بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 946-497-063-2
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٢٣

حال المستلزم لعدم لزوم الاقل مطلقا ، المستلزم لعدم الانحلال ، وما يلزم من وجوده عدمه محال (١).

______________________________________________________

والحاصل : انه يتوقف القطع بفعلية وجوب الاقل على كل حال اما لوجوبه النفسي او لوجوبه الغيري على كون التكليف بالاكثر فعليا ، لانه لو لم يكن التكليف بالاكثر فعليا لا يكون الوجوب الغيري للاقل فعليا ، لان فعلية الوجوب الغيري في الاقل تابعة لفعلية الوجوب النفسي بالاكثر ، فالقطع بفعلية وجوب الاقل على كل حال يتوقف على فعلية التكليف في الاكثر ، ففرض الفعلية في الاقل على كل حال يستلزم فرض فعلية التكليف بالاكثر ، ولازم فعلية الاقل على ما ذكروه وجها للانحلال هو عدم فعلية التكليف في الاكثر ، فيلزم من هذا الوجه في الانحلال فرض فعلية التكليف بالاكثر وفرض عدم فعليته وهو الخلف الواضح ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((بداهة توقف لزوم الاقل فعلا)) على أي تقدير ((اما لنفسه او لغيره على تنجز التكليف مطلقا ولو كان متعلقا بالاكثر)) اذ لو لم يكن التكليف بالاكثر فعليا لم يحصل القطع بوجوب الاقل على أي تقدير ، ولازم الانحلال لاجل القطع بفعلية الاقل على أي تقدير انحصار التكليف الفعلي المنجز بالاقل لا غير وعدم فعلية التكليف بالاكثر ، ولازم ذلك كون التكليف بالاكثر فعليا ، لتوقف فعلية التكليف في الاقل على أي تقدير عليه وعدم كونه فعليا ، لان لازم الانحلال وهو القطع بفعلية التكليف في الاقل على أي تقدير عدم فعلية التكليف في الاكثر ، ولذا قال : ((فلو كان لزومه كذلك)) أي فلو كان لزوم الانحلال الذي هو بواسطة فعلية الاقل على أي تقدير المتوقف على فعلية الاكثر ((مستلزما لعدم تنجزه إلّا اذا كان متعلقا بالاقل)) أي مستلزما لانحصار فعلية التكليف في الاقل وعدم فعليته في الاكثر ((كان)) ذلك ((خلفا)) لرجوعه الى كون التكليف بالاكثر فعليا وغير فعلي.

(١) هذا هو المحال الثاني الذي يستلزمه الانحلال على الوجه المذكور.

١٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

وحاصله : انه يلزم من وجود هذا الانحلال عدمه ، لان المناط فيه هو كون وجوب الاقل فعليا على أي تقدير اما لنفسه او لغيره وبعد كون فعليته لغيره تابعة لفعلية الاكثر ، فاذا استوجب الانحلال عدم فعلية الاكثر فلا بد وان تستوجب عدم فعلية الاكثر عدم فعلية الاقل على أي تقدير ، لكون فعليته على تقدير كون وجوبه غيريا تابعة للاكثر ، فلما استوجب الانحلال عدم فعلية الاكثر فلا بد وان يستوجب عدم فعلية الاقل على أي تقدير ، فيلزم من وجود الانحلال عدم الانحلال.

والحاصل : ان الانحلال لازمه القطع بفعلية الاقل ، ولازم فعلية الاقل على أي تقدير عدم فعلية الاكثر ، ولازم عدم فعلية الاكثر عدم القطع بفعلية الاقل على أي تقدير ، فيلزم من وجوده عدمه.

وبعبارة اخرى : إن لازم الانحلال عدم تنجز التكليف المعلوم بالاجمال في جميع اطرافه الاقل والاكثر ، فلا يكون التكليف المعلوم بالاجمال منجزا على كل حال في جميع اطرافه ، لان لازم الانحلال انحصار تنجز التكليف بخصوص الاقل ، ويستلزم عدم تنجز التكليف في جميع اطرافه عدم لزوم الاقل مطلقا وعلى أي تقدير ، ولازم عدم تنجز التكليف في الاقل على أي تقدير عدم الانحلال ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((مع انه يلزم من وجوده عدمه)) أي يلزم من وجود الانحلال عدم الانحلال ((لاستلزامه)) أي لاستلزام الانحلال ((عدم تنجز التكليف)) المعلوم بالاجمال ((على كل حال)) أي في الاقل والاكثر ، لوضوح ان لازمه هو انحصار تنجز التكليف بالاقل ، وعليه فعدم تنجز التكليف المعلوم بالاجمال على كل حال هو ((المستلزم لعدم لزوم الاقل مطلقا)) لما عرفت من انه حيث لا يكون التكليف بالاكثر فعليا لا يكون الوجوب الغيري بالاقل فعليا فلا يكون الاقل لازم الاتيان مطلقا ، ولازم كون الاقل غير لازم الاتيان مطلقا هو ((المستلزم لعدم الانحلال)) فيلزم من وجود الانحلال عدمه ((وما يلزم من وجوده عدمه محال)).

١٤٢

نعم إنما ينحل إذا كان الاقل ذا مصلحة ملزمة ، فإن وجوبه حينئذ يكون معلوما له ، وإنما كان الترديد لاحتمال أن يكون الاكثر ذا مصلحتين ، أو مصلحة أقوى من مصلحة الاقل ، فالعقل في مثله وإن استقل بالبراءة بلا كلام ، إلا أنه خارج عما هو محل النقض والابرام في المقام (١).

______________________________________________________

(١) توضيحه : ان الكلام في المقام في فرض ان هناك مصلحة واحدة ملزمة ، اما ان يكون تمام المحصل لها هو الاقل ، او يكون هو الاكثر ، وعلى فرض كونه هو الاكثر فلا تكون تلك المصلحة الملزمة بحاصلة لفرض الارتباطية.

