بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٢
ISBN: 946-497-063-2
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

واحد الاطراف في غير المعين ، فيكون العقاب على الطرف الآخر عقابا على غير الحرام ، فالترخيص للاضطرار في الطرف أو في احد الاطراف على كل حال بحيث لو صادف انه هو الحرام لكان حلالا بواسطة الاضطرار ، فلا وجه لتنجز العلم الاجمالي في الطرف غير المضطر اليه ، لانه يكون من المشكوك ، ولا شبهة في ان المشكوك مجرى البراءة.

وبعبارة اخرى : ان العلم الاجمالي لا بد ان يكون منجزا على كل تقدير ، ومن الواضح انه في الطرف المضطر اليه لا يكون منجزا.

والحاصل : انه مجرد الاضطرار الى احد الاطراف معينا او مخيرا يصيّر الطرف المضطر اليه جائز الارتكاب مطلقا وان كان هو الحرام ، والترخيص بنحو الاطلاق ينافي المنع عن الطرف الآخر بنحو الاطلاق ايضا ، لان لازم الاطلاق العقاب فيه على غير الحرام ، فلازم الترخيص في طرف بنحو الاطلاق عدم المنع عن الطرف الآخر ، لانه حيث لا يصح العقاب عليه بنحو الاطلاق فيكون مشكوكا بدوا وهو مجرى البراءة دون الاحتياط ، واليه اشار بقوله : ((ضرورة انه)) أي الاضطرار ((مطلقا موجب لجواز ارتكاب احد الاطراف او تركه)) أي ترك ارتكابه ((تعيينا) في الاضطرار الى المعين ((او تخييرا)) في الاضطرار الى غير المعيّن ، وقد عرفت ان الاضطرار الموجب للترخيص مطلقا في المعيّن وفي غير المعين وان كان هو الحرام ينافي المنع عن الطرف الآخر.

ومن الواضح : انه بعد الترخيص لا يبقى العلم بحرام مردد بين الطرفين ، لان لازم الترخيص في الطرف المضطر اليه معيّنا او في احد الاطراف مخيرا مطلقا ـ وان كان هو الحرام ـ هو احتمال كون المرخص فيه هو الحرام ، ولازم هذا جليا انه لا علم بالحرام قطعا بعد الترخيص في احد الاطراف ، ويكون مشكوكا بدوا فهو مجرى البراءة ، والى هذا اشار بقوله : ((وهو)) أي الترخيص وجواز الارتكاب بسبب الاضطرار في احد الاطراف ((ينافي العلم)) الفعلي ((بحرمة المعلوم او بوجوبه بينها

١٠١

بعدم عروض الاضطرار إلى متعلقه ، فلو عرض على بعض أطرافه لما كان التكليف به معلوما ، لاحتمال أن يكون هو المضطر إليه فيما كان الاضطرار إلى المعين ، أو يكون هو المختار فيما كان إلى بعض الاطراف بلا تعيين (١).

______________________________________________________

فعلا)) أي بين الاطراف ، لاحتمال كون الحرام هو المرخص فيه وهو الجائز ارتكابه بحكم الشارع وبالوجدان ، ولازم ذلك الجواز ـ في احد الاطراف المحتمل كونه هو الحرام ـ لا يبقى علم بحرام فعلي في بقية الاطراف او علم بواجب فعلي فيها.

وقد ظهر مما ذكرنا : ان جواز الارتكاب منوط بحصول الاضطرار ، فبمجرد تحقق الاضطرار يتحقق الاذن من الشارع ، لوضوح دلالة قوله عليه‌السلام رفع ما اضطروا اليه على ذلك ، وان الرافع للتكليف هو نفس الاضطرار دون الارتكاب ، فسواء ارتكب المضطر ام لم يرتكب يتحقق الاذن له في الارتكاب ، فالزمان المتخلل بين زمن الاضطرار وبين زمن الارتكاب الحكم فيه هو الترخيص وجواز الارتكاب ، لا ان الترخيص يكون مقارنا لزمن الارتكاب ، ومثله عند العقل ، لوضوح ان التكاليف منوطة بالقدرة على طرفي الفعل او الترك ، وعند حصول الاضطرار لا يكون للمكلف قدرة على الطرفين ، لوضوح ان الطرف المضطر الى ارتكابه لا قدرة عليه للمكلف.

فاتضح : انه بمجرد حصول الاضطرار يتحقق الترخيص شرعا وعقلا.

(١) يشير بهذا الى عدم الفرق بين الاضطرار السابق على العلم الاجمالي وبين الاضطرار اللاحق بعد العلم الاجمالي.

وتوضيحه يتوقف على بيان امرين : الاول : ان الفرق بين الاضطرار السابق واللاحق هو انه في الاضطرار السابق على العلم الاجمالي حيث انه يحتمل ان يكون المضطر اليه هو الحرام الواقعي ، فلا يكون العلم الاجمالي الحاصل بعد الاضطرار

١٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

منجزا اصلا ، بخلاف العلم الاجمالي السابق على الاضطرار فانه قبل الاضطرار منجز لعدم المانع.

الثاني : ان القدرة على جميع الاطراف شرط في تنجز التكليف بقاء وحدوثا ، فما لا قدرة عليه لا يكون العلم منجزا فيه ، سواء كان عدم القدرة سابقا على حدوث التكليف فلا يكون منجزا حدوثا ، او كان لاحقا للتكليف فلا يكون منجزا بقاء ، لوضوح ان القدرة شرط للتكليف حدوثا وبقاء ، فكما ان الاضطرار الموجب لعدم القدرة يكون موجبا لعدم حدوث التنجز اذا كان سابقا ، يكون كذلك موجبا لانقطاع التنجز اذا كان لاحقا. فاتضح : ان الاضطرار الموجب لعدم القدرة به ينتهي التكليف المعلوم اذا كان لاحقا للعلم. فكون التكليف السابق على الاضطرار منجزا قبل حصول الاضطرار لا يوجب فرقا في المقام ، لعدم الفرق بين عدم تنجز التكليف لتحقق المانع وبين عدم التكليف المرتفع بحصول المانع ، فلا فرق بين عدم حدوث التنجز وبين ارتفاعه بقاء.

