بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أسرة آل الشيخ راضي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٠٤

الاطراف ـ حينئذ ـ على تقدير المصادفة إلا عقابا بلا بيان؟ والمؤاخذة عليها إلا مؤاخذة بلا برهان (١)؟!

______________________________________________________

(١) حاصله : ان المتحصّل من هذه المقدمة الثالثة هو كون العلم الاجمالي منجزا ولو كان الاقتحام في بعض الاطراف جائزا او واجبا ، وسيأتي في باب البراءة والاشتغال عدم امكان التفكيك بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية ، بمعنى انه اذا لم تجب الموافقة القطعية لا يعقل ان تحرم المخالفة القطعية ، لان الرخصة في ارتكاب بعض الاطراف ولو صادف المخالفة للتكليف المستلزمة هذه الرخصة عدم العقاب على المخالفة عند المصادفة تنافي حرمة المخالفة في الاطراف الأخر والعقاب على المخالفة فيها.

وبعبارة اخرى : انه من المعلوم ان الرخصة في مخالفة التكليف المعلوم تنافي العقاب على مخالفته ، فهو محال والمحال لا بد وان يكون مقطوعا بعدمه ، وفي مورد الترخيص في بعض اطراف العلم الاجمالي ولزوم الموافقة في اطرافه الأخر وحرمة المخالفة فيها يرجع الى جواز مخالفته لو كان في مورد الترخيص ، والى العقاب على مخالفته لو كان في غيرها وهو محال ، فاذا لم تجب الموافقة القطعية بالاحتياط في جميع الاطراف ، بان يرخص في ارتكاب بعض الاطراف ، لا يعقل ان يحرم ارتكاب الاطراف الأخر.

والحاصل : ان العلم اما ان يكون منجزا فيجب الاحتياط في جميع الاطراف ، واذا جاز ارتكاب بعض الاطراف فلا يعقل ان يكون العلم الاجمالي منجزا بالنسبة الى الاطراف الأخر ، واذا لم يكن العلم الاجمالي منجزا بالنسبة اليها فلا يصح العقاب على المخالفة فيها ، ويكون العقاب على الاقتحام فيها من العقاب بلا بيان ، لان عدم كون العلم الاجمالي منجزا معناه عدم تأثيره ، واذا لم يكن العلم الاجمالي مؤثرا فلا يصح العقاب على مخالفته ، لان العقاب انما يصح على البيان المؤثر ، اما البيان غير المؤثر فهو بحكم عدم البيان فلا يصح العقاب على مخالفته ، والى هذا اشار

٨١

قلت : هذا إنما يلزم ، لو لم يعلم بإيجاب الاحتياط ، وقد علم به بنحو اللّم ، حيث علم اهتمام الشارع بمراعاة تكاليفه ، بحيث ينافيه عدم إيجابه الاحتياط الموجب للزوم المراعاة ، ولو كان بالالتزام ببعض المحتملات (١) ، مع صحة دعوى الاجماع على عدم جواز الاهمال في هذا

______________________________________________________

بقوله : «اذا لم يكن العلم بها» أي العلم الاجمالي بها اذا لم يكن «منجزا لها للزوم الاقتحام في بعض الاطراف كما اشير اليه» وذلك فيما اذا قلنا بوجوب الاقتحام في بعض الاطراف ، وحرمة الاحتياط في جميع الاطراف للزوم اختلال النظام ـ فلا تحرم المخالفة في الاطراف الأخر.

وعلى هذا «فهل كان العقاب» صحيحا «على المخالفة في ساير الاطراف حينئذ على تقدير المصادفة» وما كان «الّا عقابا بلا بيان و» ليست «المؤاخذة عليها الّا مؤاخذة بلا برهان».

(١) حاصله : ان المنجز للعلم الاجمالي بالنسبة الى الاطراف الأخر غير ما يجب الاقتحام فيه من الاطراف ليس لاقتضاء العلم الاجمالي بذاته للتنجيز فيها ، بل المنجّز له سبب آخر غير ذاته ، وهو العلم باهتمام الشارع في لزوم التعرّض للامتثال بنحو من الانحاء ولو بالأخذ بأحوطها ، وهو الاخذ بالمظنونات التي هي من بعض اطراف هذا العلم الاجمالي ، فالعلم بهذا الاهتمام يكون كاشفا بنحو اللّم ، لان الاهتمام هو العلة لتنجيز هذا العلم الاجمالي في بعض الاطراف ، وكشف العلّة عن المعلول هو الكشف اللمّي ، كما ان كشف المعلول عن العلة هو الكشف الإنّي.

وعلى كل فتنجيز العلم الاجمالي في المقام للاحتياط في بعض الاطراف انما هو للعلم بالاهتمام لا لاقتضاء العلم الاجمالي بذاته لذلك ، فالعلم بالاهتمام سبب للتنجز في المقام ، كما ان العلم الاجمالي بذاته هو العلة للتنجز في غير هذا المقام ، وجواز العقاب وصحة المؤاخذة منوطان بتنجز العلم الاجمالي سواء كان هو علة له أو كان سبب آخر علة له وهو العلم بالاهتمام ، فلا يكون العقاب على المخالفة في

٨٢

الحال ، وأنه مرغوب عنه شرعا قطعا (١) ، وأما مع استكشافه (٢) فلا يكون المؤاخذة والعقاب حينئذ بلا بيان وبلا برهان ، كما حققناه في البحث وغيره.

______________________________________________________

الاطراف الأخر مع كون العلم الاجمالي منجزا بالنسبة اليها من العقاب بلا بيان ومن المؤاخذة بلا برهان ، ولذا قال (قدس‌سره) : «قلت هذا» أي العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان على المخالفة في الاطراف الأخر «انما يلزم لو لم يعلم بايجاب الاحتياط» بتنجيز العلم الاجمالي فيها «و» الحال «قد علم به بنحو اللّم حيث علم اهتمام الشارع بمراعاة تكاليفه» وهو العلة لتنجيز العلم الاجمالي في المقام «بحيث ينافيه عدم ايجابه الاحتياط الموجب للزوم المراعاة» والتعرّض للامتثال «ولو كان بالالتزام ببعض المحتملات» وهي المظنونات.