ففيما اذا فرضنا كون الاقل بنفسه ذا مصلحة ملزمة مقطوع بها. والترديد تارة يكون لاحتمال ان يكون هناك مصلحة اخرى تقوم بالاكثر ايضا ، فيكون الاتيان بالاكثر على هذا مشتملا على مصلحتين مستقلتين احدهما تقوم بالاقل فقط والاخرى تقوم بالاكثر. واخرى يكون الترديد لاجل احتمال ان المصلحة الواحدة ذات مراتب من حيث الشدة والضعف ، فتكون مرتبة منها موجودة في الاقل قطعا ، ويحتمل ان تكون للمصلحة مرتبة اقوى تقوم بالاكثر. ففي هذا الفرض سواء كان الترديد لاجل احتمال مصلحتين مستقلتين او كان لاجل احتمال مصلحة واحدة ذات مرتبتين ، فلا شبهة في الانحلال للعلم القطعي بكون الاقل واجبا بالوجوب النفسي على أي تقدير ، سواء كان الشك لاحتمال وجود مصلحة اخرى غير مصلحة الاقل أو كان لاجل مرتبة اخرى من المصلحة غير المرتبة المتحققة في الاقل ، فانه في كلا المقامين الاقل واجب تفصيلا بوجوب نفسي يخصه ، والاكثر مشكوك الوجوب بدوا فهو مجرى البراءة ، إلّا ان هذا الفرض خارج عما هو محل الكلام ، لما عرفت من ان محل الكلام هو العلم الاجمالي بوجوب واحد عن مصلحة واحدة مرددا بين الاقل والاكثر ، ففرض مصلحتين او مصلحة واحدة ذات مراتب لكل مرتبة منها اقتضاء الوجوب خارج عما هو محل الكلام ، فان مرجعه الى الاستقلالية والكلام في فرض

١٤٣

هذا مع أن الغرض الداعي إلى الامر لا يكاد يحرز إلا بالاكثر ، بناء على ما ذهب إليه المشهور من العدلية من تبعية الاوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في المأمور به والمنهي عنه (١) ، وكون الواجبات الشرعية

______________________________________________________

الارتباطية ، ولعله يشير بهذا الى ما عن بعض الاعلام في وجه الانحلال في المقام ، وهو كون الاجزاء واجبة بوجوب استقلالي.

ولا يخفى ان دعوى كون الاجزاء واجبة بوجوب استقلالي غير ارتباطي وان كان لازمها الانحلال إلّا انها بعيدة الصدور عن الاعلام ، لانه مع كون لازمها الخروج بما هو محل الكلام وهو الوجوب الارتباطي ان كونها اجزاء ينافي فرض الاستقلالية التامة ، لوضوح تضايف عنوان الجزئية وعنوان الكلية ، ففرض كونها اجزاء فرض كون لها كل وكونها واجبة بوجوب يخصها ، غاية الامر ان سقوط كل جزء يكون مراعى باتيان الاجزاء الأخر لازمه كون الاجزاء الأخر دخلية في حصول الغرض منه وتمامية امتثاله وهو يرجع الى الارتباطية ويعود الاشكال.

وما ذكره في الكتاب من دعوى المصلحة والمصلحتين او المصلحة الواحدة ذات المراتب فقد عرفت ان لازمه الخروج عما هو محل الكلام ايضا ، فلا يكون وجها للانحلال في فرض الارتباطية وان هناك وجوبا واحدا عن مصلحة واحدة اما ان يكون قائما بالاقل او بالاكثر.

(١) حاصله : انه لو سلمنا الانحلال من ناحية الامر الوجوبي لما ذكر في وجهه من العلم التفصيلي بالاقل اما لنفسه او لغيره ، ولازمه كون الاقل مقطوع الوجوب والاكثر مشكوكا بدوا فيكون مجرى البراءة ، إلّا انه هناك مانع عن هذا الانحلال وهو ان الانحلال من ناحية الوجوب لا يفيد مع عدم الانحلال من ناحية الغرض.

وتوضيح ذلك : ان مشهور العدلية ذهبوا الى ان الامر والنهي تابعان للمصالح والمفاسد في المأمور به والمنهي عنه ، فالداعي الى امر المولى بشيء هو المصلحة المترتبة على الاتيان بذلك الشيء المأمور به ، وبعد ان علمنا ان الداعي للامر هو المصلحة

١٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

فالعقل يحكم بلزوم اتيان ما به يحصل العلم بتحقق تلك المصلحة ، لان الامر بذلك الشيء انما هو كطريق الى حصول تلك المصلحة الداعية اليه وان الواجب الحقيقي واقعا هو تلك المصلحة ، ولذلك يحكم العقل بلزوم العلم باتيان ما تتحقق به تلك المصلحة الداعية الى الامر. وعلى هذا المبنى فلازم العلم الاجمالي بامر مردد بين الاقل والاكثر هو العلم بمصلحة مرددة بين ان يكون المحقق لها هو الاقل او هو الاكثر ، فلنا علم اجمالي ايضا بغرض مردد بينهما ، وكما ان العلم الاجمالي بالامر موجب لتنجزه كذلك العلم الاجمالي بالغرض موجب لحكم العقل بلزوم تحصيله ، وهذا العلم الاجمالي بالغرض المردد بين الاقل والاكثر لا علم تفصيلي في مورده يوجب انحلاله ، لوضوح عدم العلم التفصيلي بحصول الغرض في الاقل على أي تقدير حتى يكون موجبا للانحلال في الغرض كما كان العلم التفصيلي بالوجوب في الاقل اما لنفسه او لغيره موجبا لانحلال العلم الاجمالي بالامر الوجوبي ، لان الانحلال المتقدم المدعى انما هو للعلم بوجوب الاقل اما لنفسه او لغيره ، ولا يتأتى هذا في الغرض اذ ليس فيه مجال للوجوب المقدمي ، اذ ليس الغرض مقدمة لغرض آخر ، بل ليس في الغرض الا الوجوب النفسي المردد بين كون محصله هو الاقل أو الاكثر. وحيث لم يكن هذا العلم الاجمالي بالغرض منحلا فالعقل يحكم بلزوم اتيان ما به يحصل العلم بتحقق الغرض ، ولا يكون ذلك إلّا باتيان الاكثر ، فلا فائدة في انحلال الامر الوجوبي بما ذكر بعد ان كان الانحلال في ناحية الغرض والعقل حاكم بلزوم تحصيله احتياطا باتيان الاكثر ، اذ الغرض من الانحلال رفع تبعة العقاب بعدم اتيان الاكثر ، ومع حكم العقل بلزوم اتيانه من ناحية الغرض المعلوم بالاجمال لا ترتفع تبعة العقاب عن عدم اتيانه فيما اذا كان الغرض واقعا لا يحصل إلّا بالاكثر.

