بداية الوصول

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي

بداية الوصول

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد طاهر آل الشيخ راضي


المحقق: محمّد عبدالحكيم الموسوي البكّاء
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: أسرة آل الشيخ راضي
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-497-056-X

الصفحات: ٤٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

نحو الموضوعية كما يشير اليه قوله في آخر كلامه في مقام الايراد على الشيخ الاعظم «ان ملاكه ... الى آخره» وسيأتي بيانه ان شاء الله ، فالرجوع اليها وان كان على نحو الموضوعية إلّا انه لما كان المكلف به هو الرجوع الى السنة الحاكية لقول المعصوم ففي مقام الانفتاح العقل يحكم بالرجوع الى السنة الحاكية التي يعلم بمطابقتها للسنة الواقعية او يعلم بجعلها تعبدا.

وبعبارة اخرى : عند انفتاح باب العلم والعلمي لا بد من الرجوع اما الى الخبر المقطوع بموافقته للسنة الواقعية ، وهو مثل الخبر المتواتر الذي نعلم بان المخبر به فيه هو الحكم الواقعي او الى الخبر المقطوع بحجيته واعتباره ، وهذا هو مراده من قوله : «فان تمكنا من الرجوع اليهما على نحو يحصل العلم بالحكم» وذلك بالرجوع ـ مثلا ـ الى الخبر المتواتر «او ما بحكمه» وهو الرجوع الى الخبر المقطوع بحجيته.

واما في مقام انسداد باب العلم والعلمي كما هو المفروض في مقامنا لانا في مقام اقامة الدليل العقلي على حجية الخبر ، مع فرض انه هو الدليل على حجية الخبر دون الادلة التي تقدمت كالآيات والروايات والاجماع ، فلا بد من فرض انسداد باب العلم والعلمي ، ومع الانسداد فالعقل يحكم بالرجوع الى ما هو مظنون الصدور أو مظنون الاعتبار ، لوضوح ان كل تكليف لا بد من امتثاله اما بالعلم او العلمي وإلّا فبالظن ، والى هذا اشار بقوله : «وإلّا فلا محيص عن الرجوع على نحو يحصل الظن به في الخروج عن عهدة هذا التكليف» وهو التكليف بالرجوع الى السنة ، ففي مقام الانفتاح وامكان ان نعرف السنة المامورين بالرجوع اليها لا بد من الرجوع الى السنة المقطوع بمطابقتها للسنة الواقعية او الى السنة المقطوع باعتبارها ، وفي مقام الانسداد فالتكليف بالرجوع الى السنة لا بد من التنزل فيه من العلم والعملي الى ما هو المظنون بصدوره او المظنون باعتباره ، ولذا قال (قدس‌سره) : «فلو لم يتمكن من القطع بالصدور او الاعتبار» كما هو فرض مقامنا «فلا بد من التنزل الى الظن باحدهما» أي لا بد من التنزل الى مظنون الصدور او مظنون الاعتبار.

٤١

وفيه : إن قضية بقاء التكليف فعلا بالرجوع إلى الاخبار الحاكية للسنة ، كما صرح بأنها المراد منها في ذيل كلامه زيد في علو مقامه إنما هي الاقتصار في الرجوع إلى الاخبار المتيقن الاعتبار ، فإن وفى ، : وإلى أضيف إليه الرجوع إلى ما هو المتيقن اعتباره بالاضافة لو كان ، وإلا فالاحتياط بنحو عرفت ، لا الرجوع إلى ما ظن اعتباره ، وذلك للتمكن من الرجوع علما تفصيلا أو إجمالا ، فلا وجه معه من الاكتفاء بالرجوع إلى ما ظن اعتباره. هذا مع أن مجال المنع عن ثبوت التكليف بالرجوع إلى السنة ـ بذاك المعنى ـ فيما لم يعلم بالصدور ولا بالاعتبار بالخصوص واسع (١).

______________________________________________________

لا يقال : انه اذا كان المراد من السنة في كلام المحشي هي الاخبار الحاكية للسنة فالتكليف بالرجوع اليها معناه حجيتها ، فلا وجه لهذا التكليف في حكم العقل بالرجوع اولا الى الاخبار المقطوعة الصدور ثم الاخبار المقطوعة الاعتبار في حال الانفتاح ، وفي حال الانسداد الى مظنون الصدور او الاعتبار ، بل الاخبار كلها تكون مقطوعة الاعتبار.

فانه يقال : ان التكليف بالرجوع الى السنة الحاكية أي الاخبار ليس فيه اطلاق وانما هو في الجملة : أي ان الاجماع من الشيعة او من المسلمين او الضرورة دليل لبي لا اطلاق فيه ، فهو يدل على لزوم الرجوع الى السنة الحاكية في الجملة ، ولذا كان للعقل مجال في الحكم بكيفية امتثال الامر بالرجوع اليها.

(١) توضيح ما اورده المصنف على كلام المحقق المحشي ، وقد اورد عليه بإيرادين :

أولهما : هو ان نتيجة كلام المحقق (قدس‌سره) هو القطع بالتكليف بالرجوع الى السنة الحاكية أي الاخبار التي بأيدينا ، وحيث ان المفروض الانسداد ولا نعلم ما هو مقطوع الصدور ولا مقطوع الاعتبار بخصوصه فنتنزل الى الظن باحدهما ، ولكن لازم هذا هو الرجوع الى متيقن الاعتبار من الاخبار ، فانا وان كنا لم نعلم بمقطوع الصدور لكنا نعلم بمتيقن الاعتبار ، فان الامر بالرجوع الى هذه الاخبار في الجملة ان

٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

كان على وجه يعم الخبر الموثق فلا اشكال في انه يعم الخبر الصحيح الاعلائي وهو الذي كل رجاله عدول معدلون بعدلين ، فان وفى هذا النوع من الخبر بمعظم الفقه او بما نعلم بواسطة الاخذ بهذا النوع بانحلال التكليف بالرجوع الى السنة ، وإلّا فنتنزل الى الاخذ بالخبر المتيقن الاعتبار بالاضافة ، وهو مثل الخبر الصحيح الذي رجاله عدول ولكنهم معدلون بعدل واحد لا بعدلين ، فان لم يف هذا النوع ايضا بانحلال التكليف بأن كنا مع الاخذ بهذين النوعين يبقى العلم الاجمالي بالرجوع الى الاخبار بحاله ولا ينحل الى علم تفصيلي وشك بدوي ، فلا بد من العمل بالاحتياط والاخذ بكل خبر مثبت ، ولا تصل الحال الى الظن ، لوضوح انه مع امكان امتثال التكليف بالعلم التفصيلي او العلم الاجمالي لا تصل النوبة الى الامتثال الظني ، وفي مقامنا يمكن امتثال الامر بالرجوع الى السنة ، اما تفصيلا فيما اذا وفى النوع الاول او هو مع النوع الثاني بانحلال التكليف الى علم تفصيلي وشك بدوي ، وان لم يكن الاخذ بهذين النوعين وافيا فيمكن الامتثال بالعلم الاجمالي وهو الاحتياط والاخذ بكل ما اثبت التكليف ، ولا تصل النوبة الى الاخذ بالمظنون.

وقد اشار الى هذا الايراد الاول بقوله : «انما هي الاقتصار» أي ان قضية العلم ببقاء التكليف فعلا بالرجوع الى الاخبار الحاكية للسنة هي الاقتصار «في الرجوع الى الاخبار» على الرجوع الى «المتيقن الاعتبار» من الاخبار كالخبر الصحيح الاعلائي «فان وفى» بان انحل به التكليف بالرجوع الى الاخبار الحاكية للسنة «وإلّا» فنتنزل الى النوع الثاني من الخبر الصحيح وهو مراده من قوله : «وإلّا اضيف اليه الرجوع الى ما هو المتيقن اعتباره بالاضافة» أي بالاضافة الى النوع الاول من الخبر الصحيح «وإلّا» أي وان لم يف هذان النوعان «فالاحتياط بنحو عرفت» وهو الاخذ بكل ما اثبت التكليف «لا الرجوع الى ما ظن اعتباره وذلك» أي ان السبب في ان نتيجة ما ذكره هو الرجوع الى الاخبار الحاكية للسنة بالنحو الذي ذكرناه لها لا بالرجوع الى مظنون الاعتبار ، هو انه مع امكان الامتثال اما بنحو العلم

٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

التفصيلي او بنحو العلم الاجمالي لا تصل النوبة الى الامتثال الظني ، ولذا قال (قدس‌سره) : «للتمكن من الرجوع» الى السنة الحاكية بنحو يوجب رجوعنا «علما تفصيلا» بالامتثال «او» علما «اجمالا» بالامتثال ، ومتى امكن الامتثال اما تفصيلا او اجمالا «فلا وجه معه من الاكتفاء بالرجوع الى ما ظن اعتباره».

ثانيهما : ما اشار اليه بقوله : «مع ان مجال المنع ... الى آخره» وحاصله : انا نمنع القطع بالتكليف بالرجوع الى السنة الحاكية فعلا في حال الانسداد ، فان الاجماع من المسلمين ومن الشيعة انما هو على الرجوع الى السنة الحاكية المعلومة الصدور بعينها أو المعلومة الاعتبار بعينها ، وليس هناك اجماع محقق مع فرض الانسداد ، والمتيقن من المسلمين والشيعة وان كان هو الرجوع فعلا الى السنة الحاكية إلّا أن المجمعين كلهم او جلهم ممن يرى انفتاح باب العلم والعلمي ، ولم يظهر منهم الاجماع على الرجوع اليها حتى مع الانسداد.

ومحصل ما ذكره الماتن هو : ان القدر المتيقن قيام الاجماع على الاخذ بالسنة الحاكية في حال الانفتاح ، وفي حال الانفتاح يكون الخبر المعلوم الاعتبار معلوما بعينه ، ولم يثبت اجماع في فرض الانسداد ليكون الاجماع مستلزما للاخذ بالسنة في الجملة ولذا قال (قدس‌سره) : «مع ان مجال المنع عن ثبوت التكليف بالرجوع الى السنة الحاكية بذاك المعنى» أي مع فرض الانسداد لا نعلم بانا مكلفون فعلا بالرجوع الى الاخبار الحاكية للسنة ، وهو مراده من قوله : «فيما لم يعلم بالصدور ولا بالاعتبار بالخصوص» ، وقوله «واسع» هو خبران : أي ان مجال المنع واسع.

٤٤

وأما الايراد عليه : برجوعه إما إلى دليل الانسداد لو كان ملاكه دعوى العلم الاجمالي بتكاليف واقعية ، وإما إلى الدليل الاول ، لو كان ملاكه دعوى العلم بصدور أخبار كثيرة بين ما بأيدينا من الاخبار (١).

ففيه : إن ملاكه إنما هو دعوى العلم بالتكليف ، بالرجوع إلى الروايات في الجملة إلى يوم القيامة ، فراجع تمام كلامه تعرف حقيقة مرامه (٢).

______________________________________________________

(١) لا يخفى ان الشيخ الاعظم (قدس‌سره) قد اورد على ما افاده المحقق المحشي بعد ان لم يستوضح ان مراد المحشي من السنة هي السنة الحاكية في الجملة ، بما حاصله ان مراد المحقق المحشي من قوله انا نعلم بكوننا مكلفين بالرجوع الى السنة :

اما ان يكون هو السنة الواقعية ، والسنة الواقعية هي التي تتضمن الاحكام الواقعية ، وتلك السنة الواقعية مطابقة لما بأيدينا من الاخبار ، فيرجع كلامه الى العلم الاجمالي بالتكليف باحكام واقعية ، فمرجع هذا الى دليل الانسداد ، وما ذكره هو مقدمة واحدة من مقدماته ، ولا بد من ضم بقية مقدمات دليل الانسداد اليها ، ونتيجتها اما الظن الواقعي من أي طريق حصل ، او الظن بالطريق ، او الظن بكليهما كما سيأتي بيانه مفصلا في دليل الانسداد ان شاء الله.

