) ، وأن الكلام في البراءة فيما لم يكن هناك علم

______________________________________________________

على المكلف فيه فيما لو خالفه وهذا معنى كون احتمال التكليف في المقام منجزا. وقد اشار الى الوجه الاول بقوله : ((إلّا انه استدل على اعتباره)) أي على اعتبار الفحص ((بالاجماع)) واشار الى الثاني بقوله : ((وبالعقل فانه)) بدعوى انه ((لا مجال لها)) أي لا مجال للبراءة النقلية ((بدونه)) أي بدون الفحص ، والسبب في حكم العقل بالفحص في البراءة النقلية مع شمول الاطلاق فيها لما قبل الفحص لان الموضوع فيها عدم العلم هو انه ((حيث يعلم اجمالا بثبوت التكليف بين موارد الشبهات بحيث لو تفحص عنه لظفر به)) ومع هذا العلم الاجمالي بهذا النحو لا مجرى لحديث الرفع لمنجزية هذا العلم الاجمالي ، ومع منجزيته لا مجرى للبراءة في اطرافه.

وبعبارة اخرى : ان البراءة النقلية انما تجري حيث لا يكون نفس احتمال التكليف منجزا وفي المقام احتمال التكليف منجز عقلا ، لحكم العقل بعدم معذورية مخالفة التكليف الذي لو فحص عنه لظفر به ، مثل النظر في معجزة مدعي النبوة.

(١) حاصله : ان الاستدلال على وجب الفحص في مورد البراءة النقلية ـ بعد ان كان لها اطلاق يشمل ما قبل الفحص ـ بالاجماع غير صحيح ، لان الاجماع المحصل غير حاصل ، والاجماع المنقول غير حجة كما تقدم في مبحث الاجماع ، مضافا الى وهنه في خصوص المقام لاحتمال كون مستند المفتين ـ التي كانت فتواهم سببا للاجماع المنقول ـ هو الدليل العقلي او الاخبار الآتية.

والحاصل : ان الاجماع المنقول على فرض تسليم حجيته فهو فيما اذا لم يكن محتمل المدرك ، بان لا يكون هناك ما يحتمل كونه مدركا لفتواهم ، واما مع وجود ما

٢٥١

موجب للتنجز ، إما لانحلال العلم الاجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال ، أو لعدم الابتلاء إلا بما لا يكون بينها علم بالتكليف من موارد الشبهات ، ولو لعدم الالتفات إليها (١).

______________________________________________________

يمكن ان يكون هو المدرك للفتوى فلا يكون ذلك من الاجماع كما سبق بيان ذلك مرارا. وقد اشار الى ذلك بقوله : ((ولا يخفى ان الاجماع هاهنا غير حاصل)) أي الاجماع المحصل هاهنا غير حاصل ((ونقله)) مضافا الى عدم حجيته نقله في المقام ((لوهنه بلا طائل فان تحصيله)) عند ناقله ((في مثل هذه المسألة مما للعقل اليه سبيل صعب)) لاحتمال كون مستند المفتين هو العقل ، فان تحصيل الاجماع بما هو اجماع مع وجود دليل العقل صعب دعواه ((لو لم يكن عادة بمستحيل لقوة احتمال ان يكون المستند للجل)) في الفتوى ((لو لا الكل هو ما ذكرنا من حكم العقل)).

(١) يشير بهذا الى الجواب عن دليل العقل على وجوب الفحص في البراءة النقلية وتوضيحه : ان العلم الاجمالي على ثلاثة انحاء :

ـ الاول : ان أعلم اجمالا بتكليف بعنوان خاص ولكنه كان مرددا بين الظهر والجمعة مثلا ، وهذا العلم الاجمالي يكون بعد الفحص وهو مورد الاحتياط وليس مورد الكلام ، لما علمت من انه يكون بعد الفحص.

ـ الثاني : العلم الاجمالي بوجود تكاليف لا يعلم بعناوينها ولكنه يعلم انه لو تفحص عنها لظفر بها ، كما هو الحال لكل مكلف قبل اطلاعه على التكاليف الشرعية بعناوينها ، ولا اشكال في لزوم الفحص عقلا في هذا النحو مقدمة لتحصيل الامتثال.