واتضح مما ذكرنا : ان التكليف محدود بعدم الاضطرار ، فقبل حصول الاضطرار الى التكليف انما يكون منجزا لعدم حصول ما هو الحد له ، وبعد حصول حده لا بقاء له ، لما عرفت من كون القدرة حدا للتكليف والاضطرار موجب لعدم القدرة ، فالتكليف قبل الاضطرار محدود بعدم حدوث الاضطرار ، ولازم ذلك ان لا بقاء له بعد عروض الاضطرار.

وببيان آخر نقول : ان هنا امورا ثلاثة : الاول : انه لا اشكال في انه اذا تعلق الشك في حصول البراءة عما اشتغلت الذمة به فهو مورد الاحتياط ، وهو معنى قولهم شغل الذمة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

الثاني : انه لا إشكال ايضا في ان الاضطرار بحسب الدليل الشرعي الدال على رفع الاضطرار يكون من حدود التكاليف الواقعية التي كانت بموجب اطلاقها شاملة

١٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

لحالة الاضطرار وعدمه ، فانه بعد تحقق دليل رفع الاضطرار فالجمع بينهما يقتضي كون الاضطرار حدا للتكاليف الواقعية.

الثالث : انه من الواضح ايضا ان المؤثر من القطع واقعا هو ما كان مطابقا للواقع ، أما اذا انكشف انه جهل مركب فلا يكون مؤثرا.

وقد اتضح من هذه الامور الثلاثة انه لا فرق بين الاضطرار السابق واللاحق على حد سواء ، والفرق بينهما هو انه في الاضطرار السابق يكون الشك في تنجز التكليف حدوثا ، وفي الاضطرار اللاحق ينكشف ان هذا التنجز الذي كنا نرى استمراره لم يكن مستمرا ، وان العلم الاجمالي كان محدودا في المقام بالاضطرار ، لانه حيث يحتمل ان يكون ما فيه الاضطرار هو الحرام الواقعي فلذا يشك في وجود التكليف بعد الاضطرار ، واذا كان التكليف محتملا كان مورد البراءة.

لا يقال : ان الاضطرار وان كان حدا للتكليف ، إلّا انه بحصوله يكون موجبا لانقطاع التكليف ، واما قبل حصول الاضطرار فلا اشكال في كون التكليف منجزا ، وحيث يحتمل كون الحرام واقعا هو الطرف غير المضطر اليه فيشك لذلك في انقطاع التنجز فيستصحب تنجزه بعد عروض الاضطرار.

فانه يقال : لا مجال للاستصحاب بعد كون الاضطرار من حدود التكليف ، فان معنى كونه من حدوده هو حدوث الترخيص شرعا بمجرد عروضه فيما وقع الاضطرار اليه ، وقد عرفت ان الترخيص في المضطر اليه مطلقا وان كان حراما واقعا ينافي بقاء العقاب على الحرام الواقعي فلا شك في بقاء التنجز بعد عروض الاضطرار فلا مورد لاستصحابه ، والى هذا اشار بقوله : ((وذلك)) أي ان الوجه في عدم الفرق بين سبق الاضطرار ولحوقه هو ((لان التكليف المعلوم بينها)) أي بين الاطراف ((من اول الامر كان محدودا بعدم عروض الاضطرار الى متعلقه)) فلا فرق بين سبق الاضطرار على التكليف وبين لحوق الاضطرار للتكليف وعروضه عليه بعد تحققه ، ولذلك ((فلو عرض)) الاضطرار ((على بعض اطرافه)) أي على بعض اطراف

١٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

التكليف ((لما كان التكليف به)) أي لما كان التكليف بالمعلوم بالاجمال ((معلوما)) بعد عروض الاضطرار ((لاحتمال ان يكون)) منطبق التكليف ((هو المضطر اليه فيما كان الاضطرار الى المعين او يكون)) منطبق التكليف ((هو المختار فيما كان)) الاضطرار ((الى بعض الاطراف بلا تعيين)) هذا ما اختاره في المتن.

واما ما اختاره في هامش هذا الكتاب ..

فتوضيحه : ان الفرق بين الاضطرار الى المعين وبين الاضطرار الى احدهما غير المعين ، هو ان لازم الاضطرار الى غير المعين هو الترخيص في ارتكاب ايهما يختاره المكلف ، ومع الترخيص في ارتكاب ايهما شاء للاضطرار لا فرق بين الاضطرار على التكليف او تأخره عن التكليف في خصوص الاضطرار الى غير المعين ، لان الترخيص مطلقا في ارتكاب ايهما شاء ـ ولو كان هو الحرام الواقعي الذي لازمه عدم بقاء العقاب على الحرام الواقعي لو صادف ان المختار للمكلف هو الحرام الواقعي ـ ينافي بقاء العقاب على الحرام الواقعي.

واما الاضطرار الى المعين فلو تأخر الاضطرار عن التكليف فلانه وان كان لا شك في ان التكليف المعلوم اجمالا محدود بالاضطرار المعلوم وانه لا قدرة بعد الاضطرار ، إلّا ان الشك في المعين يرجع بالدقة الى الشك في ان ذلك المعلوم بالاجمال المعلوم تحديده بالاضطرار هل ينطبق على المعين الذي تعلق الاضطرار به ام لا ينطبق عليه؟ ومع معلومية تنجزه قبل عروض الاضطرار فالشك في انطباقه على المعين يوجب الشك في انقطاع تنجزه ، ومن الواضح ان التنجز المعلوم لا ينقطع بالشك في بقائه.

ومنه يتضح الفرق بين المعين وغير المعين ، فان اطلاق الترخيص لازمه الترخيص في مخالفة المنجز بما هو منجز ، وحينئذ لا محالة لا بقاء للتنجز مع اطلاق الترخيص فيه ، بخلاف الاضطرار الى المعين فانه لا اطلاق في الترخيص فيه الى المنجز بما هو منجز ، بل غايته هو كون الاضطرار موجبا للترخيص فيه بخصوصه ، ولذا يرجع الشك فيه

١٠٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الى الشك في انطباق المنجز المعلوم المحدود بالاضطرار على هذا المعين الذي وقع الاضطرار اليه.