والى ما ذكرنا اشار بقوله : ((هذا)) أي لو اغمضنا النظر عما ذكرناه من المحاذير على الانحلال المذكور من ناحية الامر الوجوبي وسلمنا الانحلال من ناحيته ولكنه لا يفيد ((مع)) عدم الانحلال من ناحية الغرض ، ومن الواضح ((ان الغرض الداعي

١٤٥

ألطافا في الواجبات العقلية ، وقد مر اعتبار موافقة الغرض وحصوله عقلا في إطاعة الامر وسقوطه ، فلا بد من إحرازه في إحرازها ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

الى الامر)) النفسي المردد بين حصوله بالاقل او بالاكثر ((لا يكاد يحرز)) ذلك الغرض ((الا ب)) إتيان ((الاكثر بناء على ما ذهب اليه المشهور من العدلية من تبعية الاوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في المأمور به والمنهي عنه)).

نعم بناء على ما ذهب اليه الاشاعرة من عدم تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد في المأمور به والمنهي عنه ، وامكان ان يكون الاوامر والنواهي لا لمصلحة ولا لمفسدة اصلا ، وانه لا مانع عن صدور الجزاف منه تعالى ، لا يكون لنا علم اجمالي بغرض مردد بينهما ، فيكون للانحلال المذكور من جهة الامر الوجوبي اثر.

او بناء على عدم لزوم تبعية الاوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في المأمور به ، بل اللازم تبعيتها للمصالح ولو في نفس الامر والنهي كما عن بعض العدلية فانه ايضا لا يكون علم اجمالي بغرض لازم التحصيل ، لوضوح انه مع كفاية كون الغرض الداعي الى الامر في نفس الامر لا علم لنا اجمالي بغرض يلزم علينا تحصيله فيكون ايضا للانحلال المذكور اثر.

(١) توضيح المراد من هذه العبارة يتوقف على بيان امور :

الاول : ان الظاهر من كون شيء لطفا في شيء آخر ـ في عرف المتكلمين والاصوليين ـ هو كون شيء مقربا للشيء الآخر ، ومن الواضح ان الشيء المقرب الى شيء هو غير ذلك الشيء المقرب اليه ، فكون الواجبات الشرعية ألطافا في الواجبات العقلية لازمه كون الواجبات الشرعية ـ أي الاحكام الشرعية الواجبة ـ ألطافا في الواجبات العقلية هو كونها غير الواجبات العقلية ، وانما كانت غيرها لبداهة ان الحكم والامر بفعل على نحو الوجوب هو غير المصلحة الملزمة المترتبة على فعل ذلك الواجب شرعا ، ومرجعه الى ان الفعل المأمور به غير المصلحة المترتبة على ذلك

١٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

الفعل ، ولما كان الامر بفعل ما فيه المصلحة هو الداعي للمكلف الى اتيان ما فيه المصلحة كان مقربا الى تحقق المصلحة المترتبة على الفعل.

الثاني : انه لما كانت العلة الغائية هي من العلل الاربع للمركبات من الصورة والمادة : وهي العلة الصورية والعلة المادية والعلة الفاعلية والعلة الغائية. اما العلة الصورية والمادية فهما علتان للموجود لانه مركب منهما ، واما العلة الفاعلية فلأنها تحتاج الى فاعل وهو علة الصدور والى غاية وهي العلة الغائية لئلا يلزم الترجيح بلا مرجح والتخصيص بلا مخصص ، لوضوح ان الاشياء بالنسبة الى الفاعل القادر على ايجادها على حد سواء ، فكون احد الممكنات متعلقا للإرادة دون غيره من دون ان يكون فيه غاية اوجبت ترجيحه على غيره لازمه ان يكون ذلك الممكن قد ترجح من غير مرجح ، وهو يساوق تحقق المعلول من دون علة.

لا يقال : من ان نفس الارادة المتعلقة به هي المرجح والمخصص له دون غيره مدفوع بان نفس الارادة المتعلقة به دون غيره ايضا موجود من الموجودات ، فما لم يكن هناك مرجح ومخصص موجب لتخصصها وترجحها لان تتعلق بهذا الممكن دون غيره يستلزم كون وجود نفس الارادة بما هي متعلقة بهذا دون غيره ان تكون من دون مرجح ومخصص ، ولازم ذلك كون نفس الارادة معلولا وجد بلا علة تامة وهو من المحالات الواضحة ، وتفصيل الكلام في هذا موكول الى محله.

الثالث : انه لما كان الحكم الشرعي هو حكم من الله على عباده ، ومن البديهي انه تعالى هو فوق التمامية في الاستغناء عن افعال عباده ، وبعد ان كان لا بد ان يكون لفعله تعالى غاية ، فلا بد ان تكون الغاية هي المصلحة العائدة لسعادة عباده ، ومن الواضح ان المصلحة العائدة لصالح العباد الموجبة لامر الشارع لهم بالفعل انما تكون في نفس افعالهم ، ولذلك ذهب المشهور من العدلية الى القول بتبعية الاوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في نفس المأمور به والمنهي عنه.

١٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الرابع : ان الاحكام الشرعية : تارة تكون مما ادرك العقل المصلحة الداعية اليها ، كحكم الشارع بحرمة التعدي على الغير في نفسه وماله وعرضه ، وكوجوب حفظ النفوس عن الهلاك ، لانها من مصاديق ما اطبقت آراء العقلاء على قبحه وعلى حسنه ، لوضوح تطابق آراء العقلاء على حسن العدل وقبح الظلم. واخرى لا تكون المصالح والمفاسد في الافعال مما يصل العقل الى ادراكها. ولكن بعد ما ذكرنا في طي المقدمات المتقدمة من لزوم كون الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد في افعال العباد لما يعود الى مصالحهم المترتبة على افعالهم والمفاسد المترتبة على افعالهم ـ يتضح ان العقل لو اطلع على تلك المصالح والمفاسد لرآها مصالح تقتضي الامر ومفاسد تقتضي النهي.