واما ان يكون مراده من السنة هي الاخبار المعلومة الصدور ، واطلاق السنة عليها باعتبار مطابقتها حقيقة للسنة الواقعية ، فيكون مرجع ما ذكره الى العلم بوجود الاخبار المعلومة الصدور فيما بأيدينا من الاخبار ، وهذا هو الوجه الاول المتقدم. وعلى كل فلا يكون ما ذكره دليلا عقليا ثالثا على حجية الخبر الواحد بالخصوص.

والمتحصل مما فهمه الشيخ هو الامر بالرجوع الى السنة من باب الطريقية ، وعبارة المتن واضحة.

(٢) حاصله : انه لا وجه للايراد على المحقق المحشي بما ذكره الشيخ ، لان مراده ليس السنة الواقعية حتى يرجع الى الانسداد ، ولا الاخبار المعلومة الصدور حتى يرجع

٤٥

فصل

في الوجوه التي أقاموها على حجية الظن (١) ، وهي أربعة :

______________________________________________________

الى الدليل الاول ، بل مراده هو الاخبار التي بأيدينا في الجملة. وقد ذكرنا الامارات الدالة على أن مراده من السنة هو ما ذكرناه ، ولتصريحه بذلك في ذيل كلامه.

ولازم كون الرجوع الى السنة لا من باب الطريقية وليس باعتبار مطابقتها للسنة الواقعية ـ هو كون الرجوع اليها من باب الموضوعية.

واذا كان مراده هو الرجوع الى السنة الحاكية في الجملة من باب الموضوعية لا يرد عليه ما ذكره الشيخ ، بل يرد عليه ما ذكرناه ، ولذا قال (قدس‌سره) : «ان ملاكه» أي ان ملاك ما ذكره المحقق المحشي «انما هو دعوى العلم بالتكليف بالرجوع الى الروايات» التي بأيدينا «في الجملة الى يوم القيامة» وهو مراده من السنة دون السنة الواقعية ودون الاخبار المعلومة الصدور.

(١) قد اقاموا وجوها اربعة على حجية مطلق الظن ، ولا يخفى ان ظاهر بعض الوجوه الآتية هو حكم العقل بحجية الظن ، وهذا ينافي ما تقدم من الاصل الاولي عقلا وشرعا وهو عدم حجية الظن.

وما يقال من انه لا منافاة بين الامرين ، فان الاصل الاولي هو عدم حجية الظن بالنظر الى نفس الظن والحجية ، وما يأتي من بعض الوجوه المقامة لحجية الظن انما هو بملاحظة حالة طارئة ، ولا منافاة بين ان يكون الشيء بالنظر الى ذاته ليس بحجة ، وبالنظر الى حالة طارئة عليه حجة.

فانه يقال : ان ظاهر بعض الوجوه هو كون الظن علة تامة للظن بالعقوبة وهي علة تامة ايضا للحجية كما سيأتي بيانه ، ولا يختلف حال العلية في حال من الاحوال ، فان الظن بالحكم دائما يكون علة لذلك اذا تم هذا الوجه المدعى لحجية الظن ، فليس هذا من قبيل الحالة الطارئة.

٤٦

الاول : إن في مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنة للضرر ، ودفع الضرر المظنون لازم.

أما الصغرى ، فلان الظن بوجوب شيء أو حرمته يلازم الظن بالعقوبة على مخالفته أو الظن بالمفسدة فيها ، بناء على تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد (١).

______________________________________________________

والاولى : ان يقال في مقام الجمع بين الكلامين ـ حيث يكون القائل هنا بحجية الظن هو ممن يقول بعدم حجيته بالاصل الاولي ـ : ان النظر في مقام الاصل بالنسبة الى الظن مهمل من حيث الانفتاح والانسداد ، والنظر في المقام مقيد بكونه في حال الانسداد ، وحينئذ يصح ان يقال انه لا منافاة بين ان لا يكون الشيء بحسب ذاته علة لشيء وان يكون مقيدا بشيء علة تامة له. ولعل هذا هو مراد من اجاب اولا بانه لا منافاة بين ان يكون الشيء بالنظر الى ذاته ليس بحجة وبالنظر الى حالة طارئة عليه حجة.

(١) هذا الوجه الاول مركب من صغرى وكبرى.

اما الصغرى وهي ان ظن المجتهد بالحكم مستلزم للظن بكون مخالفة ذلك الحكم المظنون مستلزما للضرر ، فالظن بالحكم مما يستلزم الظن بالضرر عند مخالفته.

وقبل توضيحه نقول انما خص الظن بالمجتهد لانه مقام الشبهة الحكمية المختصة بالمجتهد دون الشبهة الموضوعية التي يشارك المقلد المجتهد فيها.

وتوضيح هذه الصغرى : انه لا ريب ان الاحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد ، فالمصالح والمفاسد كعلة للاحكام الشرعية ، ولا ريب ايضا ان مخالفة الحكم الشرعي علة للعقوبة ، لبداهة كون مخالفة الحكم الالزامي مما يستوجب استحقاق العقاب ، ومن الواضح ايضا ان العقوبة من الضرر ، بل هي من اعظم الاضرار ، ومما لا ريب فيه ايضا ان التلازم بين العلة والمعلول من اعلى مراتب التلازم ، ولا يعقل انفكاك المتلازمين في أي مرحلة من المراحل ، فهما متلازمان واقعا ومتلازمان

٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

في مقام العلم ، فان العلم باحدهما يلازمه العلم بالآخر ، والظن باحدهما يلازمه الظن بالآخر ، واحتمال احدهما يلازمه احتمال الآخر. ولما كان الحكم معلولا للمصلحة او المفسدة ومخالفته علة لاستحقاق العقوبة ، فيكون الظن به مستلزما للظن بعلته وهي المصلحة او المفسدة ، وللظن بمعلوله وهو استحقاق العقاب على مخالفته ، فالظن بالحكم مما يستلزم الظن بالعقوبة عند مخالفته ، وقد عرفت ان العقوبة ضرر ، فلازم الظن بالحكم هو الظن بالضرر عند مخالفته.

وقد ظهر مما ذكرنا من كون الاحكام معلولة للمصالح والمفاسد ومن كون الظن بالمعلول ظنا بالعلة ان الظن بالحكم مستلزم للظن بالضرر الدنيوي من جهة ان مخالفته ترك للمصلحة الملزمة فيما اذا كان هو الوجوب ، وارتكاب للمفسدة فيما اذا كان هو الحرمة ، ولا ريب ان فعل المفسدة وترك المصلحة ضرر دنيوي ، فالظن بالحكم مستلزم للظن بالضرر من ناحية علته وهي المصلحة والمفسدة ومن ناحية معلوله وهي العقوبة.