وبعبارة اخرى : ان فعلية تنجز التكليف في الطرفين قبل عروض الاضطرار كان متحققا ، وبعد عروض الاضطرار الى المعين يشك في ان التكليف المنجز هل كان محدودا بالاضطرار فيما كان المضطر اليه المعين هو الحرام الواقعي ، او كان غير محدود بالاضطرار فيما كان الحرام الواقعي في الطرف غير المضطر اليه؟ ... ومع الشك في كون التكليف الواقعي المعلوم بالاجمال محدودا تنجزه فلا يكون باقيا او غير محدود تنجزه فيكون باقيا ـ يلزم بقاؤه لتحقق شغل الذمة به قبل عروض الاضطرار ، فلا بد من الفراغ اليقيني عن ذلك.

والحاصل : ان التكليف قبل عروض الاضطرار الى المعين كان فعليا مطلقا ، وبعد عروض الاضطرار الى المعين يشك في كون فعليته هل تحددت بالاضطرار الى المعين أم هي باقية غير محدودة في الطرف غير المضطر اليه؟ ولا وجه لرفع اليد عن فعليته المطلقة قبل الاضطرار بالشك في تحديدها ، ولازم ذلك بقاؤه منجزا في الطرف المعين غير المضطر اليه. وهذا بخلاف الاضطرار الى غير المعين فان عروض الاضطرار الى غير المعين يوجب الترخيص المطلق في أي طرف شاءه المكلف ، فلا يكون هناك شك في دوران التكليف المنجز بين المضطر اليه وغير المضطر اليه ، لوضوح انه لا تعين للمضطر اليه حتى يكون الامر دائرا بينه وبين غيره ، بل لازم الاضطرار الى غير المعين هو الترخيص غير المعين في طرف بخصوصه ، ولازم الترخيص المطلق العلم بعدم بقاء الاطلاق في فعلية التكليف ، ولاجل هذا عدل عما في المتن في الدورة الاخيرة الى ما ذكره في هامش الكتاب : من بقاء العلم الاجمالي منجزا في خصوص الاضطرار اللاحق فيما اذا كان الاضطرار الى الطرف المعين.

١٠٦

لا يقال : الاضطرار إلى بعض الاطراف ليس إلا كفقد بعضها ، فكما لا إشكال في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي مع الفقدان ، كذلك لا ينبغي الاشكال في لزوم رعايته مع الاضطرار ، فيجب الاجتناب عن الباقي أو ارتكابه خروجا عن عهدة ما تنجز عليه قبل عروضه (١).

______________________________________________________

(١) حاصله : لا يخفى ان هذا مرتبط بما اختاره في المتن ، وحاصله : النقض على ما ذكره من كون الاضطرار الى احد الاطراف موجبا لعدم تنجز التكليف في الطرف غير المضطر اليه.

وبيانه : انه لا اشكال في كون فقد بعض اطراف المعلوم بالاجمال بعد تنجزه ليس بمانع من بقائه منجزا في الطرف الموجود ، مثلا لو علم بنجاسة احد الإناءين ثم تلف احد الإناءين فلا اشكال عندهم في بقاء العلم الاجمالي منجزا في لزوم اجتناب الطرف الموجود ، وكذا لو علم بوجوب اكرام زيد أو عمرو ثم مات احدهم فلا اشكال ايضا عندهم في لزوم اكرام الشخص الباقي.

ومن الواضح ايضا ان فقد احد الاطراف مما يحتمل معه ذهاب المعلوم بالاجمال ، لاحتمال كونه هو الثابت ، ولا فرق بين عدم الحرمة لاجل ذهاب ما هو الحرام واقعا وتلفه ، وبين عدم الحرمة لاجل الاضطرار الى ما هو الحرام واقعا ، وحيث لم يكن اشكال في لزوم الاحتياط في الطرف الباقي بعد تلف احد الاطراف ، فكذلك لا ينبغي ان يكون اشكال في لزوم الاحتياط في الطرف غير المضطر اليه فيما اذا عرض الاضطرار الى بعض الاطراف بعد تنجز التكليف ، ويلزم الاجتناب عن الطرف الآخر ، كما يلزم الاجتناب مع الفقدان فيما اذا كان المعلوم بالاجمال هو الحرمة ، ويجب امتثاله في الطرف الباقي فيما اذا كان المعلوم بالاجمال هو الوجوب ، والحال مثله في عروض الاضطرار ، وعبارة المتن واضحة ، وقد اشار الى وجوب الاجتناب في الحرمة ووجوب الامتثال في الوجوب بقوله : ((فيجب الاجتناب عن الباقي)) فيما اذا كان المعلوم بالاجمال هو حرمة احد الاطراف ، وفيما اذا كان المعلوم بالاجمال

١٠٧

فإنه يقال : حيث أن فقد المكلف به ليس من حدود التكليف به وقيوده ، كان التكليف المتعلق به مطلقا ، فإذا اشتغلت الذمة به ، كان قضية الاشتغال به يقينا الفراغ عنه كذلك ، وهذا بخلاف الاضطرار إلى تركه ، فإنه من حدود التكليف به وقيوده ، ولا يكون الاشتغال به من الاول إلا مقيدا بعدم عروضه ، فلا يقين باشتغال الذمة بالتكليف به إلا إلى هذا الحد ، فلا يجب رعايته فيما بعده ، ولا يكون إلا من باب الاحتياط في الشبهة البدوية ، فافهم وتأمل فإنه دقيق جدا (١).

______________________________________________________

هو الوجوب بقوله : ((او ارتكابه)) أي ارتكاب الطرف الباقي والاتيان به ، لان شغل الذمة اليقيني يستدعي الفراغ عن عهدة التكليف باليقين ايضا ، واليه اشار بقوله : ((خروجا عن عهدة ما تنجز عليه)) وهو التكليف الذي تنجز عليه ((قبل عروضه)) أي قبل عروض الاضطرار.

(١) حاصل ما اجاب به عن هذا النقض هو ان الاضطرار من حدود التكليف ، والفقدان ليس من حدود التكليف ، وهذا الفرق هو الموجب لكون عروض الاضطرار رافعا لفعلية التكليف المعلوم بالاجمال دون الفقدان.

