بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أسرة آل الشيخ راضي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٠٤

فصل

في الاخبار التي دلت على اعتبار الأخبار الآحاد. وهي وإن كانت طوائف كثيرة ، كما يظهر من مراجعة الوسائل وغيرها (١) ، إلا أنه يشكل

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان الاخبار الدالة على حجية خبر الواحد طوائف ، منها ما دل على حجية خبر الثقة.

ولا يخفى ان المراد من الثقة في المقام هو خبر غير العادل الامامي المأمون الكذب ، بان يكون معروفا بصدق اللهجة او كان عدلا لا يفعل الكبائر ولا يصر على الصغائر ولكنه ليس بامامي ، كالاخبار الدالة على جواز الاخذ بروايات بني فضال كقوله عليه‌السلام : (خذوا ما رووا وذروا ما رأوا) (١) وبنو فضال فطحية فهم ليسوا شيعة امامية ، فان المراد من الشيعي الامامي هو المعترف بالأئمة الاثني عشر باسمائهم ، وعليه فلا يكونون عدولا بالمعنى الاخص ، لان العادل بحسب اصطلاحنا الخاص هو الشيعي الإمامي ذو الملكة الرادعة عن الكبائر والاصرار على الصغائر.

ومنها : ما دل على حجية خبر الشيعي مثل مكاتبة علي بن سويد يقول فيها عليه‌السلام : (لا تأخذنّ معالم دينك من غير شيعتنا ، فانك ان تعديتهم اخذت دينك من الخائنين ...) (٢).

ومنها : ما دل على حجية خبر العادل كالروايات الدالة على الاخذ من العمري وابنه ، وقوله عليه‌السلام مشيرا الى زرارة : (فعليك بهذا الجالس) (٣) بعد ان قال له السائل : من اين آخذ معالم ديني؟

ولا يخفى ان اخص هذه الطوائف الثلاث هو خبر العادل.

__________________

(١) بحار الانوار ج ٢ ، ص ٢٥٢.

(٢) بحار الانوار ج ٢ ، ٨٢.

(٣) بحار الانوار ج ٢ ، ص ٢٤٦.

١

الاستدلال بها على حجية الأخبار الآحاد بأنها أخبار آحاد ، فإنها غير متفقة على لفظ ولا على معنى ، فتكون متواترة لفظا أو معنى (١).

ولكنه مندفع بأنها وإن كانت كذلك ، إلا أنها متواترة إجمالا ، ضرورة أنه يعلم إجمالا بصدور بعضها منهم عليهم‌السلام (٢) ، وقضيته وإن كان

______________________________________________________

(١) حاصل الاشكال : انه لا يصح الاستدلال لحجية اخبار الآحاد باخبار الآحاد ، ولا بد ان يكون الدليل على حجية شيء مفروغا عن حجيته ، والمفروض ان الكلام في حجية اخبار الآحاد ، فلا يعقل ان تكون هذه الاخبار بعد ان كانت اخبار آحاد دليلا على حجية اخبار الآحاد لانه غير مفروغ عن حجيتها ، مضافا الى لزوم الدور في خصوص الاستدلال بها لحجية اخبار الآحاد ، لان الاستدلال بها موقوف على حجيتها ، وحجيتها موقوفة على حجية خبر الواحد ، واذا كانت هي الدليل لحجية خبر الواحد كانت حجية خبر الواحد موقوفة عليها ، فتكون حجيتها موقوفة على حجيتها ، لتوقف حجيتها على حجية خبر الواحد الموقوف على حجيتها ، وقد اشار الى ما ذكرنا بقوله : «بانها اخبار آحاد» فلا يصح الاستدلال بها لحجية خبر الواحد ، وليست متواترة حتى لا تكون اخبار آحاد فلا يلزم الدور ، وحجية المتواتر من الاخبار مفروغ عن حجيته لانه مما يوجب العلم والعلم حجة لا تحتاج الى جعل لان المتواتر ما اتفق على لفظ واحد أو معنى واحد ، وهذه الاخبار غير متفقة على لفظ واحد ولا على معنى واحد فهي غير متواترة لا لفظا ولا معنى ، والى هذا اشار بقوله : «فانها غير متفقة ... الى آخر الجملة».

(٢) هذا هو الجواب عن هذا الاشكال ، وحاصله : ما تقدم من ان التواتر على انحاء ثلاثة :

التواتر اللفظي : وهو اخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب بخبر يتفقون على روايته بالفاظه كما في رواية الاعمال بالنيات.

والتواتر المعنوي : وهو اتفاقهم على معنى واحد وان اختلفت الالفاظ الدالة عليه.

٢

حجية خبر دل على حجيته أخصها مضمونا إلا أنه يتعدى عنه فيما إذا كان بينها ما كان بهذه الخصوصية ، وقد دل على حجية ما كان أعم (١) ،

______________________________________________________

والتواتر الاجمالي : وهو اخبار جماعة غير متفقين على لفظ واحد ولا على معنى واحد ، ولكنه يعلم بواسطة كثرة هؤلاء المخبرين ان بعض هذه الاخبار صادر قطعا ، وهذه الطوائف الكثيرة مما يعلم اجمالا بصدور بعضها ، فهي وان لم تكن متواترة لفظا ولا معنى ولكنها متواترة اجمالا ، والى هذا اشار بقوله : «ولكنه» أي هذا الاشكال عليها بانها اخبار آحاد «مندفع بانها وان كانت كذلك» أي غير متواترة لفظا ولا معنى «إلّا انها متواترة اجمالا ... الى آخر الجملة».

(١) حاصله : ان لازم التواتر الاجمالي هو الاخذ باخص هذه الاخبار مضمونا ، لان اخصها هو الذي يعلم بصدوره اما بنفسه او في ضمن ما هو اعم منه ، ومختار المصنف والمشهور هو حجية خبر الثقة ، فالدليل يكون اخص من المدعى لان اخص هذه الاخبار هو خبر العادل ، فهو المتواتر اجمالا وهو اخص من خبر الثقة.