ـ الثالث : ان يكون له علم اجمالي ثم يظفر من التكاليف بمقدار المعلوم بالاجمال ويبقى له صرف احتمال ان يكون هناك حكم لو تفحص لظفر به. وهذا هو محل الكلام في وجوب الفحص ، وليس في هذا النحو الثالث حكم من العقل بلزوم الفحص ، واحتمال التكليف انما يكون منجزا حيث يكون هناك علم اجمالي

٢٥٢

فالاولى الاستدلال للوجوب بما دل من الآيات والاخبار على وجوب التفقه والتعلم ، والمؤاخذة على ترك التعلم في مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم ، بقوله تعالى كما في الخبر هلا تعلمت فيقيد بها أخبار البراءة ، لقوة ظهورها في أن المؤاخذة والاحتجاج بترك التعلم

______________________________________________________

بالتكاليف لم ينحل وكان المشكوك مما يحتمل ان يكون منها ، إلّا ان يكون التكليف المشكوك له اهمية عظمى بحيث نشك في شمول اطلاق ما لا يعلمون له.

والحاصل : ان الكلام فيما اذا كان العلم الاجمالي بالتكاليف منحلا ، اما بالظفر بمقدار المعلوم بالاجمال فلا يكون لنا إلّا احتمال التكليف ، او كان العلم الاجمالي غير منجز لخروج بعض اطرافه عن محل الابتلاء فلا يكون لنا ـ ايضا ـ إلّا احتمال التكليف. وفي مثل هذين الفرضين لا حكم للعقل بوجوب الفحص اذ لا علم اجمالي بوجود التكليف ، والتكليف بوجوده الواقعي غير قابل للتنجيز ، واحتماله غير موجب لتنجيزه عقلا فلا حكم للعقل بوجوب الفحص. والى ما ذكرنا اشار بقوله : ((وان الكلام في)) جريان ((البراءة فيما لم يكن هناك علم)) اجمالي ((موجب للتنجز)) وهو النحو الثالث الذي عرفته ((اما لانحلال العلم الاجمالي بالظفر)) من التكاليف ((بالمقدار المعلوم بالاجمال)) فينحل العلم الاجمالي الى معلوم تفصيلي وشك بدوي فلا يكون هناك سوى احتمال التكليف ((او)) لعدم تنجز العلم الاجمالي ((لعدم الابتلاء إلّا بما لا يكون بينها علم بالتكليف من موارد الشبهات)) فلا يكون هناك علم اجمالي منجز ((ولو)) كان ذلك ((لعدم الالتفات اليها)) أي لعدم الالتفات الى العلم الاجمالي بالتكاليف في مورد الشبهات ، فانه لا فرق في عدم تنجز العلم الاجمالي للخروج عن محل الابتلاء في بعض اطرافه ، او لعدم الالتفات الى وجوده لاجل الغفلة وعدم الالتفات المعذور فيهما عقلا.

٢٥٣

فيما لم يعلم ، لا بترك العمل فيما علم وجوبه ولو إجمالا ، فلا مجال للتوفيق بحمل هذه الاخبار على ما إذا علم إجمالا (١) ،

______________________________________________________

(١) الادلة التي يشير اليها في دلالتها على وجوب الفحص من الآيات والاخبار نحوان ، الاول : ما دل على وجوب اصل التعلم والتفقه كآية النفر الآمرة بوجوب النفر لاجل التفقه (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(١) فانها تأمر بالنفر للتفقه في الدين لان ينذروا بما تفقهوا به قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون. والامر بالنفر يدل على وجوب النفر حيث كان طريقا للانذار الموجب للحذر ، ولا حذر الا على الواجب والحرام ، فالنفر لاجل التفقه في الوجوب والحرمة واجب ، لان الانذار للقوم ينحصر به ، وحيث لا فرق بين التفقه في الوجوب والحرمة وساير الاحكام فالتفقه لاجل الدين الذي يعم الاحكام جميعا واجب لعدم الفصل. وكآية السؤال الآمرة بوجوب السؤال وهي قوله (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(٢) فانها تدل على وجوب السؤال عند عدم العلم لاجل ان تعلموا ، ومن الواضح ان الامر بالسؤال انما هو لمن يحتمل التكليف ، اما من يعلم التكليف ومن يعلم بعدم التكليف فلا وجه لان يؤمر بالسؤال ولو كان حكم المحتمل البراءة قبل الفحص لما امر بالسؤال.