ولا يخفى ان كون الحكم معلولا للمصلحة او المفسدة مبني على مذهب المشهور من العدلية ، واما كون مخالفة الحكم علة لاستحقاق العقاب فهو مسلم عند الكل.

وقد تبيّن ايضا مما ذكرنا : ان الظن بالضرر انما هو في الحكم الالزامي لانه هو الذي يكون مخالفته مستوجبة لاستحقاق العقاب ، اما الحكم غير الالزامي فلا عقاب فيه حتى يكون مخالفته مما يستوجب الظن بالضرر.

والى ما ذكرنا اشار بقوله : «اما الصغرى فلان الظن بوجوب شيء او حرمته» وهو الحكم الالزامي «يلازم الظن بالعقوبة على مخالفته» لانها معلولة له ، والظن بالعلة يلازم الظن بالمعلول «او الظن بالمفسدة» من جهة ان الظن بالمعلول يستلزم الظن بعلته. ولما كان الحكم ـ بناء على مذهب المشهور من العدلية ـ تابعا للمصالح والمفاسد فلا بد ان يكون الظن بالحكم مستلزما للظن بكون مخالفته مستلزمة اما لترك

٤٨

وأما الكبرى ، فلاستقلال العقل بدفع الضرر المظنون ، ولو لم نقل بالتحسين والتقبيح ، لوضوح عدم انحصار ملاك حكمه بهما ، بل يكون التزامه بدفع الضرر المظنون بل المحتمل بما هو كذلك ولو لم يستقل بالتحسين والتقبيح ، مثل الالتزام بفعل ما استقل بحسنه ، إذا قيل باستقلاله ، ولذا أطبق العقلاء عليه ، مع خلافهم في استقلاله بالتحسين والتقبيح ، فتدبر جيدا (١).

______________________________________________________

المصلحة او للوقوع في المفسدة وكلاهما مفسدة ، ولذا جمعهما بقوله : «او الظن بالمفسدة فيها» أي في مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم.

ولما كان ذلك مبنيا على مذهب بعض دون بعض وهو مشهور العدلية اشار الى ذلك بقوله : «بناء على تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد».

(١) قد عرفت ان هذا الوجه مركب من صغرى وكبرى ، وقد عرفت الصغرى وهي كون الظن بالحكم مما يستلزم الظن بكون مخالفته ضررا.

واما الكبرى : فهي استقلال العقل بلزوم دفع الضرر المظنون ، فالظن بالحكم ظن بالضرر والضرر المظنون يجب دفعه ، والناتج منهما وجوب دفع مخالفة الحكم المظنون ، ودفع مخالفته ليس إلّا بامتثاله فيجب اتباع الحكم المظنون ، وهذا معنى حجيّة الظن بالحكم ، وقد مرّ ذكر الوجه في الصغرى.

واما الوجه في الكبرى : وهي دعوى استقلال العقل بلزوم دفع الضرر المظنون فحاصله : ان ملاك استقلال العقل بذلك من طريقين :

الاول : انه احد مصاديق قاعدة الحسن والقبح العقليين ، فان العقلاء بنوا على مدح فاعل بعض الافعال وعلى ذم فاعل بعض الافعال حفظا للنظام وابقاء للنوع ، ونجدهم يذمون على ارتكاب الضرر المظنون ويمدحون على تركه ، فهذا المدح والذم في المقام هو الملاك لاستقلال العقل بلزوم دفع الضرر المظنون.

٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

ولا يخفى ان الملاك لهذه القاعدة اذا كان الحسن والقبح العقليين فهو يتم عند من يقول بالحسن والقبح العقليين ، اما مثل الاشاعرة فلا يتم الاستدلال على وجوب دفع الضرر المظنون عندهم من هذه الجهة ، لانهم لا يقولون بالحسن والقبح العقليين.

الثاني : ان الملاك لاستقلال العقل بوجوب دفع الضرر المظنون هو ان العاقل لا يقدم على الضرر المظنون ، بل من طبيعة كل ذي شعور هو الفرار من الضرر المظنون ، وهذا مما لا يختلف فيه احد ، والعقلاء كلهم قد اطبق عملهم عليه بل هو من طبيعة كل ذي شعور ، فانه بجبلته يفر عن الضرر المظنون.

ولا اشكال ان العقلاء اذا اطبقوا في مقام العمل على شيء فيصح للشارع الاعتماد على ما اطبقوا عليه في تنجيز اوامره ، بل هو بما انه رئيس العقلاء فلا طريقة له غير طريقتهم ، فاذا ظن المجتهد بالحكم فحيث انه يظن بالضرر في مخالفته فلو اصاب ظنه الواقع كان للشارع عقابه ، وهذا هو معنى حجية الظن ، فان الحجية هو التنجيز عند الاصابة للواقع والعذر عند المخالفة.

وقد اشار المصنف الى ان هذا الطريق الثاني هو الملاك لاستقلال العقل بهذه الكبرى ، وهي وجوب دفع الضرر المظنون ، لانه مما اطبق عليه جميع العقلاء من دون حاجة الى الاستدلال عليه بقاعدة الحسن والقبح لانها مما وقع الخلاف فيها ، ولذا قال : «واما الكبرى فلاستقلال العقل بدفع الضرر المظنون» لانه من ما اطبق عليه العقلاء بما هم عقلاء ، بل هو من جهة كل ذي شعور ، فيجب دفع الضرر المظنون «ولو لم نقل بالتحسين والتقبيح العقليين لوضوح عدم انحصار ملاك حكمه» أي عدم انحصار ملاك حكم العقل بلزوم دفع الضرر المظنون «بهما» أي بقاعدة التحسين والتقبيح العقليين «بل يكون التزامه» أي التزام العقل «بدفع الضرر المظنون بل المحتمل» أي ان العاقل بل كل ذي شعور يفرّ عن الضرر المحتمل فضلا عن الضرر المظنون بما هو عاقل وله شعور ، وهذا من الامور التي التزمتها العقلاء وهو لزوم دفع الضرر المظنون بل الضرر المحتمل «بما هو كذلك» أي بما هو

٥٠

والصواب في الجواب : هو منع الصغرى ، أما العقوبة فلضرورة عدم الملازمة بين الظن بالتكليف والظن بالعقوبة على مخالفته ، لعدم الملازمة بينه والعقوبة على مخالفته ، وإنما الملازمة بين خصوص معصيته واستحقاق العقوبة عليها ، لا بين مطلق المخالفة والعقوبة بنفسها ، ومجرد الظن به بدون دليل على اعتباره لا يتنجز به ، كي يكون مخالفته عصيانه (١).