والجواب عنه : انه بعد ان كان خبر العادل حجة قطعا لتواتره اجمالا ، ومن الواضح ايضا ان معنى حجيته هو الاخذ بمضمونه ، وقد دل خبر العادل مثل الذي دل على الاخذ بروايات بني فضال على حجية خبر الثقة ، ولا فرق في حجية خبر العادل في مضمونه بين ان يكون حكما من الاحكام أو حجية خبر من الاخبار ، فخبر العادل الدال على الاخذ برواية بني فضال يدل على حجية خبر الثقة لوضوح عدم الخصوصية لبني فضال من دون ساير الثقات ، والى هذا اشار بقوله : «وقضيته» أي وقضية التواتر الاجمالي «وان كان حجية خبر دل على حجيته اخصها مضمونا» وهو خبر العادل الامامي «إلّا انه يتعدى عنه» الى غيره وهو خبر الثقة «فيما اذا كان بينها» أي بين الاخبار «ما كان بهذه الخصوصية» بان كان خبر عادل «وقد دل» خبر هذا العادل «على حجية ما كان اعم» من خبر العادل وهو

٣

فافهم (١).

______________________________________________________

حجية خبر الثقة ، فيكون التواتر الاجمالي دليلا على حجية خبر العادل ، وخبر العادل يكون دليلا على حجية خبر الثقة الذي هو اعم من العادل.

(١) لعله اشارة الى ما يمكن ان يتوهم بان اثبات حجية خبر الثقة بخبر العادل الذي ثبتت حجيته بالتواتر الاجمالي يستلزم الدور ، لان حجية خبر العادل موقوفة على التواتر الاجمالي ، والتواتر الاجمالي موقوف على الطوائف الثلاث التي من جملتها الطائفة التي تضمنت حجية خبر الثقة ، فاذا توقفت حجية خبر الثقة على خبر العادل لكونه على الفرض هو الدليل على حجية خبر الثقة كانت حجية خبر العادل موقوفة على ما يتوقف على حجية خبر العادل ، لانها متوقفة على التواتر المتوقف على ما دل على حجية خبر الثقة ، وقد قلنا ان حجية خبر الثقة موقوفة على حجية خبر العادل.

ويرده : ان هذا التوهم اشبه بالمغالطة لان حجية خبر العادل موقوفة على وجود الطائفة المتضمنة لحجية خبر الثقة لا على حجية خبر الثقة ، وحجية خبر الثقة ـ لا وجوده ـ موقوف على حجية خبر العادل ، فاختلف الموقوف والموقوف عليه ، فان حجية خبر الثقة متوقفة على حجية خبر العادل وحجية خبر العادل غير متوقفة على حجية خبر الثقة بل على وجوده.

ويمكن ان يكون اشارة الى انه لا داعي الى دعوى التواتر الاجمالي في مجموع الطوائف الثلاث ، بل يمكن دعوى التواتر الاجمالي في نفس الطائفة الدالة على حجية خبر الثقة كما ادعى ذلك صاحب الرسائل (قدس‌سره) ، وانها وان لم تكن هذه الطائفة متواترة لفظا او معنى ولكنها متواترة اجمالا للعلم بصدور بعضها.

٤

فصل

في الاجماع على حجية الخبر. وتقريره من وجوده (١):

أحدها : دعوى الاجماع من تتبع فتاوى الاصحاب على الحجية من زماننا إلى زمان الشيخ ، فيكشف رضاه عليه‌السلام بذلك ، ويقطع به ، أو من تتبع الاجماعات المنقولة على الحجية (٢) ، ولا يخفى مجازفة هذه

______________________________________________________

(١) لا يخفى انه سيذكر وجوها ثلاثة لتقرير الاجماع ، وثالثها هو استقرار سيرة العقلاء ، واطلاق الاجماع على السيرة انما هو لاجتماعها مع الاجماع الاصطلاحي في الكشف عن جعل الشارع لحجية الخبر.

والفرق بينها وبين الاجماع القولي والعملي هو انهما لو تمّا لكشفا عن نفس جعل الشارع من دون واسطة ، والسيرة انما تكشف عن الامضاء لعمل العقلاء ولازمه هو اعتبار حجية الخبر عنده.

(٢) وهذه الدعوى ترجع الى وجهين : الوجه الاول : دعوى الاجماع المحصّل الحاصل من تتبع فتاوى العلماء من زماننا الى زمان الشيخ (قدس‌سره) ويحصل من هذا التتبع القطع برضاء الامام عليه‌السلام من باب الحدس ، فهو اجماع محصّل على طريقة الحدس.

الوجه الثاني : هو حصول الاجماع المستلزم لرضا الامام عليه‌السلام من باب الحدس ، لا بسبب التتبع لنفس الفتاوى من العلماء بحجية الخبر ، بل السبب للقطع بحصول هذا الاجماع المستلزم للقطع برضا الامام هو تظافر الاجماعات المنقولة على حجيته بحيث يحصل من تظافرها القطع بتحقق الاجماع المحصّل الحدسي ، وهو يستلزم رضاء الامام عليه‌السلام.

وقد اشار الى الوجه الاول بقوله : «دعوى الاجماع من تتبع فتاوى الاصحاب على الحجية ... الى آخر الجملة». وقوله (قدس‌سره) : «ويقطع به» اشار الى انه من الاجماع الحدسي.

٥

الدعوى ، لاختلاف الفتاوى فيما أخذ في اعتباره من الخصوصيات ، ومعه لا مجال لتحصيل القطع برضائه عليه‌السلام من تتبعها ، وهكذا حال تتبع الاجماعات المنقولة (١) ، اللهم إلا أن يدعى تواطؤها على الحجية في الجملة ، وإنما الاختلاف في الخصوصيات المعتبرة فيها ، ولكن دون إثباته خرط القتاد (٢).