الخامس : ان قاعدة الحسن والقبح العقليين هي ما اشرنا اليها من تطابق آراء العقلاء على حسن العدل وقبح الظلم : أي ان القاعدة التي تطابقت عليها آراء العقلاء هي عنوان حسن العدل وعنوان قبح الظلم.

واما الافعال بالنسبة الى هذه القاعدة وانطباق هذه القاعدة عليها فهي على انحاء :

لانها تارة تكون بحيث لو خلي الفعل وطبعه لكان حسنا ، كالصدق فانه لو خلي وطبعه لكان حسنا ما لم يكن هناك مانع عنه ، كما لو استلزم الصدق قتل مؤمن ـ مثلا ـ فانه يكون قبيحا.

واخرى يكون بحيث لو خلي وطبعه لكان قبيحا ، كضرب اليتيم فانه لو خلي وطبعه لكان قبيحا ما لم يتوقف عليه التأديب له ، ومع توقف تأديبه عليه يكون حسنا لان مصلحة تأديبه اهم من مفسدة إيذائه ، ومثل الكذب فانه لو خلي وطبعه لكان قبيحا ، إلّا انه لو توقف عليه لخلاص نفس المؤمن ـ مثلا ـ فانه يكون حسنا لا قبيحا.

وثالثة : لا يكون للفعل لو خلي وطبعه اقتضاء لان يكون حسنا ولا قبيحا ، كالاكل والشرب ـ مثلا ـ غير المتوقف عليهما حفظ النفس من التلف ، بل كانا بداعي اللذة مثلا.

١٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فاذا عرفت هذا ... نقول : ان الحكم الشرعي اذا تعلق بما يدرك العقل مصلحته الداعية لحسنه او مفسدته الداعية لقبحه كان الحكم الشرعي حكما عقليا ايضا ، واذا تعلق بما لا يدرك العقل مصلحته او مفسدته ، او تعلق الحكم الشرعي بوجوب ما لو خلي وطبعه لكان ممنوعا عنه عند العقل ، او تعلق بحرمة ما لو خلي وطبعه لكان حسنا ومأمورا به عند العقل ولم يطلع العقل على العنوان الغالب على مصلحة الفعل ولا على العنوان الغالب على مفسدته ـ لا يكون ذلك الحكم الوجوبي او التحريمي حكما عقليا بل حكما شرعيا محضا ، وان كان لو اطلع العقل على ذلك الامر الغالب لحكم بوجوب ما اوجبه الشارع وبحرمة ما حرمه الشارع ، إلّا انه حيث لم يطلع فلا حكم له فيه كما له حكمه في الموارد المنكشفة له.

ومما ذكرنا يتّضح : انه لا يجب ان يكون الحكم الشرعي ملازما لما حكم به العقل ويدركه ، فانه ربما ادرك مصلحة في شيء ولم يطلع على مفسدة فيه اهم من مصلحته ، او ادرك مفسدة في شيء ولم يطلع على مصلحة فيه اهم من مفسدته.

ومنه يتضح ان الاحكام الشرعية التي لم يصل العقل الى مصالحها ومفاسدها هي الاحكام المولوية ، ولكنها هي بحيث لو اطلع عليها العقل لرآها لازمة ايضا.

وقد اتضح ـ مما ذكرنا كله ـ المراد من قولهم الواجبات الشرعية الطاف في الواجبات العقلية ، وان المراد منها انها تابعة لمصالح ومفاسد لو اطلع عليها العقل لرآها لازمة ، وليس المراد ان الواجبات الشرعية داخلة في قاعدة الحسن القبح العقلي.

وقد عرفت ايضا ان الاحكام الشرعية مقربات الى المصالح والمفاسد المترتبة على المأمور به والمنهي عنه ، والى ذلك تشير جملة مما ورد في علل الاحكام كقوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)(١) وقوله عليه‌السلام : الصوم جنة من النار ، والزكاة نمو في المال ، والصدقة تطيل العمر ، وعقوق الوالدين منقصة فيه .. وامثال ذلك.

__________________

(١) العنكبوت : الآية ٤٥.

١٤٩

ولا وجه للتفصي عنه : تارة بعدم ابتناء مسألة البراءة والاحتياط على ما ذهب إليه مشهور العدلية ، وجريانها على ما ذهب إليه الاشاعرة

______________________________________________________

فاذا عرفت ان الاحكام الشرعية تابعة لمصالح ومفاسد في المأمور به والمنهي عنه ـ تعرف ان لازم العلم الاجمالي بالحكم المردد بين الاقل والاكثر العلم الاجمالي بغرض مردد بينهما ايضا ، فلو انحل العلم الاجمالي من ناحية الحكم فلا ينحل من ناحية الغرض عقلا.

وقد اتضح مما ذكرنا ايضا : ان الغرض حيث كان هو العلة للامر والنهي فالعقل يلزم بحصوله واستيفائه ، ولا بد في مقام الامتثال من الاتيان بما به يحصل الغرض عقلا.

وبعبارة اخرى : ان العقل كما يحكم في تحقق الاطاعة باتيان ما تعلق به الامر ، كذلك يحكم بلزوم تحصيله الغرض ولزوم موافقته باتيان ما به يحصل العلم بتحقق الغرض وانه لا يسقط الامر إلّا بذلك ، فلا بد من احراز حصول الغرض في مقام اطاعة الامر ، لانه بعد ان كان معلولا للغرض فلا يسقط الامر عقلا إلّا باتيان ما هو سببه وعلته.

والى ما ذكرنا اشار بقوله : ((وكون الواجبات الشرعية ألطافا في الواجبات العقلية)) أي ان الوجه لما ذهب اليه مشهور العدلية من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد هو كون الاحكام الشرعية مقربات للواجبات التي لو اطلع عليها العقل لرآها لازمة الاستيفاء وواجبة التحصيل ، واشار الى حكم العقل في مقام الاطاعة بلزوم تحصيل الغرض بقوله : ((وقد مر اعتبار موافقة الغرض وحصوله عقلا في مقام اطاعة الامر وسقوطه)) بالاطاعة وحيث كان كذلك ((فلا بد من احرازه)) أي لا بد من احراز حصول الغرض ((في احرازها)) أي في احراز الاطاعة ، ولا يحرز حصول الغرض في العلم الاجمالي المردد بين الاقل والاكثر إلّا باتيان الاكثر ((كما لا يخفى)).