إلّا انه يمكن ان يقال : ان ظاهر آية النفر والسؤال بدء الشرع ، ولازمه العلم الاجمالي بالتكاليف لا بعناوينها الخاصة ، فموردهما مورد العلم الاجمالي قبل الانحلال ، وهو مما لا اشكال في وجوب الفحص وعدم جريان البراءة فيه قبل

__________________

(١) التوبة : الآية ١٢٢.

(٢) النحل : الآية ٤٣.

٢٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

الفحص ، والكلام في وجوب الفحص بعد الانحلال وان لا يكون هناك صرف احتمال التكليف. إلّا ان الانصاف ان لها اطلاقا يشمل مورد الانحلال وصرف الاحتمال بحيث لو فحص لظفر.

الثاني : الروايات الدالة على مؤاخذة الجهال بفعل المعاصي المجهولة التي لو فحصوا عنها لظفروا بها ، مثل ما ورد في تفسير قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ)(١) من انه يقال للعبد يوم القيامة : هل علمت ، فان قال نعم ، قيل : فهلا عملت ، وان قال : لا ، قيل له : فهلا تعلمت. ولا يخفى دلالة هذا النحو الثاني على وجوب الفحص وان كانت النسبة بينه وبين اخبار البراءة العموم من وجه ، لجريان ادلة البراءة فيما بعد الفحص دون هذه الاخبار ، لوضوح انه لا امر بلزوم التعلم بعد الفحص ومعرفة عدم وجود الحكم في مظانه ، وعدم جريان البراءة في مورد العلم الاجمالي بالتكاليف لا بعناوينها الخاصة ، وجريان ادلة وجوب التعلم والفحص فيها ، ويتعارضان في غير مورد العلم الاجمالي قبل الفحص ، فان اخبار البراءة تقتضي رفع المؤاخذة وهذه تثبت المؤاخذة على مخالفة الحكم لو كان ، وذلك لظهور هذه الاخبار في كون احتمال الحكم في مورد امكان الظفر به لو كان يكون منجزا يقتضي المؤاخذة. وغاية ما تدل عليه اخبار البراءة كون عدم العلم معذرا ، وعدم العلم يكون في مورد يمكن التعلم ويكون في مورد لا يمكن التعلم ، فاخبار المؤاخذة على ما يمكن فيه التعلم تكون كمفسرة لادلة البراءة ، فهي اما حاكمة عليها او انها اقوى ظهورا منها في مورد التعارض وهو ما قبل الفحص.

وقد ظهر مما ذكرنا : ان اخبار التعلم اذا كانت اظهر من اخبار البراءة في لزوم الفحص في مقام احتمال الحكم الذي لو فحص عنه لظفر به لو كان لا يبقى مجال للتوفيق بين اخبار البراءة واخبار التعلم ، بحمل اخبار التعلم على مورد العلم

__________________

(١) الانعام : الآية ١٤٩.