______________________________________________________

والى الوجه الثاني اشار بقوله : «او من تتبع الاجماعات المنقولة».

وينبغي ان لا يخفى انه اذا لم يحصل الاجماع المحصل من تتبع الاجماعات المنقولة فلا يصح دعوى كون الاجماع المنقول دليلا على حجية الخبر ، لما مرّ من ان الوجه في دعوى حجيّة الاجماع المنقول هو حجية الخبر ، فلا يعقل ان يكون ما يتوقف حجيّته على حجية الخبر يكون دليلا على حجية الخبر ، لانه دور واضح.

(١) الوجه في هذه المجازفة هو انه يرد على تقرير الاجماع بالوجه الاول ان فتاوى العلماء غير متفقة على حجية الخبر الواحد بمضمون واحد ، فان بعضهم ادعى الاجماع على حجية خبر الثقة ، وبعضهم ادعى الاجماع على حجية خبر العادل المعدّل بعدل واحد ، وبعضهم ادعى الاجماع على حجية خبر الواحد المعدّل بعدلين.

ومثله يرد على تقريره بالوجه الثاني ، فان الاجماعات المنقولة لم تتفق على مضمون واحد ، فان بعضهم نقل الاجماع على حجية خبر الثقة ، وبعضهم نقله على حجية خبر العادل.

وحيث ان الاجماع المدعى في المقام من الاجماع القولي فلا بد من الاتفاق على لفظ واحد او معنى واحد ، وقد عرفت الاختلاف لفظا ومعنى ... فلا وجه لدعوى الاجماع بكلا وجهيه ، والى هذا اشار بقوله : «ومعه لا مجال لتحصيل القطع برضائه ... الى آخر الجملة».

(٢) حاصل هذه الدعوى ان اختلاف الفتاوى أو نقل الاجماع وان لم يحصل منه الاجماع المحصّل على حجية خبر الثقة او حجية خبر العادل المعدّل بعدل واحد ، الا

٦

.................................................................................................

______________________________________________________

انه يحصل منه القطع بحجية اخص ما دلت عليه هذه الفتاوى والاجماعات المنقولة ، وهو حجية خبر العادل المعدّل بعدلين ، ويكون حالها حال دعوى التواتر الاجمالي في طوائف الاخبار المتقدمة ، فيكون المتحصّل منهما هو حجية الخبر في الجملة وهو اخصّها ، فانها على الاخص متفقة ، وانما الاختلاف بينها في ما زاد على ذلك ، وهذا هو مراده من قوله : «إلّا ان يدعى تواطؤها على الحجية في الجملة ... الى آخر عبارته».

والجواب عن هذه الدعوى : انه فرق بين التواتر الاجمالي في طوائف الاخبار المتقدمة ، وبين فتاوى العلماء والاجماعات المنقولة في المقام ، فان اللفظ الدال على معنى اعم المحكى في الاخبار المتقدمة دال على الاخص ، لوضوح دخول الفرد الاخص في المضمون الدال على معنى أعم ، بخلاف المقام فان المفتي لحجية خبر الثقة لعله لا يقول بحجية خبر العادل ، لاحتمال انه انما اقام على حجية خبر الثقة دليلا بحيث لو لم تتم دلالته او اختلت حجيته لما قال بحجية خبر العادل ، لعدم قيام دليل عنده على حجية خبر العادل.

نعم لو علم من المفتين او ممن نقل عنهم الاجماع انهم يقولون بحجية الاخص على كل حال لكان حال دعوى الاجماع في المقام مع اختلاف المضامين حال الطوائف الثلاث ، ويكون المتحصل منها قيام الاجماع المحصل الحدسي على حجية الخبر الاخص ، ولكن انى لنا بهذا العلم؟ وقد اشار الى ذلك بقوله : «ولكن دون اثباته» أي دون اثبات التواطؤ على الحجية في الجملة الراجعة الى حجية الاخص مضمونا «خرط القتاد».

٧

ثانيها : دعوى اتفاق العلماء عملا ـ بل كافة المسلمين ـ على العمل بخبر الواحد في أمورهم الشرعية ، كما يظهر من أخذ فتاوى المجتهدين من الناقلين لها (١).

وفيه : مضافا إلى ما عرفت مما يرد على الوجه الاول ، أنه لو سلم اتفاقهم على ذلك ، لم يحرز أنهم اتفقوا بما هم مسلمون ومتدينون بهذا

______________________________________________________

(١) الفرق بين هذه الدعوى للاجماع وبين الدعوى الاولى له هي ان الدعوى الاولى هي دعوى الاجماع القولي ، وهذه الدعوى الثانية هي دعوى الاجماع العملي.

والفرق بين دعوى الاجماع العملي ودعوى الاجماع بالنحو الثالث ـ وهو السيرة العقلائية وعمل العقلاء ـ ان الاجماع العملي هو عمل العلماء والمسلمين بما هم علماء وبما هم مسلمون ، فاذا تم فهو كاشف عن جعل الامام عليه‌السلام واعتباره للخبر الواحد بما ان الامام إمام لعلماء الدين وهم المطلعون على رأيه وبما انه رئيس للمسلمين ، والمسلمون رعيته يتبعونه متابعة المرءوس للرئيس ، بخلاف عمل العقلاء بما هم عقلاء ، فانه انما يكشف عن امضاء الشارع لعملهم وإلّا لردعهم.

وعلى كل فحاصل هذه الدعوى هو الاجماع عملا من العلماء بما هم علماء ومن المسلمين بما هم مسلمون على الاخذ بخبر الواحد في امورهم الشرعية واحكامهم ، كما يظهر من تصريح المفتين في مستند فتواهم انهم انما افتوا لوجود خبر واحد دل على هذه الفتوى.