١٥٠

المنكرين لذلك ، أو بعض العدلية المكتفين بكون المصلحة في نفس الامر دون المأمور به (١).

______________________________________________________

(١) توضيحه : انه بعد ما عرفت من ان الانحلال المذكور للعلم الاجمالي بالحكم المردد بين الاقل والاكثر بما ذكروه من العلم التفصيلي بوجوب الاقل اما لنفسه او لغيره والشك البدوي في الزائد ـ بعد الغض عما يرد عليه من المحاذير المذكورة ـ لا يكون مقيدا لحكم العقل في مقام الاطاعة بلزوم تحصيل الغرض ، ولما كان مرددا بين الاقل والاكثر فلا بد من اتيان الاكثر بحكم العقل للزوم تحصيل الغرض عقلا.

وقد اجيب عن هذا بوجوه ثلاثة اشار اليها في الكتاب.

الاول ، وتوضيحه : ان الاشاعرة حيث قالوا بامكان الارادة الجزافية وانه لا داعي الى الغاية في تحقق الارادة ، وانكروا تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد في المأمور به والمنهي عنه. ومن الواضح ان الكلام في مسألة البراءة والاحتياط في المقام وفي غيره من المقامات لا يبتني على مذهب مشهور العدلية ، بل الاشاعرة المنكرين للتبعية ، فانهم مع الانحلال يقولون بالبراءة ، ومع عدم الانحلال يقولون بالاحتياط .. فيظهر من هذا ان الكلام في الانحلال وعدمه انما هو الانحلال في مقام الامر لا في مقام الغرض ، وقد عرفت وجه الانحلال في مقام الامر بالعلم التفصيلي بوجوب الاقل والشك البدوي في الزائد عليه ، فلا وجه للاشكال بعدم الانحلال في ناحية الغرض بعد ان كان الكلام في المسألة هو الانحلال من ناحية الامر وعدمه.

والحاصل : ان الكلام بين العلماء في المقام انما هو في الانحلال في مقام الامر لا في الانحلال في مقام الغرض فانه ليس من محل الكلام في الاقل والاكثر الارتباطيين ، والى هذا اشار بقوله : ((تارة بعدم ابتناء مسألة البراءة والاحتياط على ما ذهب اليه مشهور العدلية)) من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد وانها هي الاغراض لها بل الكلام في مسألة البراءة والاحتياط لا يختص بمشهور العدلية ((و)) من الواضح ((جريانها)) أي جريان مسألة البراءة والاحتياط ((على ما ذهب اليه الاشاعرة

١٥١

وأخرى بأن حصول المصلحة واللطف في العبادات لا يكاد يكون إلا بإتيانها على وجه الامتثال ، وحينئذ كان لاحتمال اعتبار معرفة أجزائها تفصيلا ـ ليؤتى بها مع قصد الوجه ـ مجال ، ومعه لا يكاد يقطع بحصول اللطف والمصلحة الداعية إلى الامر ، فلم يبق إلا التخلص عن تبعة مخالفته بإتيان ما علم تعلقه به ، فإنه واجب عقلا وإن لم يكن في المأمور به مصلحة ولطف رأسا ، لتنجزه بالعلم به إجمالا.

______________________________________________________

المنكرين لذلك)) أي المنكرين للتبعية ، ولازم ذلك هو كون المدار في الانحلال وعدمه على الانحلال في ناحية الامر دون الغرض.

الثاني : من وجوه التفصي عن عدم الانحلال في الغرض هو ان بعض العدلية القائلين بلزوم الغاية في الارادة لم يلتزموا بلزوم كون الغاية للامر والارادة المتعلقة بالحكم الشرعي هي المصالح والمفاسد في المأمور به والمنهي عنه ، بل اكتفوا بالمصلحة في نفس الامر والنهي ، ومن الواضح ان الكلام في البراءة والاحتياط مما يعم هؤلاء البعض من العدلية ولا يختص بخصوص المشهور من العدلية ، ومن البديهي ايضا انه على القول بكفاية المصلحة في نفس الامر والنهي لا ياتي الاشكال في عدم الانحلال من ناحية الغرض في المأمور به والمنهي عنه ، لعدم حكم العقل على هذا باناطة سقوط الامر بتحصيل الغرض في المأمور به ، لفرض عدم الغرض فيه حتى يلزم تحصيله في مقام اطاعة الامر عقلا ، ولازم هذا كون المهم هو الانحلال في ناحية الامر دون الغرض ، والى هذا اشار بقوله : ((او بعض العدلية)) أي بناء على ما ذهب اليه هذا البعض من العدلية ((المكتفين)) هؤلاء ((بكون المصلحة في نفس الامر دون المأمور به)) لا يبقى مجال للاشكال من ناحية عدم الانحلال في ناحية الغرض كما عرفت.

١٥٢

وأما الزائد عليه لو كان فلا تبعة على مخالفته من جهته ، فإن العقوبة عليه بلا بيان (١).

______________________________________________________

(١) هذا هو الوجه الثالث من وجوه التفصي ، وحاصله : ان العقل لا يحكم في مقام الاقل والاكثر الارتباطيين في العبادات بلزوم تحصيل الغرض حتى يكون عدم الانحلال فيه مانعا عن الانحلال في ناحية الامر ، والوجه في عدم حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض في المقام في العبادات هو انه مما يحتمل دخالة قصد الوجه في اجزائها في حصول الغرض ، ومن الواضح ان اتيان اجزائها بداعي الوجه يتوقف على معرفتها بما هي اجزاء الواجب ، وهو مما يتوقف على معرفة الواجب تفصيلا ، والمفروض عدم معرفة الواجب تفصيلا لتردده بين الاقل والاكثر.