(١) قد مرّ ان المحرز لاهتمام الشارع امران : قيام الضرورة عليه ، وصحة دعوى الاجماع عليه ، وقد اشار الى الثاني بقوله : «مع صحة دعوى الاجماع» أي صحة دعوى الاجماع على اهتمام الشارع وعدم جواز الاهمال ، والى الاول بقوله : «وانه مرغوب عنه شرعا» أي ان الضرورة قائمة بان الاهمال مرغوب عنه شرعا.

(٢) هذا معطوف على صدر عبارته وهي قوله : «انما يلزم».

وحاصله : انه انما يلزم ما ذكرتموه من كون العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان في مخالفة العلم الاجمالي في اطرافه الأخر اذا لم نعلم بتنجزه فيها بسبب العلم باهتمام الشارع.

واما مع استكشاف لزوم الاحتياط في اطراف العلم الاجمالي الأخر لوجود العلم بما يدل على تنجزه فيها ، فلا يكون العقاب على المخالفة في هذه الاطراف الأخر التي هي غير ما يجب الاقتحام فيه من الاطراف التي يكون الاحتياط فيها موجبا لاختلال النظام من العقاب بلا بيان ومن المؤاخذة بلا برهان.

ثم لا يخفى ان ظاهر سوق عبارة المتن هي ما ذكرناه من كون الاهتمام سببا لمنجزية العلم الاجمالي في ما عدا ما لا يجوز او لا يجب فيه الاحتياط.

٨٣

وأما المقدمة الرابعة : فهي بالنسبة إلى عدم وجوب الاحتياط التام بلا كلام ، فيما يوجب عسره اختلال النظام ، وأما فيما لا يوجب ، فمحل نظر بل منع ، لعدم حكومة قاعدة نفي العسر والحرج على قاعدة الاحتياط ، وذلك لما حققناه في معنى ما دلّ على نفي الضرر والعسر ، من أن التوفيق بين دليلهما ودليل التكليف أو الوضع المتعلقين بما يعمهما ، هو نفيهما عنهما بلسان نفيهما ، فلا يكون له حكومة على الاحتياط العسر إذا كان بحكم العقل ، لعدم العسر في متعلق التكليف ، وإنما هو في الجمع بين محتملاته احتياطا.

______________________________________________________

ويمكن ان يكون غرضه هو كون نفس الاهتمام من الشارع بلزوم التعرّض لامتثال احكامه في الباقي هو المنجز لها من دون حاجة الى منجّزية العلم الاجمالي ، فانه كما يمكن ان يكون العلم الاجمالي من وجوه البيان التي تتنجز بها الاحكام ، كذلك نفس العلم بالاهتمام من وجوه البيان الموجب لتنجّز الاحكام بحيث لا تجري معه قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فان عبارة المتن لا تأبى عن حملها على هذا المعنى ، والضمير في قوله : عدم ايجابه الاحتياط يرجع الى العلم بالاهتمام : أي ان العلم بالاهتمام من الشارع هو بحيث ينافيه عدم ايجاب الاحتياط.

ولا يخفى ان ما ذكر من كون الترخيص في بعض الاطراف موجبا لعدم تنجز العلم الاجمالي انما هو اذا كان الترخيص في الارتكاب بمقدار المعلوم بالاجمال ، واما اذا كان الترخيص بمقدار اقل من العلم الاجمالي فالعلم الاجمالي باق على تنجيزه ، كما لو علمنا بنجاسة اكثر من إناء واحد ووجب شرب اناء واحد من اطراف الشبهة ، فان العلم الاجمالي بنجاسة ما هو الاكثر من الواحد باقية منجزة ، فلا تغفل.

٨٤

نعم ، لو كان معناه نفي الحكم الناشئ من قبله العسر كما قيل لكانت قاعدة نفيه محكمة على قاعدة الاحتياط ، لان العسر حينئذ يكون من قبل التكاليف المجهولة ، فتكون منفية بنفيه (١).

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان المقدمة الرابعة هي عدم وجوب الاحتياط بل عدم جوازه في الجملة ، ومستند عدم الجواز هو لزوم الاختلال في النظام من الاحتياط ، فالعسر الموجب لاختلال النظام الذي يستلزمه الاحتياط في اطراف العلم الاجمالي بالتكاليف لا شك في حرمته ، واما العسر الذي يستلزمه الاحتياط في اطراف العلم غير الموجب لاختلال النظام ، فالمبنى في عدم وجوبه هو حكومة ادلة العسر والحرج على ادلة التكاليف الواقعية ، كقوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(١).

ولا يخفى ان حكومة دليل الحرج انما هو على ما فهمه الشيخ من دليل الحرج لا على ما استفاده المصنف منه ، فانه بناء على ما استفاده من دليل الحرج لا يكون حاكما في المقام على ادلة التكاليف الواقعية.

وتوضيح ذلك : ان الحرج المنفي في مثل قوله عزوجل : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) هل المراد منه نفي الحكم الذي يكون سببا للحرج كالتكليف المعلوم بالاجمال الذي يستلزم امتثاله بالجمع بين اطرافه الوقوع في الحرج ، فان الحرج مسبب عن الحكم ، لان الحكم يقتضي الامتثال وامتثاله مستلزم للحرج ، فالحكم يكون موصوفا بالحرج بالواسطة ، فمدلول الآية بالمطابقة هو رفع الحرج الذي يستلزمه الحكم ، وحيث لا معنى لرفع الحرج بنفسه فلا بد وان يكون المراد منه نفي الحكم ، اما باطلاق الحرج عليه مجازا من باب اطلاق الصفة وارادة الموصوف ، واما ان يكون مبنيا على الحذف بان يكون المراد ما جعل عليكم في الدين من حكم يستلزم الحرج ، وهذا المعنى هو الذي استفاده الشيخ من دليل الحرج ، وعليه فتكون

__________________

(١) الحج : الآية ٧٨.

٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ادلة الحرج حاكمة على ادلة التكاليف في المقام ، لانها حيث كانت معلومة بالاجمال فامتثالها المستلزم للجمع بين جميع الاطراف مسبب عن اقتضاء تلك التكاليف المجهولة بعناوينها المفصّلة المعلومة بما هي احكام فعلية يجب امتثالها ، ولما كان امتثالها كذلك حرجيا فادلة نفي الحرج تكون رافعة لفعلية تلك الاحكام.

او ان المراد من دليل الحرج هو رفع الحكم بلسان رفع الموضوع ، فالمرفوع هو الحرج ، وعليه فالمرفوع هو الحكم الذي يكون بذاته حرجيا دون الحكم الذي يستلزم امتثاله الحرج ، لان الحكم تارة يكون بذاته حرجيا كالغسل ـ مثلا ـ بالماء البارد في اليوم الشديد البرد ، واخرى لا يكون الحكم بذاته حرجيا ولكن العلم بامتثاله يستلزم حرجا كما في المقام ، فان الاحكام الواقعية ليست بذاتها حرجية ولكنها لما كانت غير معلومة بالتفصيل فالاتيان بجميع المحتملات لاجل حصول العلم بامتثالها هو المستلزم للحرج ، والمستفاد من دليل الحرج هو رفع الحكم الذي يكون بذاته حرجيا بان يكون المراد بالحرج المنفي هو الحكم كناية او ادعاء بادعاء انه مصداق للحرج ، فالمرفوع نفس الحكم الذي يكون بذاته حرجيا دون الحكم الذي يستلزم العلم بامتثاله الوقوع في الحرج.

ويؤيّد هذه الدعوى ان الظاهر كون الحرجية من صفات نفس الحكم بلا واسطة وانها وصف له بحال نفسه لا انها وصف له بحال متعلق متعلقه ، فانه على الاول الحرجية ليست من صفات ذات الحكم بل هي من صفات العلم بالامتثال المتعلق بالحكم.

وقد رتّب المصنف على هذه الاستفادة ـ المخالفة لما استفاده الشيخ ـ ثمرتين :

أحدهما : ما في المقام من انه بناء على ان المرفوع هو الحكم الذي يكون بذاته حرجيّا لا تكون ادلة الحرج حاكمة على التكاليف الواقعية في المقام ، لان التكاليف الواقعية بذاتها ليست بحرجية ، وانما العلم بامتثالها المستلزم للاحتياط باتيان الاطراف المحتملة هو الموجب للوقوع في الحرج ، ولا يستفاد من ادلة الحرج هذا المعنى بل

٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

المستفاد منها هو رفع الحكم الذي يكون بذاته حرجيا ، فهي اجنبية ـ بناء على هذا ـ عن الحرج الذي يستلزمه العلم بالامتثال ، فلا حكومة لها في المقام على ادلة التكاليف الواقعيّة ، وبعد حرمة الاحتياط المستلزم لاختلال النظام والعلم باهتمام الشارع بلزوم التعرض لامتثال احكامه فلا بد من الاحتياط في الاطراف الباقية بعد الاقتحام فيما يوجب الاحتياط فيه الاختلال.

وقد اشار الى عدم وجوب الاحتياط فيما يوجب الاختلال في النظام ، وانه مما لا شك فيه لان ما يوجب الاختلال مما يقطع بحرمته فضلا عن عدم وجوبه ، فلا كلام في رفع الاحتياط الموجب للاختلال بقوله : «واما المقدمة الرابعة فهي بالنسبة الى عدم وجوب الاحتياط التام بلا كلام في» خصوص «ما يوجب عسره اختلال النظام».

واشار الى عدم حكومة ادلة العسر على التكاليف الواقعية في المقام في الاحتياط الحرجي في بقية المحتملات الذي لا يوجب الاختلال في النظام بقوله : «واما فيما لا يوجب» ذلك «فمحل نظر بل منع لعدم حكومة قاعدة نفي العسر و» نفي «الحرج» كمثل قوله تعالى (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) «على قاعدة الاحتياط» في المقام «وذلك لما حققناه» في مبحث قاعدة لا حرج ولا ضرر «في معنى ما دل على نفي الضرر كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا ضرر ولا ضرار) (١) «و» قاعدة نفي «العسر» والحرج كالآية المتقدمة «من ان التوفيق بين دليلهما» أي بين دليل لا ضرر ولا حرج «ودليل التكليف» كدليل وجوب الوضوء «او الوضع» كرفع السلطنة على التصرف في ما يملك اذا كان ذلك مضرا بالغير ، كما في قضية سمرة بن جندب ، فان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منع سمرة من التصرّف في نخيلة حيث كان تصرفه مستلزما لضرر الانصاري ، وقال للانصاري اقلعها وارم بها وجهه ، فان مقتضى التوفيق بين

__________________

(١) الكافي ، ج ٥ ، ص ٢٩٤.

٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ادلة التكليف والوضع «المتعلقين بما يعمّهما» أي بما يعمّ الحرج والضرر ، اذ ليس كل وضوء ـ مثلا ـ حرجيا ، ولا كل سلطنة على التصرف ضررية ، ودليل نفي الضرر والحرج «هو نفيهما» أي نفي التكليف والوضع «عنهما» أي عن مورد الضرر والحرج «بلسان نفيهما» أي بلسان نفي الضرر والحرج كناية او ادّعاءً عن التكليف والوضع الذي يكونان بذاتهما حرجيين ، وان الحرجية وصف لهما بحال نفسهما لا بحال متعلقهما.

وعلى هذا «فلا يكون له» أي لدليل نفي الحرج في المقام «حكومة على الاحتياط العسر» غير المخل بالنظام فيما «اذا كان» الاحتياط «بحكم العقل» لاجل العلم بالامتثال بعد قيام الضرورة والاجماع على اهتمام الشارع في لزوم امتثال احكامه في الجمع بين المحتملات في غير ما يوجب الاختلال ، وذلك «لعدم العسر في» نفس «متعلق التكليف» كمثل الوضوء بالماء البارد في شدة البرد «وانما هو» أي العسر «في الجمع بين محتملاته احتياطا» لاجل العلم بحصول الامتثال ، فان التكليف الواقعي بذاته لا عسر فيه ، وانما العسر في الاحتياط الحاكم به العقل لاجل احراز الامتثال وهو خارج عن ذات التكليف الواقعي.