٢٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الاجمالي بالتكاليف لا بعناوينها الخاصة ، وحمل اخبار البراءة على عدم الاحتمال للحكم الذي لو فحص عنه لظفر به ، فتكون النسبة بينهما التباين ، لوضوح شمول ادلة البراءة لمورد احتمال الحكم قبل الفحص ، وعدم اختصاص هذه الاخبار بالتعلم في خصوص مورد العلم الاجمالي بالتكاليف لا بعناوينها الخاصة ، فالنسبة بينها عموم من وجه ، ولكن هذه الاخبار تقدم على ادلة البراءة ، لما عرفت من قوة ظهور اخبار التعلم في ان الملاك للاحتجاج من المولى على عبده هو ترك التعلم ـ بما هو ترك للتعلم ـ في مقام يمكن التعلم والوصول الى قول الله وحكمه ، وهو ظاهر في كون نفس ترك التعلم مما تصح المؤاخذة عليه بما هو ، وليس ذلك إلّا لان احتمال كون الحكم ـ بحيث لو تفحص عنه لظفر به ـ منجزا عقلا. وقد اشار (قدس‌سره) الى النحو الاول بقوله : ((بما دل من الآيات والاخبار على وجوب التفقه والتعلم)) كآية النفر وآية السؤال والاخبار الدالة على ذلك واشار الى النحو الثاني بقوله : ((والمؤاخذة على ترك التعلم في مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم العلم بقوله تعالى)) والمراد من قوله تعالى هو عدم العلم بحكمه وأمره ((كما في الخبر)) الوارد في تفسير قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) كما مر بيانه ، وفيه يقول بعد اعتذار العبد بعدم العلم انه يقال له ((هلا تعلمت)) ثم اشار الى تقدم هذه الاخبار على اخبار البراءة ولزوم تقييد اخبار البراءة بها لا انها اظهر منها ان لم تكن مفسرة وحاكمة عليها بقوله : ((فيقيد بها اخبار البراءة لقوة ظهورها)) أي لقوة ظهور هذه الاخبار الآمرة بالتعلم ـ حيث يحتمل الظفر بما يوجب العلم ـ على اخبار البراءة ، وان الملاك فيها هو لزوم التعلم حيث يمكن التعلم ، فهي اقوى من اخبار البراءة لقوة الظهور فيها ((في ان)) الملاك التام لصحة ((المؤاخذة والاحتجاج)) لله على المكلف انما هو ((بترك التعلم فيما لم يعلم)) فالمؤاخذة للمكلف على ترك العمل في مقام لم يعلم حيث يمكنه ان يعلم ((لا)) ان المؤاخذة ((بترك العمل فيما علم وجوبه ولو اجمالا)) وحيث كان لهذه الاخبار ظهور في كون الاحتمال في مقام امكان التعلم منجزا ويصح المؤاخذة

٢٥٦

فافهم (١).

ولا يخفى اعتبار الفحص في التخيير العقلي أيضا بعين ما ذكر في البراءة ، فلا تغفل (٢).

______________________________________________________

عليه ((فلا مجال للتوفيق)) بين هذه الاخبار واخبار البراءة ((بحمل هذه الاخبار على ما اذا علم اجمالا)) وحمل اخبار البراءة على صورة عدم احتمال الحكم الذي لو فحص عنه لظفر به ، فانه لا وجه له كما عرفت لشمول اخبار البراءة لاحتمال الحكم ، وعدم اختصاص اخبار التعلم بالعلم الاجمالي ، ولكن السبب في تقدم اخبار التعلم هو ما عرفت من قوة ظهورها في كون الملاك فيها هو ترك التعلم ـ بما هو ترك التعلم ـ لا للعلم الاجمالي ، بل لان احتمال الحكم الذي لو فحص عنه لظفر به منجز عقلا وغير معذور في مخالفته فيجب التعلم مقدمة له.

(١) لعله اشارة الى انه لا وجه لهذا التوفيق وان لم تكن هذه الاخبار اظهر ، لانه اخذ باحد المتعارضين من دون مرجح. أو انه اشارة الى انه لو تكافئا فتساقطا لكان اللازم الفحص ، اذ لا بد من المؤمن عند الاقدام على ما يحتمل فيه المخالفة. او انه اشارة الى انه لو تكافئا فتساقطا فالعقل يحكم بلزوم الفحص لما عرفت من ان احتمال الحكم الذي لو تفحص عنه لظفر به منجز عقلا.