والحاصل : ان قصد الوجه هو اتيان الشيء بداعي وجوبه ، واتيان الاجزاء بداعي وجوبها بما هي اجزاء للواجب يتوقف على معرفة الواجب تفصيلا وهو غير موجود في المقام ، لان المفروض كون الواجب معلوما بالاجمال بنحو الترديد وليس بمعلوم تفصيلا ، ولازم ذلك سقوط حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض لتوقفه على غير المقدور في المقام ، ومع سقوط حكم العقل في المقام بلزوم تحصيل الغرض لا يبقى في المقام الا حكم العقل بلزوم اطاعة الامر والتخلص من تبعة العقاب على مخالفته ، ومع الانحلال المذكور وجريان البراءة في الزائد على الاقل المشكوك بدوا لا تبعة للعقاب من ناحيته ، ولا يكون عدم الانحلال من ناحية الغرض بمانع لعدم لزوم تحصيل الغرض حتى يكون عدم الانحلال من ناحيته مانعا.

والى هذا اشار بقوله : ((واخرى بان حصول المصلحة واللطف في العبادات)) الذي هو الغرض ((لا يكاد يكون)) محرزا ((إلّا باتيانها)) أي إلّا باتيان العبادات ((على وجه الامتثال)) المقطوع به ((وحينئذ)) حيث ((كان لاحتمال اعتبار معرفة اجزائها تفصيلا ليؤتى بها)) أي ليمكن ان يؤتى باجزاء العبادات ((مع قصد الوجه مجال)) أي لاحتمال دخالة قصد الوجه في اجزائها في حصول الامتثال المحصل

١٥٣

وذلك ضرورة أن حكم العقل بالبراءة ـ على مذهب الاشعري ـ لا يجدي من ذهب إلى ما عليه المشهور من العدلية (١) ، بل من ذهب إلى

______________________________________________________

للغرض مجال ((و)) لما كان لهذا الاحتمال مجال ومن الواضح انه ((معه)) أي مع احتمال دخالة قصد الوجه المتوقف على معرفة اجزاء العبادة تفصيلا غير المقدور في فرض العلم الاجمالي ودورانه بين الاقل والاكثر ((لا يكاد يقطع بحصول اللطف)) العقلي ((و)) هو ((المصلحة الداعية الى الامر)) ومع عدم امكان تحقق ما يتوقف عليه حصول الغرض فلا بد من سقوط حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض ((فلم يبق الا التخلص عن تبعة مخالفته)) أي مخالفة الامر ، ويحصل التخلص عن تبعة مخالفته لاجل الانحلال المذكور ((باتيان ما علم تعلقه به فانه واجب عقلا وان لم يكن في المأمور به مصلحة ولطف)) عقلي ((رأسا)) وذلك هو الاقل ((لتنجزه بالعلم به اجمالا)) لانه إما واجب لنفسه او لغيره ، فيكون الاقل هو القدر المتيقن الواجب قطعا في المقام ((واما الزائد عليه لو كان)) هو الواجب واقعا ((فلا تبعة على مخالفته من جهته)) أي من جهة العلم الاجمالي ((فان العقوبة عليه بلا بيان)) لانه مشكوك بدوا.

(١) هذا هو الجواب عن التفصيات المذكورة ، وحاصله : انه لا وجه للتفصي عن اشكال الغرض بهذه الوجوه الثلاثة :

اما عن الاول : فبأن الانحلال من ناحية الامر وان كان يتم على مذهب الاشعري القائل بامكان الارادة الجزافية وتحقق الامر من المولى من دون غرض ومصلحة اصلا ، لكنه لا يمكن ان يكون الانحلال من ناحية الامر مع عدم الانحلال من ناحية الغرض نافعا لمشهور العدلية ومن يرى رأيهم.

والحاصل : ان جريان البراءة في الاكثر على مذهب الاشعري لا يجدي لمن ذهب الى ما عليه مشهور العدلية من كون الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المأمور به والمنهي عنه ، لوضوح عدم جريانها عنده من ناحية الغرض الذي قد حكم العقل

١٥٤

ما عليه غير المشهور ، لاحتمال أن يكون الداعي إلى الامر ومصلحته ـ على هذا المذهب أيضا ـ هو ما في الواجبات من المصلحة وكونها ألطافا (١) ،

______________________________________________________

بلزوم تحصيله المتوقف على اتيان الاكثر ليأمن من تبعة العقاب على الغرض. والى هذا اشار بقوله : ((ضرورة ان حكم العقل بالبراءة على مذهب الاشعري لا يجدي .. الى آخر الجملة)).

(١) يشير بهذا الى الجواب عن الوجه الثاني في التفصي ، والجواب عنه ، اولا :

ان غير المشهور من العدلية القائلين بكفاية الغرض والمصلحة في نفس الامر لا يقولون بلزوم كون الغرض والمصلحة دائما في نفس الامر ، بل يقولون بامكان كون المصلحة والغرض في بعض الاوامر في نفس الامر ، ولا يسعهم القول بان جميع الاغراض قائمة بالامر دون المكلف به ، لوضوح انه لو كانت المصالح دائما قائمة بنفس الامر فلا وجه لتكليف العبد باتيان المكلف به ، لفرض حصول الغرض بنفس الامر ، فاي موجب لان يكلف المولى عبده باتيان ما لا غرض له به وهو أشبه بالجزاف ، ففيما لو علمنا بان المصلحة في نفس المأمور به كما في الصلاة المنصوص على كون الغرض والمصلحة فيها في نفسها لا في نفس الامر بها ، فان كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر نص في ان المصلحة والغرض هو في نفس الصلاة المأمور بها لا في الامر بها ، وفي مثلها فيما لو دار امرها بين الاقل والاكثر لا يستطيع من ذهب الى غير المشهور عند العدلية ان تجري البراءة في الاكثر من ناحية الامر مع علمه بان الغرض والمصلحة في نفس المامور به ، والمفروض حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض والمصلحة المتوقف ذلك على اتيان الاكثر.

وثانيا : ان الغرض تارة يكون معلوما كونه في نفس الامر. واخرى : يكون معلوما كونه في المأمور به. وثالثة : يكون محتملا لان يكون في نفس الامر ولان يكون في المأمور به.

١٥٥

فافهم (١).