ثم اشار الى ان حكومة ادلة العسر في المقام على التكاليف الواقعية انما تتم على ما استفاده الشيخ بقوله : «نعم لو كان معناه» أي معنى دليل العسر «هو نفي الحكم الناشئ من قبله العسر» برفع السبب بلسان رفع مسببه «كما قيل لكانت قاعدة نفيه» أي نفي العسر على هذه الاستفادة «محكمة على قاعدة الاحتياط» لحكومتها عليها «لان العسر حينئذ يكون من قبل التكاليف المجهولة فتكون منفية بنفيه» لان المستفاد منها رفع السبب الموجب للعسر ، والحكم المجهول هو السبب الذي اقتضى الاحتياط المستلزم للعسر ، فيكون الحكم منفيا بلسان نفي مسببه وهو الاحتياط الموجب للعسر.

٨٨

ولا يخفى أنه على هذا لا وجه لدعوى استقلال العقل بوجوب الاحتياط في بعض الاطراف بعد رفع اليد عن الاحتياط في تمامها ، بل لا بد من دعوى وجوبه شرعا ، كما أشرنا إليه في بيان المقدمة الثالثة ، فافهم وتأمل جيدا (١).

______________________________________________________

(١) يشير بهذا الى الردّ على الشيخ ، وتوضيحه : ان الشيخ بعد قوله بحكومة ادلة نفي الحرج على التكاليف الواقعيّة فيما يوجب امتثالها العسر غير الموجب للاختلال ادعى استقلال العقل بالحكم بلزوم الاحتياط في بقية الاطراف التي لا يوجب اتيانها اختلال النظام ولا الحرج ، ومرجع دعوى استقلال العقل بذلك هو منجزية العلم الاجمالي بوجوب الاحتياط في الاطراف الباقية ، وقد عرفت ان العلم الاجمالي يسقط عن قابليته للتنجيز بعد الترخيص في بعض اطرافه ، لعدم امكان التفكيك بين عدم حرمة المخالفة القطعية وعدم وجوب الموافقة القطعية ، ولا بد ان يكون الموجب لوجوب الاحتياط في الاطراف الباقية هو العلم باهتمام الشارع دون العلم الاجمالي ، لعدم امكان التفكيك ، والى هذا اشار بقوله : «ولا يخفى انه على هذا» أي على مبنى حكومة ادلة نفي الحرج على التكاليف الواقعية ورفع اثر العلم الاجمالي في التنجيز الموجب للاحتياط في تمام الاطراف «لا وجه لدعوى استقلال العقل بوجوب الاحتياط في بعض الاطراف» وهي الاطراف الباقية غير الموجبة للحرج «بعد رفع اليد عن» تأثير العلم الاجمالي في لزوم «الاحتياط في تمامها» أي تمام الاطراف ، والسبب في عدم وجه هذه الدعوى هو ما عرفت من عدم امكان التفكيك المقتضية لسقوط العلم الاجمالي عن التأثير رأسا.

ثم اشار الى ان الاحتياط في بقية الاطراف لا بد وان يكون مستنده ما تقدم في المقدمة الثالثة من قيام الضرورة والاجماع على عدم جواز الاهمال بقوله : «بل لا بد من دعوى وجوبه شرعا ... الى آخر الجملة».

٨٩

وأما الرجوع إلى الاصول ، فبالنسبة إلى الاصول المثبتة من احتياط أو استصحاب مثبت للتكليف ، فلا مانع عن إجرائها عقلا مع حكم العقل وعموم النقل. هذا ، ولو قيل بعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي لاستلزام شمول دليله لها التناقض في مدلوله ، بداهة تناقض حرمة النقض في كل منها بمقتضى (لا تنقض) لوجوبه في البعض ، كما هو قضية (ولكن تنقضه بيقين آخر) (١) وذلك لانه إنما يلزم فيما إذا

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان المقدمة الرابعة بعد تمامية المقدمة الثالثة ـ وهي عدم جواز الاهمال ـ فانه حيث علم عدم جواز الاهمال وانه لا بد للمكلف من التعرّض لما يخرج به عن اهمال التكاليف المعلومة اجمالا ، وحينئذ تأتي هذه المقدمة الرابعة ، فان ما يخرج به المكلف عن الاهمال اما العمل بالاحتياط وقد مرّ الكلام فيه ، واما بالرجوع الى الاصول وهذا الشق هو محل الكلام وسيأتي الكلام في غيره.

والمدعى عدم جواز الرجوع الى الاصول سواء كانت نافية للتكليف كالبراءة والاستصحاب النافي والتخيير ، او مثبتة للتكليف كالاحتياط والاستصحاب المثبت للتكليف.

اما الاصول النافية فلازمه الاهمال وعدم العمل نتيجة ، وقد عرفت عدم جواز الاهمال بحكم المقدمة الثالثة وسيأتي تعرّض المصنف لها والجواب عن ذلك.

واما المثبتة للتكليف وهما الاحتياط والاستصحاب المثبت ، وقد استدل على عدم جواز الرجوع اليهما بوجهين : احدهما : عام لهما ، والثاني : يختص بخصوص الاستصحاب.

فالوجه الاول ـ العام لهما ـ هو ما مرّ من ان الرجوع الى الاحتياط والاستصحاب المثبت للتكليف في اطراف العلم الاجمالي يلزم منه العسر المخل والحرج المرفوع بادلة العسر.

٩٠

.................................................................................................

______________________________________________________

وفيه مضافا الى ما مرّ من الكلام في خصوص الاحتياط المستلزم للحرج ان المفروض في هذا الشق هو الرجوع الى الاصل الاحتياطي والاستصحاب المثبتين للتكاليف في ما لا يلزم فيه عسر مخل بالنظام او موجب للحرج ، والّا لم يكن هذا الشق شقا مقابلا للاحتياط.