______________________________________________________

ضرر محتمل فضلا عن ان يكون مظنونا من حيث انه امر جبلّي له فهو يستقل به «ولو لم يستقل العقل بالتحسين والتقبيح» العقليين ، وهذا ملاك لاستقلال العقل بلزوم دفع الضرر المظنون في قبال ملاكه بالتحسين والتقبيح ، واذا كان العاقل ممن يرى قاعدة التحسين والتقبيح العقليين فيكون التزامه بدفع الضر المظنون لانه من جبليات العقلاء مثل التزامه بفعل ما استقل العقل بحسنة وترك ما استقل بقبحه ، والى هذا اشار بقوله : «مثل الالتزام» هذا هو الخبر ليكون أي يكون التزامه بدفع الضرر المظنون مثل الالتزام منه «بفعل ما استقل بحسنه اذا قيل باستقلاله».

وقد اشار الى ان الملاك في وجوب دفع الضرر المظنون هو الطريق الثاني دون قاعدة التحسين والتقبيح ، لان قاعدة وجوب دفع الضرر المظنون مما اطبق عليها العقلاء كلهم ، مع ان قاعدة التحسين والتقبيح مما وقع الخلاف فيها ، فلا بد وان يكون الملاك فيها غير ما فيه الاختلاف بقوله : «ولذا اطبق العقلاء عليه مع خلافهم في استقلاله» أي في استقلال العقل «بالتحسين والتقبيح».

(١) قد عرفت ان الصغرى هي ان الظن بالتكليف يستلزم الظن بالضرر لانه مستلزم للظن بالعقوبة والظن بالمفسدة.

وحاصل الجواب : ان الظن بالتكليف لا يستلزم الظن بالعقوبة فلا ظن بالضرر من جهة العقوبة ، ويستلزم الظن بالمفسدة ولكنه ليس ظنا بالضرر ، فمن ناحية العقوبة الظن بالتكليف لا يستلزم الظن بها عند المخالفة فلا ظن بالضرر ، ومن ناحية

٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

المفسدة يستلزم الظن بالتكليف الظن في الوقوع فيها عند المخالفة ولكنه ليس ظنا بالضرر.

اما في العقوبة فلا ملازمة بين الظن بالتكليف والظن بالعقوبة لان المفروض انه لم تقم حجة من الشارع على اعتبار الظن ، وانما يراد اثبات الحجية للظن بهذه القاعدة ، فمع الغض عن هذه القاعدة فهو مما لم يقم على اعتباره حجة ، ولا اشكال ان الحاكم باستحقاق العقاب هو العقل ، والعقل انما يحكم باستحقاق العقاب على مخالفة التكليف الواصل اما بالقطع او بقيام الحجة المعتبرة عليه ، وحيث لم يصل التكليف بالقطع لان المفروض انه ظن بالتكليف ولم تقم حجة معتبرة على اعتبار الظن فالتكليف على فرضه لا يكون واصلا ، وما لم يكن التكليف واصلا فلا تكون مخالفته مما تقتضي استحقاق العقاب.

ومن الواضح ان قاعدة قبح العقاب بلا بيان المراد منها هو البيان الواصل لا مطلق البيان وان كان لم يصل ، فمع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واصل لا يعقل ان يرى الملازمة بين الظن بالتكليف المفروض عدم وصوله من غير جهة وجوب دفع الضرر المحتمل والظن بالعقاب ، مع انه يشترط في البيان الوصول ، ولا يكتفى بالبيان الواقعي وان لم يصل فليس في مخالفة التكليف وان كان مظنونا ظن بالعقوبة ، ولا ملازمة بين الظن بالتكليف والظن بالعقوبة ، واما وصول التكليف بقاعدة وجوب دفع الضرر المظنون فهو دور واضح ، لان كونه ضررا مظنونا يتوقف على وصوله ، فاذا كان وصوله متوقفا على كونه ضررا مظنونا لزم الدور.

وعلى كل فقد اتضح ان الملازمة بين عصيان التكليف ـ وهو مخالفة التكليف الواصل بالحجة المعتبرة ـ وبين استحقاق العقاب ، ولا ملازمة بين مطلق مخالفة التكليف ـ وان لم يصل ـ واستحقاق العقاب ، فلا ملازمة بين الظن بالتكليف المفروض عدم قيام الحجة المعتبرة عليه ، وبين الظن بالعقوبة على مخالفته ، ولذا قال (قدس‌سره) : «اما العقوبة» أي كون الظن بالتكليف مما يستلزم الظن بالعقوبة «ف»

٥٢

إلا أن يقال : إن العقل وإن لم يستقل بتنجزه بمجرده ، بحيث يحكم باستحقاق العقوبة على مخالفته ، إلا أنه لا يستقل أيضا بعدم استحقاقها معه ، فيحتمل العقوبة حينئذ على المخالفة ، ودعوى استقلاله بدفع الضرر المشكوك كالمظنون قريبة جدا (١) ، لا سيما إذا كان هو العقوبة

______________________________________________________

ممنوع «لضرورة عدم الملازمة بين الظن بالتكليف» غير الواصل بحجة معتبرة «والظن بالعقوبة على مخالفته لعدم الملازمة بينه» أي بين مطلق الظن بالتكليف وان لم يصل «والعقوبة على مخالفته وانما الملازمة بين خصوص معصيته» وهي مخالفة التكليف الواصل بحجة معتبرة «و» بين «استحقاق العقوبة عليها لا بين مطلق المخالفة» للتكليف وان لم يصل «والعقوبة بنفسها» أي ليس بين نفس المخالفة مطلقا وبين نفس العقوبة ملازمة «و» ان من الواضح ان «مجرد الظن به» أي بالتكليف «بدون دليل على اعتباره» أي على اعتبار هذا الظن بالتكليف لا يكون ذلك التكليف واصلا بمجرد قيام هذا الظن عليه الذي لا دليل على اعتباره ، فلا يكون ذلك التكليف بهذا الظن واصلا «ولا يتنجز به» أي ولا يتنجز بهذا الظن التكليف «كي يكون مخالفته» أي مخالفة هذا التكليف المظنون «عصيانه» أي عصيانا لذلك التكليف ، وانما العصيان هي المخالفة للتكليف الواصل بالقطع او بحجة شرعيّة.