______________________________________________________

ومن الواضح ندرة معلومية كون الغرض في نفس الامر ، وإلّا فالغالب ان يكون الغرض في نفس المامور به ولا اقل من احتمال ذلك.

واذا كان الغرض في نفس المأمور به او كان محتملا لان يكون في المأمور به ، فلا بد من لزوم تحصيله بعد العلم به على وجه الاجمال ولا يحصل اليقين من تبعته إلّا باتيان الاكثر.

والحاصل : ان الغرض ان كان في المأمور به فلزوم تحصيله باتيان الاكثر مما لا ريب فيه.

واما اذا كان محتملا لان يكون في المأمور به فتحصيله ـ ايضا ـ لازم بحكم العقل لانه بعد العلم بان هناك غرضا فالعقل يلزم بتحصيله ، ولا يحصل اليقين بتحصيله إلّا باتيان الاكثر. والى هذا اشار بقوله : ((بل من ذهب)) من العدلية ((الى ما عليه غير المشهور)) منهم لا يستطيع ان يجري البراءة في الاكثر ((لاحتمال ان يكون الداعي الى الامر)) ليست المصلحة التي في نفس الامر ((و)) ان مصلحته على هذا المذهب ايضا هو ما في)) نفس ((الواجبات من المصلحة وكونها ألطافا)) أي كون الواجبات الشرعية ألطافا في الواجبات العقلية التي هي المصالح في نفس المامور به فيها ، لما عرفت من ان القائلين بكفاية المصلحة في نفس الامر لا يقولون بالانحصار وانه لا بد دائما ان يكون مصلحة الامر في نفسه لا في المامور به ، ففي مقام احتملنا كون المصلحة في المامور به فلا بد عقلا من لزوم تحصيلها بعد العلم بان هناك مصلحة.

(١) يحتمل ان يكون اشارة الى انه فيما لو قلنا بكفاية المصلحة في نفس الامر : فتارة نعلم بكونها في نفس الامر فلا يجب تحصيلها لفرض حصولها بنفس الامر. واخرى نعلم بكونها في نفس المامور به لا في الامر ، وهذه هي التي يحكم العقل بلزوم تحصيلها. وثالثة : نحتمل كونها في نفس الامر ونحتمل كونها في المأمور به ، وهذه

١٥٦

وحصول اللطف والمصلحة في العبادة ، وإن كان يتوقف على الاتيان بها على وجه الامتثال ، إلا أنه لا مجال لاحتمال اعتبار معرفة الاجزاء وإتيانها على وجهها ، كيف؟ ولا إشكال في إمكان الاحتياط هاهنا كما في المتباينين ، ولا يكاد يمكن مع اعتباره (١).

______________________________________________________

كالاولى لا يجب على المكلف تحصيلها عقلا ، للشك في ارادة تحصيلها من المكلف لاحتمال حصولها بنفس الامر.

وبعبارة اخرى : ان العقل انما يحكم بوجوب تحصيل غرض المولى فيما اذا علم بان تحصيل غرضه منوط بفعل المكلف ، ومع احتمال كونها في نفس الامر لا يعلم بمصلحة تحصيلها منوط بالمكلف.

(١) هذه اشارة الى الجواب عن التفصي الثالث. وقد اجاب عنه في الكتاب بوجوه خمسة :

الاول : وتوضيحه ، ان قصد الوجه في العبادة هو الاتيان بها على وجه الامتثال بمعنى ان يقصد اتيانها بما للامر بها من خصوصية الوجوب. وقصد التمييز هو معرفة المأمور به باجزائه مفصلا والاتيان باجزائه بما هي اجزاء الواجب. ومن الواضح في المقام ـ وهو كون الامر دائرا بين الاقل والاكثر ـ مسلمية امكان الاحتياط فيه باتيان الاكثر ، غايته ان من يقول بالبراءة لا يرى الاحتياط واجبا ، ومن يقول بالاحتياط يرى اتيان الاكثر لازما. ولازم توقف الامتثال على معرفة الاجزاء تفصيلا وتمييزها وانها اجزاء الواجب بما هي كذلك عدم امكان الاحتياط ، لوضوح ان المفروض عدم معرفة الواجب تفصيلا وانه مردد بين الاقل والاكثر ، ولو كان معرفة الاجزاء بما هي اجزاء لازمة لما امكن ان يتأتى الاحتياط باتيان الاكثر. وحيث كان امكان الاحتياط باتيان الاكثر مسلما فلا بد وان يكون معرفة اجزاء الواجب وتمييزها تفصيلا غير لازمة.

١٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وبعبارة اخرى : ان المفروض في المقام ان الحال فيه من ناحية امكان الاحتياط حال المتباينين ، ولو كان معرفة اجزاء الواجب تفصيلا لازمة لما امكن الاحتياط في المتباينين لفرض عدم معرفة الواجب بعينه. ولا فرق بين مقامنا والمتباينين إلّا ان الاحتياط هنا باتيان الاكثر وهناك باتيان كلا الطرفين.

فتحصل مما ذكرنا : ان مفروض الكلام في المقام يقتضي عدم قصد الوجه في الاجزاء نفسها ، وانه لا يراد من المكلف في مورد العلم الاجمالي هنا وفي المتباينين اتيان اجزاء الواجب بقصد الوجه فيها لتوقفه على معرفتها تفصيلا وهو مفروض العدم ، ولا بد وان يكون اللازم كفاية قصد الاتيان بقصد الوجه على وجه الاجمال بان يقصد اتيان هذه الاجزاء بداعي الوجوب المعلوم اجمالا ، ولا يلزم اتيان كل جزء من هذه الاجزاء بداعي وجوبه المتعلق به.