والوجه الثاني ـ المختصّ بخصوص الاستصحاب ـ وهو الذي اشار اليه بقوله : «ولو قيل بعدم جريان الاستصحاب في اطراف العلم الاجمالي لاستلزام شمول دليله ... الى آخره».

لا يخفى ان المانع من جريان الاستصحاب بل ساير الاصول في اطراف العلم الاجمالي في غير المقام ، كما لو علمنا ـ مثلا ـ بنجاسة احد الإناءين المسبوقين بالعلم بالطهارة او طهارة احد الإناءين المسبوقين بالعلم بنجاستهما ـ سيأتي الكلام فيه في بابه على تفصيل بين ما يلزم من جريان الاصول مخالفة عملية كالاول ، وبين ما لا يلزم من جريانها مخالفة عملية كالثاني ، ومعنى لزوم المخالفة العملية وعدم لزومها انه لو عملنا على وفق الاصول تلزم المخالفة العملية كالاول ، وهو ما لو علمنا بنجاسة احد الإناءين وكان العلم السابق طهارتهما فان اجراء الاصول في الاطراف معناه طهارة الإناءين ، فلو عملنا بالطهارة في كليهما تلزم المخالفة العملية لما علمنا بالاجمال وهو نجاسة احد الإناءين ، فانه عند ملاقاتهما معا يعلم بنجاسة الملاقي قطعا ، بخلاف الثاني فانه لو علمنا بنجاسة الإناءين سابقا ثم علمنا بطهارة احدهما ، فان جريان الاصول معناه نجاسة الإناءين معا ، ولا يلزم من ذلك مخالفة عملية ، لان معنى نجاستهما معا تركهما معا ولا يلزم من تركهما معا مخالفة عملية.

واما الكلام في جريان خصوص الاستصحاب في اطراف العلم الاجمالي في المقام وعدمه فقد اشار المصنف الى الوجه الذي ذكر مانعا في المقام ، وهو لزوم التناقض بين صدر الدليل وذيله الدال على حجية الاستصحاب.

٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا يخفى ان هذا لو تم لمنع من جريان الاستصحاب في اطراف العلم الاجمالي مطلقا سواء في المقام وفي غيره ، وسواء كان الاستصحاب مثبتا للتكليف كما لو علمنا بطهارة احد الإناءين المسبوقين بالعلم بنجاسة كليهما ، او نافيا للتكليف كما اذا علمنا بنجاسة احد الإناءين المسبوقين بالعلم بطهارتهما ، فان اليقين السابق فيهما هو عدم نجاستهما ، وسواء ألزم من جريان الاستصحاب مخالفة عملية ام لا ، لان ملخص هذا الدليل هو ان دليل الاستصحاب لا يشمل الاستصحاب الجاري في اطراف العلم الاجمالي مطلقا ، وهو قوله عليه‌السلام : (لا ينقض اليقين بالشك ولكن ينقضه بيقين آخر) (١) لان لازم شموله لاطراف العلم الاجمالي هو المناقضة بين صدر الرواية وذيلها ، لان اطلاق صدر الرواية يشمل الشك المقرون بالعلم الاجمالي ، واطلاق ذيلها يشمل اليقين الموجود في العلم الاجمالي ، فان الصدر يدل على حرمة نقض اليقين بالشك ولو كان الشك مقترنا بالعلم الاجمالي ، والذيل يدل باطلاقه على جواز نقض اليقين السابق باليقين اللاحق ولو كان ذلك اليقين هو اليقين الاجمالي.

فان لم يكن الذيل قرينة على الصدر الذي لازمه دلالة الرواية على كون اليقين السابق ـ الذي هو الموضوع في الاستصحاب ـ محددا باليقين الاجمالي اللاحق ، وعليه لا يكون اليقين السابق الذي هو احد ركني الاستصحاب متحققا في مورد العلم الاجمالي ، لان اليقين السابق فيه ملحوق باليقين الناقض ، فلا اقل من معارضة الذيل والصدر ، ولازمه الاجمال في الرواية فلا يكون لها ظهور في الشمول لمورد العلم الاجمالي.

وقبل الشروع في الجواب عنه في المقام نقول : قد تقدّم من المصنف المناقشة في هذه الدعوى ، وان اليقين في الذيل ليس له اطلاق يشمل اليقين الاجمالي ، لان المستفاد

__________________

(١) تهذيب الاحكام ، ج ١ ، ص ٨.

٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

من الرواية هو كون اليقين اللاحق مثل اليقين السابق ، وان المتحصل منها هو نقض اليقين السابق بيقين مثله لاحق له ، فيما اذا كان اليقين السابق تفصيليا فلا ينقضه الا اليقين اللاحق التفصيلي ، ولا يكون اليقين الاجمالي اللاحق ناقضا له.

نعم لو كان اليقين السابق اجماليا ثم تعقبه يقين اجمالي متعلق بما تعلق به الاول كان ناقضا له ، كما لو علمنا بنجاسة احد الإناءين ثم شككنا في بقاء النجس المعلوم بالاجمال فيجري الاستصحاب ، ومعناه بقاء ذلك النجس بالاجمال ، لكنه لو علمنا بطهارة ما كان نجسا بالاجمال كان هذا العلم ناقضا له.

والحاصل : ان المستفاد من الرواية هو كون اليقين في الذيل مؤكدا لا محددا ومقيدا ، وانها تدل على ان حكم اليقين السابق لا يرتفع بالشك ، وانما يرتفع فيما اذا ارتفع اليقين السابق وحلّ محلّه يقين متعلق بنقيض ما تعلق به اليقين الاول ، وعلى هذا فالرواية تشمل الاستصحاب الجاري في مورد العلم الاجمالي.

وقد اشار المصنف الى المناقشة في اصل هذه الدعوى بنسبتها الى القيل فقال (قدس‌سره) : «ولو قيل» أي انا لا نجيب عن هذه الدعوى في المقام بالمناقشة في اصل هذه الدعوى ، بل نجيب عنها في المقام على فرض تسليمها بما سيشير اليه من الجواب الآتي عنها في خصوص المقام.