وقد اشار الى كونه من الاجماع العملي لا القولي بقوله : «دعوى اتفاق العلماء عملا» والى عمل المسلمين بما هم مسلمون بقوله : «بل كافة المسلمين» وان مورد اتفاقهم هو العمل منهم في امورهم الشرعية ليكون كاشفا عن جعل الشارع لحجية الخبر الواحد لهم في الاحكام الشرعية بقوله : «في امورهم الشرعية» والى ان سبب العلم بالاتفاق العملي للعلماء ـ بما هم علماء ـ هو فتاواهم المصرحين بان المستند فيها هي اخبار الآحاد بقوله : «كما يظهر ... الى آخر الجملة».

٨

الدين ، أو بما هم عقلاء ولو لم يلزموا بدين ، كما هم لا يزالون يعملون بها في غير الامور الدينية من الامور العادية ، فيرجع إلى ثالث الوجوه (١) ، وهو دعوى استقرار سيرة العقلاء من ذوي الاديان وغيرهم على العمل بخبر الثقة ، واستمرت إلى زماننا ، ولم يردع عنه نبي ولا وصي نبي ،

______________________________________________________

(١) اورد المصنف على هذا الوجه في تقرير الاجماع إيرادين :

الاول : هو ما اورده على التقرير الاول ، وهو ان عمل العلماء غير متفق على ملاك واحد ، فان عمل بعضهم مستند الى اعتبار خبر الثقة ، وعمل بعضهم بحجية خبر العادل او خصوص المعدل بعدلين.

والثاني : ان العمل دليل صامت ، وكما يحتمل ان يكون عملهم يستند الى سيرة المتشرعة وانهم يعملون بما هم متشرعة حتى تتصل بعمل الشارع نفسه ، يحتمل ايضا ان يكون مستندهم في عملهم بناء العقلاء وسيرتهم بما هم عقلاء على العمل بخبر الواحد الممضاة من قبل الشارع ولو بعدم الردع ، فيرجع هذا الوجه الى الوجه الثالث الآتي في تقرير الاجماع.

وقد اشار اليهما بقوله : «وفيه مضافا الى ما عرفت مما يرد على الوجه الاول» من منع اتفاقهم على امر واحد في عملهم «انه لو سلم اتفاقهم على ذلك» أي لو سلم اتفاقهم في مقام العمل على امر واحد وهو الاخذ بخبر الثقة مثلا إلّا انه «لم يحرز انهم اتفقوا» على العمل به «بما هم مسلمون ومتدينون بهذا الدين» حتى تكون سيرتهم سيرة متشرعية «او» انهم انما اتفقوا على العمل به لانهم عقلاء ، فان العقلاء «بما هم عقلاء ولو لم يلتزموا بدين» يعملون بخبر الثقة «كما» ان العقلاء بما «هم» عقلاء «لا يزالون يعملون بها» أي بهذه السيرة العقلائية «في غير الامور الدينية من الامور العادية».

وعلى هذا الاحتمال «فيرجع» تقرير الاجماع على هذا الوجه الثاني «الى» تقريره على «ثالث الوجوه».

٩

ضرورة أنه لو كان لاشتهر وبان ، ومن الواضح أنه يكشف عن رضا الشارع به في الشرعيات أيضا (١).

______________________________________________________

(١) هذا هو الوجه الثالث في تقرير الاجماع على حجية خبر الواحد ، وهو ما عرفت من دعوى بناء العقلاء وسيرتهم بما هم عقلاء على الاخذ بخبر الثقة ، وهي مستمرة من زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واوصيائه عليهم‌السلام بل من قبل زمانهم من أزمنة الاديان السابقة على الاسلام ، وهذه السيرة بمرأى منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن اوصيائه عليهم‌السلام ، ولم يردع عنها لا هو ولا أوصياؤه عليهم الصلاة والسلام جميعا ، وعدم ردعهم دليل على امضائهم لهذه السيرة العقلائية وإلّا لردعوا ، ولو ردعوا لاشتهر ردعهم لان متعلق الردع من اعظم موارد الابتلاء ، وكلما زاد الامر اهمية توفرت الدواعي لنقله ، ولم ينقل عنهم ـ صلوات الله عليهم ـ ردع عن هذه السيرة العقلائية ، فيكون من الواضح كشف عدم الردع من الشارع عن هذه السيرة عن رضاء الشارع بها في الشرعيات ، لان اخذ العقلاء لا يختلف حاله في امور معاشهم ومعادهم ، ومن الواضح ايضا انه لا يحتمل ان يكون عدم الردع من الشارع لمانع يمنع عن الردع.

فتلخص ان تقرير الاجماع على هذا الوجه يبتني على مقدمات ثلاث :

ـ بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة مطلقا ، وهو محرز بالوجدان قطعا.

ـ وعدم الردع منهم عليهم‌السلام وهو محرز ايضا وإلّا لنقل واشتهر مع وجود الداعي الى الردع لفرض ان عمل العقلاء مطلق حتى في امورهم الدينية ، فهم يعتبرون خبر الثقة منجزا لو اصاب ومعذرا لو خالف ، فهو عندهم طريق الى الاحكام الواقعية ، ولا شبهة ان تنجيز أحكام الشرع بهذا الطريق والتعذير عند المخالفة لها لو لم يكن ممضى عند الشارع لردع عنه بما هو مشرع لاحكام يريد امتثالها ولا يرضى بمخالفتها ، فانه من البديهي ان للشارع احكاما واقعية فعلية يريد امتثالها ولا يرضى بمخالفتها.

١٠

إن قلت : يكفي في الردع الآيات الناهية ، والروايات المانعة عن اتباع غير العلم ، وناهيك قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ، وقوله تعالى : (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (١).

______________________________________________________

ـ وان هذا الردع منهم عليهم‌السلام لا مانع منه بحيث لو لم يكن مرضيا وممضى عندهم لردعوا عنه ، وهو محرز ايضا ، اذ لا يحتمل احتمالا عقلائيا ان هناك مانعا عن ردعهم عن هذه السيرة العقلائية.