(١) توضيحه يتوقف على بيان امرين :

الاول : ان العقل كما يستقل بوجوب دفع الضرر المظنون كذلك يستقل ايضا بدفع الضرر المحتمل أي المشكوك ، فدفع الضرر المشكوك كدفع الضرر المظنون لازم بحكم العقل كما مرّت الاشارة اليه.

الثاني : ان العقل قد يستقل بالحكم على الشيء وجودا وعدما ، كما هو حكمه عند العدلية بقبح الظلم وبأنّ ما لا ظلم فيه لا قبح فيه ، ولذا حكموا بقبح مخالفة المولى في ترك حكمه الواصل الى المكلف ، لانه ظلم من العبد لمولاه وخروج منه عن

٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

رسم العبودية وزي الرقيّة ، وبعدم قبح المخالفة عند عدم وصول التكليف لان مخالفة العبد لتكليف المولى غير الواصل ليس ظلما منه لمولاه ، ولا خروجا منه عن رسم العبودية وزي الرقيّة ، بل حكموا بقبح عقاب المولى لعبده على مخالفة تكليفه غير الواصل بحجة معتبرة ، ولذا قالوا بقبح العقاب بلا بيان واصل ، لانه ظلم من المولى لعبده لعدم وصول تكليفه اليه بالحجة المعتبرة ، وعلى هذا فالعدلية يحكمون باستقلال العقل على عدم استحقاق العقاب في مخالفة التكليف المظنون فضلا عن المشكوك حيث لا تقوم حجة معتبرة على وصوله.

وقد يستقل العقل بعدم صحة قاعدة التحسين والتقبيح العقليين كما يدعيه الاشعري المنكر للحسن والقبح العقليين ، فلا يرى عقل الاشعري بأسا في صحة العقاب على البيان الواقعي غير الواصل ، وعلى هذا فالاشعري لا بد وان يرى لزوم الاتيان بالحكم المظنون لملازمته للظن بالعقوبة بناء على رأيه ويجب دفع الضرر المظنون.

وقد يكون العقل غير مستقل بالحكم على الشيء لا وجودا ولا عدما ، كعقل من لم تتم عنده قاعدة الحسن والقبح العقليين ، ولم يقل بمقالة الاشعري في صحة عقاب من لم يصل اليه التكليف ، فعقل هذا القسم الثالث لا استقلال له باستحقاق العقوبة على مخالفة التكليف المظنون غير الواصل ، ولا استقلال له ايضا بعدم استحقاق العقوبة على مخالفته ، فهو شاك في صحة العقوبة على مخالفة وعدم صحتها.

ولازم هذا القسم الثالث هو لزوم اتيان التكليف المظنون ، لانه وان كان لا يقطع بالملازمة بين الظن بالتكليف والظن بالعقوبة ، لانه لا استقلال للعقل عنده باستحقاق العقوبة على مخالفة التكليف غير الواصل حتى تتحقق الملازمة بين الظن بالتكليف والظن بالعقوبة ـ الّا انه حيث يحتمل صحة العقوبة على مخالفته فهو شاك في الضرر ، وهي العقوبة ، ودفع الضرر المشكوك كالضرر المظنون واجب ، فلازم الظن بالتكليف الشك في العقوبة والعقوبة ضرر ، ودفع الضرر المشكوك واجب ، فهو

٥٤

الاخروية ، كما لا يخفى (١).

وأما المفسدة فلانها وإن كان الظن بالتكليف يوجب الظن بالوقوع فيها لو خالفه ، إلا أنها ليست بضرر على كل حال ، ضرورة أن كل ما يوجب قبح الفعل من المفاسد لا يلزم أن يكون من الضرر على فاعله ،

______________________________________________________

لا يقول بلزوم الإتيان بالتكليف المظنون للملازمة بين الظنين ، ولكنه يقول بلزوم اتيانه من حيث الملازمة بين الظن بالتكليف والشك في العقوبة.

فظهر مما ذكرنا : ان ما في المتن ـ في الّا ان يقال ـ مبني على هذا الرأي الاخير ، ولذا قال (قدس‌سره) : «الّا ان يقال ان العقل وان لم يستقل بتنجزه» أي بتنجز التكليف الواقعي غير الواصل «بمجرده» أي بمجرد بيانه واقعا من دون وصوله «بحيث يحكم باستحقاق العقوبة على مخالفته» وان لم يصل «إلّا انه» كما لا يستقل باستحقاق العقوبة عليه كذلك «لا يستقل ايضا بعدم استحقاقها» أي بعدم استحقاق العقوبة «معه» أي مع كون التكليف مظنونا غير واصل. وقد عرفت انه على هذا وان كان لا ملازمة بين الظن بالتكليف والظن بالعقوبة ، الّا انه تتحقق الملازمة بين الظن بالتكليف والشك في العقوبة على مخالفته ، ولذا فرع عليه بقوله : «فيحتمل العقوبة حينئذ على المخالفة».

واذا تمت هذه الصغرى وهي ان الظن بالتكليف مستلزم لاحتمال العقوبة يضم اليها الكبرى وهي لزوم دفع الضرر المشكوك كلزوم دفع الضرر المظنون ، ولذا عقبه بقوله : «ودعوى استقلاله» أي دعوى استقلال العقل «بدفع الضرر المشكوك ك» استقلاله بدفع الضرر «المظنون قريبة جدا».