وتوضيحه : ان الفرق بينهما يتضح في فرض المعلوم بالتفصيل ، فان فقدان الموضوع يوجب ارتفاع التكليف لعدم المحل للمكلف به ، وفي الاضطرار يرتفع التكليف مع وجود المحل والموضوع للتكليف ، فالاضطرار حدّ للتكليف بذاته لانه به يرتفع مع وجود موضوعه وتحقق محله ، بخلاف ارتفاع التكليف بعدم موضوعه فانه وان ارتفع به التكليف ، الّا ان ارتفاع التكليف بذلك لانه انعدم موضوعه لا لتحقق ما يمنع عن نفس التكليف مع بقاء موضوعه.

ومنه يتضح : ان حدّ التكليف نفسه هو ما امكن ان يكون رافعا له مع الغض عن موضوعه ، بخلاف ارتفاع الموضوع فانه لا يعقل ان يكون حدّا للتكليف مع الغض

١٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

عن موضوعه ، ولذلك كان الاضطرار من حدود نفس التكليف ، دون ارتفاع موضوعه فانه ليس من حدود ذات التكليف.

وبعبارة اخرى : ان عروض الاضطرار يوجب الترخيص فيما هو الحرام ، بخلاف فقدان موضوع الحرام فانه لا يوجب الترخيص في الحرام لانعدام ما هو الحرام بعدم الموضوع ، فلا معنى للترخيص في الحرام حال عدم الحرام.

فاذا اتضح الفرق بينهما في كون الفقدان ليس من حدود التكليف ، بخلاف الاضطرار فانه من حدود نفس التكليف ـ اتضح الفرق بينهما في المعلوم بالاجمال ، فان التكليف المنجز اذا عرض فقدان احد الاطراف لا يرتفع تنجزه ، اذ لم يعرض على نفس التكليف ما يوجب الترخيص ، وحيث انه يشك في ارتفاع ما اشتغلت الذمة به فلا بد من الفراغ اليقيني عنه ، بخلاف ما اذا عرض الاضطرار فانه حيث كان موجبا للترخيص فبقاء التكليف المنجز يوجب احتمال اجتماع الضدين ، ولذلك يكون التكليف مقيدا بعدم الاضطرار من الاول ، ومع عروض ما يرتفع به فعلية التكليف لا يكون التكليف فعليا بعد عروضه ، وبه ترتفع فعلية التكليف المنجز ، ومع ارتفاع فعلية التكليف لا شك في شغل الذمة حتى يلزم الفراغ اليقيني عنه. والى ما ذكرنا اشار بقوله : ((فانه يقال حيث ان فقد المكلف به)) الذي هو الحرام ((ليس من حدود التكليف به)) أي ليس من حدود الطلب المتعلق به ((و)) لا من ((قيوده)) بخلاف الاضطرار فانه من حدود نفس الطلب المتعلق به وقيوده ، فلذلك ((كان التكليف المتعلق به مطلقا)) من حيث فقدان موضوعه ، اذ لا يعقل ان يتقيد به.

ولا ينبغي ان يقال : انه اذا لم يكن التقييد لا يمكن الاطلاق.

فانه يقال : المراد من الاطلاق هنا هو العدم المقابل للايجاب ، لا العدم المقابل للملكة ، فمراده من قوله مطلقا هو عدم امكان تقيد التكليف بعدم موضوعه ، واذا لم يكن متقيدا به ((فاذا اشتغلت الذمة به)) كما هو المفروض من عروض الفقدان بعد تنجز العلم الاجمالي ((كان قضية الاشتغال به يقينا)) يستدعي ((الفراغ عنه

١٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

كذلك)) أي يقينا ، وحيث يشك في الفراغ اذا لم يجتنب عن الطرف الباقي فلا بد من الاجتناب عنه تحصيلا للفراغ ((وهذا بخلاف الاضطرار الى تركه)) أي الى ترك التكليف نفسه المتعلق بالمكلف به مع بقاء موضوعه لان الاضطرار يوجب الترخيص فيما هو الحرام ، فلذلك كان من حدود نفس التكليف ، ولذا قال : ((فانه من حدود التكليف به وقيوده)) فالتكليف محدود بعدم الاضطرار من الاول ((ولا يكون الاشتغال به من الاول الا مقيدا بعدم عروضه)) أي بعدم عروض الاضطرار ، فاذا عرض الاضطرار في احد اطراف المعلوم بالاجمال فلا يقين بفعلية التكليف ، لاحتمال كون الحرام في الطرف المضطر اليه المرتفع به فعلية التكليف.

لا يقال : كان التكليف فعليا قبل الاضطرار والآن يشك في فعليته فتستصحب.

فانه يقال : بعد ما عرفت من كون التكليف محدودا بالاضطرار ، فالتكليف الذي كان فعليا قبل عروض الاضطرار هو التكليف المقيد بعدم الاضطرار ، ولم تكن فعليته مطلقة من جهة الاضطرار وعدمه حتى يصح استصحابه ، فبعد عروض الاضطرار لا يكون هناك الا شك في التكليف الفعلي وهو مورد البراءة ، ولذا قال (قدس‌سره) : ((فلا يقين باشتغال الذمة بالتكليف به الا الى هذا الحد)) وهو ما قبل عروض الاضطرار وبعد عروض ما يوجب ارتفاع فعليته لو صادفه لفرض كونه حدا له ((فلا يجب رعايته)) أي لا يجب رعاية التكليف ((فيما بعده)) أي فيما بعد عروض ما يحتمل كونه هو الحد له فلا يجب الاحتياط فيه ((ولا يكون)) الاحتياط فيه ((الا من باب الاحتياط في الشبهة البدوية)).

ومما ذكرنا تبين الاشكال فيما ذهب اليه الشيخ الاعظم : من ان الاضطرار انما يحل العلم الاجمالي في خصوص الاضطرار الى المعين قبل العلم الاجمالي.

واما في غيره ـ وهو الاضطرار الى غير المعين سواء في السابق على العلم الاجمالي او في اللاحق للعمل الاجمالي ، والاضطرار الى المعين اللاحق للعلم

١١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الاجمالي ـ فلا يحلّ العلم الاجمالي ويبقى التكليف منجزا في هذه الصور الثلاث.