ومع تمامية هذه المقدمات يتضح حجية خبر الثقة بامضاء الشارع لعمل العقلاء القائم على الاخذ بخبر الثقة.

وقد اشار المصنف الى ما ذكرنا جميعا بقوله : «دعوى استقرار سيرة العقلاء ... الى آخر عبارته».

(١) حاصله : ان المقدمة الثانية ممنوعة وهي عدم الردع عن هذه السيرة.

ولا يخفى ان الردع كما يكون بدليل خاص كأن يقول لا تأخذ بخبر الثقة ، او لا تاخذ بعمل العقلاء في اخذهم بخبر الثقة في امور دينك ـ كذلك يمكن ان يكون الردع بما هو اعم ، بان يردع عن اتباع عنوان عام من جملة مصاديقه الاخذ بهذه السيرة العقلائية ، والردع وان لم يصل الينا بعنوان خاص في مقام المنع عن الاخذ بها ، إلّا انه قد وصلنا الردع بعنوان عام من جملة مصاديقه هذه السيرة.

وبيان ذلك : انه لا اشكال في كون خبر الثقة الذي قامت سيرة العقلاء على الاخذ به لا يوجب علما ، لان احتمال خطأ الثقة في نقله على الاقل موجود ، ومع هذا الاحتمال لا يكون خبره موجبا للعلم ، وغاية ما يقتضيه خبر الثقة هو الظن ، وقد وردت الآيات الناهية عن اتباع غير العلم وعن الاخذ بالظن ، فخبر الثقة بعنوانين قد ورد الردع عنه ، بعنوان كونه من غير العلم ، وبعنوان كونه مما يوجب

١١

قلت : لا يكاد يكفي تلك الآيات في ذلك ، فإنه ـ مضافا إلى أنها وردت إرشادا إلى عدم كفاية الظن في أصول الدين ، ولو سلم فإنما المتيقن لو لا أنه المنصرف إليه إطلاقها هو خصوص الظن الذي لم يقم على اعتباره حجة (١) ـ لا يكاد يكون الردع بها إلا على وجه دائر ، وذلك

______________________________________________________

الظن في قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) وفي قوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)(٢).

(١) حاصله : ان هذه الآيات لا تصلح رادعة عن السيرة لوجوه :

الاول : انها وردت في النهي عن اتباع غير العلم وعن العمل بالظن في خصوص اصول الدين كما مرت الاشارة الى هذا فيما سبق.

ولا يخفى ان هذه الآيات بناء على كونها مختصة باصول الدين تكون ارشادية لا مولوية ، لحكم العقل بلزوم العلم في ما يرجع الى اصول الدين ، ومع حكم العقل بذلك يكون النهي الشرعي ارشادا اليه.

مضافا الى ان اصول الدين كالاعتقاد بوجود واجب الوجود عزوجل ووحدانيته وصفاته ونبوة انبيائه عليهم‌السلام لا يعقل ان يكون الامر الوارد بلزوم العلم فيها او النهي عن اتباع غير العلم او عن العمل بالظن فيها مولويا ، لان مولوية الامر معناها هو الامر من الشارع بما هو مولى ومشرع ، ويتوقف ذلك على الفراغ عن الاعتقاد به بما هو كذلك ، وكون المورد اصول الدين لازمه فرض عدم المفروغية عن ذلك ، الّا ان يقال ان المولوية وكونه شارعا منوط بكونه كذلك واقعا لا بالاحراز والاعتقاد.

ولكنه يمكن ان يقال : ان الامر أو النهي المولوي عن اتباع غير العلم لا يعقل ان يتوجه الى العبد في حال علمه لحصول الغرض ، ولا في حال الشك لعدم امكان

__________________

(١) الاسراء : الآية ٣٦.

(٢) يونس : الآية ٣٦.

١٢

لان الردع بها يتوقف على عدم تخصيص عمومها ، أو تقييد إطلاقها بالسيرة على اعتبار خبر الثقة ، وهو يتوقف على الردع عنها بها ، وإلا لكانت مخصصة أو مقيدة لها ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

محركية الامر أو رادعيّة النهي للشاك في وجود المولى الآمر أو الناهي ، فالعقل هو المرشد بلزوم الفحص في أي حال دون الامر والنهي.

وعلى كل فقد اتضح ان الامر والنهي الواردين في اصول الدين لا بد وان يكونا للارشاد ، وقد اشار (قدس‌سره) الى ان هذه النواهي ارشادية وان موردها اصول الدين بقوله : «فانه مضافا الى انها وردت ارشادا ... الى آخر الجملة».

الثاني : ان هذه الآيات العامة الناهية الشاملة لاصول الدين وللظن الذي ليس بحجة عند العقلاء لو كانت شاملة ايضا للظن الذي بنى العقلاء على حجيته كخبر الثقة لكانت بالنسبة الى اصول الدين او الظن غير الحجة عند العقلاء امضائية ، لحكم العقل في عدم كفاية الظن وغير العلم فيهما ، وبالنسبة الى الظن الذي بنى العقلاء على حجيته تأسيسيّة لإلغائها حجية ما بنى عليه العقلاء ، والجمع بين كونها تاسيسيّة في مورد وامضائية في مورد آخر بعيد جدا ، فهي اما امضائية او تاسيسيّة.

وحيث ان موردها اصول الدين فلا بد وان تكون امضائية لا تاسيسيّة ، ولازم هذا ان تكون هذه النواهي اما ان يكون القدر المتيقن منها هو اتباع غير العلم في اصول الدين وفي خصوص الظن غير الحجة عند العقلاء ، او انه بواسطة ورودها في مورد الامضائية يكون المنصرف منها عند اطلاقها ذلك ، ولا تشمل الظن الذي بنى العقلاء على حجّيّته كخبر الثقة ، والى هذا اشار بقوله : «ولو سلّم فانما المتيقن منها لو لا انه المنصرف اليه اطلاقها ... الى آخر الجملة».