ثم اشار الى نفس الدعوى بقوله : «بعدم جريان الاستصحاب في اطراف العلم الاجمالي لاستلزام شمول دليله» أي دليل الاستصحاب وهو الرواية المتقدمة «لها» أي للاستصحابات المثبتة للتكاليف في اطراف العلم الاجمالي «التناقض في مدلوله» أي في مدلول دليل الاستصحاب «بداهة» لزوم ال «تناقض» بين «حرمة النقض في كل منها» المستفاد من صدر الرواية «بمقتضى لا تنقض» في قوله في صدرها لا تنقض اليقين بالشك الشامل باطلاقه للشك المقترن بالعلم الاجمالي ، وبين وجوب النقض لليقين السابق باليقين الاجمالي المستفاد هذا الوجوب من اطلاق ذيل الرواية ، فحرمة النقض الدال عليها الصدر مناقضة

٩٣

كان الشك في أطرافه فعليا. وأما إذا لم يكن كذلك ، بل لم يكن الشك فعلا إلا في بعض أطرافه ، وكان بعض أطرافه الأخر غير ملتفت إليه فعلا أصلا ، كما هو حال المجتهد في مقام استنباط الاحكام ، كما لا يخفى ، فلا يكاد يلزم ذلك ، فإن قضية (لا تنقض) ليس حينئذ إلا حرمة النقض في خصوص الطرف المشكوك ، وليس فيه علم بالانتقاض كي يلزم التناقض في مدلول دليله من شموله له (١) ،

______________________________________________________

«لوجوبه في البعض» أي لوجوب النقض في البعض «كما هو قضية» ذيل الرواية وهو قوله : «ولكن تنقضه بيقين آخر».

(١) هذا هو الجواب عن هذه الدعوى في المقام بعد تسليمها في غيره.

وحاصله : ان المتحصّل من هذه الدعوى هو عدم جريان الاستصحاب وان كان مثبتا للتكليف في اطراف العلم الاجمالي في المقام بوجود تكاليف فعلية كما هو المفروض ، لانه كما لنا علم اجمالي بوجود تكاليف فعلية في مجموعة ابواب الفقه ، كذلك لنا علم اجمالي آخر وهو انه نعلم اجمالا بان بعض هذه الاستصحابات المثبتة غير صحيح ، فلنا علم اجمالي بفساد بعض هذه الاستصحابات ، وان بعضها يجب نقضه لفساده.

ومع هذا اليقين الاجمالي بفساد بعضها لا وجه لجريانها كلها في المقام ، لما عرفت من اشتراط جريان الاستصحاب بغير مور العلم الاجمالي ، وكما لا يجري استصحاب النجاسة في كلا الإناءين بعد العلم الاجمالي بطهارة احدها للعلم الاجمالي بفساد احد الاستصحابين ، كذلك لا تجري الاستصحابات المثبتة للتكاليف في مجموع ابواب الفقه للعلم الاجمالي بفساد بعضها.

وتوضيح الجواب عن هذه الدعوى : انه فرق بين الاستصحابين الجاريين في المثال ، وبين جريان الاستصحابات المثبتة في مجموع ابواب الفقه في المقام ، لوضوح كون استنباط الاحكام للمجتهد الناظر في الفقه امرا تدريجيا ، ومع كون الحال

٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

تدريجيا لا تكون الاستصحابات الجارية كلها فعلية في وقت واحد ، كالاستصحابين الجاريين في نجاسة الإناءين الذي علم بطهارة احدهما ، فان الشك في طهارة كل واحد من الطرفين فعلي فيجريان معا ، ويحصل العلم الاجمالي بالفعل بفساد احدها للعلم بطهارة احد الإناءين.

واما في المقام فليس كذلك لتدريجيّة الاستنباط ، فان المجتهد الذي له علم بحكم كلي في احد ابواب الفقه كالصلاة او الزكاة ثم يشك في بقائه فانه يجري الاستصحاب فيه ، وفي حال شكه في هذا الحكم لا شك له فعلي في الحكم الكلي الآخر في الموارد الأخر من ابواب الفقه ، ففي حال إجرائه للاستصحاب في باب الصلاة ـ مثلا ـ لا شك له بالفعل في أحكام الزكاة وغيرها من ابواب الفقه ليكون الاستصحاب في تلك الابواب جاريا بالفعل ، فيحصل العلم الاجمالي بفساد احدها ، وحيث لا شك بالفعل الا الشك في باب الصلاة ـ مثلا ـ فلا استصحاب جار بالفعل الا هذا الاستصحاب ، ولم تكن الاستصحابات في الابواب الأخر جارية بالفعل ، لعدم الشك بالفعل فيها ، لان المجتهد بالفعل غير ملتفت اليها لا يقين ولا شك له فعلي بالنسبة اليها ، فلا علم اجمالي له بالفعل بفساد احدها لعدم فعلية الاستصحابات فيها.

ومن الواضح ان المراد باليقين الاجمالي الناقض لليقين السابق في الرواية ـ لو دلّت على ذلك ـ هو اليقين الاجمالي الفعلي المتوقف حصوله بالفعل على حصول الشك بالفعل في جميع الاطراف ، ليجري الاستصحاب في جميعها بالفعل فيحصل العلم الاجمالي بفساد بعضها. وقد عرفت عدمه لتدريجيّة الاستنباط للمجتهد ، وان المجتهد في مقام الاستنباط غير ملتفت الّا الى اليقين والشك في احد الاحكام الذي يريد استنباطه ، فهو دائما لا علم اجمالي له بالفعل في فساد احد الاستصحابات لعدم فعليتها ، والاستصحاب جار عنده دائما في بعض الاطراف لا في جميع الاطراف من ابواب الفقه ، ليحصل له العلم الاجمالي بالفساد الناقض بحسب دلالة ذيل الرواية.

٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

والى ما ذكرنا اشار بقوله : «وذلك» أي وما قلناه من جريان الاصول المثبتة في اطراف العلم الاجمالي صحيح ، ولا يمنع منه ما قيل من دلالة الرواية على عدم جريان الاستصحابات فيما اذا علم اجمالا بفساد بعضها وعدم صحته ، بان يكون اطلاق اليقين في ذيل الرواية شاملا لليقين الاجمالي ، فيكون محددا لليقين السابق الذي دلّ عليه صدر الرواية ، فيكون المستفاد منها ان اليقين السابق ـ الذي هو احد ركني الاستصحاب ـ مشروطة حرمة نقضه بان لا يلحقه يقين اجمالي بالخلاف كما عرفت تفصيله ، وانما لا يمنع ما قيل «لانه انما يلزم فيما اذا كان الشك في جميع اطرافه فعليا» وفعليته في جميع الاطراف أي في جميع ابواب الفقه تتوقف على فعلية اليقين والشك فيها لتجري الاستصحابات كلها ، فيعلم ـ حينئذ ـ اجمالا بفساد بعضها «واما اذا لم يكن» الحال «كذلك بل لم يكن الشك فعلا الا في بعض اطرافه» وهو المورد الذي يكون المجتهد بصدد استنباط الحكم فيه «وكان بعض اطرافه الأخر غير ملتفت اليه فعلا اصلا كما هو» المشاهد من «حال المجتهد في مقام استنباط الاحكام» فانه لا يقين ولا شك له فعلي الّا في ذلك المورد الذي هو بصدد استنباط الحكم فيه.

وحينئذ فلا يكون ما ذكروه مانعا بمانع لعدم فعلية اليقين والشك في جميع الاطراف ، فلا تكون الاستصحابات فعلية ، فلا علم اجمالي بفساد بعضها «فلا يكاد يلزم ذلك» المانع الذي ذكروه «فان» المتحقق بالفعل عند المجتهد المستنبط للاحكام بالتدريج صدر الرواية لا غير من دون ذيلها وهي «قضية لا تنقض» اليقين بالشك و «ليس» للمجتهد «حينئذ الّا حرمة النقض في خصوص الطرف المشكوك» وهو الذي يكون استنباطه بالفعل «وليس فيه» أي وليس في ذلك المورد الذي هو محل استنباطه «علم بالانتقاض» لعدم تحقق موضوع الاستصحاب بالفعل في بقية الاطراف «كي يلزم التناقض في مدلول دليله» أي دليل الاستصحاب «من» جهة «شموله له» أي للمورد الذي يكون المجتهد بصدد الاستنباط فيه.

٩٦

فافهم (١).

ومنه قد انقدح ثبوت حكم العقل وعموم النقل بالنسبة إلى الاصول النافية أيضا ، وأنه لا يلزم محذور لزوم التناقض من شمول الدليل لها لو لم يكن هناك مانع عقلا أو شرعا من إجرائها ، ولا مانع كذلك لو كانت موارد الاصول المثبتة بضميمة ما علم تفصيلا ، أو نهض عليه علمي

______________________________________________________

(١) ولعله يشير الى ان علم المجتهد اجمالا لا بفساد بعض الاستصحابات لا يتوقف على فعلية تلك الاستصحابات ، فان المجتهد الذي له علم اجمالي بتكاليف واقعية له علم اجمالي ايضا بفساد بعض الاستصحابات المثبتة للتكاليف في مواردها بادائها الى خلاف بعض التكاليف الواقعيّة ، وهذا العلم حاصل له بالفعل وان لم تكن الاستصحابات كلها فعليّة. وفرض غفلته عن ذلك مع كونه من القائلين بالانسداد الملتفت الى مقدمات الانسداد وما قيل فيها فرض الخلف تقريبا.

فالاولى في ردّ هذه الدعوى ما سبق منه وما يأتي في باب الاستصحاب : من عدم دلالة الرواية على نقض اليقين السابق باليقين الاجمالي اللاحق.

ويؤيد عدم صحة هذا الاشكال من دعوى شمول الرواية لليقين الاجمالي ، انه لو شملت الرواية اليقين الاجمالي لما جرى استصحاب اصلا ، للعلم الاجمالي بان احد الاستصحابات التي يجريها المكلف هي غير صحيحة ومخالفة للواقع ، مثلا لو اجريت جملة كثيرة من الاستصحابات ـ مثلا ـ في الاناء الذي علم بنجاسته ، فالشك في طهارته المستلزم لاستصحاب النجاسة في كل منها يعلم اجمالا بعدم صحة احد الاستصحابات الجارية في نجاسة كل واحد من الاناءات لطهارة احد الاناءات التي علم بنجاستها ثم شك في طهارتها.

والحاصل : انه لو تم اشكال الشيخ لما جرى استصحاب اصلا ، للعلم بالانتقاض في بعض ما يجري المكلف من الاستصحابات في مدّة عمره ، والله العالم.

٩٧

بمقدار المعلوم إجمالا ، بل بمقدار لم يكن معه مجال لاستكشاف إيجاب الاحتياط ، وإن لم يكن بذاك المقدار (١) ، ومن الواضح أنه يختلف

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان المتحصّل من مجموع ما اشار اليه المصنف في المتن : ان المانع من الرجوع الى الاصول النافية وهي الاستصحاب النافي للتكليف والبراءة العقلية والنقلية والتخيير امور ثلاثة :

الاول : لزوم التناقض الذي مرّ بيانه في دليل الاستصحاب بالنسبة الى الاصول المثبتة ، فانه عينا جار في الاستصحاب النافي ايضا حرفا حرفا ، وقد عرفت انه لا وجه له.

والى هذا اشار بقوله : «وانه لا يلزم محذور التناقض من شمول الدليل لها» أي للاصول النافية.

الثاني : لزوم القطع بالمخالفة العملية في اجراء الاصول النافية للقطع بوجود تكاليف واقعية في بعض مواردها ، وسيأتي في بابه ان القطع بحصول المخالفة العملية مانع عقلي من اجراء الاصول ، وبعد القطع بوجود تكاليف واقعية في بعض موارد الاصول النافية يحصل العلم بالمخالفة العملية لهذه التكاليف الواقعية المعلومة اجمالا فيتحقق هذا المانع العقلي.