(٢) هذا رابع الاصول التي تعرض لشرط جريانها وهو التخيير العقلي ، لوضوح كون التخيير الشرعي ليس من الاصول ، ومورد التخيير العقلي الواجبان المتزاحمان اللذان لا يمكن الجمع بينهما كما في الواجبات الموقتة التي لا يسع الوقت إلّا احدهما ، او الدوران بين المحذورين ، ومن الواضح ان حكم العقل بالتخيير في ذلك انما هو حيث يتكافئان ولا يترجح احدهما على الآخر ولا يحرز ذلك إلّا بالفحص وعدم الظفر بما يوجب ترجيح احدهما. والظاهر ان مراده من قوله بعين ما ذكر في البراءة هي البراءة العقلية التي موضوعها عدم البيان الذي لا يتحقق إلّا بعد الفحص ، فان

٢٥٧

ولا بأس بصرف الكلام في بيان بعض ما للعمل بالبراءة قبل الفحص من التبعة والاحكام.

أما التبعة ، فلا شبهة في استحقاق العقوبة على المخالفة فيما إذا كان ترك التعلم والفحص مؤديا إليها (١) ، فإنها وإن كانت مغفولة حينها وبلا

______________________________________________________

الموضوع في المقام وهو التكافؤ في التخيير مثله ايضا لا يتحقق إلّا بالفحص وعدم الظفر عما يقتضي الترجيح.

(١) لا يخفى ان الكلام في مقامين : المقام الاول : في تبعة ترك الفحص ، والمقام الثاني : في احكام ترك الفحص ... والكلام في المقام الاول في موارد ثلاثة :

الأول : ان العقاب فيما لو ترك الفحص هل هو على ترك الفحص او على مخالفة الحكم لو ادى ترك الفحص الى مخالفته. والفرق بينهما واضح فانه لو كان على نفس ترك الفحص فلو ترك الفحص لاستحق العقاب وان لم يكن هناك حكم فضلا عن المخالفة له ، بخلاف ما اذا قلنا بان العقاب على مخالفة الحكم فانه لو ترك الفحص ولم يكن هناك حكم لا يستحق العقاب على الحكم لان المفروض انه لا حكم. نعم ، بناء على استحقاق المتجري للعقاب يكون تارك الفحص مستحقا العقاب للتجري لا للعصيان المصطلح.

واما الوجه لكل منهما فالوجه لكون العقاب على نفس ترك الفحص ، بان يقال : ان نفس ترك الفحص عن تكليف المولى الذي لا يعرف عادة إلّا بالفحص ظلم وطغيان عليه ، فنفس ترك الفحص عن التكليف في مظانه هتك للمولى وخروج عن زي الرقية ورسم العبودية له فيستحق العقاب على نفس ترك الفحص وان لم يكن هناك حكم ، وهذا انما يتم حيث يكون وجوب الفحص حكما مولويا بذاته لا طريقيا الى معرفة الحكم ... واما ان نفس ترك الفحص عن التكليف في مظانه هتك للمولى وخروج عن زي الرقية فممنوع ، لانه ليس ذلك لنفس ترك الفحص ، بل لأدائه الى مخالفة المولى لاوامره التي لو تفحص عنها لظفر بها. نعم بناء على صحة عقاب

٢٥٨

اختيار ، إلا أنها منتهية إلى الاختيار ، وهو كاف في صحة العقوبة ، بل مجرد تركهما كاف في صحتها ، وإن لم يكن مؤديا إلى المخالفة ، مع احتماله ، لاجل التجري وعدم المبالاة بها (١).

______________________________________________________

المتجري فيستحق تارك الفحص عقاب التجري ، ولذا جعل المصنف التبعة في استحقاق العقوبة على المخالفة للحكم فيما اذا كان ترك الفحص مؤديا اليها مع انه يقول بصحة العقاب على التجري ، ويشير اليه في المورد الثاني. إلّا ان الكلام ليس فيه بل في العقاب على نفس المخالفة.