(١) هذا هو الوجه الثالث ، توضيحه : انه فرق بين الدليل الخاص الدال على الردع عن العمل بالسيرة العقلائية وبين الدليل العام الذي من جملة ما يدل عليه الردع عن

١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

السيرة كمثل الآيات الناهية ، فان المدعى انها تدل على عدم اتباع غير العلم الذي من جملته السيرة القائمة على الاخذ بخبر الثقة.

والوجه في ذلك ان الدليل الخاص حجيته في مقام الاثبات غير متوقفة على غير ان يكون له ظهور دلالي ، والمفروض وجود الظهور ولا مانع عن الاخذ به الا وجود الناسخ له والمفروض عدمه ، وكون السيرة بنفسها ناسخة له غير معقول حتى لو قلنا بجواز النسخ قبل حضور وقت العمل ، لان ظهور النص الخاص في تخصيصه للسيرة اقوى من دلالة السيرة بالالتزام على نسخ النص الخاص ، ولذا لا اظن ان يستشكل احد في تقديم النص الخاص الرادع عن العمل بالسيرة على السيرة.

واما الردع للسيرة بالعموم فليس كذلك ، لوضوح ان العموم الرادع انما تتم حجّيّته في مقام العمل به على اطلاقه وعمومه حيث لا يكون له مخصص أو مقيد ، لما عرفت ان العام او المطلق حيث انهما في معرض التقييد والتخصيص فلا تتم حجتهما الفعليّة الا بعد عدم المخصص والمقيد ، وكما يمكن ان تكون العمومات رادعة عن السيرة يمكن ايضا ان تكون السيرة مخصصة او مقيدة للعموم او الاطلاق.

فيلزم من كون العمومات رادعة للسيرة دور واضح ، لان كون العمومات رادعة للسيرة يتوقف على الحجية الفعلية للعمومات المتوقفة على عدم تخصيصها ، وعدم تخصيصها يتوقف على ان لا تكون السيرة مخصصة لها.

ومن البيّن انه كما يمكن ان تكون العمومات رادعة للسيرة يمكن ايضا ان تكون السيرة مخصصة لها ، فرادعية الآيات تتوقف على عدم تخصيصها بالسيرة ، وعدم تخصيصها بالسيرة يتوقف على كونها رادعة للسيرة ، والّا لو لم تكن رادعة لكانت السيرة صالحة لتخصيصها ، فرادعية الآيات تتوقف على رادعيتها وهو الدور. والى هذا اشار بقوله : «لا يكاد يكون الردع بها» أي لا يكاد يكون الردع بالآيات للسيرة «الا على وجه دائر وذلك لان الردع بها» حيث ان المفروض انها عمومات «يتوقف على عدم تخصيص عمومها او تقيد اطلاقها» لما عرفت من ان العام حيث

١٤

لا يقال : على هذا لا يكون اعتبار خبر الثقة بالسيرة أيضا ، إلا على وجه دائر ، فإن اعتباره بها فعلا يتوقف على عدم الردع بها عنها ، وهو يتوقف على تخصيصها بها ، وهو يتوقف على عدم الردع بها عنها (١).

______________________________________________________

انه في معرض التخصيص لا تتم حجيّته الفعلية ، فكون هذه العمومات رادعة للسيرة القائمة على الاخذ بخبر الثقة يتوقف على عدم تخصيصها او عدم تقييدها «بالسيرة» القائمة «على اعتبار خبر الثقة» فان السيرة بما هي سيرة عقلائية صالحة لتقييد الاطلاق وتخصيص العموم «وهو يتوقف» أي وعدم تخصيص السيرة للعمومات يتوقف «على الردع عنها» أي عن السيرة «بها» أي بالآيات «وإلّا» أي لو لم تكن الآيات رادعة للسيرة «لكانت» السيرة «مخصصة» للعمومات الناهية «او مقيّدة لها».

فالرّدع بهذه الآيات يتوقف على عدم تخصيصها بالسيرة المتوقف على كونها رادعة للسيرة ، فيتوقف الردع بها على ما يتوقف على الردع بها ، وهو الدور.

(١) توضيحه : ان سيرة العقلاء بما هم عقلاء على شيء ليست دليلا بنفسها ، بل تتوقف حجيتها على عدم ردع الشارع عنها ، فكون السيرة حجة تامة على الاخذ بخبر الثقة يتوقف على عدم الردع للسيرة ، والردع بالآيات للسيرة وان كان دوريا كما عرفت إلّا ان حجيّة السيرة على الاخذ بخبر الثقة ايضا دوري ، لان حجيّة السيرة تتوقف على عدم الردع لها بالآيات ، وعدم الردع لها بالآيات يتوقف على تخصيصها للآيات الناهية ، والّا فالآيات لو لم تكن السيرة مخصصة لها لكانت رادعة عنها ، فحجية السيرة على خبر الثقة تتوقف على عدم الردع لها ، وعدم الردع لها بالآيات يتوقف على كون السيرة مخصصة للآيات ، والّا لكانت الآيات رادعة للسيرة لو لم تكن مخصصة بالسيرة ، وتخصيص السيرة للآيات يتوقف على ان لا تكون الآيات رادعة لها ، فحجية السيرة على خبر الثقة متوقفة على عدم الردع المتوقف على كون السيرة مخصصة للآيات المتوقف على عدم الردع لها بالآيات ، فعدم الردع متوقف

١٥

فإنه يقال : إنما يكفي في حجيته بها عدم ثبوت الردع عنها ، لعدم نهوض ما يصلح لردعها ، كما يكفي في تخصيصها لها ذلك ، كما لا يخفى (١) ، ضرورة أن ما جرت عليه السيرة المستمرة في

______________________________________________________

على ما يتوقف على عدم الردع ، فكما ان الردع في الآيات يتوقف على الردع ، كذلك عدم الردع في السيرة يتوقف على عدم الردع ، فلا تكون الآيات رادعة ولا تكون السيرة حجة على خبر الثقة للزوم للدور في كليهما ، وبالآخرة لا تكون السيرة دليلا تاما على حجية خبر الثقة لانه يلزم من كونها حجة عليه الدور ، لما عرفت من توقفها على عدم الردع المتوقف على كونها مخصصة للآيات المتوقف ذلك على عدم ردع الآيات لها.