والوجه في بقاء العلم الاجمالي منجزا في الاضطرار الى غير المعين ـ سواء كان سابقا على العلم الاجمالي او لاحقا له ـ ان الاضطرار الى غير المعين ليس اضطرارا الى النجس ، اذ لا خصوصية خاصة في الاناء النجس لرفع الاضطرار ، فلا اضطرار الى ارتكاب النجس ولو على سبيل الاحتمال ، لانه حين عروض الاضطرار لا خصوصية للنجس حتى يكون الاضطرار اضطرارا اليه. نعم حين الارتكاب يحتمل ان يكون النجس هو الذي ارتكبه المضطر ، فقبل الارتكاب الاضطرار انما هو الى انه لا يمكنه ترك الإناءين معا ، ولا خصوصية للاناء النجس ، ولما كان الحرام بما هو حرام غير مضطر اليه ، ومتعلق التكليف بما هو مقدور فعلا وتركا ، وليس المردد بعنوان كونه مرددا حراما ولا هو بما هو مردد مضطرا اليه. بل معنى الاضطرار الى غير المعين ما عرفت وهو انه لا يقدر على تركهما معا ، مع القدرة على فعل كل منهما وتركه في نفسه ، فشرائط تنجيز الخطاب الواقعي من العلم به والقدرة على متعلقة موجودة فيؤثر العلم اثره.

والحاصل : ان المكلّف يعجز عن الموافقة القطعية دون الامتثال بالكليّة ، وانما يكون معذورا فيما هو عاجز عنه وهو الموافقة القطعية ، دون اصل الامتثال بالكلية ، فيعذر عقلا فيما هو عاجز عنه وهو الموافقة القطعية وتركهما معا ، لا في غيرها وهو اصل الموافقة كليّة مع ثبوت المقتضي لأصل الموافقة ولو في ترك احد الإناءين.

وقد اجيب عنه بجوابين : الاول : ما اشار اليه في المتن وهو منافاة الترخيص التخييري مع الحرمة التعيينيّة وهي حرمة الاناء غير الملزوم شربه ، وتسقط الحرمة التعيينية للمضادة وهي منافاة الترخيص التخييري للحرمة التعيينية ، فلا علم بتكليف فعلي بعروض الاضطرار الى احدهما غير المعين حتى يقال بان سقوط لزوم الموافقة القطعية لا يقتضي سقوط حرمة المخالفة القطعية.

١١١

الثاني : إنه لما كان النهي عن الشيء إنما هو لاجل أن يصير داعيا للمكلف نحو تركه ، لو لم يكن له داع آخر ـ ولا يكاد يكون ذلك إلا فيما يمكن عادة ابتلاؤه به ، وأما ما لا ابتلاء به بحسبها ، فليس للنهي عنه موقع أصلا ، ضرورة أنه بلا فائدة ولا طائل ، بل يكون من قبيل طلب الحاصل (١) ـ كان الابتلاء بجميع الاطراف مما لا بد منه في تأثير العلم ، فإنه

______________________________________________________

الثاني : ما عن شيخنا الاستاذ (قدس‌سره) من ان المعذورية في ارتكاب احدهما ورفع عقاب الواقع عند المصادفة ينافي بقاء عقاب الواقع على حاله حتى تحرم المخالفة القطعية ، لانه بمجرد الاضطرار يرتفع التكليف ، لبداهة انه بمجرد الاضطرار ياذن له في الارتكاب سواء ارتكب ام لم يرتكب ، فان الاضطرار الى ارتكاب احدهما غير المعين بمجرد عروضه بما هو مشفوع بالجهل بما هو الحرام واقعا يجوز له الشارع او العقل الارتكاب قبل ان يرتكب ، فلا وجه للقول بالتوسط في التنجز في المقام كما عن بعض الاجلة الاكابر ، فراجع ..

(١) هذا التنبيه الثاني لتحقيق حال الخروج عن محل الابتلاء بالنسبة الى التكليف ، وتوضيحه يحتاج الى بيان امور :

الاول : ان صريح الشيخ في رسائله (طاب ثراه) هو ان الخروج عن محل الابتلاء ليس هو الخروج الموجب لعدم القدرة عليه عقلا بحيث يكون الابتلاء به ممتنعا عقلا ، كما لو كان قد خرج الى محل يحول بينه وبين المكلف ، مثلا بحر لا يستطيع المكلف عبوره ولا واسطة عنده ، وليس المراد منه ايضا الخروج الموجب لكونه ممتنعا عادة بحيث لا يمكن الوصول اليه عادة ، فان الخروج بهذين المعنيين مما يدخل في عدم القدرة العقلية والعادية ، بل المراد منه هو ما امكن الابتلاء به ، إلّا ان الابتلاء به كان خلاف العادة ، كما لو خرج احد الإناءين الواقع طرفا للعلم الاجمالي الى بلد يبعد عادة ابتلاء المكلف به ، واذا كان المراد منه هذا المعنى لا ما يرجع الى الامتناع العقلي

١١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

والعادي ، فلا بد وان يكون الدليل عليه غير ما دلّ على اعتبار القدرة في فعلية التكليف.

الثاني : انه بعد ما عرفت المراد من الابتلاء الذي هو محل الكلام .. تعرف انه بعد قيام الدليل على اعتبار عدم الخروج في فعلية التكليف يكون من حدود التكليف ، لوضوح بقاء ما هو الموضوع للتكليف ، فيكون المرتفع هو التكليف نفسه ، وما كان رافعا لفعلية التكليف مع بقاء موضوعه فلازمه ان يكون حدا للتكليف ، وان فعليته منوطة به : أي ان فعلية التكليف منوطة بعدم الخروج عن محل الابتلاء.

الثالث : ان ما اشار اليه في المتن من الدليل لشرطية عدم الخروج عن محل الابتلاء لفعلية التكليف وهو امران : الاول : الاستهجان وان فعلية الخطاب مع الخروج عن محل الابتلاء يكون مستهجنا عند العرف ولغوا ومما لا فائدة فيه.

وبيانه : ان النهي عن الشيء كالامر به انما هو لداعي جعل الداعي للعبد الى ترك الفعل ، كما انه في الامر لداعي جعل الداعي الى الفعل ، ففي مورد الزجر والنهي انما يصح ان يكون النهي زاجرا ورادعا للعبد هو فيما اذا تمت مقدمات الفعل ، بحيث لا يكون الرادع عنه الّا زجر المولى ونهيه ، فحينئذ يصحّ خطاب المولى عبده بالزجر عن الفعل وطلب تركه منه ، اما اذا كان الفعل متروكا بحسب طبعه لعدم الابتلاء به فلا فائدة في خطاب العبد بالترك لما هو متروك بحسب طبعه ، ويعدّ الخطاب منه لعبده في الزجر عنه مستهجنا ولغوا لا فائدة فيه.