الثالث : ما اشرنا اليه فيما سبق : من ان نتيجة اجراء الاصول النافية هو اهمال التكاليف الواقعية وعدم التعرّض لامتثالها ، وقد تقدّم في المقدمة الثانية عدم جواز الاهمال للقطع باهتمام الشارع الكاشف عن ايجاب الاحتياط شرعا ، وقد اشار اليها بقوله : «لو لم يكن هناك مانع عقلا او شرعا من اجرائها» أي من اجراء الاصول النافية.

ولما كان الجواب عنهما مشتركا اشار اليه بقوله : «ولا مانع ... الى آخر كلامه».

وحاصله : ان القطع بالمخالفة العملية والعلم بما لا يرضى به الشارع انما يكونان حيث لا ينحلّ العلم الاجمالي بالتكاليف الواقعيّة ، فانه اذا انحلّ العلم الاجمالي لا تتحقق المخالفة العملية القطعية ، ولا يكون إلّا المخالفة الاحتمالية التي لا مانع من

٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

اجراء الاصول النافية فيها ، وكذا العلم بما لا يرضى به الشارع من الاهمال ، فانه مع حصول الامتثال لمقدار من التكاليف به يتحقق الاهتمام بأوامر الشارع ، فلا مانع من اجراء الاصول النافية في الباقي ، لعدم حصول الاهمال الذي لا يرضى به الشارع من اجرائها.

والانحلال يتحقق بضمّ الاصول المثبتة للتكاليف الى ما قام عليه الدليل العملي المقطوع بحجيته وهو الخبر الصحيح الاعلائي مثلا ، وهو الذي كل رجاله معدلون بعدلين الى ما هو معلوم قطعا ، وهو ما قام عليه الخبر المتواتر او المحفوف بالقرائن القطعيّة وما قام عليه الاجماعات المحصلة ، فانه بضمّ هذه الامور كلها ينحلّ العلم الاجمالي لحصول مقدار من التكاليف بعضها تكاليف واقعية وبعضها مما يحتمل انطباق التكاليف المعلومة بالاجمال عليها ، بحيث لا يبقى لنا علم اجمالي بوجود تكاليف واقعية في الباقي وانما يحتمل ذلك ، وحينئذ لا يكون اجراء الاصول النافية موجبا للعلم بالمخالفة القطعية العملية للتكاليف المعلومة بالاجمال ، وانما يحتمل المخالفة لا غير ، ولا مانع من احتمال المخالفة ، وانما المانع هو العلم بالمخالفة.

ومنه يظهر انه لا مانع ايضا من جهة لزوم الاحتياط المستكشف من اهتمام الشارع ، لوضوح انه بعد تحقق هذا المقدار من التكاليف يحصل به الامتثال للاحتياط المستكشف ، بل ربما يقال بان ما يحصل به الامتثال للاحتياط هو اقل من المقدار الذي ينحل به العلم الاجمالي ، والى ما ذكرنا اشار بقوله : «ولا مانع كذلك» أي كما انه لا مانع من اجراء الاصول النافية من جهة لزوم التناقض ، كذلك لا مانع من جهة المانع العقلي وهو لزوم المخالفة القطعيّة العملية «لو» انحل العلم الاجمالي بان «كانت موارد الاصول المثبتة بضميمة ما علم تفصيلا او نهض عليه علمي بمقدار المعلوم اجمالا».

والى عدم المانع الشرعي وهو الاحتياط المستكشف من اهتمام الشارع اشار بقوله : «بل بمقدار» أي لو حصل من الاصول المثبتة وضميمة مقدار من الاحكام

٩٩

باختلاف الاشخاص والاحوال (١).

______________________________________________________

بحيث «لم يكن معه» أي مع حصول ذلك المقدار «مجال لاستكشاف ايجاب الاحتياط» في الباقي «وان لم يكن» ذلك المقدار الحاصل بقدر ذلك المقدار الذي انحل به العلم الاجمالي بان يكون اقل منه.

فانه حيث فرض عدم تأثير العلم الاجمالي لسقوطه عن التأثير في بعض الاطراف ، وهي التي يحصل من الاحتياط فيها الاختلال او العسر بناء على جريانه كما عرفت في المقدمة الرابعة ، لعدم امكان التفكيك بين حرمة المخالفة ووجوب الموافقة ، فمع الرخصة في بعض الاطراف لا مجال لتأثير العلم الاجمالي الاحتياط في الطرف الآخر ، وان المانع هو الاحتياط المستكشف من الاهتمام ، فالمدار على هذا المانع الشرعي ، واذا قام العلم والعلمي والاصول المثبتة على مقدار من التكاليف وان كانت اقل مما ينحل به العلم الاجمالي لكنها كانت بحيث لا يحرز اهتمام الشارع فيما عداها ، فلا مانع من اجراء الاصول النافية ، وان لم ينحل العلم الاجمالي بها ، لانه حيث كان لا تأثير له فلا مخالفة عملية له ، والمانع الشرعي قد انحل بها على الفرض ، فلا بأس بان تكون اقل مما ينحل به العلم الاجمالي لو كان مؤثرا.

(١) اما الاختلاف بحسب الاشخاص فلاختلافهم فيما هو من العلم والعلمي ومن الاصول المثبتة ، اما في العلم فكالخبر المحفوف بالقرائن القطعية ، فانهم قد يختلفون في مصداق ذلك ، وكالاجماعات المحصّلة فانهم ايضا يختلفون في مصاديقها.

واما العلمي فلاختلافهم في لزوم تعديل رجاله كلهم بعدلين او كفاية عدل واحد.

واما في الاصول المثبتة فلاختلافهم في حصول اليقين والشك لبعضهم دون بعض آخر.

واما الاختلاف بحسب الاحوال فللفرق الواضح بين موارد الفروج والدماء وغيرها من الموارد في استكشاف الاهتمام وعدمه.

١٠٠