(١) وجه هذا التخصيص المشعر بالتأكيد هو ان العقوبة الدنيوية مهما كانت فهي اخف مئونة من العقوبة الاخروية لانها غضب الله عزوجل ، نعوذ بلطفه من غضبه وبرحمته من نقمته وهو أرحم الراحمين.

٥٥

بل ربما يوجب حزازة ومنقصة في الفعل ، بحيث يذم عليه فاعله بلا ضرر عليه أصلا ، كما لا يخفى (١).

______________________________________________________

(١) قد مرّ دعوى ان الظن بالتكليف له ملازمان : الظن بالعقوبة والظن بالمفسدة من جهة تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد ، وقد عرفت الحال في الملازم الاول.

واما الملازم الثاني وهو كون الظن بالتكليف يلازمه الظن بالوقوع في المفسدة في مخالفته ـ فشرع في الجواب عنه بقوله : «واما المفسدة».

ويتلخص ما في المتن في اجوبة ثلاثة عنه :

الاول : مبني على تسليم تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد في المأمور به والمنهي عنه ، فلا محالة يستلزم الظن بالتكليف الظن في الوقوع في المفسدة عند المخالفة.

الا انا ننكر كون كل وقوع في المفسدة ضررا ، فالظن بالتكليف وان استلزم الظن بالوقوع في المفسدة إلّا انه لا يستلزم الظن بالضرر حتى تأتي الكبرى وهي لزوم دفع الضرر المظنون ، وانما لا يستلزم ذلك لان الاحكام وان كانت تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها إلّا ان المصالح والمفاسد فيها مصالح نوعية ومفاسد نوعية لا شخصية ، وقد عرفت ان الوجه في لزوم دفع الضرر المظنون هو كونه من الجبليات لكل ذي عقل وشعور ، وان كل ذي عقل وشعور يفرّ بجبلّته من الضرر المظنون ، ومن الواضح ان الفرار الذي يكون عن جبلّة هو الفرار عن الضرر الشخصي دون الضرر النوعي ، فالمرتكب للمفسدة القطعيّة النوعية لا يكون مرتكبا لما يفرّ العقلاء بجبلتهم عنه حتى يكون من صغريات لزوم دفع الضرر ، وانما يكون مرتكبا للقبيح.

وبعبارة اخرى : ان حسن الفعل وقبحه الذي يكون مناطا للاحكام مربوط بما فيه المصلحة النوعية والمفسدة النوعية ، فالمخالف للحكم الواقعي الواصل بالعلم ـ الذي هو عصيان قطعا ويستحق العقاب عليه جزما ـ قد ارتكب قبيحا ولكنه لم يرتكب ضررا ، ولا ملازمة بين ارتكاب القبيح وارتكاب المضرّ.

٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنه يتبيّن الحال في محل الكلام ، فان الظن بالتكليف ـ بعد ان كانت التكاليف تابعة للمصالح والمفاسد النوعية ـ لا يكون ملازمة بين مخالفة التكليف فيها والظن بالضرر ، ولذا قال (قدس‌سره) : «واما المفسدة فلانها» بناء على تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها «وان كان الظن بالتكليف يوجب الظن بالوقوع فيها لو خالفه» أي الوقوع في المفسدة لو خالف التكليف ، فالملازمة المسلمة هي الملازمة بين الظن بالتكليف وبين الوقوع في المفسدة عند المخالفة للتكليف «إلّا انها ليست بضرر على كل حال» أي الوقوع في المفسدة النوعية التي هي مناط التكليف ليس وقوعا في الضرر ، لما عرفت من ان الضرر الذي يجب دفعه هو الضرر الشخصي لا النوعي ، وقد عرفت ايضا انه لا ملازمة بين فعل الفاعل للقبيح وبين فعله لما هو ضرر عليه ، ولذا قال : «ضرورة ان كلما يوجب قبح الفعل من المفاسد لا يلزم ان يكون من الضرر على فاعله» كما مرّ بيانه واضحا في المخالفة القطعية للتكليف القطعي الواصل ، فالعاصي وان كان قد ارتكب قبيحا يستحق عليه العقاب قطعا ، الّا انه لا يكون مرتكبا لما هو ضرر عليه ، ولذا قال : «بل ربما يوجب حزازة ومنقصة في الفعل بحيث يذم عليه فاعله بلا ضرر عليه اصلا».

ولا يخفى انه لما كان الغالب في مناطات الاحكام هي المصالح والمفاسد النوعية ، والّا فقد يكون المناط هو المصلحة والمفسدة الشخصيّة ـ اشار الى ذلك بقوله : «ربما».

ويكون المتحصّل من هذا الجواب هو نفي الايجاب الكلي ، وهو كون كل ظن بالتكليف مستلزما للظن بالضرر من ناحية الوقوع في المفسدة ، وقد اشار الى هذا ايضا في صدر كلامه بقوله : «ليست بضرر على كل حال».

لا يقال : ان المصنف قد اعترف بان الظن بالتكليف ملازم للظن بالوقوع في المفسدة ، والمفسدة حينئذ كانت شخصية فيجب دفعها بملاك فرار كل ذي شعور من الضرر ، وان كانت نوعية فيجب دفعها بملاك قاعدة الحسن والقبح.

٥٧

وأما تفويت المصلحة ، فلا شبهة في أنه ليس فيه مضرّة ، بل ربما يكون في استيفائها المضرة (١) ، كما في الاحسان

______________________________________________________

فانه يقال : ان المفسدة حيث لم يتحقق كونها شخصية فلا يجب دفعها بملاك فرار كل ذي شعور من الضرر ، فلم يبق إلّا احتمال كونها نوعية ، ولا بد حينئذ من انكار انطباق قاعدة الحسن والقبح عليها ، وانه لا بناء من العقلاء على ذم مرتكب الضرر اذا كان ارتكابه لاجل جلب منفعة ، وكيف ذلك ونرى العقلاء يرتكبون المضار المحققة اذا كان ارتكابها لاجل جلب منفعة.

ومما ذكرنا يعلم ان المفسدة اذا كانت شخصية فلا يجب دفعها ايضا بملاك فرار كل ذي شعور من الضرر ، فانه انما يكون ذلك اذا لم يكن في ارتكابها جلب منفعة.