ويظهر مما ذكرنا : ان عدم الخروج عن محل الابتلاء هو من حدود التكليف التحريمي دون التكليف الايجابي ، لان التكليف الايجابي هو ما كان بداعي جعل الداعي لايجاد الفعل ، ومن الواضح ان ايجاد الفعل يتوقف على ايجاد مقدماته ، فاذا كان متعلق التكليف الايجابي خارجا عن محل الابتلاء عادة يجب على المكلف ادخاله في محل الابتلاء لتوقف ايجاده على ذلك ، بخلاف الطلب التحريمي فانه لما كان بداعي جعل الداعي الى الترك فلا يمكن ان يكون هذا النهي داعيا للعبد الا حيث يكون

١١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

مقدمات الفعل كلها متحققة ، بحيث لا يمنع العبد عن الفعل الّا نهي المولى عنه وزجره عن ارتكابه ، فاذا فرضنا كونه متروكا بحسب طبعه عادة فلا داعي أيضا لجعل هذا الداعي.

لا يقال : انه اذا كانت المقدمات كلها موجودة وكان العبد منصرفا بحسب طبعه عن الفعل ايضا يكون الفعل متروكا بحسب طبعه ، فلا داعي لجعل الداعي للردع عنه ، وهذا مما لا يسعكم الالتزام به.

فانه يقال : ان المراد من جعل الداعي هو جعل ما يمكن ان يكون داعيا ، لا جعل ما هو داع بالفعل ، ولما كانت المقدمات كلها موجودة فيمكن ان تتحقق الدعوة ، لامكان ان ينقلب هذا الانصراف عنه الى الرغبة الى ايجاده ، اما اذا لم تكن مقدماته موجودة اما كلها او بعضها فلا يعقل الّا ان يكون متروكا ، ومع كونه لا بد ان يكون متروكا فلا فائدة في جعل الداعي الى تركه.

الثاني : انه لما كان الداعي هو جعل الداعي الى الترك ، وكان المفروض كونه متروكا لعدم بعض مقدماته او كلها ، فيكون جعل الداعي الى تركه من قبيل طلب الحاصل. وقد اشار الى ان النهي كالامر هو ايضا بداعي جعل الداعي بقوله : ((انه لما كان النهي عن الشيء انما هو لاجل ان يصير)) النهي ((داعيا للمكلف نحو تركه)) أي نحو ترك الفعل ((فيما لو لم يكن له)) هناك ((داع آخر)) الى الترك : أي ان النهي لما كان بداعي جعل الداعي الذي معناه كون النهي داعيا الى الترك ، فلازم ذلك انه اذا كان هناك سبب للترك كالخروج عن محل الابتلاء وكان الفعل متروكا بحسب طبعه عادة ان لا يبقى مجال لسببيّة النهي ، واذا كان كذلك فلا يكون الخطاب بطلب الترك فعليا مع فرض كون الفعل متروكا بحسب طبعه عادة ((ولا يكاد يكون ذلك)) أي لا يكاد يكون النهي عن الشيء داعيا للمكلف الى الترك ((الا فيما يمكن عادة ابتلاؤه به)) بان كان داخلا في محل الابتلاء عادة وكان مما يمكن ابتلاء المكلف به عادة ((واما ما لا ابتلاء به بحسبها)) أي بحسب العادة ((فليس ل)) فعلية ((النهي عنه موقع

١١٤

بدونه لا علم بتكليف فعلي ، لاحتمال تعلق الخطاب بما لا ابتلاء به (١).

ومنه قد انقدح أن الملاك في الابتلاء المصحح لفعلية الزجر وانقداح طلب تركه في نفس المولى فعلا ، هو ما إذا صح انقداح

______________________________________________________

اصلا)) وبهذا اشار الى أن عدم الخروج عن محل الابتلاء هو شرط غير شرط القدرة العقلية والعادية ، بجعل العادة صفة وقيدا للابتلاء ، بان يكون الابتلاء وعدم الابتلاء بحسب العادة دون القدرة كما مرّ بيانه. وبتخصيص النهي بقوله : ((فليس للنهي عنه موقع اصلا)) اشار الى ان عدم الابتلاء شرط لخصوص النهي دون الامر.

واشار الى الدليل الاول على هذا الاشتراط بقوله : ((ضرورة انه بلا فائدة ولا طائل)) واشار الى الدليل الثاني بقوله : ((بل يكون من قبيل طلب الحاصل)).

(١) هذا جواب قوله : ((لما كان النهي عن الشيء)) ... في صدر العبارة ، وتقديره انه لما كان النهي عن الشيء انما هو لاجل ان يصير داعيا ... الى آخر العبارة ، كان الابتلاء بجميع الاطراف مما لا بد منه في تأثير العلم الاجمالي.

وحاصله : انه بعد ما عرفت من ان النهي كالامر هو بداعي جعل الداعي وان المتروك من طبيعته لعدم مقدماته او بعضها يلغو جعل الداعي من المولى الى تركه ـ تعرف ان الدخول في محل الابتلاء من شرائط فعلية التكليف ، ومع خروج المعلوم بالتفصيل عن محل الابتلاء يعلم بعدم فعلية التكليف ، وبخروج احد اطراف المعلوم بالاجمال عن محل الابتلاء لا بعلم بفعلية التكليف ، لاحتمال ان الخارج عن محل الابتلاء هو متعلّق الخطاب واقعا. والى هذا اشار بقوله : ((كان الابتلاء بجميع الاطراف مما لا بد منه في تأثير العلم)) الاجمالي ((فانه بدونه)) أي بدون الابتلاء بجميع الاطراف ، فانه اذا خرج بعض الاطراف عن محل الابتلاء ((لا)) يكون هناك ((علم بتكليف فعلي لاحتمال)) انه قد ((تعلق الخطاب بما لا ابتلاء به)).

١١٥

الداعي إلى فعله في نفس العبد (١) مع اطلاعه على ما هو عليه من الحال (٢) ، ولو شك في ذلك كان المرجع هو البراءة ، لعدم القطع

______________________________________________________

(١) مراد المصنف اعطاء الضابط لما هو داخل في محل الابتلاء مما هو خارج عن محل الابتلاء ، وحاصل هذا الضابط ان المدار في الدخول في محل الابتلاء والخروج عنه هو امكان انقداح الداعي في نفس العبد الى فعله ، وعدم امكان انقداح الداعي الى الفعل في نفس العبد.