والى هذا اشار بقوله : «على هذا لا يكون اعتبار خبر الثقة بالسيرة الا على وجه دائر فان اعتباره بها» أي ان اعتبار خبر الثقة بواسطة السيرة وكونها حجة عليه «فعلا يتوقف على عدم الردع بها» أي كون السيرة حجة فعلا على خبر الثقة يتوقف على عدم الردع بالآيات «عنها» أي عن السيرة «وهو يتوقف على تخصيصها بها» أي عدم الردع بالآيات للسيرة يتوقف على تخصيص الآيات بالسيرة ، فضمير تخصيصها يرجع الى الآيات ، وضمير بها يرجع الى السيرة «وهو يتوقف على عدم الردع بها عنها» أي تخصيص الآيات بالسيرة يتوقف على عدم ردع الآيات للسيرة ، فضمير بها يرجع الى الآيات ، وضمير عنها يرجع الى السيرة ، فعدم الردع للسيرة المتقوم به حجيتها الفعلية على خبر الثقة يتوقف على كونها مخصصة للآيات ، وكونها مخصصة يتوقف على عدم ردع الآيات لها وهو دور ايضا.

(١) توضيح الجواب عن هذا الاشكال وان رداعية الآيات للسيرة دوري ، بخلاف السيرة على الاخذ بخبر الثقة الذي لازمه تخصيص السيرة للآيات فانه غير دوري يتوقف على بيان امر :

١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وهو ان رادعية الآيات للسيرة لا بد فيه من وصوله وثبوته ، لان الردع الواقعي غير الواصل لا يكون مانعا عن حجية السيرة ، فكون الآيات حجة بالفعل في ردعها للسيرة متوقف على وصول ردعها وثبوته وان تكون ظاهرة في الرادعية ، وقد عرفت ان كون الآيات ظاهرة في الردع دوري ، فلا ظهور لها بالفعل في الرادعيّة ، فرادعيتها لا وصول لها بالفعل.

واما حجية السيرة على الاخذ بخبر الثقة فقد عرفت انها متوقفة على الامضاء الذي يكفي في استكشافه عدم ثبوت الردع لا ثبوت عدم الردع ، نعم لو كان استكشاف الامضاء متوقفا على ثبوت عدم الردع للزم الدور من الجانبين ، لان اثبات عدم الردع لها الذي به يستكشف الامضاء يتوقف على ثبوت تخصيصها للآيات ، وثبوت تخصيص السيرة للآيات متوقف على ثبوت عدم ردع الآيات لها ، اذ لو كانت رادعة لها لما كانت السيرة مخصصة لها بل كانت مردوعة بالآيات ، ومع كونها مردوعة لا تكون حجة مخصصة ، وقد عرفت ان العام لا يرفع اليد عن ظهوره في العموم إلّا بحجة اقوى منه تدل على تخصيصه ، فيكون ردع الآيات للسيرة دوريا ، وحجية السيرة على الاخذ بخبر الثقة ـ ايضا ـ دوريا.

اما لو كانت السيرة حجيتها لا تتوقف على ثبوت عدم الردع بل كانت متوقفة على عدم ثبوت الردع وبه يتم استكشاف الامضاء وعدم الثبوت لا يحتاج الى ثبوت ، فكون السيرة حجة لا يتوقف على ثبوت التخصيص وثبوت عدم الردع ، بل هو متوقف على عدم ثبوت الردع ، ولما كان ردع الآيات للسيرة دوريا فردعها لها لم يثبت وهذا كاف في حجية السيرة ولا يحتاج الى اثبات.

وبعبارة اخرى : ان حجية الآيات في ردعها يتوقف على العلم بالردع ، وحجية السيرة في الاخذ بخبر الثقة يتوقف على عدم العلم بالردع لا على العلم بعدم الردع ، ولما كان الردع دوريا فلم يعلم به ، وصرف عدم العلم به كاف في حجية السيرة ، فما هو المناط في رادعية الآيات لم يثبت لاستلزامه الدور لانها متوقفة على ظهورها ،

١٧

مقام الاطاعة والمعصية ، وفي استحقاق العقوبة بالمخالفة ، وعدم

______________________________________________________

ولا بد من ثبوت الظهور ووصوله بالعلم به ، وحجية السيرة لا تتوقف على ثبوت ظهور ايضا يدل على عدم الردع حتى يكون الدور من الجانبين ، بل يكفي في ثبوت حجية السيرة عدم العلم بالرادع لها ، وعدم العلم لا يحتاج الى مثبت ، فما يتوقف عليه حجية السيرة متحقق وهو عدم العلم بالرادع ، وما يتوقف عليه حجية الآيات في الرادعية هو الظهور ولا بد من تحققه بالعلم به.

وبعبارة اوضح : ان ما تتوقف عليه حجية الآيات في الرادعية امر وجودي لا بد من وصول المثبت له ، وما يتوقف عليه حجية السيرة امر عدمي يكفي فيه عدم الوصول وعدم العلم ، فحجية السيرة على الاخذ بخبر الثقة شرطها متحقق ، وحجية الآيات في ظهورها في الردع شرطها غير متحقق.