والوجه في كون العقاب على مخالفة الحكم ـ لو كان ـ هوان الفحص لما كان كطريق الى حكم المولى لو كان ، ولا وجه للعقاب على الطريق حيث لا يؤدي الى مخالفة ذي الطريق ، والطغيان والخروج عن رسم العبودية انما هو في مخالفة ذي الطريق ، وانما يحكم العقل باستحقاق العقاب في المقام مع عدم وصول الحكم ومع عدم العلم به وبصرف احتماله لاجل ان الحجة على حكم المولى اذا كانت بحيث لو تفحص عنها لظفر بها كان ذلك الحكم منجزا بمنجزية حجته ، فاحتمال وجود الحجة التي لو تفحص عنها لظفر بها منجز لها ، والحكم الذي كان طريقه منجزا فهو منجز بطريقه ، فيرجع الامر الى استحقاق العقاب على الحكم المنجز لو كان ، ولهذا كان استحقاق العقاب دائرا مدار كون ترك الفحص مؤديا الى مخالفة الحكم وعدمه. وقد اشار الى هذا الثاني وهو كون العقاب على المخالفة بقوله : ((واما التبعة فلا شبهة في استحقاق العقوبة على المخالفة)) للواقع ((فيما اذا كان ترك التعلم و)) ترك ((الفحص مؤديا اليها)) أي الى المخالفة للواقع.

(١) هذا هو المورد الثاني للكلام في التبعة على ترك الفحص ، وتوضيحه : ان التارك للفحص تارة : في حال ارتكابه يكون محتملا لمخالفة التكليف ، ولا ريب في هذا الفرض في استحقاقه للعقاب عند المخالفة كما عرفت.

٢٥٩

نعم يشكل في الواجب المشروط والمؤقت ، لو أدى تركهما قبل الشرط والوقت إلى المخالفة بعدهما (١) ، فضلا عما إذا لم يؤد إليها ،

______________________________________________________

واخرى يكون التارك للفحص في حال ارتكابه غافلا عن احتمال التكليف ، ولا ينبغي الاشكال ايضا في استحقاقه للعقاب وان كان غافلا ، لان السبب في غفلته في حال الارتكاب هو ترك الفحص باختباره وعلمه ، فهو في حال الارتكاب وان لم يكن مخالفا للمولى عن علم واختيار ، لفرض كونه غافلا في ذلك الوقت عن كون ارتكابه مخالفة لمولاه ، ومع فرض غفلته لا علم له ولا اختيار في ان ارتكابه مخالفة للمولى ، ولكنه لما كان ترك الفحص باختياره وعلمه كان عدم اختياره في حال الارتكاب منتهيا الى الاختيار ، وقد تقدم مرارا ان المدار في صحة العقاب على ان يكون الفعل ولو ببعض مقدماته اختياريا فانه من احد افراد المختار بالواسطة وهو كالمختار بلا واسطة ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((فانها)) أي المخالفة ((وان كانت مغفولة حينها و)) صادرة ((بلا اختيار إلّا انها منتهية الى الاختيار)) وهو ترك الفحص وترك التعلم ، فان المفروض انه ترك عن اختيار ((وهو كاف في صحة العقوبة)). ولما كان مختاره صحة عقاب المتجري على التجري .. اشار الى صحة العقاب على نفس ترك الفحص والتعلم لاجل التجري بقوله : ((بل مجرد تركهما)) أي مجرد ترك الفحص وترك التعلم ((كاف في صحتها)) أي في صحة العقوبة ((وان لم يكن مؤديا الى المخالفة مع احتماله)) أي مع احتمال التكليف الذي لو تفحص عنه لظفر به ((لاجل التجري وعدم المبالاة بها)) أي بالمخالفة.

(١) هذا هو المورد الثالث للكلام في تبعة ترك الفحص وترك التعلم ، وتوضيحه : ان التكليف المحتمل ، تارة يكون مطلقا وغير مشروط وموسعا غير موقت وهذا هو الذي تقدم الكلام في ترك الفحص وترك التعلم بالنسبة اليه ، وانه لا اشكال في وجوبهما عقلا وشرعا ، والعقاب على مخالفة التكليف فيهما. واما العقاب على نفس ترك الفحص وترك التعلم فهو مبني على التجري.

٢٦٠