وتوضيحه : انه نفرض ان العبد لا ينزجر بنهي المولى عن اتيان الفعل المنهي عنه ، فاذا كان العبد بحيث يفعله لو لم يكن منقادا لنهي المولى فذلك الفعل داخل في محل الابتلاء ، واذا كان العبد بحيث لا ينقدح له ارادة فعله وان لم يكن منقادا الى نهي المولى لعدم حصول مقدماته بالفعل فذلك الفعل خارج عن محل الابتلاء ، فان النجس لو كان مثلا في غير بلد العبد لا ينقدح للعبد ارادة شربه فعلا.

وبعبارة اخرى : ان الضابط انه ان كان العبد بحيث يمكن ان يكون الرادع له عن فعل المنهي عنه هو نهي المولى ، لا فقد بعض المقدمات او كلها ، فذلك الفعل داخل في محل الابتلاء ، وان كان المانع للعبد عن الفعل هو عدم بعض مقدمات الفعل او كلها لا نهي ، المولى فذلك هو الخارج عن محل الابتلاء.

وقد اشار المصنف في عبارته الى ما هو المناط في الابتلاء ، ومنه يظهر ان المناط في عدم الابتلاء هو عدم تحقق ما هو المناط للابتلاء بقوله : ((ومنه قد انقدح ان الملاك في الابتلاء)) الذي هو الشرط لفعلية التكليف من قبل المولى و ((المصحح لفعلية الزجر)) منه ((وانقداح طلب تركه في نفس المولى هو ما اذا صح)) هذا هو الخبر لقوله ان الملاك أي ان الملاك للفعلية من قبل المولى هو ما اذا كان بحيث يصح ((انقداح الداعي الى فعله في نفس العبد)).

(٢) لا يخفى انه قد اختلف في مرجع الضمير في اطلاعه في ان مرجعه هو العبد او المولى ، فالمصرّح به من بعض الاساتذة الاعلام ان ضمير اطلاعه يرجع الى المولى ،

١١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

لان المانع من فعلية النهي من قبل المولى هو منافاة الخروج عن محل الابتلاء لفعليته من قبل الحكيم ، لعدم الفائدة في الفعلية بعد ان كان الفعل متروكا من طبعه ، فان امكان كون النهي فعليا من قبل المولى بحيث يكون نهيه مما يمكن ان يكون داعيا الى ترك الفعل حيث تتمّ مقدماته ، واذا كان الفعل متروكا بطبعه لعدم مقدماته او بعضها فنهيه لا يمكن ان يكون داعيا الى الترك فعلا ، وتكون فعليّته من قبل المولى لغوا ومستهجنة والحكيم لا يفعل اللغو والمستهجن.

ولا يخفى ان اطلاع المولى على الدخول والخروج عن محل الابتلاء هو الذي له دخل في فعلية الطلب من قبله ، واطلاع العبد وعدمه لا دخل له بالفعلية من قبل المولى.

ويمكن ان يقال : ان الدخول في محل الابتلاء هو شرط ـ واقعا ـ للفعلية ، سواء اطلع المولى عليه ام لم يطلع ، وفي حال عدم اطلاع المولى على الخروج عن محل الابتلاء وان كان لا منافاة فيه للحكمة من الحكيم لعدم اطلاعه ، إلّا ان فعلية نهيه مما لا واقع لها واقعا ، لعدم امكان ان يكون نهيه رادعا واقعا ، مع انه خلاف ظاهر سوق العبارة ، فان ظاهرها رجوع ضمير اطلاعه الى العبد خصوصا مع كون المولى في الاحكام الشرعية هو ما لا يخفى عليه شيء ، والعبد هو الذي يكون له اطلاع تارة على الدخول في محل الابتلاء ، ولا يكون له اطلاع على ذلك اخرى بان كان جاهلا بكون المكلف به ليس في متناوله فعلا وخارج عن محل ابتلائه. ويكون المتحصّل من العبارة على هذا ان الضابط في فعلية التكليف من قبل المولى : هو كون العبد بحيث لو علم بالحال واطلع عليه فان كان مما يمكن ان ينقدح الداعي له الى الفعل فهو مناط الدخول في محل الابتلاء ، لانه في هذا الفرض يمكن ان يكون نهي المولى رادعا له وداعيا له الى الترك ، وان كان بحيث لا ينقدح الداعي الى الفعل في نفس العبد فهو مناط عدم فعلية التكليف من قبل المولى ، لان الفعل على هذا الفرض يكون متروكا بحسب طبعه ففعليّة الخطاب فيه تكون لغوا وبلا فائدة ، والله العالم.

١١٧

بالاشتغال ، لا إطلاق الخطاب ، ضرورة أنه لا مجال للتشبث به إلا فيما إذا شك في التقييد بشيء بعد الفراغ عن صحة الاطلاق بدونه ، لا فيما شك في اعتباره في صحته ، تأمل لعلك تعرف إن شاء الله تعالى (١).

______________________________________________________

(١) توضيحه يتوقف على بيان امور : الاول : انه قد ظهر مما ذكرنا انه لو علم بدخول الفعل في محل الابتلاء كان النهي عنه فعليا ، وان علم بخروجه عن محل الابتلاء كان النهي عنه غير فعلي ، فاذا شك في كونه داخلا في محل الابتلاء او غير داخل ... فهل المرجع اطلاق خطاب النهي ، او المرجع اصالة البراءة عن التكليف؟

الثاني : انه قد ظهر مما ذكرنا ايضا : ان الدخول في محل الابتلاء من الشرائط العقلية ، بحيث يكون التكليف مع الدخول في محل الابتلاء صحيحا من المولى ، ومع الخروج عن محل الابتلاء لا يكون التكليف من المولى صحيحا ، فالشك في الدخول وعدمه مرجعه الى الشك في صحة التكليف من المولى عقلا وعدم صحته عقلا.