وحاصل هذا الجواب : ان مسلمية امكان الاحتياط في المقام باتيان الاكثر لازمه عدم وجوب قصد الوجه في الاجزاء تفصيلا وإلّا لكان الاحتياط باتيان الاكثر غير ممكن ، لانه بالاتيان بالاكثر من باب الاحتياط يعلم باتيان الواجب المردد بين الاقل والاكثر ولكن لا يعلم اجزاؤه على التفصيل ، فمسلمية الاحتياط في المقام ينفي لزوم قصد الوجه في الاجزاء ، واللازم قصد الوجه في الواجب أي الكل ، ويكفي قصد الوجه في الواجب الذي هو الكل قصد الوجوب المعلوم بالاجمال المردد بين الاقل والاكثر. وقد اشار الى ما ذكرنا بقوله : ((وحصول اللطف والمصلحة في العبادات وان كان يتوقف على الاتيان بها على وجه الامتثال إلّا انه)) لا بد وان يكون هو قصد اتيانها بداعي الوجوب المعلوم اجمالا لبداهة انه ((لا مجال)) في المقام ((لاحتمال اعتبار معرفة الاجزاء)) تفصيلا ((واتيانها على وجهها)) بان ياتى بنفس الاجزاء بقصد وجوبها المتعلق بها و ((كيف)) يمكن ان يكون ذلك معتبرا في المقام مع ان المفروض في المقام تأتي الاحتياط من المكلف ((و)) انه ((لا اشكال في امكان

١٥٨

هذا مع وضوح بطلان احتمال اعتبار قصد الوجه كذلك ، والمراد بالوجه في كلام من صرح بوجوب إيقاع الواجب على وجهه ووجوب اقترانه به ، هو وجه نفسه من وجوبه النفسي ، لا وجه أجزائه (١) من

______________________________________________________

الاحتياط هاهنا كما)) هو الحال ((في المتباينين و)) قد عرفت انه مع لزوم اتيان نفس الاجزاء بقصد وجهها المتعلق بها ((لا يكاد يمكن)) الاحتياط هنا ولا في المتباينين.

فاتضح انه لا يعتبر هنا ولا في المتباينين في مقام الاحتياط قصد الوجه في الاجزاء نفسها لعدم تأتي الاحتياط ((مع اعتباره)).

(١) هذا هو الوجه الثاني في الاشكال على التفصي الثالث ، وحاصله : ان قصد الوجه اللازم ـ بناء على اعتباره ـ هو قصد اتيان المأمور به المركب بداعي الوجوب النفسي المتعلق بذلك المركب ، واما قصد الوجه في اجزاء المركب بان يؤتى بكل جزء جزء بداعي الوجوب المتعلق به فهو واضح البطلان.

وبيان ذلك : ان اعتبار قصد الوجه يرجع الى ان الواجب شرعا حيث كان لمصلحة قائمة به صار بها حسنا عقلا واقعا بحيث لو اطلع العقل عليها لرآه حسنا ولازما وحيث ان ما يدرك العقل حسنه لا بد وان يؤتى به بما هو حسن ، فالامور الحسنة العقلية لا بد في مقام اتيانها من لزوم قصد حسنها ليكون المأتي به موجها بوجهه الحسن ، ومثله الواجبات الشرعية فانها حيث كانت المصالح حسنة واقعا قائمة بالمأمور به فلا بد من اتيان المامور به بما هو معنون بعنوان الوجوب ، ومن الواضح ان المصلحة القائمة بالمركب بما هو مركب مصلحة واحدة قائمة به بما هو مركب ، فهناك مصلحة واحدة ولها وجوب واحد وهو الوجوب النفسي المتعلق بالمركب ، ومن الواضح ان كل جزء من اجزاء المركب ليس له مصلحة على حدة حتى يجب اتيانه بداعي وجوبه المختص به ، وإلّا لكان واجبا نفسيا بذاته وهو خلاف المفروض ، فان المفروض ان الواجب النفسي واحد وهو المركب من هذه الاجزاء ، لا أن هذه الاجزاء كل واحد منها واجب بوجوب نفسي يخصه.

١٥٩

وجوبها الغيري أو وجوبها العرضي (١) ، وإتيان الواجب مقترنا بوجهه غاية ووصفا بإتيان الاكثر بمكان من الامكان ، لانطباق الواجب عليه ولو كان هو الاقل ، فيتأتى من المكلف معه قصد الوجه ، واحتمال

______________________________________________________

والحاصل : ان فرض كونها اجزاء الواجب هو فرض كون الواجب هو المركب لا كل جزء جزء ، فالمأمور به العبادي هو المركب من الأجزاء وهو العبادة التي يلزم قصد الوجه فيه ، وليس كل جزء منه عبادة حتى يلزم قصد الوجه في نفس الاجزاء.

والى هذا اشار بقوله : ((هذا مع وضوح بطلان احتمال اعتبار الوجه كذلك)) أي قصد الوجه في الاجزاء نفسها حتى يكون ذلك متوقفا على معرفتها تفصيلا ، لما عرفت من السبب للقول بقصد الوجه هو قصد اتيان المامور به لما فيه من المصلحة الداعية لحسنه ، ولا ريب ان هنا مصلحة واحدة هي الحسن المتعنون به الواجب وهو المركب لا أجزاؤه ، وليست اجزاء العبادة بعبادة ((و)) من الواضح ان ((المراد بالوجه في كلام من صرح بوجوب ايقاع الواجب على وجهه ووجوب اقترانه)) أي اقران الواجب ((به)) أي بقصد الوجه ((هو وجه نفسه من وجوبه النفسي)) أي قصد وجوبه النفسي المتعلق بالمركب ((لا)) قصد ((وجه اجزائه)).

(١) اما وجوب الاجزاء الغيري ـ بناء على ان للاجزاء وجوبا غيريا ـ فلا يجب عقلا قصده لانه وجوب توصلي لا عبادي ، ومن الواضح ان قصد الوجه انما يجب في المطلوب العبادي دون التوصلي ، واما الوجوب العرضي ـ بناء على ان للاجزاء وجوبا عرضيا ـ فهو ايضا لا يجب عقلا قصده ، لانه لم يكن عن مصلحة هي الوجه الحسن الذي يجب عند العقل قصده ، لان الوجوب العرضي اما هو نفس الوجوب النفسي المتعلق بالكل ينسب ثانيا وبالعرض الى الاجزاء ، فهو من النسب المجازية للاجزاء لا الحقيقية حتى يلزم قصده فيها ، او انه الوجوب الغيري المترشح منه وتسميته عرضيا باعتبار انه لم يكن وجوبا لذاته ، بل كان امرا عارضا اقتضاه الوجوب النفسي وهو توصلي لا عبادي كما عرفت.

١٦٠