(١) هذا هو الجواب الثاني ، وحاصله : انا لا نسلم ان كل ظن بالتكليف يستلزم الظن بالوقوع بالمفسدة ، فان التكليف اما وجوبي او تحريمي ، والتكليف التحريمي هو المعلول للمفسدة ، واما التكليف الوجوبي فهو معلول للمصلحة ، فمخالفة التكليف التحريمي المظنون يستلزم الظن بالوقوع في المفسدة ، واما مخالفة التكليف الوجوبي المظنون انما يستلزم الظن بتفويت المصلحة ، وفوت المصلحة فوت المصلحة لا وقوع في المفسدة ، والّا لرجع كل وجوب الى التحريم وهو واضح الفساد.

فلو سلّمنا ان بعض الظن بالتكليف يستلزم الظن بالوقوع في المفسدة وان المفسدة مضرة ، ولكن لا نسلّم ان كل ظن بالتكليف يستلزم ذلك ، وانما يختص هذا التلازم في الظن بالتكليف التحريمي دون الوجوبي ، فان اللازم في مخالفة التكليف الوجوبي هو الظن بفوت المصلحة دون الوقوع في المفسدة. ولا يخفى ان مرجع هذا الجواب الى نفي الايجاب الكلي.

والحاصل : إنّا لو سلّمنا هذه الملازمة فانما نسلمها في الظن بالتكليف التحريمي دون الظن بالتكليف الوجوبي ، ولذا قال : «واما تفويت المصلحة فلا شبهة ... الى آخر الجملة».

٥٨

بالمال (١).

هذا مع منع كون الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهي عنها ، بل إنما هي تابعة لمصالح فيها ، كما حققناه في بعض فوائدنا.

وبالجملة : ليست المفسدة ولا المنفعة الفائتة اللتان في الافعال وأنيط بهما الاحكام بمضرة (٢) ، وليس مناط حكم العقل بقبح ما فيه المفسدة أو

______________________________________________________

(١) كما في الزكاة فمن الواضح ان الزكاة من الاحكام الوجوبية ، وهي وجوب اعطاء من ملك النصاب عشر ما فيه النصاب الى الغير.

ولا إشكال ان في هذا الحكم مصلحة عائدة الى الغير ، وليس في ترك المصلحة العائدة الى الغير مضرة على التارك ، بل في الاعطاء نقص مالي على المعطي وهو ضرر عليه.

فاتضح ان مخالفة الحكم الايجابي المنبعث عن المصالح هو تفويت للمصلحة النوعيّة ، وربما يكون في اطاعته ضرر شخصي على المطيع كما عرفت في المثال ، ولذا قال (قدس‌سره) : «واما تفويت المصلحة» بمخالفة الحكم الايجابي المنبعث عن المصلحة اللزومية «فلا شبهة في انه ليس بمضرة» وانما هو دائما تفويت المصلحة «بل ربما يكون» كما في مثل المثال «في استيفائها» أي في استيفاء المصلحة بالاطاعة «المضرة» على المطيع «كما في الاحسان بالمال» في اعطاء ماله الى الغير.

وقد عرفت ان الغرض من هذا الجواب هو رفع الايجاب الكلي وانه ليس في كل ظن بالحكم ظن بالمضرة من ناحية الوقوع في المفسدة.

(٢) وهذا هو الجواب الثالث ، وحاصله : ان كون الظن بالحكم مستلزما للظن بالضرر في مخالفته مع تسليمه انما هو بناء على تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد في المتعلق للحكم ، واما لو قلنا بتبعية الاحكام للمصالح في نفس الحكم كما هو واضح في مثل الاوامر الامتحانية فلا يكون الظن بالحكم مستلزما للظن بالضرر في مخالفته من ناحية الوقوع في المفسدة ، اذ على هذا ليس في المتعلق مفسدة او مصلحة حتى يكون

٥٩

حسن ما فيه المصلحة من الافعال ـ على القول باستقلاله بذلك ـ هو كونه ذا ضرر وارد على فاعله أو نفع عائد إليه ، ولعمري هذا أوضح من أن يخفى ، فلا مجال لقاعدة دفع الضرر المظنون هاهنا أصلا (١) ، ولا استقلال

______________________________________________________

مخالفة التكليف مستلزمة للوقوع في ذلك ، بل الاحكام على هذا تكون تابعة للمصلحة في نفس الحكم بها ، وقد استوفيت بنفس الحكم المشرع من قبل الشارع ، والمتعلق خال عما هو السبب في هذا الحكم.

ولا يخفى ان الغاية من هذا الجواب ايضا دفع الايجاب الكلي ، فان المصنف لا يلتزم بان الاحكام كلها من هذا القبيل ، بل في بعض الاحكام يقول بالامرين معا ، فانه يلتزم بوجود المصلحة والمفسدة في المتعلق مع التزامه بالمصلحة ايضا في نفس الحكم.

ولا يخفى ان قوله : «وبالجملة» ... الى قوله «اصلا» هو تلخيص لما مرّ.

(١) حاصله : انه بناء على مذهب العدلية من استقلال العقل وعدم تردّده في حكمه باستحقاق العقاب على المعصية وفعل ما فيه المفسدة وتقبيح فاعلها ، وحكمه بحسن الاطاعة وفعل ما فيه المصلحة ومدح فاعلها ، مع بنائهم ايضا على تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، لا يستلزم الملازمة بين الظن بالتكليف والظن بالضرر الشخصي على الفاعل في مقام مخالفته لما ظنه فيكون من الضرر المظنون الذي يجب دفعه ، لان العدلية الملتزمين بهذين الامرين ملتزمون بان المصالح والمفاسد نوعيّة ، وقد عرفت ان قاعدة لزوم دفع الضرر المظنون منوطة بالضرر الشخصي دون النوعي.

والحاصل : ان حكم العقل باستحقاق العقاب والثواب والذم والمدح منوط بقاعدة الحسن والقبح العقليين الذي مناطهما الظلم والعدل ، وان المخالفة والعصيان ظلم في مقام العبودية والامتثال ، والاطاعة عدل في مقام العبودية ، ولا ربط له بقاعدة دفع الضرر.

٦٠