الثالث : ان الرجوع الى اطلاق الخطاب في مقام الشك في اخذ قيد للخطاب في الشبهة الحكمية او في تحقق ما هو قيده في الشبهة الموضوعية ـ بناء على صحة الرجوع الى اطلاق الخطاب فيها كما في المخصص اللبي ـ انما هو فيما اذا كان الخطاب مما احرز صحة الخطاب به عقلا وكان من ناحية اخذ قيد فيه شرعا وعدم اخذه شرعا ، اما اذا لم يحرز صحة الخطاب عقلا فلا وجه للتمسك بالاطلاق.

الرابع : ان الشك في الدخول وعدمه : تارة يكون من ناحية الشبهة الحكمية بان كان خروج الشيء مما يشك فيه عند العرف في انه هل يعدّ عند العرف خروجا عن محل الابتلاء ، او لا يعدّ خروجا عن محل الابتلاء عندهم؟ بحيث لا يعدّ خطاب المولى فيه من اللغو ، كما لو كان الشيء خارجا الى محلة اخرى غير المحلّة التي يقطنها المكلف بحيث يشك عرفا في صحة الخطاب بالنهي عنه وعدم صحته.

ولا يقال : انه اذا كان الشرط من الشروط العقلية فلا وجه للشك فيه لعدم تردد العقل في احكامه العقلية.

١١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فانه يقال : ان ما يحكم به العقل هو صحة الخطاب مع عدم اللغوية وعدم صحته مع لزوم اللغوية ، واما تمييز ما به تحصل اللغوية اولا تحصل فليس من الموضوعات العقلية ، فمجال الشك فيه واضح.

واخرى : يكون الشك من ناحية الشبهة الموضوعية بان كان سبب الشك هو ان الخروج هل كان ـ مثلا ـ الى دار مجاورة لدار المكلف فلا يكون ذلك خروجا عن محل الابتلاء قطعا ، او كان الى بلد آخر فانه يكون خروجا عن محل الابتلاء قطعا؟

اذا عرفت هذه الامور ... فنقول : ان المرجع عند الشك في الخروج عن محل الابتلاء وعدمه هو البراءة لا اطلاق الخطاب ، لما عرفت من ان صحة التمسك بالاطلاق انما يكون بعد المفروغية عن صحة الخطاب وهو في غير القيود والشروط العقلية ، واما اذا كان اطلاق الخطاب مما يشك في صحته عقلا فلا وجه للرجوع الى التمسك باطلاق الخطاب ، ومن الواضح كما عرفت ان الشك في الخروج عن محل الابتلاء وعدمه يرجع الى الشك في صحة الخطاب وعدمه عقلا.

ومنه يتضح انه لا فرق بين كون الشك من ناحية الشبهة الحكمية او الشبهة الموضوعية في المقام الذي يصح التمسك بالاطلاق فيها لو كان الشك في تحقق القيود الشرعية كما في المخصص اللبي ، لما عرفت من ان الشك في المقام يرجع الى الشك في صحة الخطاب عقلا وعدمه ، ولذلك اطلق المصنف وقال : ((ولو شك في ذلك)) أي في الخروج عن محل الابتلاء وعدمه مطلقا ، سواء كان من ناحية الضيق والسعة في الخروج الذي يلزم منه اللغوية عند العرف وهي جهة الشبهة الحكمية ، او كان من ناحية تحقق الخروج وعدمه من جهة الشبهة الموضوعية ، لفرض كون الخروج المشكوك لو كان متحققا لكان مما يمنع عن توجه الخطاب قطعا.

والحاصل : انه لو شك في الخروج وعدمه من أي ناحية كانت ف ((المرجع هو البراءة لعدم القطع بالاشتغال)) اليقيني حتى يستدعي الفراغ اليقيني ، ولا وجه للرجوع الى التمسك بالاطلاق فيثبت الاشتغال ، لما عرفت من رجوع الشك الى

١١٩

الثالث : إنه قد عرفت أنه مع فعلية التكليف المعلوم ، لا تفاوت بين أن تكون أطرافه محصورة وأن تكون غير محصورة (١).

______________________________________________________

صحة الخطاب عقلا وعدمه ، ولذا قال : ((لا اطلاق الخطاب)) وقد اشار الى ما ذكرنا من الوجه في عدم صحة الرجوع الى الاطلاق بقوله : ((ضرورة انه لا مجال للتشبث به)) أي بالاطلاق ((الا فيما اذا شك في التقييد بشيء بعد الفراغ عن صحة الاطلاق بدونه)) أي بدون ذلك التقييد المشكوك كما فيما اذا كان التقييد المشكوك من التقيدات الشرعية فانه لا شك في صحة الخطاب مع عدم ذلك القيد المشكوك ، بخلاف ما اذا كان فيه من القيود العقلية فان الخطاب لا يصح اذا كان قيد الخطاب العقلي متحققا ، والشك فيه يرجع الى الشك في تحقق ما هو مفروغ اعتباره ، ولا يرجع الى الشك في اعتبار القيد المشكوك وعدمه كما في القيود غير العقلية حتى يكون المرجع اطلاق الخطاب.

ومما ذكرنا يظهر : ان مراد المصنف من قوله : ((لا فيما شك في اعتباره في صحته)) انه لا يرجع الى اطلاق الخطاب فيما اذا شك في تحقق ما هو المعتبر في صحة الخطاب.

(١) توضيحه : ان الكلام في ان عدم حصر اطراف المعلوم بالاجمال هل هو مانع عن فعلية العلم الاجمالي بما هو عدم الحصر ، بحيث يكون عنوان عدم الحصر مانعا بذاته كعنوان الخروج عن محل الابتلاء او عنوان العسر والضرر ، او انه ليس بمانع بما هو عدم الحصر ما لم يقارنه احد الامور المذكورة ، فيكون المانع عن الفعلية للعلم الاجمالي هو احد الامور المقارنة لعدم الحصر لا نفس عدم الحصر؟

ولا يخفى انه لا بد وان يفرض الكلام في مقام كان العلم الاجمالي فعليا من كل جهة عدا عدم الحصر ، ولا يكون هناك احد الامور المذكورة من الخروج عن محل الابتلاء او غيره مما يمنع عن الفعلية ، فان كان نفس عدم الحصر مانعا عن الفعلية كان العلم الاجمالي غير فعلي لاجله ، ولا يخفى ايضا ان شرط فعلية التكليف بشيء اما

١٢٠