وقد اشار الى ما ذكرنا بقوله : «فانه يقال» في مقام الجواب عن لزوم الدور في حجية السيرة على حجية خبر الثقة وانه غير مستلزم للدور بخلاف رادعية الآيات للسيرة فانه دوري كما تقدم انه «انما» لا يكون دوريا لانه «يكفي في حجّيّته» أي في حجية خبر الثقة «بها» أي بالسيرة هو «عدم ثبوت الردع عنها» أي عن السيرة والامر العدمي لا يحتاج الى مثبت ، ويكفي فيه عدم ثبوت الرادع ولو «لعدم نهوض ما يصلح لردعها» كالآيات فانها لا تصلح رادعة للسيرة لاستلزام ذلك الدور ، واذا كان ذلك كافيا في حجية السيرة ولا يستلزم دورا فالسيرة كما تكون حجة في الاخذ بخبر الثقة تكون مخصصة للآيات الناهية ، فالآيات الناهية لا تصلح لردع السيرة ، والسيرة تصلح لان تكون حجة على خبر الثقة ومخصصة للآيات الناهية ، والى هذا اشار بقوله : «كما يكفي في تخصيصها لها ذلك كما لا يخفى» أي كما ان عدم ثبوت الردع كاف في حجية السيرة على الاخذ بخبر الثقة كذلك عدم ثبوت الردع كاف ايضا في تخصيص السيرة للآيات ، فضمير تخصيصها يرجع الى السيرة ، وضمير لها يرجع الى الآيات الناهية عن اقتفاء غير العلم وعن العمل بالظن.

١٨

استحقاقها مع الموافقة ، ولو في صورة المخالفة عن الواقع ، يكون عقلا في الشرع متبعا ما لم ينهض دليل على المنع عن اتباعه في الشرعيات (١) ،

______________________________________________________

(١) حاصله : ان الضرورة قائمة على ان سيرة العقلاء جارية على العمل بخبر الثقة وهو حجة عندهم يعملون على طبقه ، وان العامل بما دل عليه خبر الثقة مطيع وغير العامل على طبقه عاص ، وان المخالف لما دلّ عليه خبر الثقة مستحق للعقوبة وان الموافق لما دلّ عليه خبر الثقة لا يستحق عقوبة فيما لو كان خبر الثقة غير موافق للواقع فالاخذ به معذر عند المخالفة.

والحاصل : ان خبر الثقة متبع عند العقلاء ما لم يدل دليل خاص على المنع عنه ، والى هذا اشار بقوله : «ضرورة ان ما جرت عليه السيرة المستمرة ... الى آخر الجملة».

وقوله : «يكون عقلا في الشرع متبعا» هذا خبر ان التي اسمها ما جرت عليه السيرة ، ومراده من قوله يكون عقلا في الشرع متبعا هو انه بعد قيام السيرة على الاخذ بخبر الثقة التي يكفي فيها عدم ثبوت الردع ولم يثبت بالعمومات ردع لها لما عرفت ، فتكون السيرة حجة على الاخذ بخبر الثقة ، ولما كان العقل هو الحاكم في باب الاطاعة والمعصية والمعذرية فاذا دلّ خبر الثقة على حكم شرعي فالعقل يحكم بما ذكره من ان الاطاعة تكون باتباع ما دل عليه خبر الثقة ، فان وافق الواقع كان اطاعة وان خالف الواقع كان معذرا عنه وان خولف فمخالفته تكون معصية.

ولما كانت المخالفة عند المصنف تقتضي استحقاق العقاب ، سواء كانت مخالفة واقعية او تجريا ـ لما مرّ منه من ان المتجري يستحق العقاب ـ لذلك اطلق العبارة في المقام بقوله : «وفي استحقاق العقوبة بالمخالفة».

ومراده من الدليل الذي ينهض على المنع عن السيرة هو الدليل الخاص كأن يقول الشارع لا تتبع السيرة القائمة على الاخذ بخبر الثقة في احكامي ، لان الدليل العام كالعموم والاطلاق قد عرفت انه غير قابل لان يكون مانعا ورادعا عن السيرة.

١٩

فافهم وتأمل (١).

______________________________________________________

(١) اشار المصنف الى وجه امره بالفهم والتامل في هامش الكتاب (١) هو ان هناك وجها آخر لحجية السيرة ، ولو قلنا بان السيرة متوقفة على ثبوت عدم الردع فيلزم الدور من حجيتها كما يلزم الدور من رادعية الآيات فلا تكون الآيات الناهية حجة في الردع ولا تكون السيرة حجة على خبر الثقة ، او قلنا بان المتوقف عليه الظهور العمومي والاطلاقي ليس ثبوت عدم التخصيص والتقييد له بل هو ايضا موقوف على عدم ثبوت المخصص والمقيد فيكون امرا عدميا كما في ثبوت الردع ، فتكون الآيات حجة في الردع وتكون السيرة حجة في التخصيص والاخذ بخبر الثقة ، وحيث ان حجيتهما معا غير معقول لانهما متنافيان وفعلية المتنافيين محال ، فيتساقطان في مقام التعارض وهو الاخذ بخبر الثقة.

والنتيجة على كل حال عدم كون السيرة حجة بالفعل على خبر الثقة اما للزوم الدور في الجانبين او لتساقط الحجتين.

وحاصل الوجه الذي اشار اليه في هامش الكتاب هو : ان السيرة العقلائية على الاخذ بخبر الثقة قائمة قبل نزول الآيات وغير مردوعة ، لان المفروض ان ردعها لو كان لكان بالآيات الناهية ، فقبل نزول الآيات الناهية كانت السيرة حجة لعدم ثبوت ردعها ، وبعد نزول الآيات الناهية يدور الامر بين كون السيرة خاصّا مقدما على العام فتكون مخصصة للآيات الناهية بعمومها او اطلاقها وتكون حجة على الاخذ بخبر الثقة.

وبين كون العام ناسخا لها ورادعا لها ومانعا عن حجيتها ، فيدور الامر بين تخصيص العام بالسيرة وبين نسخ العام للسيرة.

__________________

(١) كفاية الاصول بحاشية المحقق المشكيني (قدس‌سره) ج ٢ ص ١٠١ (حجري).

٢٠